Sunday, December 28, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى الجزء 12

الإصلاح الزراعي:

ويمتاز النشاط الانتاجي في الفلاحة(زراعة وإنتاج حيواني) فضلا عن انتاجه ماهو ضروى وحيوى للأمة ، بأنه الميدان الفسيح القادر على استيعاب ملايين السكان وتأمين الغذاء الضروري لهم في نفس الوقت ، وذلك عندما يتم تمكين أسرهم وعائلاتهم من أراض صالحة للزراعة أو الانتاج الحيواني ، في حدود قدرة الأسرة على العمل وبحيث لا تقل أو تزيـد مساحة الأرض عن ذلك ، لضمان الحصول من الأسر على أكبر انتاجية ممكنة . ويذلك يتم إتاجة فرص العمل للشباب العاطلين والقضاء على البطالة واستثمار الثروة البشرية المتاحة بالكامل ،وضمان استقرار وأمن ورخاء المجتمع . وكلما تواصلت التنمية الأفقية والرأسية في القطاع الفلاحي كلما أمكن لهذا القطاع أن يمتص حصة كبيرة من تشغيل القوى العاملة الجديدة الناتجة عن زيادة السكان ، وتحويل الزيادة السكانية إلى زيادة في الانتاج.
وتوزيع الأراضي الصالحة للزراعة على الأسر الفلاحية لا يدعو اليه الالتزام بأيديولوجية معينة وليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في ملكية أراض الوطن من منطلق مساواة المواطنين في واحباتهم نحوه ونحو حمايته ، وإنما لدواع اقتصادية بحته , وقد قام بالإصلاح الزراعي اليابانيون في عهد الميجي ولما يكن دافعهم لذلك فكرا اشتراكيا أو انطلاقا من الطاوية (ديانة اليابان) ونفس الشي حدث في كوريا الجنوبية بعد ذلك بواسطة قيادتها العسكرية والتي لم تكن أيضا لا اشتراكية ولا متأثرة بالتعاليم البوذية .
وفي تقرير صادر من هيئة الإستعلامات المصرية سنة 1994 تحت عنوان : استصلاح الصحراء وزراعتها ، جاء في صفحة 64 منه ما يلي : وفي مقارنة بين إنتاجية الأراضي نجد أن الأراضي الموزعة على المنتفعين انتاجيتها أعلى من انتاجية الأراضي الموزعة من المحترفين للزراعة ذات مردودية أعلى من تلك الموزعة على الخريجين “، ثم يوضح التقرير السبب في أن الحيازات الموزعة على صغار المنتفعين تتراوح بين 3-5 أقدنة في حين تتراوح حيازات الخريجين بين 20-30 فدانا ولا تساهم أسرهم في أداء العمل الزراعي ، حيث يقومون بتدبير الحد الأدني الذي تحتاجهم زراعتهم من العمالة مدفوعة الأجر . وفي مواضع أخرى يعترف التقرير أن إنتاجية أراضي صغار المنتفعين والتي لا تكاد تتلقى أى دعم تفوقت على انتاجية الشركات الزراعية أيضا المملوكة للدولة أو القطاع الخاص رغم أمكانياتها الكبيرة ، وانتاحية هذه الشركات والتي تعتمد على الزراعة الآلية.

أهمية الإصلاح الزراعي:
وما شهدت به هذه الوثيقة الحكومية سالفة الذكر، سبق أن أقر به العديد من خبراء الزراعة والتنمية في الأمم المتحدة وخارجها ،وتشهد به التنمية في الصين والهند ودول شرق أسيا الاخرى التي تطبق نموذج الزراعة العائلية، فالأسرة الصغيرة في الملكية الزراعية المحدودة وبسـواعد أفرادها وحدها هي القادرة على تحقيق أكبر انتاجيـــة بالمقارنة بالمساحة وليس كبار الملاك والزراعة الآلية أو الحديثة. ومع ذلك فإن أنظمة الحكم العربية لم تأخذ هـذا في اعتبارها . وواصلت توزيع الملكيات الكبرى من الأراضي على كبار الملاك والشركات الزراعية الكبرى وتركت صغار الفلاحين يواجهون مصيرهم ، بل تم اغتـصاب أراضيهم وتجريدهم منها في بعض الحالات . لم يكن التصرف هذا بمثابة منح من لايملك من لايستحق فقط ، أو إهدار لحقوق غالبية المواطنين وللعدالة الاجتماعية ، وممارسة بالتالي للظلم ، وانما دليل على اختيار الأسوء في السياسة الاقتصـادية وما يترتب عليه من خلق الأزمات الاقتصـادية في البلاد نتيجة سوء تلك السياسات المتبعة والمتعارضة مع ضوابط الاقتصاد وضروراته التي توصل إليها الخبراء فيه..
أن مشكلة البطالة المتفاقمة ، وارتفاع تكاليف المعيشة فوق طاقة محدودي الدخل بسبب التضخـم الناتج عن عدم تناسب المعروض من السلع الضرورية مع الطلب عليها ، وانتشار الفقرالمتزايد كنتيجة لتدهور الأوضاع المعيشية لأغلب السكان وضعف مواردهم ومحدودية وسائل الكـسب لديهم وفرصه ،وتزايد الهجرة من القرى نحو أقرب مدينة وما يترتب عليها من تطويق المدن بأكواخ الصفيح والمسـاكن العشوائية، وتدهور الخدمات الحكومية ، وما أفرز هذا كله من انتشار الفساد والدعارة والجرائم والمخدرات والمواد المسكرة (الخمور),,,ألخ. هي ظواهر صارت تطبع الحياة العامة في كل من مصر والجزائر والمغرب .كل ذلك كان يمكن التخلص منه أو الحد منه بانتهاج سياسة لإعادة توزيع ملكية الأراضي الزراعية . وإذا كان هذا كان مطلوبا وواجبا قبل خمسين عاما ، فإن تدراك الخظأ وإصلاحه أفضل من مواصلة الاستمرار فيه . وإذا تعدر إعادة توزيع الأراضي الزراعية بعدالة ومساواة ، كما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية ، فإنه يجب العمل على تنفيذ مشروعات للتمية الأفقية للأراضي الزراعية ، بإصلاح واستزراع أراض جديدة قابلة للزراعة بعد تأمين المياه إليها ، وهو أمر لو تعذر أن تقوم به دولة واحدة أمكن أن تتعاون فيه عدد من الدول في أقليم جغرافي واحد ، ولأن يتعاونون على النماء خير لهم من التنازع على البقاء.وتوزيعها على أسر الفلاحين المحتاجين وعلى خريجي المدارس الزراعية العاطلين وخريجي المدارس الأخرى بعد إخضاعهم لتكوين سريع يحصلون فيه على المعلومات الأساسية التي تتطلبها تنفيذ مشروعات زراعية صغيرة وتدريبات عملية كافية . فمثل هذه المشروعات لزراعية الصغيرة التي تقام على مساحة في حدود هيكتارين أو خمسة أفدنة كافية لإعالة أسرة متوسطة الحجم والوفاء بجميع احتياجاتها المعيشية ، لو توفرت مياه السقي ليه واستغلت في زراعة كثيفة ، أي طول السنة ..
وتتميز المشروعات الفلاحية عامة بما يلي :
1- تعتبر من أقل المشروعات استنفادا للنقد الأجنبي حيث لاتزيد نسبته عن 10 في المائة وقد لا تحتاجه أو لا تزيد حاجتها منه على 1في المائة.
2- تعتمد أساسا على السواعد والخبرة الفنية المحلية التي تسهم في جميع مراحل المشروعات .
3- تدفع المجتمع نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي عن طريق تنمية قطاعات الانتاج المختلفة الأخرى وخاصة الصناعات الغذائية المعتمدة على الانتاج الزراعي والحيواني ، وتنشيط خدمات التجارة والتمويل والنقل وتحقيق الرخاء للسكان عامة وللفلاحين خاصة.
4- دات مردودية في حالة توفير السقي والبذور المنتقاة والأسمدة شبه ثابتة ومضمونة ويساعد التقدم العلمي باستمرار في العلوم الزراعية والتكنولوجيا المرتبطة بها في زيادة الانتاجية ومردودية الأرض.
5- تعمل على خلق مجتمعات جديدة متكاملة تتوفر فيها ظروف معيشية مناسبة .
6- من أكثر المشروعات استيعابا للقوى العاملة ، والمزرعة العائلية يعمل فيها جميع أفراد الأسرة وما تتميز به من زيادة انتاجيتها عن غيرها ناتج عن ذلك.
7- تحرر البلاد من أهم مظاهر وأسباب التبعية للخارج وتوفر النقد الأجنبي الذي يتم به استيراد المواد الغذائية بتحقق الكفاية الذاتية من الغذاء.
8- وجود الطلب والأسواق المحلية والخارجية المتعطشة للسلعة الغذائية وضعف المنافسة والمزاحمة مما يجعل التسويق ميسرا.
وقد ضرب الله مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من زراعةالحبوب توضح قدرتها على مضاعفة رأس المال وكمية الغذاء المنتج . فقال الله تعالي “ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم“ (البقرة: 261) ،وما كان الله ليضرب هذا المثل ما لم يكن بإمكان الانسان إن أحسن العمل واستثمر التقدم العلمي أن يحصل مقابل الحبة المزروعة على 700 حبة أو أكثر بمشيئة الله .
ويمكن تخصيص جزء من هذه الأراضي للبيع الفورى للمقتدرين بالخارج أو المواطنين العاملين بالخارج للحصول على جزء من التمويل الذي يحتاجه مشروع اصلاح واستزراع الآراضي ,ويتم توزيع الباقي على أرباب الأسر ويحتاجون إلى الأرض الزراعية على أن يقوم الملاك الجدد بسداد ثمن الأرض على أماد طويلة.وأخضاع هذه الأراضي إلى تشريعات خاصة تضمن بقائها دون تجزئة أو تصرف فيها إلى أن يتم سداد ثمنها بالكامل ، وفي حالة الرغبة في التخلص منها من الملاك الجدد لها يتم إعادتها للدولة التي تقوم بأعادة توزيعها على المستحقين.مع سداد المبالع التي سددها المتنازل عن الأرض له بالتقسيط مثلما سددها هو من قبل بالتقسيط.

ويقر فقهاء المسلمين على أن الأصل هو حق كل أسرة أن يكون لها نصيب من أرض بلادها إن توفرت الأراضي واتسعت لسد حاجة الجميع منها . وأن هذا ليس منحة أو منه من الدولة لأن الأرض أساسا ملك لله وسكان الدولة مستخلفون جميعهم فيها . وبالتالي فإن تقسيم الأراضي حق شرعي يجب أن يتمتع به جميع أفراد الأمة ولكنهم يرون أيضا أن إعادة التوزيع للآراضي المستغلة فعلا قد يمس أوضاع مستقره وحقوق متوارثة ، ويثير من المشاكل ما يمكن تفاديها ، وبدعوى أن درء المفاسد مقدم عن جلب المنافع وهو عموما مبدأ خاظئ , بل إن نزع ملكية أو حيازة 1200هيكتار من شخص واحد وتوزيعها على 600 أسرة تضم 3000نسمة لضمان عيش كريم لها بمعدل هيكتارين لكل أسرة معدل عدد أفرادها خمسة أفراد. هو وضع حد لوضع فاسد وظالم ولا يرضي عنه الله من ناحية ،وفي نفس الوقت جلب منفعة لثلاثة آلاف نسمة من ناحية أخرى. ويرى الفقهاء بأنه عوض التعرض للملكيات القائمة يمكن أن يتم توزيع الأراضي البيضاء أو الموات وتمليكها لمن يعمرها ويزرعها وهذا حل لا بأس لو توفرت تلك الأراضي وبحيث يتم توزيعها على الأسر.
ولا توزع هذه الأراضي على الأفراد لآن فلاحة الأرض تحتاج تعاونا حده الأدني فردين ، وهو ما يتوفر في الأسرة التي تتكون من زوج وزوجه ، ويتحقق به أيضا المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق باعتبار أن الأسرة هي الجامعة بينهما وأن نفع الأرض سيعود عليهما معا وعلى من ينجبانه من أولاد.
إن الانسان العاطل الذي لا ينتج بمثابة ميت تماما مثل الأرض البور ، وإحياء موات الأرض لصالح موات البشر هو أحياء للأرض والبشر معا وزيادة منافع المجتمع وعلاج لعلله وشفاء لها بأدن الله.

الإقتصـاد الإنتاجي:
ووفقا لمفهوم وفلسفة الخلافة ، فإن الاقتصاد المعتبر فيها هو الاقتصاد الانتاجي الدائم العطاء وليس الاقتصـاد الهدمي ، الذي يقوم على سلب الطبيعة ثرواتها دون أن يضيف إليها ، ويدخل ضمنه استخراج المعادن من باطن الأرض، ليس لأقامة صناعة مزدهرة عليها وإنما لتصديرها خامات يستغلها الأخرون في إقامة مصانعهم وزيادة انتاجهم الصناعي ، وكذلك استخراج وتصدير النفط والغاز، رغم محدودية احتياطاته واحتمال نفاده بعد سنوات معلومة . وقطع الأشجار للحصول على أخشابها دون تعويضها بزراعة غيرها . والرعي الجائر الذي يقتلع الأعشاب من جذورها ويحول بينها وبين التجدد في موسم مقبل . كل ذلك : يستنزف الثروة الطبيعية ولا يعوضها أو يتيح لها أن تتجدد ،وكذلك صيد الأسماك في مواسم توالدها بما يحول دون تجددها في مصائدها،كما يدخل ضمنه أيضا سوء استهلاك المياه الجوفية والمياه الجارية. فينتهي هذا الاقتصاد بانتهاء المصادر الطبيعية التي اعتمد عليها واستنزفيها في فترة تصيرة محدودة. ولذا فإن هذا النوع من الاقتصاد الهذمي ، إن دعت الظروف إليه وكان لزاما ، وجب تقنينة وممارسته ضمن شروط ضابطة له . بحيث لا يستهلك منه بأكثر مما اقتضته الضرورة .والاحتياجات الفعلية للدولة أو لمجموعة الدول في الاقليم التي دخلت معها في شراكة تنموية ومصالح مشتركة. والعمل بقدر الامكان على تعويض ما يتم استهلاكه من موارد وثروات طبيعية . فالثروات القابلة للنفاد لا يملك جيل الحق في الاستئثار بها وللآجيال القادمة حقوقهم فيها ، ما لم تنطوالاستفادة منها على استفادة الأجيال القادمة منها أيضا . واستهلاكها بأكثر من حاجة المجتمع إليها وقدرته على الاستفادة القصوى منها .يعد اسرافا ومناقضا لمقتضي العدل والاعتدال والإحسان. وهي المبادئ التي تقوم عليها الخلافة.والسياسة الحكيمة لا يتم بمقتضاها تصدير مواد أولية ضرورية للصناعة سواء القائمة أو التي يمكن إقامتها في المستقبل مالم يكن الهدف من تصديرالمادة الأولية هو مبادلة مادة أولية بأخرى غير متوفره محليا ويتطلبها النشاط الانتاجي.
كان العديد من الدول الأفريقية يمتلك احتياطات كبيرة من المعادن الهامة التي تقوم عليها الصناعات الثقيلة والهندسية . ولكنها صدرتها خامات إلى الدول الصناعية ،فازدادت الدول الصناعية ثراء وظلت الدول الأفريقية على فقرها . وبعضها ازداد فقرا ولم تنفعه الأموال التي حصل عليها مقابل صادراته من المعادن وغيرها. وأهدرت ما أنعم الله به عليها وكان بإمكانها به أن تكون من الدول الصناعية الكبرى, وبعض الأنظمة الحاكمة تفادت استغلال خاماتها المعدنية في التصنيع حتي لاتقوم مناطق صناعية تجمع أعدادا كبيرة من العمال يشكلون قوة تزعزع استقرار نظامها الاستبدادي الفاسد ، واستبدلت الاقتصاد الانتاجي باقتصاد الريع الذي تتحكم فيه وبه في رقاب البشر.

وبذلك يمكن اعتبار الدول المسلمة التي أهملت الإنتاج ، وتهالكت على إهلاك ما أنعم الله عليها به من ثروات طبيعية ، وتمادت في استنزافها وتصديرها ، خارجة على حكم الله وشرعه. ما لم تكن قد قصرت الانتفاع بها على المسلمين في بلدان أخري ، أو وظفت موارد التصدير في إصلاح أحوالهم كتطبيق لركن التكافل في الإحسان .(وهو مالم يحدث قط تقريبا) . وهي في غير ذلك تعد مفسدة في أرضها والفساد يجر المريد من الفساد، والله لا يحب المفسدين . “وما كان الله ليهلك قرية بظلم وأهلها مصلحون”.

واذا أخذنا العظة مما ساسه ساستنا أومن الجار القريب والجنب ، سنجد من استنزفت ثرواته من الحديد والفحم والفضة والنحاس والبترول والغاز ، لم يتمكن بعد عشرات السنين من اتباعه اقتصاد الهدم من انقاذ الشعب في بلاده من الفقر والتخلف ، وزاد على ذلك أنه بات يستورد معظم احتياجات شعبه من الغذاء من الخارج أو نصفها أو ثلثيها في أحسن الأحوال ، وفقد بذلك أمنه الغذائي.وفيهم من سقط في الدين الخارجي واضطر إلى أن يبيع ممتلكات الدولة بأرخص الأثمان للآجانب سدادا لديونه . وسقط في التبعية والمهانة. ولو أنهم عملوا وأصلحوا وأنتجوا وأحسنوا واستهلكوا ما أنعم الله عليهم به بقدر ، لكانت أوضاعهم اليوم أفضل مما هي عليه. ولكنهم حتي بعد أن رأوا بأعينهم سوء مأل سياستهم لم يتعظوا وإنما ازدادوا طغيانا وفسادا في الأرض ، وأعادوا إلى الذاكرة أمراء الطوائف في الأندلس في تعاملهم مع بعضهم واستعدائهم على إخوانهم إعداء دينهم ،وقطعهم ما أمر الله به أن يوصل . “ والذين ينقضون عهذ الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر به أن يوصل، ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار."(الرعد:25)

وفي حالة تعمير الصحارى ،وتنمية المراعي ،وإنتاج الأعلاف وتربية الأبقار والأغنام وتصنيع منتجاتها ،مع تفادي الرعي الجائر ، فإن الاقتصاد الهدمي يتحول إلى أقتصاد بناء . ويزيد من تراكم الثروة باستمرار . وفي العالم دول اعتمدت في تكوين رؤوس أموالها وزيادتها وتنميتها على انتاجهم الحيواني في المقام الأول مثل نيوزيلاندا وهولندا والدانمرك واستراليا وكندا والأرجنتين. ولقد أرشدنا المولي إلى أهمية الانتاج الحيواني والجدوى الاقتصادية له ، والمنافيع المترتبة عليه ، بقوله سبحانه :” والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون . وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس . إن ربكم لرؤوف رحيم . والخيل والحمير لتركبوها وزينة ، ويخلق ما لا تعلمون”(النحل:5-8).

ويدخل في عداد الانتاج الحيواني تربية الأسماك في بحيرات صناعية أو مجارى الانهار أو حقول الأرز . وقد استطاعت بنعلاديش قبل أكثر من 10 سنوات انتاج الفريدس(الجمبرى أو الكروفيت) في مزارع صناعية على ساحل البحر للتصدير ما قيمته أكثر من ثلاثة مليارات دولار سنويا.

يدخل أيضـا تربية نحل العسل في المزارع والتي ثبت أنها تساعد على زيادة الانتاج الزرعي للمحاصيل من حولها بنحو 25 % إلى 30 % . فضلا عن انتاج عسل النحل والشمع وقد أثبتت ألأبحاث العلمية أهميةعسل النحل الغذائية والعلاحية . ويقول الله عنه: “ وأوحى ربك إلي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر وما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبيل ربك ذللا. يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ، فيه شفاء اللناس . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”(النحل: 68و 69).
وكذلك تربة الدواجن بمختلف أنواعها لأنتاج اللحم والبيض والأسمدة العضوية . فضلا عن أهميتها في تحسين ظروف معيشة السكان في العالم القروي. وكل هذه المنتجات الغذائية تدعم في نفس الوقت الأمن الغذائي في ذات الوقت التي تزيد من الدخل القومي . وتسهم في تحسين أوضاع العاملين في انتاجها ، سواء كان انتاجا عائليا محدودا أو انتاجا تعاونيا يجمع عددا كبيرا من الأسر.

الأمن الغذائي :
يعرف الأمن الغذائي بأنه حصول جميع الناس في جميع الأوقات على ما يكفيهم من الغذاء الملائمالذي يحتاجونه والتمتع بالتغذية الجيدة بطريقة كريمة التي تكفل لهم حياة طيبة نشطة موفورة الصحة. يعتبر الفقر والظلم الاجتماعي ونقص التعليم الأسباب الرئيسية للجوع وسوء التغذية، والعقبات الرئيسية أمام الحصول على الأمن الغذائي .
يقوم الأمن الغذائي على ثلاثة أعمدة أساسية هي: توافر الأغذيةإبانتاج كميات كافية من الأغذية السليمة والجيدة النوعية ، والقدرة على الحصـول عليها ت بحيث فى متناول يد جميع الناس في أي وقت وبما يكفى منها لاحتياجات الأسرمن حيث الكمية والنوعية والتنوع حسب احتياجات أفراد كل أسرة.والثالث هو:أن تكون أسعار السلع في متناول المواطنين.

إن الدين ومفهوم العبادة فيه الذي يشمل كل انتاج حلال من الخيرات وتحقيق المنافع للناس ورفع الإصر عنهم يعد محركا ومحفزا على الإنتاج ، كما أن الدين بفطرته يتوافق هنا مع التطلع الفطري الدائم للإنسان لكي يحقق العيش الكريم لآسرته ، فيكون لدينا دافعان ، دافع من التقوى ودافع من تلبية حاجة نفسية مشروعة.
ويستفاد مما جاء في سورة يوسف: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِـعُ إِلَى الـنَّاسِ لَعَلَّـهُمْ يَعْلَـمُونَ" [يوسف : 46] إلى قوله تعالى "وَفِيــهِ يَعْصِرُونَ" [يوسف : 49]،يمجموعة مؤشرات يمكن لها أن تهدينا لتحديد عناصرالمنهج الإسلامي في تحقيق الأمن الغذائي.والتي قد تتمثل في الآتي:

1- انتاج الغذاء بعمل وسعي لا يفتر وتوسيع الأراضي الزراعية بإحياء الأرض الموات، وبتوصيل مياه الأنهار إليها.
2- وترشيد الاستهلاك، بما في ذلك الحرص على الماء، لأنه أساس الحياة .
3- توزيع الغذاء بعدالة وفي حدود الحاجة الضرورية منه ،وبحيث لا يأخذ الفرد إلا ما يحتاج له.
4- حفظ المواد الغذائية لحين الحاجة اليها.
5- الحفاظ على خصوبة التربة والتوازن البيئي بعدم الإسراف في استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية وتعويضها ، ما أمكن، بالأسمدة العضوية الطبيعية.وأيضا عدم انهاك التربة .

ويشكل المترفون مصدر خطر على الأمن الغذائي عندما يمتلكون الأراضي الزراعية ولا يهتمون بما ينفع الناس ويسد حاجتهم من الغذاء وإنما تنحصر اهتماماتهم بما يستجيب الشهواتهم ونزواتهم ،
ومصالحهم الشخصية ،فتهلك الأمم بسبب فساد توجهاتهم وسياساتهم في الانتاج الذين يسيطرون عليه ، وبسبب النفص في انتاج الغذاء بما يفي بحاجة كافة السكان تنشأ الفجوة الغذائية، وحسن وعدالة
توزيع الأراضي على عموم الناس والمشتغلين بالفلاحة منهم خاصة هو الذي يحول دون ظهور طبقة المترفين وإفسادها ودمار وخراب المجتمعات وفي نفس الوقت لايمنع هذا من تحصين الأمن
الغدائي بالتكافل الاجتماعي وبالتسابق إلى فعل الخيرات، سواء بالزكاة، التي هي حق للسائل والمحروم، أو الوقف والصدقات، التي تتسع مجالاتها، ودرء الكوارث الطبيعية والجوائح البشرية
والتعاون على البروالتقوى واستثمار الطاقات الخلاقة لدى الإنسان.

إن زيادة الإنتاج عبادة وتغيير نمط الاستهلاك زهد ومحاربة السلوكيات التي من شأنها حجب السلعة الغذائية المنتجبة عن الأسواق لرفع أثمانها يدخل في باب الحسبة وردم الهوة بين الغني والفقراء
واجبتطوع، مؤكدا أنه لا مخرج للمسلمين -فيما يخص الأمن الغذائي - إلا بإطلاق الطاقات الروحية، ومقاربة القضايا الحياتية أكثر من التقوقع في قضايا العبادات.

وتتلخص العوامل المسببة لأزمة الغذاء الحاليةفي:
1- العوامل الديموغرافية. المتمثلة في زيادة السكان دون أن تقابلها زيادة مما ثلة في انتاج الأغذية الضرورية لهم . فزيادة السكان في حد ذاتها نعمة لما يترتب عليها من زيادة القوى العاملة الحية المنتجة ولكن حولها المتقاعسون عن زياذة الانتاج وتنفيذ سياسات اقتصادية راشدة ورشيدة ،إلى نقمة
وعوض تداركهم سوء سياساتهم استسهلوا المناداة بتحديد النسل لكي يأتي وقت على بلادهم يقل فيه عدد الشباب القادرين على العمل ويزيد فيه عدد المسنين الذين يشكلون عبئا على المنتجين.
2- العوامل الطبيعية. من تصحر وجفاف أو عدم انتظام هطول الأمطار.أو التعرض لظروف مناخية غير ملائمة للمزروعات مثل شدة الحرارة أو البرودة .وثمة حلول وإجراءات احترازية تتخذها الدول التي تخطط لمستقبلها وتأخذ في حسبانها أية تقلبات محتملة في ظروفها المناخية.
3- السياسات المتعلقة باستعلال الأراضي وهيكلة الانتاج الزراعي باستبدال زراعة الحبوب والمواد الغذائية بزراعات تجارية . ومن ذلك ما قاله الكاتب المغربي :أدريس ولد القابلة . من أن الولايات المتحدة الأمريكية خصصت 700 مليون دولار (5.5 مليار درهم تقريبا) للاقتصاد المغربي، 300 مليون دولار منها موجهة إلى القطاع الفلاحي، وذلك لدعم مشاريع زراعية غير مستهلكة لكميات كبيرة من الماء (أشجار الفواكه) بغية تعويض زراعة الحبوب بالنخيل وأشجار اللوز والزيتون والتين.وهو نفس الشيء الذي صنعته أحدى وكالات اهيئة الأمم المتحدة في تونس من قبل.
4- 'السياسات المتعلقة بالخيارات التنموية الكلية الناجمة عن عدم الاهتمام بالزراعة ضمن مخططات التنمية في حالة وجود مخططات ،وعدم نجاعة الهياكل الإدارية والتنظيمية في تنفيذ تلك المخططات لو كانت رشيدة.
5- تراجع نسبة مساهمة الانتاج الزراعي في الدخل القومي والتي تراوحت بالنسبة للدول العربية في عام 2000 مابين 11في المائة و13في المائة مع تدهور الانتاج الزراعي ، وتراجع معها حصة الفرد من الانتاج الزراعي المحلي ، وتراجعت أيضا نسبة انتاج الغذاء ضمن الانتاج الزراعي .وفقا لما جاء في التقرير الاقتصادي العربي الموحد، سبتمبر2001 .
و أدى ضعف أداء القطاع الزراعي إلى زيادة الواردات من السلع الغذائية لتلبية حاجيات مواطني الدول العربية من الأغذية الضرورية وليس لتحسين نوعيتها، وتعمقت الهوة بين الطلب على الغذاء
والإنتاج المحقق،
6- تغير أنماط الاستهلاك الغذائي نتيجة تزايد الهجرة من الريف إلى الحضر مما أسهم في زيادة الطلب على السلع الغذائية.ولو أن تأثير ذلك العامل مازال محدودا.
7- عدم ترشيد استهلاك الموارد المائية المتاحة ومحدودية استخدام أساليب الري العصرية مثل الري بالرش أو التنقيط ومواصلة الري بالغمر.مما تسبب هدر المياه في عدم التوسع الأفقي في الزراعة.
8- تخلف أساليب الانتاج مما تسبب عنه ضغف مردودية الأراضي بالمقارنة بالدول المتقدمة.
9- سوء استخدام موارد الأسماك أو عدم استغلالها محليا واستباحتها من قبل سفن الصيد الأجنبية.
10- تعرض انتاج وتجارة بعض المواد الغذائية الى نوع من الاحتكار يؤثر على حجم العرض أو زيادة أثمانها في الأسواق .

من أجل مواجهة التحدي الذي يفرضه الأمن الغذائي حاليا والتغلب عليه بتحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء محليا .فإنه ينبغي وجود تعاون وتضافر بين شعوب الإقليم الواحد فيما بينها، لوضع استراتيجية غذائية موحدة تضع في اعتبارها النقاط التالية :
1- إنتاج الغذاء مسؤولية قومية.
2- تنمية الموارد المائية وصيانتها واستغلالها مسؤولية إقليمية وليست قطرية فقط.
3- ضرورة التعاون الاقليمي في صناعة المستلزمات الزراعية.
4- التعاون االاقليمي في بناء البنية التحتية من شق مجاري المياه والطرق.
5- ضرورة تنفيذ الإصلاح الزراعي على المستوى الاقليمي سواء بإعادة توزيع الملكيات الزراعية أو إحياء الأرض الموات لتوفير الأرض للمزارعين الصغار.
من المتفق عليه أن القرآن الكريم – كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – ملئ بالآيات التي تدعو إلى التفكير في ملكوت السماوات والأرض، وفيه كثير من االأيات التي تتصل بالنبات والحيوان،وقد سبق ذكر الكثير مما جاء في كتاب الله في هذا الشأن ومها قوله تعالى : " وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ " (النحل : 13)، ويقول عز من قائل : " وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "(الجاثية : 4)،وقوله: “ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “ (الأنعام : 99) ويقول الحق تبارك وتعالى
: “وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ “(الرعد : 4).وقوله تعالي: " وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ "(الذاريات : 20-23).

سوء مخططات التنمية:
”تم تخطيط التنمية بالقفز على الزراعة والعناية بها أولا وذلك بالعمل على تحويل الاقتصاد من وضع تهيمن فيه الزراعة وإنتاج السلع إلى اقتصاد يتعاظم فيه دور القطاعات الاقتصادية الأخرى الغير مساهمة في زيادة الانتاج على حساب الزراعة والصناعة، بينما شهدت الدول التي سارت في طريق التقدم ثورة في الزراعة أو ثورة خضراء كما حدث في أوروبا والصين واليابان قبل السعي لعمل ثورة في الصناعة . وفي الدول التي اهتمت اهتماما محدودا لدينا ،لم يتم التصنيع فيها وفق منظومة متكاملة وإنما على نحو أقرب من العشوائية ،كل همه هو انتاج بدائل لبعض الواردات حتي لو كان أقل منها جودة ،أو اتباع إستراتيجية النمو الذي تقوده الصادرات ا لزراعية والصناعية التي تتطلبها الإسواق الخارجية للحصول على النقد الأجنبي بصرف النظر عن احتياجات السكان المحليين. أو توفر القدرة التنافسية للمنتجات في الأسواق العالمية .

وحتي بالنسبة لهذه الدول التي أبدت اهتماما محدودا وغير متكامل بالصناعة، شهد الاهتمام بالتنمية الصناعية فيها انحسارا بعد أن كان طاغيا في عقدي الخمسينات والستينات .وبدأ التراجع مع مطلع السبعينات بعدما بدا واضحا أأن ما اتبع من سياسات كانت نتائجه غير مشجعة على المضي فيها وعوض أن تتم نهضة اقتصادية بدأت الدول تتعرض إلى الأزمات المالية والاقتصادية وتواجه مأزق النفص في انتاج الغذاء يقود إلى استيراد الغذاء من الخارج .وما يتبع ذلك من استنزاف المتاح من النقد الأجنبي. كما نتج عن تخلف القطاع الزراعي حرمان القطاعات الأخرى -خصوصا الصناعية- من المواد الأولية اللازمة لها, مما أدي إلى حدوث اختناقات تنموية حادة.ومع ذلك فإن الفشل في الصناعة لا علاقة له بإهمال الزراعة ، ولكن لو كان قد تم الاهتمام بالزراعة لاستطاعت الدولة المحافظة على قوة اقتصادها ولو في مستوي متدن عن الدول الصناعية ولكنه أقضل مما أل اليها حالها . وثمة دول صناعية حققت تقدما كبيرا في الصناعة رغم أن طبيعتها لم تكن تسمح لها بإحداث نفس التقدم في الزراعة ومن هذه الدول ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها ، بل إن الذي أشعل الحرب العالمية الثانية لم يكن فقط الثأر من الهزيمة في الحرب الأولي وإنما السعي للوصول إلى حقول القمح في أوكرانيا وروسيا لتأمين الغذاء للشعب الألماني ولا يكون تحت رحمة المنتجين له في الخارج.
وكان ما آل اليه اقتصاد الدول العربية يستدعي أن تتولي إصلاح الأمور حكومات وطنية قوية وأن يعاد تخطيط الإنتاج الزراعي والصناعي لسد الفجوة الغذائية التي تتسع عاما بعد أخر أو الحد من استيراد بعض المواد الغذائية الأساسية بانتاجها محليا . ولكن شهدت عقود الثمانينيات والتسعينيات لإجراءات تنهي دور الدولة في الإنتاج والتسويق وتم تصفية القطاع العام .واقتصرت مهام الدولة على لعب أدوار هامشية في الانتاج الزراعي والصناعي وتركت الأمور رهن رأسمالية محلية عير انتاجية أو ناضجة أو تهتم بالصالح القومي، وإنما تولي كل اهتمامها لمصالحها الماليةالذاتية ولا تعبأ بالمصالح الوطنية ،و تأسست على مفهوم اقتصاد الريع وعلى الأنانية وتكريس المكاسب ولو بالرشوة وإقساد الادارات الحكومية والمؤسسات السياسية التي تهيمن عليها ، بما فيها التشريعية ، لكي تشيع العشوائية والفساد والفوضي في الاقتصاد والسياسة معا.

وساهم في تعميق الأزمة الغذائية والاقتصادية غياب التعاون الإقليمي الذي كان بامكانه إيجاد حلول لها في نطاق التكامل ، ولكن الحكومات والقوى النافذة فيها سعت نحو تكريس العداوات مع دول الجوار لقطع الطريق أمام أي وحده معهم ولو على المستوى الاقتصادي بما ينقذ الجميع ويعود بالنفع على الشعوب. وعوض توجيه الأموال الفائضه أو المستدانة من الخارج لخدمة التنمية يتم
توجيهها لتكديس السلاح لحرب محتملة بين الجيران الذين ينتمون إلى عرق ودين واحد ويتكلمون لغة واحدة.
واستفحلت الأزمة مؤخرا بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية المتصاعد في الأسواق العالميةحيث أن مجموعة قليلة من الدول والشركات المتعددة الجنسية تحتكر انتاجها والتجارة فيها، وتتحكم بالتالي في الأسعار .وكلما انخفضت قيمة عملتها الوطنية في الأسواق المالية العالمية قامت بتعويض هذا الانخفاض بالرفع من اسعار المواد الغذائية في مخازنها ويزيد هذا أيضا من إمكانية استخدامها الغذاء كسلاح ضغط وعقوبة لترويض الحكومات المارقة من وجهة نظر ها.ويزيد أيضا من الأزمة زيادة أسعار البترول والتي تؤثر على تكلفة المنتج المحلي ويزيد بالتالي من سعر بيعه للمستهلك. ولو أن ما يتعذر فهمه هو أنه حين انخفضت أسعار الطاقة والمواد الغذائية نتيجة الأزمة المالية التي ضربت الأسواق المالية في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية ظلت أسعار المواد الأساسية على حالها في العديد من الدول العربية ولم تهخفض لتحسين ظروف معيشه المواطنين.

ويمكن ارجاع مأزق الأمن الغذائي الحالي لعدة أسباب كان يمكن تفادي نتائجها لو تم اتخاذ السياسات الملائمة لكل منها ومن أبرز تلك الأسباب:
- ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي دون أن يواكبه ارتفاع في معدل انتاج المواد الغذائية الضرورية.
التحسن في مستويات الدخل لدي شرائح الطبقة الوسطي من زاد من استهلاكها لبعض المواد الغذائية وزيادة الطلب عليها دون زيادة المعروض منها ، ومع زيادة أسعارها انتقلت العدوى للمواد الأساسية..
-تناقص مساحة الأراضي المزروعة مع تناقص انتاجيتها و الناتج عن إهمال الزراعة أو سوء استعلال الأراضي ووسائل استزراعها.فإزالة الغطاء النباتي في شرق السودان على سبيل المثال تسبب في انخفاض منسوب المياه الجوفية وعدم استخدام مصارف لفائض مياه الرى زاد من تملح التربة في سوريا وعدم قدرتها على الانتاج في مشروع الفرات و التمادي في استعمال المبيدات الحشرية لمقاومة دودة القطن وآفات زراعية أخرى فضلا عن الإصرار على زراعة القطن ذاته تسبب في تسميم التربة وأدهادها وفقدانها الصلاحية وموت الأسماك والأحياء المائية في بحيرات شمال دلتا النيل ,
- تراجع الاهتمام بمشروعات السقي أو تصرها على مناطق معينة دون غيرها مما جعل الأراضي الفير مسقية تحت رحمة التقلبات المناخية وتساقطات الأمطار .- استبدال زرا-
- استبدال زراعة الحبوب التى تمثل دعامة النمط الاستهلاكي إوأهم سلعة غذائية استهلاكية بزراعة منتجات أخرى للتصدير .
ندرة المياه وسوء استغلال المتاح منها وهدره عن طريق مواصلة السقي بالغمر وعدم نشر وسائل الري الموفرة لاستهلاك الماء مثل الري بالرش أو التنقيط.
ولذا يمكن القول بأن الأزمة الغذائية في الدول المسلمة لم تكن إلى حد كبير بسبب نقص أو شح في الموارد المتاحة، ولا هي نتيجة نمو سكاني متسارع أو عجز في التمويل نبقدر ما كانت
بالدرجة الأولى نتيجة فشل أو خلل في السياسات الزراعية وسوء استغلال لما هو متاح للوطن العربي من موارد، فهي جزء من مشكلة التنمية في جوهرها، بأنماطها الإنتاجية والاستهلاكية
والتوزيعية على المستوى القطري والقومي.

ويتطلب الخروج من المأزق الغذائي جهودا إقليمية جادة على طريق التكامل في جميع الأصعدة وبخاصة في القطاع الزراعي.وهو ما يحتاج إلى الإرادة السياسية وحكومات وطنية مسؤولة وقوى
ناشطة لتحقيق هذا الهدف الذي أصبح المخرج الوحيد من الأزمات التي تعاني منها الدول المسلمةحاليا على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إلا أن هذه الإرادة السياسية المطلوبة
والحكومات الوطنية الرشيدة ما زالت في حقيقة الأمر حلما ، لا توجد أي مؤشرات تبشر بامكانية تحقيقه في المستقبل المنظور.

إن تحقيق الأمن الغذائي لأي أمة هو قضية محورية لا يجب تركها رهينة للظروف أو للعوامل الخارجية تتحكم فيها، وإنما يجب العمل وبكل جدية إلى ضمان أمنا غذائيا دائما ، كما أننا يجب أن تعي جيدا إرتباط الأمن الغذائي بالأمن القومي والاستقرار الاحتماعي والسياسي ، وهي الحقيقة التي أدركها هتلر ولكنه أساء التصرف وأغرته الانتصارات العسكرية السهلة للتمادي وتوزيع نطاق الحرب متجاوزا ما تحدد من أهداف لها ، وإخفاق هتلر في الحرب لا يعني خطأ الربط بين توفير الغذاء محليا والحفاظ على الأمن القومي ، هذا المبدأ الذي نحد تأكيدا له فيما ورد في القرآن الكريم عندما تم الربط بين الغذاء والأمن والجوع والخوف في سورة فريش وأيات في سور أخرى مما يجعل بالإمكان القول بوجود ثمة تلازم بين ثلاثة أمور هي الغذاء والأمن والإيمان في المنظومة العقدية الإسلامية،
وصدق من قال : إن الجوع كافر.وهذا كله يستدعي قبل أي وقت من قبل تكثيف الجهود وحشد الطاقات من أجل زيادة العناية بالإنتاج الفلاحي : الزراعي والحيواني لتحسين انتاجية الغذاء كما وكيفا ، وتنمية مصادر الانتاج تنمية أفقية ورأسية وتنويع المنتجات الغذائية.

كما أن استزراع الصحراء يمكن أن يسهم في تحقيق الأمن الغذائي العربي وبخاصة إذا ما توجهت الدول العربية إلى زراعة نباتات رعوية وعلفية تتحمل الجفاف لتكون مصدرا لغذاء المواشي .وهو ما يؤدى إلى زيادة الإنتاج العربي من اللحوم والألبان مما يقلل الاعتماد على الاستيراد وتتقلص الفجوة الغذائية ويمكن أن يحقق فائضا أيضا للتصديرإو إغاثة الشعوب التي تتعرص إلى المجاعات.، ولكن تحقيق ذلك يتطلب إمداد الأراضي الصحراوية بالمياه ، وقد يتطلب جلب المياه إلى الأراضي الصحراوية في بلد ما الحصول عليها من بلد بعيد ومرور خطوط المياه عبر حدود دول أخرى وهو في النهاية لا يمكن أن يتم بغير تعاون إقليمي ومشروعات تنمية زراعية مشتركة يتم فيها تعبئة الموارد المتاحة في الدول المشاركة في تلك المشروعات سواء البشرية أو المائية أو التقنية.

ومما قد يزيد أزمة الغذاء خطورة هو الاتجاه المتزايد نحو انتاج الوقود الحيوي، الذي يتم استخراجه من الذرة والقصب السكري وفول الصويا والأرز والقمح والنخيل،والذي يترتب عليه تحويل مساحات زراعية شاسعة كانت تنتج الحبوب والمواد الغذائية إلى أراض مخصصة لإنتاج الوقود الحيوي. وهو ما يعني توسيع الزراعة بهدف التطبيقات الصناعية على حساب الزراعة من أجل توفير الغذاء، مما سيزيد من حدة الأزمة الغذائية العالمية ويزيد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
ويقول مارتن كايزر، المستشار السياسي لمنظمة السلام الأخضر في مجال التنوع البيولوجي والغابات والمناخ،في حديث له "إن الحوافز المالية الكبيرة التي تقدمها الشركات الكبرى المنتجة للوقود الحيوي تدفع بعض الحكومات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى تحويل ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية والمراعي المخصصة للماشية وكذلك الغابات إلى مساحات شاسعة مخصصة لزراعة المواد التي تستخدم لإنتاج الوقود الحيوي، دون أخذ حاجيات السكان من المواد الغذائية بعين الاعتبار، مما يؤدي إلى عجز تلك البلدان النامية عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء."ويضيف بأن :"إن إنتاج الوقود الحيوي خلال السنوات القليلة الماضية قد أدى إلى قطع وتدمير مساحات لا بأس بها من الغابات الاستوائية في أندونسيا وماليزيا وإفريقيا الوسطى ومنطقة الأمازون في أمريكا الجنوبية. وأشار كايزر إلى أن هذا التدمير للغابات الاستوائية، التي تعتبر مأوى للحيوانات والنباتات، لتحويلها إلى أراضٍٍ للزراعة الصناعية، يخل بالتوازن البيئي ويؤدي إلى انقراض أصناف كثيرة من الحيوانات والنباتات. علماً بأن هذه الغابات تلعب دورا مهما في المحافظة على رطوبة الأرض بشكل فعال من خلال امتصاص ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى أوكسجين." وتقول كارولين بوين: باحثة في برنامج البيئة لشبكة السياسة العالميةبلندن،وتيصيب الجوع كل قطاعات الحياة―من دون غذاء كاف، يصبح الناس غير قادرين على العمل وعلى تربية عائلاتهم وعلى الذهاب إلى المدارس، وأيضاً غير قادرين على مقاومة الأمراض. إن أفضل طريقة للوصول إلى الأمن الغذائي هي التأكيد على حرية الناس وحقهم في تأمين الغذاء لأنفسهم ولعائلاتهم. ويتوجب على الحكومات ليس فقط وقف التدخل بالزراعة ووهم الاكتفاء الذاتي، بل يجب عليها أيضاً أن تدرك أن الإنسان يكون أكثر قدرة ومسؤولية عندما يكون حراً.

الحق في التملّك وتبادل الأموال سيشجع المزارعين على استثمار وقت ومال أكثر في أرضهم. وسيزداد عدد المزارعين الذين يستخدمون التكنولوجيا الزراعية إذا كانوا واثقين من أنهم سيحصلون على عوائد من استثمارهم. التملّك الآمن للأرض سيتيح أيضاً للمزارعين أخذ قروض بنكية باستخدام أرضهم كضمان. هذا سيتيح لهم الاستثمار لتحسين عملهم الزراعي، للبدء بمشاريع جديدة أو ببساطة توفير الصحة الجيدة والتعليم والرفاه لعائلاتهم.

إن دعم حقوق الملكية وتمكين الناس من العمل في مشاريع من أجل بيع المنتجات والخدمات سيقلل من الجوع بشكل كبير. قد تبدو هذه السياسات غير مرتبطة بموضوع الغذاء، لكنها مرتبطة جداً بحريّات المزارعين لإنتاج الطعام وجني المال. وبالمقابل، فإن التدخل المستمر من الحكومات والوكالات العالمية ترك المزارعين جوعى وغير منتجين، مما يتسبب أيضاً بملايين الجوعى من الناس.

منظمة الأغذية والزراعة على حق عندما تقول "إنه على الحكومات خلق بيئات ملائمة وآمنة ومستقرة وحرة ومزدهرة، بحيث يقوم الناس بإطعام أنفسهم بكرامة". لكن، هذا يعني زيادة سيطرة الناس على حياتهم وأرضهم وعملهم، دون سيطرة الحكومات.؟.. قد يكون هذا هو فعلا الحل الوحيد ، ولو أنه يحمل في طياته شهادة بعدم جدوى الحكومات .

الاقتصاد الواجب في مجتمع المسلمين :
يكتسب الاقتصاد و التنمية الاقتصادية أهميتهما من تحقيقهما الأهداف التالية:
1. توفير السلع و الخدمات المطلوبة لاشباع حاجات المواطنين .
2. استثمار جميع القوى البشرية القادرة على الانتاج في بناء الثروة الاجتماعية . و تحسين المستوي الصحي و التعليمي و الثقافي الذي يتطلبه ذلك.
3. تحقيق العدالة الاجتماعية بضمان توزيع عادل للثروة.
4. تنمية الثروة الاجتماعية وتحسين ظروف عيش المواطنين على نحو مطرد
5. تحقيق الأمن القومي للدولة .
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف ما يلي :
1. التخطيط و توفير البيانات و المعلومات اللازمة
2. تزويد الموارد البشرية بالمعارف والتقنيات التي تمكنها من إنتاج جيد من حيث الكم والكيف .
3. وضع السياسات الاقتصادية الملائمة
4. توفير الأمن و الاستقرار اللازم
5. نشر الوعي التنموي بين المواطنين
ويمكن تحديد أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي في الآتي:
1- التكافل الاجتماعي والذي تقوم الزكاة بدور رئيس فيه .
2- تحريم الاحتكار والربا والمقامرة و انتاج وبيع المحرمات مثل الخمر.
3- تغليب المنفعة العامة على المنفعة الخاصة عند تعارضهما.
4- تحريم بيع ما لا يمتلكه الفرد - وذلك لمنع المخاطرة أو المقامرة
5- حرية البيع والشراء في السوق مع إخضاع السوق للمراقبة للمحافظة على أخلاقياته.مع الشفافية في التعامل والالتزام بكل القيم الدينية والأخلاقية الإسلامية.

التكــــافـل:
يعتبر التكافل قوام وهدف التنظيم الإقتصادي للآسلام في جانبه المالي على وجه الخصوص. وبحيث يتحقق للإنسـان -أي إنسان وأيا كانت عقيدته – في ظل المجتمع المسلم ، ومن خلاله، أن يأمن على أسباب الرزق التي تؤمن له مقومات حياته ومعاشه ومعاده منذ كان في رحم أمه جنينا ، وفي أحضانها رضيعا وفي ظل الأسرة طفلا ويافعا، إلى أن يستقل عنها شابا يكون أسرة جديدة ، وفي الشيخوخة ، وفي حالات الصحة والمرض والقوة والعجز ، والحاضر والمستقبل ، لا يخشي جوعا ولا عريا أو فقرا أو مسكنة أو حاجة أو مذلة أو ظلما وهضما لحقوقه .
ويحكم التكافل ما يسميه الفقهاء بنظرية الاستغراق . والتي يعمل الفرد في ظلها لذاته وفي نفس الوقت يكون مستغرقا في حياة الجماعة ، وعاملا من أجل خيرها . تأسيسا على قوله تعالي : « محمـد رسـول الله والذين معـه أشداء على الكفار رحماء بينهم “(الفتح:29) وقوله تعالى :« لو أنفقت ما في الأرض ما ألفت بين قلـوبهم ، ولكن الله ألف بين قلوبـهم ولكن اللـه ألف بينهم “ (الأنفال: 63) . وقوله صلى الله عليه وسلم : «  المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا “، وقوله : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحـــد إذا اشتكي منه عـضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمي” . مع ملاحظة أنه في هذين الحديثين تحدث الأول عن ترابط المسلمين ، وزاد الحديث الثاني عن الترابط التداعي المتسم بالمودة والرحمة وهي الصفات التي يتسم بها المؤمنون وليست بالضرورة موجودة عند من توفت عقيدته عند حد الإسلام وأركانه الخمسة.
فالفرد المسلم ، مستغرق في وجوده ، ومرتبط بالجماعة ، غير منفصل أو مستقل أو منعزل عنها ، وإنما يستمد ويرتبط وجوده بوجودها . أو بمعني الإنوجاد في الوجود على نحو ما قال به الفيلسوف المعاصر:«هيدجر”.ولذا فإن التكافل يجسد وحدة الأمة ، مصداقا لقوله تعالي : « المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض”(التوبة :71)
وقوله :« إنما المؤمنون إخوة” (الحجرات:10) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم “ . وهنا أيضا نلاحظ في الأية وصف المؤمنين بالإخاء ، والذي لا يكون بغير المحبة والإحسان ، ووصف المسلمين بالتضامن ، وهو أمر قد تقتضيه العصبية وليس بالضرورة المحبة والإخاء.

ويتمثل التكافل إذن في جانبه الإقتصادي : الانتاجي والمالي ، في استغراق الفرد أو الأسرة داخل الجماعة ، بما يكفل لكل فرد فيها ، أو لكل أسرة ، حد الكفاية في خمس : المأكل والمشرب والملبس والمأوى والزواج . وتتحقق هذه الكفاية من خمسة مصادر متفرقات أو مجتمعة هي:

1- العمل والانتاج : ويفترض أن تلتزم الدولة المسلمة بكفالته والإعانة عليه بالتربية والتعليم اللذان يؤهلان الفـرد له ، وبتوفير متطلباته المادية والتقنيات التي تساعد على إتقانه وتطوره ، وبرعاية القوى البشرية المنتجة صحيا لكي تتمكن من أداء عملها على أحسن وجه. فإن قصرت الدولة أو عجزت ، وجب على المجتمع المؤمن أن ينظم نفسه في معزل عن الدولة ودون الاعتماد عليها للقيام بهذه الواجبات.
2- كفالة النفقة : وتجب على الموسر الملزم بها شرعا قبل أقراد أسرته وذوى رحمه والأيتام والمساكين والفقراء من جيرانه وأقاربه وأصهاره . وتعينه الدولة المسلمة إن قصرت موارده المالية عن القيام بذلك.
3- كفالة البر والكفارات : وتند ب للموسرين على ذوي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب . وإذا كان الرق قد ألغي ، فهناك حالات من العبودية والاستغلال منتشرة في المجتمعات الفاسدة يعد إنقاذ المستغلين (بفتح الغاء) من المستغلين(بكسر الغاء) لهم بمثابة عتق لرقابهم.وهو ما سيتم التطرق إليه عند الحديث عن مصارف الزكاة.
4- كفالة الزكاة : وتجمعها لدولة المسلمة إن كانت محل ثقة وتصرفها على الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله . وسيتم تفصيل ذلك عند الحديث عن مصارف الزكاة. فإن لم تكن الدولة محل ثقة ، بحيث يخشي أن لاتصرف الزكاة في مصارفها الشرعية وتبدد أموالها وجب على مجتمع المؤمنين أن يشكلوا من بينهم جهازا يتم انتخاب القائمين عليه من كافة المكلفين لجمع الزكاة وصرفها فيما حدده الله لصرفها.
5- العطايا والأجور: وتدفها الدولة للقائمين بوظائفها والمحققين لأهدافها والمراقبين لاستقامة أعمالها وتصرفاتها في حياتهم ، ولمن يعولون بعد مما تهم أو تقاعدهم ، وكذا يصرفها أصحاب الأعمال لمن في خدمتهم من الأجراء، وليس على أساس العمل المنجز فقط ، وإنما أيضا أخذا في الاعتبار أن خدمتهم ساهمت في انتاج الثروة وشغلتهم في ذات الوقت عن انتاج ثروة يورثونها لم يعولونهم في حياتهم. مع مراعاة العدل فيها.

موارد الدولة المسلمة قديما:
وتعين الدولة ، إن حسنت سياستها ورشدت، على تحقيق التكافل وتوفير البنية الأساسية والخدمات للمتكافلين المستخلفين مما يتجمع لديها من موارد مالية تتحصل عليها.
وكانت موارد الدولة المسلمة قديما تنحصر في الخمس التالية :
1- الخراج : وهي ضريبة عينية تؤخذ على الأرض الزراعية بصرف النظر عن الممول مع مراعاة عدم إرهاقة، مع تحرى العدل والاعتدال والمساواة بين الممولين.
2- الزكاة : وهي ضريبة شخصية تفرض على صافي انتاج الممول ، ووفقا لمركزه المالي . ولها نصابها وقيمة محددة على كل نوع من أنواع الاستثمار والدخل الناتج عنه . ويتم إنفاقها في نفس الإقليم ، ومن مصارفها المحأددة ، وما فاض عن الإقليم ينفق مركزيا. وقد اعتبر الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه من امتنع عن أداء الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة بمثابة مرتد عن الإسلام وشن حربا في بداية عهده على الممتنعين عن أدائها بعد وفاة الرسول عرفت بحرب الردة.
3- العشـورأو المكوس: وتفرض على صافي عمليات الاستيراد والتصدير في التجارة الخارجية مع الدول والشعوب غير المسلمة خلال العام بواقع عشر الأرباح الناتجة عنها.
4- الحمي والوقف والممتلكات: وتتعلق بالإيرادات الناتجة عن استثمارات الدولة ودخلها مما تقدمه من خدمات بمقابل مادي واستغلال ممتلكاتها.
5- الضرائب : وتفرضها الدولة وفقا لضوابط خمس هي : العدالة واليقين والملاءمة والاقتصـاد وتحقيق غاية اجتماعية تعود على كافة افراد المجتمع بالنفع.

الموارد الإضافيـة :
وإلى جانب الموارد الذائمة تلك كانت توجد للدولة المسلمة موارد إضافية غير مستقرة أو ذات طبيعة ظرفية تتمثل أيضا في خمس هي الآتية :
1- الإركاز : وهي خمس ما قد يعثر عليه من ثروة لاصاحب لها أو مطالب بها لحق شرعي له فيها.
2- التوظيف : وهو ناتج عن الحجر عن أموال السفهاء بواسطة الدولة أو المكتنزين للدهب والفضة والأموال ، وما تصادره من مال اكتسب بالحرام.
3- وراثة من لاوارث له: حيث تعود أموال و ممتلكات من لا وارث له إلى الدولة.
4- الغنـائم : وهو ما يتم الاستيلاء عليه من العدو في حالات رد عدوانه.
5- الجزية أو الغرامات : وهي ما يفرض من بدل نقدي مقابل الإعفاء من خدمة العلم أو مقابل الحصول على امتيازات من أي نوع.

موارد الدول الحديثة.
لا تختلف موارد الدول الحديثة مسلمة كانت أم غير مسلمة عما سبق كثيرا ، وقد حذت الدول المسلمة حذو الدول غير المسلمة بالنسبة للموارد المالية والتي كانت الضرائب المفروضه أبرزها، وأحيانا تجاوزتها على نحو هدام بالنسبة لاقتصادياتها لافتقارالاقتصاد إلى العـدالة التي يحرص عليها شرع الله. وبسبب الجهل أيضا وعدم التقيد بالضوابط الخمس سابقة الذكر لفرض الضرائب. ومنها ما يزيد من تكاليف المعيشـة للسكان مثل الضرائب المباشرة المفروضة على السلع والمنتجات وخاصة ضريبة القيمة المضافة على السلع التي لم تعفي منها السلع الأساسية .وعندما ترتبط باتفاقات تجارة حرة تلزمها بإعفاء الوردات من الضرائب ، أو تعفي الواردات من الضرائب بسبب عضويتها لمنظمة التجارة العالمية،تقوم بتعويض هذا المورد بزيادة الضرائب غير المباشرة على مواطنيها. وبينما نجد اسعار الفائدة في الدول الغنيةغير المسلمة تتراوح ما بين 2-5 في المائة نجدها في الدول المسلمة تتراوح بين 10-15 في المائة في الدول المسلمة الفقيرة . أي تتعامل بالربا الفاحش ، ويمحق الله الربا ويربي الصدقات ، وبينما تفتح الدول غير المسلمة أبوابها لمصارف لا تتعامل بالربا لكي تتيح الفرصة للمسلمين المقيمين بها والذين يتحرجون من التعامل بالربا بالتعامل معها ، نجد دولا مسلمة تغلق أبوابها في وجه تلك المصارف ومعامللاتها حماية لمصالح البنوك الربوية فيها .وثمة دولة مسلمة فرضت ضرائب على مربيي الماشية من أبقار وأغنام ضعف ما فرضته على الأقلية التي لا تقيم وزنا للدين وتربي الخنازير ، وتفرض ضريبة على المقاهي التي لا تقدم لروادها سوى الشاي والقهوة ضعف ما تفرضه على الحانات والعلب الليلية التي تقدم لروادها الخمور ، أي أنها تميزمن يأكلون السحت المحرم شرعا عن الذين يسعون إلى الكسب الحلال.إن هذه الدول المسلمة لا تخون دينها فقط وإنما تخون في الواقع الإقتصاد ذاته ، وهي إذ تتدعي الحداثة وأنها تقلد الدول المتقدمة لكي تقلل الفجوة التي تفصلها عنها تتبع في واقع الأمر نظما اقتصادية غير ملائمة لها تزيـد شعوبها فقرا وتخلفا وتدمر اقتصادياتها بيدها. والجماعات الدينية التي ظهرت في هذه الدول وطالبت بتطبيق أحكام الشريعة لم تنتبه إلى وجود قيم إسلامية حاكمة للاقتصـاد بسبب محدودية معرفتها الاقتصـادية واقتصرت في مطلبها على تطبيق الحدود الرادعة للجرائم فقط.

إن القول بعدم وجود نظام اقتصادي في الإسلام ونظرية اقتصادية هو صحيح تماما ، ولكن ذلك لاينطبق على عالم المسلمين فقط وأنما ينطبق على كل شعوب العالم حيث لم تظهر النظريات والنظم الاقتصادية والمالية إلا مع تطور الرأسمالية في أوروبا وابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي. ولكن يوجد في الإسلام قيم حاكمة للاقتصاد والمعاملات المالية ، يمكن للمسلمين وضع نظم اقتصادية تحترمها ولا تخرج عليها ويمكن أيضا التوصل إلى نظريات إقتصادية يتم تطبيقها في عالم المسلمين ،وستكون هذه الأنظمة والنظريات غير متمتعة بالثبات أو الاستقرار لأنها تدخل ضمن عالم السياسة وتدبير شئون المسلمين وهو الأمر الذي يفرض على هذه النظم التلاؤم مع الزمان والمكان وكل منهما من المتغيرات وليست من الثوابت , ويظل الثابت الوحيد هو القيم الدينية ، والتحقق دائما من أن العمل الاقتصادى هو عمل من الأعمال الصالحات ويندرج ضمن الإحسان في الدين. ولذا قإن النظام الاقتصادي للمسلمين قد يختلف من بلد إلى أخر ومن زمان إلى آخر وتستحق في نفس الوقت هذه الأنظمة أن توصف بأنها إسلامية رغم اختلافها طالما هي ملتزمة بالقيم الإسلامية .
ومن الموارد المالية للاقتصاد الحديث التمويل بالعجز، وهو لا يخالف الإسلام.والاستخدام الصحيح له هو تمويـل أو تحريك الإمكانات المعطلة في ظروف التضخم والكساد لأنه لايعدو أن يكون إجراء ماليا مؤقتا واضطراريا يتم التراجع عنه فور تحقيقه هدقه ولايعد أيضا الإصدار النقدي موردا لأنه في حقيقة أمره دين على الدولة والتزام تضمنه ممتلكاتها ويستثني من ذلك حالة الولايات المتحدة الأمريكية التي أمكنها بعد تثبيت الدولار كعملة دولية أن تطبع منه آلاف المليارات بدون أي رصيد حقيقي لها سوى سمعتها كأغني دولة في العالم ، بما يمكنها من تصدير التضخم المالي خارجها . وفي حدود قدرة السوق المالية الدولية التي تسيطر عليها على الاستيعاب ومزايا سيطرتها على ايرادات الدولة المنتجة للبترول في المنطقة العربية خاصة بحيث أصبح الدولار وحماية تداوله خارجيا هو مظهر وجوهر المصالح الاقتصادية الخارجية فيما وراء البحار والخطر الداهم في نفس الوقت الذي يهدد الاقتصاد الأمريكي بالانهيار إذا ما طولب مقابل لآلاف المليارات من الدولارات الهائمة خارج حـدود الدولة.
والتمويل بالعجز إن لم يكن من أجل دعم استثمار منتج ومربح يعد نكبة على الاقتصاد ويعوقه ولا يساعده في شيء . ومن التمويل الحديث أيضا سندات الخزينة ، وهي عبارة عن دين في ذمة الدولة لمن يشترى السندات ، وتستخدم أيضا لهدفين سحب السيولة المالية من السوق لمعالجة التضخم المالي ودعم الاستثمارات الحكومية بحيث يمكن تسديد قيمة السندات من عائداته ، وإن أنفقت في غير ذلك أضرت باقتصاد الدولة. ومن التمويل أيضا الحصول على قروض من الخارج ويفترض في السياسة الاقتصادية الرشيدة أن تستغل بكاملها في دعم استثمارات منتجة للثروة ، تسدد أقساط القرض وقوائدة من عائداتها. وإلا كانت بمثابة زيادة الاقتصاد رهقا.

خصائص التكافل ومقاصده:
والتكافل من حدود الله التي يجوز تعديها وحكم الله الذي لا يجوز مخالفته وإلا اعتبر المسلم مكدبا بالدين لقوله تعـالى : « أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين “(الماعون:1-3) . واعتبر أيضا قد تحول من الإيمان إلى الكفر به لقوله تعالي : « وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ، قال الذين كفروا للذين آمنوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟”(ياسين 47). وتقدير العظاء فيه كما يقول المواردي معتبر بالكفاية ، بحيث يخرج الفقير من إسم الفقر إلى أدني مراتب الغني . وكل التصرفات التي تتأسس على مبدأ التكافل تعد من ضروب العبادة ، ومما يعين عليها في نفس الوقت.
ولا يقف التكافل عند حد الكفاية إلا في حده الأدني ، ولكنه يتواصل حتي يتحقق لجميع الأسر في المجتمع ، مرحلة بعد أخرى ، حدا أعلى مما تم الوصول أليه في المرحلة السابقة.وهو ما عير عنه الفقهاء الأصوليون بسلم الأولويات والذي يتضمن أولويات خمس: الضروريات- الحاجيات – التحسينيات – الطيبات – الرفاه. وتوفير الحد الإدني لجميع السكان يعد فريضـة على المجتمع والحاكم. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ، نستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم. » وكان يقول لعماله: » إذا أعطيتم فأغنوا” والمسؤولية تضامنية بين الدولة والمجتمع عن التكافل لا تتحقق لمجرد توفير العمـل المأجور لديها أو لدى أصحاب رؤوس الأموال وكبار الملاك للعاطلين والمحتاجين، وإنما تتحقق الحسني في تأمين العمل الحر أو التعاوني المنتج الذي يحولهم إلى ملاك وأصحاب ثروة وليس مجرد أجراء يتم استغلالهم من أصحاب رؤوس الأموال والاغتناء على حسابهم ، والتحكم في أرزاقهم بإتاحة العمل أو حجبه عنهم وزيادة الأجور أو خقضها فيما قد يلجئون اليه من إعادة الهيكلة لخفض نفقات التشغيل . ولذا يعطي الإسلام في التكافل الأولوية للحرف والمهن الحرة ، إذ أن الحرفة أو المهنة الحرة تضمن للفقير رزقا متواصلا بعد تيسيرها له ، ولو أن ذلك لا يضمنه سوى اقتصاد مزدهر أيضا وطلب متزايد على الحرفة أو المهنة وعلى انتاجها أو الخدمات التي يقدمها أصحابها. ويتحكم فيها ظروف العرض والطلب بالسوق . وفي ظروف اقتصادية مشجعة يكون الأفضل للعامل القادر على الانتاج وإتقانه في حرفة أو مهنة له الدراية الكاملة بأصولها وفنونها ، وجب إعانة الحرفي أو المهني عليها ، بتيسير حصوله على مستلزمات الإنتاج وعلى تمكينة من تسويق انتاجه أيضا. فذلك سيكون دائما أفضل له من عمل مأجور قد لا يحسنه أو غير مضمون استمراره كمورد رزق دائم متواصل يحتاجه في ظروف الرواج ويستغني عنه في ظروف الكساد أو لخسارة تعود إلى سوء إدارة صاحب العمل أو بسبب تطور التقنية أو استبداله بمن يقبل أجرا أقل منه لخفض تكاليف الإنتاج وزيادة القيمة المضافة للرأسمالي.

وأفضل ما يحقق ذلك ويسهم في نفس الوقت في دعم الاقتصاد الوطني هو ما يلي:
1- نظام الأسر المنتجة : ومثال لهذا النظام هو صناعة الجبن من الحليب في هولندا والدانمرك وتصديره إلى جميع أنحاء العالم ، فهذه الأجبان والتي تتولي تصديرها شركات كبرى هي من انتاج أسر فلاحية هولندية أو دانمركية تقوم الشركة التجارية بشرائها من الأسر لمنتجة لها وتغليفها وتصديرها باسمها. وفي مدينة موس البلجيكية تناولت الطعام في مطعم صغير عائلي أقامته أسرة بلجيكية في حديقة منزلها ويعمل فيه أفراد الأسرة : الزوج والزوجة والأولاد والبنات وجميعهم حاصل على شهادات جامعية وقضلوا العمل الحر عن العمل في الحكومة أو المصانع.وقرأت قبل سنوات عديدة عن مؤسسة بريطانية تقوم بإقامة مشروعات عائلية وكان منها محطة لتزويد السيارات بالوقود فيها مغسلة للسيارات وورشة أصلاح. ويتم إنتاج العديد من السلع التقليدية اليدوية عن طريق الأسر المنتجه.وينتشر هذا النمط من الانتاج العائلي أيضا في الصين وبدأ ينتشر في الهند ودول أخرى.
2- الشركات المسـاهـمة للخدمات والانتاح:.ويناسب هذا النوع من شركات الأموال للمهنيين مثل تجمع مجموعة من الأطباء من مختلف التخصصات الطبية وإقامة مصحة أو مجموعة من المهندسين من تخصصات متكاملة مختلفة وإقامة شركة للتصميمات والاستشارات الهندسية أو مجموعة من المحامين يقيمون شركة للمحاماة والاستشارات القانونية وتأسيس الشركات ...وهكذا وهو نمط منتشر في أوروبا والولايات المتحدة. كما قامت حكومة المجر عندما تحولت من النظام الشيوعي إلى النظام الرأسمالي بتمليك مصانع الدولة للعمال والمهندسين العاملين فيها.
3- الجمعيات التعاونية للآنتاج الجماعي. ويلجأ اليها الكثير من الحرفيين في انتاج جماعي وليس فقط لتسويق منتجاتهم.وفي الدول الأوربية واليابان لاتصنع الشركات الصناعية الكبرى أجزاء منتجاتها التي تبيعها فنجد الشركة التي تبيع مضخة مياه للزراعة مثلا مكونة من عشرين قطعة توزع انتاج القطع على عشرين ورشة صناعية للحرفيين تقوم كل منها بتصنيع قطعة واحدة وفق المعايير الهندسية المحددة في العقد المبرم معها وتقوم الشركة الكبرى بتجميع القطع لتكون منها المنتج النهائي , ونجد شركة يابانية كبرى متخصصة في الأجهزة الأليكترونية جميع المكوناتالأليكترونية لأجهزتها مصنوع في سنغافورةوتايلاند وتايوان .
هذه الأنماط الانتاجية تتفق مع مبدأ التكافل الإسلامي ولو أنها غير منتشرة في الدول المسلمة، بسبب تبنيها العمل الجماعي التضامني والعمل الجماعي له أفضلية على العمل القردي ، وكذلك لتحقيق الحرية والكرامة أكثر من غيرها من أنماط انتاجية.وتكريم اإسلام للعمل اليدوي والذي يعبر عنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : « ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده . وكان نبي الله داوود يأكل من عمل يد”(حيث كان نبي الله داوود حدادا يصنع الدروع).
يتطلب هذا أن يتم تصميم مناهج التربية والتعليم على أساس التأهيل المباشر للمهن والحرف وضمان وفرة الانتاج وإفامة مراكز أبحاث لابتداع تقنيات مناسبة ومؤسسات للتمويل عن طريق التمليك للمعدات والأجهزة التي يحتاجها الانتاج أو مؤسسةالخدمات الجماعية دون إثقال كاهل أصحاب المشروع.ومكاتب متخصصة تابعة للدولة أوحرة تقوم بوضع دراسات الجدوى لمثل هذه المشروعات وتقديم المعونة الفنية لأصحابها.
وفي هذا الصدد أو قريبا منه يقول النووي بإعطاء الفقير والمسكين “ما تزول به حاجتهما وتحصـل به كفايتهما. ويختلف ذلك باختلاف النواحي (أي الأمكنة) . فالمحترف الذي لا يجد آلة حرفية يعطي ما يشتريها به ،- قلت قيمتها أو كثرت،- والتاجر يعطي رأسمال ليشترى ما يحسن التجارة فيه ،- ويكون قدرها يفي ربحـه بكفايته. » . ولا يمكن الاحتجاج هنا بأنني أتحدث عن اقتصـاد بدائي قبل الثورة الصناعية بعد أن ضربت أمثلة بقدر ما يتسع له المقام بما هو موجود في دول أوروبية متقدمه ، وكنت شاهدا على بعض منه. كما لايعني هذا وضع عوائق أمام تحقيق التنمية على نظاق واسع وبواسطةمشروعات صناعية عملاقة أو متوسطة الحجم تحتاج إلى العمل المأجور. ولقد بينت أن ما نوهت به تعمل به شركات صناعية كبرى في الغرب . فالانتاج الصناعي يعتمد إما على التكامل الأفقي ويدخل ضمنه ما تحدثت عنه من ورش يتم توزيع صناعة أجزاء المنتج عليها أو تكامل رأسي تقوم الشركة الصناعية بصناعة جميع أجزاء المنتج بداخلها . ويتوقف التفضيل بين النوعين على نوعية المنتج أو نوعية الصناعة . أما إذا كان يمكن للمنتج أن يتم تصنيعة بكل من التكامل الأفقي والتكامل الرأسى فالمشاهد في الدول المتقدمة تفضيل التكامل الأفقي. وما أتحدث هنا هو وضع قاعدة تكنولوجية تخضع للتطور ، وليس من الضروى أن يكون هذا التطور على نسق نفس ما حدث من تطور رأسمالي في الغرب أو خاضعا لقوانينه . ولا مانع أن ينحو نحوه إدا اقتضت الضرورة ذلك ،فالمهم في النهاية هو نجاعة الاقتصاد ومردوديته وملائمته لقيم المجتمع وعقيدته. وقد يتخذ التطور الرأسمالي لدينا أشكالا جديدة غير مسبوقة . فعندما تعجز مجموعات صغيرة من الحرفيين من ذوى المشروعات الصغيرة نسبيا عن منافسة شركات كبرى قد يتداعون لإقامة مشروعات كبيرة بإدماج مشروعاتهم في مشروع واحد ذي ملكية اجتماعية يساهمون فيها بأصولهم العينية وبقوة عملهم وخبراتهم المكتسبة ويستعينون في أدارتها بذوى الاختصاص في الإدارة والتنظيم والمحاسبة والتسويق وغيرها مما تتطلبه الشركات الكبيرة.ويقتسمون عائداتها ،- وسواء كان ذلك في مجال انتاج السلع المصنعة أو في تقديم الخدمات مثل شركات التأمين والبنوك. ووجود الحرف اليدوية والأسر المنتجة لها في العالم القروى سيثبت الفلاحين فيه ويغنيهم عن الهجرة للمدن ويزيد من دخلهم ويمتص البطالة المقنعة أو الموسمية لديهم .
ووجود موظف أو عامل أجير ضمن أسرة منتجة سيؤمن موارد إضافية للأسرة تعينه على الاستقامة في عمله وعدم التطلع فيه إلى اكتساب مال حرام منه مثلالرشوة والعمولات وما شابههما.
وحدد الخليفة عمر بن الخطاب ضوابط المال المخصص لتحقيق التكافل من قبل الدولة في قوله: « وإنني لأجد هذا المال لا يصلحه إلا خلال ثلاث: أن يؤخذ بالحق ، وأن يعطي في الحق ،- وأن يمنع من الباطل.».

وأقول ولست أول من قالها: إن معني التكافل في الإسلام ، إن يؤخذ المال من كل حسب قدرته وأن يعطى لكل حسب حاجته. ولو أن هذه المقولة مستعارة من الفكر الماركسي الذي يثير حساسية كبيرة لدي الفقهاء لدينا ، ويعتبرون كل ما يتصل به بصلة كفر. وهم لا يعلمون منه أو عنه أكثر من أنه معاد للأديان والإيمان.فالمال يتم تجميعه من العقو :«....يسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو،- يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون» (البقرة:219). فالمال يتم جمعه من العفو لدي كل فرد أو أسرة أي مازاد عن جاجتهما ، ويتم استثماره بما يشبه تخزينه في مستودع أفقي ينساب منه رأسيا في أنابيب عمودية وفقا لنظرية الأواني المستطرقة ، ويختلف حجم كل أنبوب بقدر حاجته للمال الصاعد إليه ، ثم يفيض من جميع الأنابيب الزائد عن حاجتها منه عائدا مرة أخرى للمستودع لكي يعود ويرتفع في الأنابيب مرة أخرى وهو ما يعبر عنه بالدورة المالية النشطة والتي تشبه أيضا الدورة الدموية في الجسم إلى حد ما. وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إن الله فرض على الأغنياء في مالهم ما يتسع للفقراء” والعطاء للفقراء ليس الغرض منه إمدادهم ما يقيم أودهم في يومهم وليلتهم وغنما ما يزودهم بمصدر رزق يعنيهم ويحدث لديهم عفو منه يعودون لأنفاقة على فقراء آخرين.أي الهدف منه في النهاية زيادة انتاجية المجتمع ككل بمشاركة جميع أفراده في الانتاج.ويختلف الأمر بالنسبة للمساكين من المسنين ومعتلي الصحة الدين لايقوون على العمل ولاجلد لهم عليه.ولا يستثني من ذلك سوى التكافل في الطروف الصعبة . وفيه يقول عمر بن الخطاب في عام المجاعة أو الرمادة الذي أصاب المدينة في السنة الثالثةعشر للهجرة معبرا عن التكافل فيها :« إني حريص ألا أدع حاجة إلا سددتهاما اتسع بعضنا لبعض ، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتي نستوي في الكفاف”.

وينتج عن قصر امتلاك الثروة على فئة محدودة من المجتمع وجعل معظم المال دولة بينهم دون غيرهم،- وحرمان الأغلبيةمن الخيرات والثروة، كما نراه في العديد من دول المسلمين في زماننا، أن تعلوا هذه الأقلية وتستكبر وتطغي وتفسد في الأرض ، وتسيطر على السلطة السياسية ، ومقادير الأمور، منفردة بها ومتحكمة فيها،- ومسخرة لها لصالحها ، ومكونة عصابة مسلحة لحمايتها على نسق أنظمة الجريمة المنظمة المافيا في الجوهر وأن تسترت في نظام حداثي شكلي ،- فتزداد غني ،- وتزداد الأغلبية فقراوعوزا . وتتحول هذه الأغلبية إلى عبيد لها من حيث تدرى أو لاتدري، ضحايا لاستبدادها ، وانتهاك حرماتها وكرامتها وإنسانيتها . وفي هذا يقول المولى عزوجل :« إن الإنسـان ليطغي إن رآه استغني”(العلق:7) . والاستغناء هنا لا ينحصر في الغني بالمال وإنما الاستغناء عن الناس وعن رضاهم وعن إقامة العدل بينهم . وقوله أيضا :« ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض”. ويغرى النمو السرطاني للثروة لدي الأقلية المنعمة بالترف الاستفزازي ،- والممارسات الإجرامية. وفي ذلك يقول تعالي:« واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين”(هود:116) . وقال تعالي:« وإذ أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول ، فدمرناها تدميرا”. وفسوق المترفين منا لم يعد قاصرا على بلدهم بل يمتد إلى بلاد المسلمين الأخرى مسلحين فيها بسطوة المال وبعلاقاتهم بالقلة المترفة النافذة فيها والمتسلطة عليها. وهو ما نشاهده اليوم في حياتنا جليا.

والإرادة أو المشيئة الألهية هنا تعني توفر العلة التي تربط بين السبب او المسبب والنتيجة وفقا للقانون الألهي الذي يعبر عنه بالفضاء والقدر. والذي يدعو الإيمان به فهم سنن الله في كونه وخلقة وليس الاستسلام له . “والله لا يعير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم”، وأن تعاملوا مع القضاء والقدر تعاملا سلبيا لن يغيروا ما بأنفسهم ولن يغير الله أحوالهم ، بينما لو تعاملوا مع القضاء والقدر تعاملا إيجابيا واعيا ،- سيغيرون ما بأنفسهم ويغير الله من أحوالهم . وسيظل التغيير في الحالتين من القضاء والقدر أيضا.

ويقول روبرت ماكنمارا في كتابه “مائة دولة وملياري نسمة” عن أوضاع العالم الثالث :« حين يكون أصحاب المزايا الكثيرة قلة محدودة ، ومن يعانون الفقر والحرمان كثرة غالبة ، وتتسع الهوة بين الفريقين عوض أن تضيق ،فالقضية لا تعدو أن تكون قضية وقت يجب بعده إتخاذ خيار حاسم بين التكلفة السياسية للإصلاح والمخاطر السياسية للتمرد”.

وجاء في كتاب بعنوان”التوزيع والنمو” صادر بتعاون من البنك الدولي وجامعة سوسيكس :« إن أعادة توزيع الثروة والدخول على المستويين القومي والعالمي على نحو رشيد ، يؤدي حتما إلى رفع معدل النمو فضلا عن ضمان استمراره” . ويفسر هذا أهمية ما يقوم به التكافل من دور لإعادة توزيع الثروة ودفع عجلة النمو. ويندرج ضمن هذا الفهم أهمية الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الملكية الزراعية لتوسيع قاعدة المنتجين ، وتوفير فرص العمل للعاطلين والقضاء على الفقر والتذمر الاجتماعي الذي قد يتحول إلى تمرد وفتنة لا تحمد عقباها عندما يصل الأمر إلى مداه ويبلغ سيل المظالم الربا. كما أن نشر التنمية في كافة بقاع الدولة من شأنه أن يثبت سكان القرى ويقلل من ظاهرة المدن الكبيرة المزدحمة ، والتي لا يوجد مبرر اقتصادي لوجودها أصلا، وصعوبة تقديم الخدمات لسكانها ، وحماية المجتمع من تسلط وفساد قلة باغية طاغية مفسدة ومهلكة له. أمسـي المال دولة بينها لايفارق دائرتها لغيرها ممن هم أحق به منها. ويزداد لديها بما تمارسه من استغلال للأغلبية المغلوبة على أمرها.والتي تمارس عليها الأقلية السيادة والسادية معا. وتحول دون نشوء ظبقة وسطي منتجة ومدبرة ومدخرة ومستثمرة تنهض باقتصاد بلادها مثلما حدث في أوروبا التي لم نعد نجلب منها سوى أسوء ما لديها مما لايتفق مع ديننا وعقائدنا وتقاليدنا، أما ما يتفق في أوروبا علم ومعرفة وديموقراطية وعدالة واحترام حقوق الانسان وعيرها ويتفق مع عقيدتنا نتركه لها.

فوزي منصور/ يتبع

Thursday, December 25, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى الجزء السادس

الركن الثـــاني : الاستخلاف :
تتمثل الخلاقة في إنتاج الخيرات وتعمير الأرض وهو ما يدخلها في علم الاقتصاد، سواء ما يتعلق فيه بالتنمية الاقتصادية أو بالمال ، بينما تمثل الولاية في إدارة الدولة للآقتصاد وتزويده بالقوانين المنظمة له والخدمات التي تيسره والسياسات المحققـة له أو المحفزة عليه. والسياسة ليست سوى أدارة الاقتصاد وحمايته أو بصيغة أخرى تدبير معاش الناس ، ولذا قإنه في الدول المتقدمة الواعية تكون سياستها كلها في خدمة أهدافها الاقتصادية ، أما في الدول المتخلقة فهي تعمل العكس، أي تسخر اقتصادها في خدمة سياستها الداخلية والخارجية ، مما يفسد اقتصادها ويدمره وينتج الفقر والتخلف .

وتستمد الخلافة مفهومها الإسلامي من فوله تعالى :”واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة. قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : اني أعلم ما لا تعلمون. وعلم آدم الاسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين.قالوا : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم. قال يا آدم انبئهم بأسمائهم فلما انبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم اني أعلم غيب السموات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون” (البقرة: 30 – 33.)

وا لخليفة لغة : من خلف من كان قبله وقام مقامه ،وقيل سمي أدم خليفة لانه خلف مخلوقات اللّه سبحانه في الارض ,وهذه المخلوقات هم آداميون : أفسدوا في الارض وسفكوا فيها الدماء كانوا قبل آدم ا.وقيل :انه سمي خليفة لانه وابناءه يخلف بعضهم بعضاً فهم مخلوقات تتناسل ويخلف بعضها البعض الآخر. وقد نسب هذا الرأي الى الحسن البصري.
ويتفق الرأي بوجود آداميين قبل آدم عليه السلام مع ما يقول به علماء الأجناس من وجود البشر على سطح الأرض منذ مئات الآلاف من السنين ،ولكن ما يعرف بالإنسان العاقل لم يظهر إلا قبل حوالي عشرة آلاف عام أو أكثر قليلا في منظقة ما شرق البحر المتوسط. ولذا يرجح أن يكون أول إنسان من هذا النوع العاقل هو آدم عليه السلام وزوجته حواء .ويكون آدم وسلالته قد تزاوجا أيضا مع نساء البشر حتي ملأت سلالتهم الأرض ، وخلفوا فيها البشر السابقين عليهم. وبذلك يكون بدأ هذا الاستخلاف من حين أن أهبط الله آدم عليه السلام وزوجته حواء إلى الأرض بعد معصيتهما، كما قال تعالى " وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " (البقرة:36) فالخطاب في الآية " اهبطوا " لآدم عليه السلام وحواء , ولإبليس عليه لعنة الله , ولهذا قال بعدها " بعضكم لبعض عدو " أي الشيطان عدو لآدم وحواء.

وفـسر علماء الدين المسلمون الآيات من 30-33 من سورة البقرة سالفة الذكربأنها تكليف الإنسـان بإعمار الأرض ، أو تنظيم استغلال الموارد الطبيعية والاستفادة منها وتوزيعها بالعدل بين المنتجين. أو بلغة السياسة : السياسة المالية والاقتصادية ، أوبلغة الاجتماع والجعرافيا الاقتصادية : الأنشطة الاقتصـادية للسكان. وهذه التفسيرات الشائعة للخلافة لا تمثل الدلالة الدقيقة والكاملة للمصطلح ، وإنما هي توضح فقط بعض ما يترتب على ممارسة الخلافة. دليل ذلك هو أنني إذا ما استخلفت أحدا على ممتلكاتي فإن هذا يعني أن ما استخلفته عليه قائم وتام قبل استخلافه ، وأن دوره لا يتعدى الحراسة والصيانة لكي تظل الممتلكات على الحالة التي تسلمها مني. وفي مواجهة جهوده في الحراسة والصيانة يستحق بموجب عقد الاستخلاف أن يتقاضي أجراأعطيه له من عائدات الملك الذي استخلفته عليه . أو من هذا الملك وغيره مما أملك . ولذا قد يكون المعني الأمثل للخلافة الذي أقترحه هو : “قيام الإنسان بحراسة وصيانة وتنمية ما إئتمنه عليه الرب من ممتلكاته مقابل أجر “ . وقد حدد الله له أجرا منه ما هو عاجل يتمثل في :أن يأكل الإنسان من خيرات الأرض بالمعروف ، وآخر مؤجل يتمثل في :أن يثيب الله الإنسان المؤمن على ما يبذله من جهد صالح في الدنيا ،يكون فيه محسنا في الآخرة.
الاستخلاف في الفرآن الكريم:
وقد ورد لفظ استخلف بصيغة الماضي والمضارع في القرآن الكريم في أربعة مواضع هي:
الآية الأولى : قال تعالى: " وربك الغني ذو الرحمة , إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء , كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين "(الأنعام:133)
فالله غني عن عباده , وهو مع ذلك رحيم بهم ,وقوله " إن يشأ يذهبكم " أي إذا خالفتم أمره " ويستخلف من بعدكم ما يشاء " أي يأت بخلق غيركم وأمم سواكم يخلفونكم في الأرض " كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " أي كما أوجدكم بعد خلق آخرين سابقين عليكم , وفي هذا التشبيه بيان قدرة الله عزَّ وجلَّ فالذي أنشأكم من ذرية من كان قبلكم قادر على أن يهلككم ويأت بقوم غيركم يعبدونه ولا يشركون به شيئاً , كما قال سبحانه في آيات أخرى " إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا "(النساء:133) وقال " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " (محمد:38)
وفي قوله تعالى:" فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أُرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوماً غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ "(هود:57).
تفسير الآية:
هذا الخطاب من نبي الله هود عليه السلام إلى قومه يحذرهم فيه قائلاً : إنكم إن أعرضتم عما جئتكم به من عبادة الله وحده فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي رسالة ربي لكم." ويستخلف ربي قوماً غيركم " أي يبدلكم بقوم يعبدونه وحده ولا يشركون به شيئا." ولا تضرونه شيئاً " أي لا تقدرون له على ضرٍ إذا أراد هلاككم أو أهلككم.

وفي : قوله تعالى: " قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " (الأعراف:129)
هذا الخطاب من نبي الله موسى عليه السلام لقومه بني إسرائيل حيث أوصاهم بالاستعانة بالله والصبر على ما أصابهم من فرعون وقومه , فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده , والعاقبة لمن اتقاه واتبع أمره , وبعد أن اشتكى بنوا إسرائيل أمرهم لموسى من أن فرعون قد آذاهم قبل مجيئه وبعده قال لهم على وجه الترجي " عسى ربكم أن يهلك عدوكم " وهو ما حصل حيث أغرق الله فرعون وجنده ." ويستخلفكم في الأرض " أي يجعلكم تخلفونهم في سكنى الأرض من بعد هلاكهم لا تخافون أحداً من الناس. " فينظر كيف تعملون " أي فيرى ربكم ماذا تعملون بعدهم من استجابتكم لأمره ومسارعتكم بطاعته, .
.
الآية الرابعة : قوله تعالى :" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " (النور:55)
هذا وعد من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض والولاة عليها , وقد تحقق هذا الوعد بفضل الله تعالى وكرمه حيث دانت الجزيرة العربية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته , ثم لم يمض القرن الأول الهجري إلا وقد مدَّ الله سلطان المسلمين من الصين شرقاً إلى الأطلسي غرباً.
وفي قوله تعالى " ليستخلفنهم في الأرض " أي ليورثنهم أرض الكفار فيجعلهم ملوكها وساستها وسكانها , . وقوله " ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين " أي أنكم سوف تستقرون في الأرض , وتنتفعون بما أعطاكم الله وسخر لكم من النعم التي عليها , ولكن هذا ليس على وجه الدوام والخلود بل " إلى حين " أي إلى قيام الساعة حيث ينتهي هذا الاستخلاف.

وورد في كتاب الله لفظ مُستخـلَـف وهو اسم مفعول لخلف في آية واحدة هي قوله تعالى " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مُستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير " (الحديد:7).
و الاستخلاف هنا في الأموال وقوله " مُستخلفين فيه " أي ورثتموه عمن كان قبلكم , فالله جلَّ وعلا جعلكم مستخلفين فيه بعدهم ، وفسرت تلك الآية أيضا بأن الأموال ليست ملكاً لللناس وإنما هي ملك لله عزَّ وجلَّ وهم مستخلفين فيها نيابة عنه سببحانه وتعالي لانقافة فيما يرضي عنه.

كما ورد في القرآن أيضا لفظ خلائف : وهي جمع خليفة في أربعة مواضع هي :في قوله تعالى :" وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم " (الأنعام:165). والخلائف هي الأمم التي يخلف بعضها بعضاً . فجيلُ ينقضي فيأتي جيل آخر من بعده وهكذا دواليك حتي تقوم الساعة.
وفي قوله تعالى :" ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين * ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " ( يونس:13-14) وفسرها الطبري بأن الخطاب فيها موجهٌ للمشركين بأن الله جلَّ وعلا قد أهلك القرون السابقة لما ظلمت ولم تستجب لرسله ، وأن هذا هو جزاء أمثالكم من الذين كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم, فالله جلَّ وعلا يخوف كفار مكة بعذاب الأمم السابقة المكذبة .وقوله " ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم " أي جعلناكم أيها الناس خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم, تخلفونهم في الأرض وتكونون فيها بعدهم
ونفس الشي ء بالنسبة للآية الكريمة :" وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره , ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خساراً " (فاطر:39).والخطاب فيها موجه للناس كافة بأن الله سبحانه وتعالىجعلهم " خلائف في الأرض " أي خلائف من بعد اأمم سابقة عليهم هلكت .وقيل: أي يخلف بعضكم بعضاً، فكل جيل يهلك يخلفه الجيل الذي بعده.
وأيضا في قوله تعالى :" فكذبوه فأنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذَرين " (يونس:73)
فبعد أن دعى نوح عليه السلام قومه ولم يستجيبوا له بل كذبوه أنجاه الله ومن ركب معه في الفلك وجعلهم " خلائف " أي خلائف في الأرض حيث خلف بهم من كان قبلهم في الأرض وجعلهم أجيالاً يخلف بعضهم بعضاً .
.وجاء لفط " خلفاء " في ثلاية آيات:
هي :في قوله تعالى :" أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلاً ما تذكرون " (النمل:62) .
وقوله تعالى :" أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجلٍ منكم لينذركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بسطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون " (الأعراف:69)
وا الخطاب هنا على لسان نبي الله هود عليه السلام إلى قومه يذكرهم فيه بأن الله امتن عليهم بأن جعلهم خلفاء من بعد قوم نوح في تعمير الأرض
وجاء أيضا في قوله تعالى :" واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً وتنحتون الجبال بيوتاً "(الأعراف:74) فقوله " خلفاء من بعد عاد " أي خلفتموهم في سكنى الأرض من بعد هلاكهم..

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله عن استخلاف الله للإنسان في الأرض : “ هي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود زمام هذه الأرض وتطلق قيها يده . وتكل إليه مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين والتحليل والتركيب والتحوير والتبديل ، وكشف ما قي هذه الأرض من قوى وطاقات وكنوز وخامات . وتسخير هذا كله ، بإذن الله في المهمة الضخمة التي وكلها إليه ...”

وتكريم الله بني آدم إنما هو بالعقل والعلم واعتدال الخلقة وتسخير ما في الأرض لهم , فإن كفر وأشرك بالله فإنه من شر الخليقة كما قال تعالى عن الكفار " أولئك هم شر البرية " (البينة:6) والحقيقة أن الاستخلاف , عامٌ أو خاصٌ , إنما هو فتنة وابتلاء للإنسان, وتكليف لا تشريف , تحمل الأمانة بعد أن ناءت بحملها الأرض والجبال , " وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً "(الأحزاب:72)
ويتضمن الاستخلاف أربعة أركان:
1- المستخلِف: وهو الله عزَّ وجلَّ سواءً في الاستخلاف العام أي للأمة أو الخاص للآقراد والأسر.
2- المستخلَف: وهو الإنسان سواءً في الاستخلاف العام أو الخاص.
3- المستخلَف فيه: وهو الأرض في الاستخلاف العام , والأرض والمال الخاصَّين في الاستخلاف الخاص.
4- المستخلَف عنه: وهو كل من كان قبل المستخلَف من الأمم والأفراد السابقين في ملكية الأرض والمال.

ويؤول الأستاذ اليمني عبده محمد الجندي الحوار الذي كان بين الله وملائكته حول استخلاف أدم في الأرض تأويلا سياسيا لم يعدم فيه الحق فيقول: "ولما كان الانسان اكثر قدرة على التعامل مع الحرية ومع العلم والعمل والانتاج والابداع من الملائكة الذين خلقوا لعبادة خالقهم الاعظم، فقد كان حوار الله مع الملائكة عن عملية الاستخلاف اول لحظة معارضة قضت ارادة الله ان تكون هي المقدمة الاولى للديمقراطية وفي هذا الاطار لا بد ان نعلم بان الديمقراطية ليست القبول بما نحب وعدم القبول بما نكره بقدر ما هي جامعة لما نحب ولما نكره على حد سواء وما تفرضه علينا تجاه الاخر تفرضه على الاخر تجاهنا وهكذا دواليك. حيث قال سبحانه وتعالى مخاطباً الملائكة “واذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الارض خليفة ,,,”
“ لقد اراد الله من استطلاعه لآراء الملائكة الذي كان على علم مسبق بها في مكنونات عقولهم وقلوبهم، ان يبين لآدم وبنيه ان المعارضة هي الصدق مع النفس ومع الآخر ومع الله وان المعارضة هي الاختلاف والاتفاق في نطاق الوحدة هدفها الدفع قدماً بالحياة الدنيا من السكون الى الحركة ومن الجهل الى العلم ومن التخلف الى التقدم ومن الحاجة الى الكفاية ومن الاستبداد الى الديمقراطية ومن الاستغلال والظلم الى التكامل والعدالة. اساسها الاعتراف بالآخر وانتهاج السياسة الحوارية اسلوباً وحيداً لتحقيق الرقي والتقدم في شتى مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والعسكرية الموجبة لوحدة الأضداد وصراعها المستمر من اجل البقاء في نطاق التوحيد وما يترتب عليه من العبادات الايمانية.
الملائكة الذين دلت معارضتهم على شعور بالكمال العلمي مقابل الانتقاص من القدرات العلمية والعملية للإنسان ممثلاً بآدم وزوجه حواء في التعامل مع الحاجة والكفاية على الارض أو في التعامل مع التعددية والتداول السلمي للمعارضة والحكم باعتبارهم اصحاب المصلحة الحقيقية في السلطة والثروة والقوة الملازمة لعملية الاستخلاف على الارض.
لم تكن مكاشفتهم بما يتفوق به آدم عليهم من طاقات معرفية تؤهله للاستخلاف وليدة رغبة في احراجهم واشعارهم بما هم عليه من الجهل وما هو عليه من العقل والعلم والارادة الحرة."
و قد اشار الشيخ محمد عبده الى ما يقترب من بعض هذه المعاني ، وذكر أن اللّه سبحانه وتعالى في عظمته وجلاله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه وما يخفى عليهم من اسراره في خلقه.وأنه سبحانه وتعالى لطيف بعباده رحيم بهم يعمل على معالجتهم بوجوه اللطف والرحمة فهو يهدي الملائكة في حيرتهم ويجيبهم على سؤالهم عندما يطلبون الدليل والحجة بعد ان يرشدهم الى واجبهم من الخضوع والتسليم : (اني اعلم ما لا تعلمون وعلّم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة....)

وفي شأن هذه الآية يقول الشيخ محمد عبده:"إن الاسم قد يطلق اطلاقاً صحيحاً على صورة المعلوم الذهنية (اي ما به يعلم الشيء عند العالم) فاسم الله مثلاً هو ما به عرفناه في اذهاننا لا نفس اللفظ بحيث يقال : اننا نؤمن بوجوده ونسند اليه صفاته. فالاسماء هي ما يعلم بها الاشياء في الصور الذهنية وهي العلوم المطابقة للحقائق الخارجية الموضوعية. والاسم بهذا المعنى هو الذي جرى الخلاف بين الفلاسفة في انه عين المسمى او غيره، الامر الذي يدعونا ان نقول ان للاسم معنى آخر غير اللفظ اذ لا شك بان اللفظ غير المعنى.".
وقد وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين فيها إذا حصلوا حقيقة الإيمان ومقتضياته ، وأخذوا بأسباب التمكين المادية والمعنوية . فقال تعالى :” وَعَـدَ اللَّـهُ الَّذِيـنَ آَمَنُوا مِنْكُـمْ وَعَمِلُــوا الصَّـالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِـنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُـمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُـونَ بِي شَيْئًا “ (النور: 55 ) وقال تعالى :” الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ” (الحج: 41 )وقال تعالي :”عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ “ [الأعراف : 129] وقوله : "ثُمَّ جَعَلْنَاكُـمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ “(يونس: 14 ) وقوله تعالي : " فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ “ (مريم: 59). ومثل ذلك قوله جل وعلا: " وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ " (الأنعام: 165) وقوله :"وَيَجْعَلُكُـمْ خُلَفَـاءَ الأرْضِ " (النمل: 62).وقوله تعالى :” قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىا كُلّ شَىْء قَدِيرٌ”(آل عمران:26).

وجميع هذه الآيات تبين أيضا بأن الإستخلاف سنة جرت في السابقين ، وهي ليست حكرا على اولئك ، بل تجري فينا أيضا ، و من سيأتي بعدنا من المؤمنين ، اذ ليست هذه السنة حكرا على فئة محددة في زمن محدد ، بل يكفي ان يتحقق شرطا " الايمان و العمل الصالح " لتأخذ هذه السنة مجراها في أي مجتمع .وثمة تفسير للآية الكريمة رقم 55 من سورة النور يقول:"واقع الإستخلاف يعني أمرين :
الاول : ان الله يعطي السلطة للمؤمنين و يمكن لهم تمكينا . الذين يقيمون أحكامه وينفذون أوامرِه، ويحكمون شريعتِه، و يلتزمون بتوحيده وطاعتِه، قال تعالي:"الَّذِيــنَ إِنْ مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَاتَوُاْ الزَّكَـواةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ"[الحج:41]
الثانـــي : ان هذه السلطة لا تكون الا بإذن الله الذي يحققها و يعطيها الشرعية .قال تعالى: " وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـالَكُم" [محمد:38]،وقوله : “وَرَبُّـكَ الْغَنِـىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُمْ مّن ذُرّيَّةِ قَوْمٍ ءاخَرِينَ"[الأنعام:133]،وقوله: "إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِـآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً"[النساء:133] .
وقوله تعالي :“ و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم “ فسلطتهـــم ليست كأي سلطة مادية ، بل هي سلطة روحية تهديها القيم الرسالة ." و ليبدلنهم من بعد خوفهم “ فينزع من قلوبهم الخوف ويمللأها إحساسا بالأمان والطمأنينه ويجعل لهم الغلبة على قوى الجور والطغيان بشرط التوحيدوإفراد العبادة لله وحده :." يعبدونني لا يشركون بي شيئا “ . و الشرك لا يكون فقط في عبادة الأوثان ، وانما يتحقق أيضا بعبادة الطاغــوت و الخضوع لسلطته الجائرة ، أو بعبادة المال ، و الارض ، و العنصر ... الخ .و رفــض الشرك انما هو رفض للقيم التي يتغذى منها ، و لعل هذا ما نلاحظه في التعبير القرآنـي ، اذ لم يقــل تعالى : " لا يشركون بي( شخـصا )" مثلا ، و انما اطلق و قال : ( شيئا ) ، ذلـــك لان من يخضع للطاغوت لا يعبد جسده ، و انما يعبد الصولجان الذي بيــده ، و القوة التي تحت سيطرته ، و هكذا من يخضع للأثرياء ، انما يعبد الدينار و الدرهــم .“ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون “ فالذي يخرج عن شرع الله بعد أن مكن للأمة في الأرض يكون قد حكم على نفسه بالفسوق.

وتتحدد واحبات الإنسـان المؤمن في الخلافة في بذل قصارى جهده في الخدمة ، وأن يكون أمينا فيها فلا يغل أو يسرق من مال الله المؤتمن عليه ولا يأخذ منه بأكثر ما تستلزمه متطلبات حياته وخدمته. ولهذا جاءت مقولة عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، التي أوردها أبويوسف في كتابه الخراج: “ إني أنزلت نفسي وإياكم من هذا المال بمنزلة والي اليتيم “ . ويشير في ذلك لقوله تعالي : “ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسـن حتي يبلغ أشده “.وهي الوصية التي تكررت بلفظها في كتاب الله في سورتين : الأنعام :152والإسراء:34 . وهو ما يعني أن عمر لم يكتف بما يأخذه هو المسلمون من مال الله بالحسن وإنما تشدد وألزم نفسه والمسلمين بالأحسن ، وهو اللأقل منه الذي لا يتجاوز حد الكفاية .و مبدا الاستخلاف في المال فينظم علاقة الانسان بالمال حيث يهذب حب التملك لديه ليحسن استثمار الثروات والخيرات المشتركة بين بني البشر.
وقوله تعالي : “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها” (هود:61) يعني استخلفكم فيها للمحافظة على عمرانهـاأو عهد أليكم بعمرانها للمحافظة عليها. ويمكن ترجمة هذا المطلب أيضا بأنه يعني المحافظة على البيئة الطبيعية وتوازنها البيئي وعدم الاخلال به والذي يعد بمثابة إفساد في الأرض ويتناقض مع أصلاح مطلوب وإحسان. قال تعالي : “ والأرض مددناها وأيلقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون” أي متناسق . حيث القرآن تكمل أياته بعضها بعض وفق المفهوم الصحيح لوحدته البنائية.
وقوله تعالي للملائكة : “إني جاعل في الأرض خليقة” ، لاتعني أن آدم سيخلف الله في الأرض ، لأن حضور الله الدائم والأبدي لا تجعله في حاجة إلى من يخلفه في ملكه ، وأنما تعني جاعل فيها قوم يخلفون قوم بإذني . ويتفق هذا مع ما قال به ابن تيمية في الفتاوي:"والله لا يجوز له خليفة.., والخليفة أنما يكون عند عدم المستخلف, بموت أو غيبة, ويكون لحاجة المستخلف إلى الاستخلاف، وسمي خليفة لأنه خلف عن الغزو، وهو قائم خلفه, وكل هذه المعانى منتفية في حق الله تعالى، وهو منزه عنها"حيث إ لاتكون الخلافة إلا عن غائب.

والمأساة التي يسببها لنا المفتونون بالغرب ، أو من تربطهم مصالح ومنافع شخصية معه ، هو إصرارهم على إتباع إسلوبه في التنمية رغم ما يلحقة من أضرار بالغة للبيئة ، وإن تنبه لها مؤخرا وبدأ يسعي لتجنبها ، أما من له تبع لدينا فهم لا يجدون حرجا في استجداء الدول الغربية لكي تنقل صناعاتها الملوثة التي ترغب في التخلص منها إلى بلادهم ، ظنا منهم أن هذا هو الطريق الأسرع لحل أزمة التشغيل لديهم أو الحصول على وضعية أقضل في تعاملهم مع أسيادهم في الغرب. وهذا ما يعد منهم جهلا وزيغا وعصيانا لأمر الله ، وتعد لحدوده ، وتحد لحكمه، ولو انهم ابتعوا سبيل الله لأغناهم من فضله .مصداقا لقوله تعالي :” ولو أنهم استقاموا على لأسقيناهم ماء غدقا”(الجن:16) . وقوله : "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض” ”(الأعراف:96) . وهم بتقليدهم الأعمي للغرب لايجلبون الخير لأمتهم وأنما يسعون لهلاكها على نحو ما جاء بحديث رواه البخاري يقول فيه رسول الله :" فوالله ما الفقر أخشي عليكم ، ولكن أخشي أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من فبلكم ، فتنافسوها كما تنافسوها ، وتهلكم كما أهلكتهم” وشتان بين تنمية عادلة يرضى عنها الله وتنشر العدل والإحسان في أرضه ، وأخرى ظالمة فاسدة مفسدة يسخرها الطواغيبت لمصلحتهم . والشيطان يعدكم الفقر والله يعدكم مغفرة منه وفضل.
لقد حعل الله استمرار الخلافة ودوامها والتمكين منها مشروط بإيمان المستخلف وعمله الصالح فيها . فإن أساء وأفسد نزعها الله منها وحرمه من خيرها . إذ يقول الله تعالي : “ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضي لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعبدونني لايشركون بي شيئا ، ومن كفر بعد ذلك ، فأولئك هم الفاسقون”(النور:55) . وقد صدق ما وعدنا الله به في القرآن ، فكانت دولة المسلمين مترامية الأطراف ، عظيمة الصـولة والسلطان ، حتي عمها الفسوق والعصيان ، فكان من أمرها ما كان . وأذاق الله المسلمين بما كسبت أيديهم ، وانتقلت الخلافة لمن هم أفضل منهم رعاية لها ، ومحافظة عليه ، وسعوا لها سعيها ، وجدوا في طلب علومها ، والابداع في تطبيقها ، بما ينفعهم وينفع الانسانية معهم . لقد صدق من قال بعد أن عاد من فرنسا :” دهبت إلى هناك فوجدت الإسلام ولم أجد مسلمين وعدت من هناك فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاما “ وأظنه الشيخ محمد عبده أو الطهطاوي قائلها. وطالما لم يسع المسلمون سعي الخلافة لاستعادتها ، فالله يؤخرهم لأجل مسمي مصدافا لقوله : “ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمي . فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون “(النحل: 61).

والإستخلاف فيه استخلاف للآمم واستخلاف للآفراد.

النوع الأول : استخلاف الأمم:
وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالتمكين في الأرض واستخلافهم فيها ، كما مكن واستخلف من كان قبلهم أمم ، قال تعالي :" وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " (النور:55),

,يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "إن مقياس الرقي الحضاري في نظر الاسلام هو حين يقوم (الانسان) بالخلافة عن (الله) في أرضه على وجهها الصحيح: بأن يخلصَ عبوديته لله ويخلص من العبودية لغيره، وأن يحقق منهج الله وحده، ويرفض الاعتراف بشرعية منهج غيره، وأن يحكم شريعة الله وحدها في حياته وينكر تحكيم شريعة سواها، وأن يعيش بالقيم والأخلاق التي قررها الله له ويسقط القيم والأخلاق المدعاة، ثم بأن يتعرف بعد ذلك كله إلى النواميس الكونية التي أودعها الله هذا الكون المادي، ويستخدمها في ترقية الحياة، وفي استنباط خامات الأرض وأرزاقها وأقواتها التي أودعها الله إياها، وعجل تلك النواميس أختامها، ومنح الانسان القدرة على فضِّ هذه الأختام بالقدر الذي يلزمه له في الخلافة ... أي حين ينهض بالخلافة في الأرض على عهد الله وشروطه، ويصبح يفجر ينابيع الرزق ويصنع المادة الخامة، ويقيم الصناعات المتنوعة، ويستخدم ما تتيحه له كل الخبرات الفنية التي حصل عليها الانسان في تأريخه كله ... حين يصبح وهو يصنع هذا (ربانياً) يقوم بالخلافة عن الله ـ على هذا النحو ـ عبادة لله ... يكون هذا الانسان كامل الحضارة ويكون هذا المجتمع قد بلغ قمة الحضارة"

النوع الثاني: استخلاف الأفراد :
وهذا النوع يكون في استقلال الفرد في ملكية ما تحت يده من الأموال سواءً كانت أموالاً ثابتة أو منقولة , فهو مستخلف فيها استخلافاً خاصاً.ويأخذ مفهوم الاستخلاف في المال معنى الملكية والتملك ويعد فيما امتللك وكيلا ومستخلفا على المال الذي في حوزته والذي هو أصلا مال الله ويكون حكمه تحت يده حكم الوديعة والاعارة الذي يسأله الله عن تصرفه فيها..وبموجب هذا التصرف المقيد
و لا يكون للانسان وفق ذلك مطلق الحرية في التصرف بما في حوزته من الملك يلتزم بان يخضع في كل تصرفاته المالية لشرع الله ،فلا يكسب مالا الا كما امره وأحله الله تعالى له, ولا ينفقه الا فيما يرضي عنه الله عز وجل.
يركز الخطاب الشرعي على حقيقتين متكاملتين تؤسسان للرؤية الإسلامية للمال:
• المال قوام الحياة الإنسانية: به تنتظم شؤون الحياة:" وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُـمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً ..." (النساء.: 5.)، أي لا يؤتمن على المال من يسيئ التصرف فيه ويبدده وقد خصصه الله لكي يقوم بمتطبات معيشة المجتمع . وتبديد المال أو انفاقه فيما لايعود بالخير على صاحبه والمجتمع إخلال بالوظيفة الاجتماعية المحددة للمال ، ويعد المبدد له بمثابة خائن لما أؤتمن عليه ويعد عمله من السفه ويحق هنا للمجتمع أن يحجر عليه لمنعه من التصرف في المال مع عدم حرمانه من أن يأكل منه بالمعروف بالقدر الذي تستقيم به أمور حياته ومتطلبات معاشه.

لذلك شرع الإسلام منظومة من الأحكام الضابطة لوجوه الكسب و الاستثمار و التدبير و الاستهلاك..تتكامل معا مشكلةمعا ضوابط السياسة المالية ، ومثال لذلك:

• المال شهوة و فتنة: و بالتالي يحتاج التعامل معه إلى تربية دينية تعمل على تهذيب غريزة التملك.لكي تلتزم بالرشد سواء في استثمار المال أو إنفاقه بما يرضي الله.
يقول الله تعالى:" زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَـامِ وَالْحَـرْثِ ذَلِكَ مَتَـاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِنـدَهُ حُسْنُ الْمَـآبِ “(:آل عمران: 14 )و يقول سبحانه: "وَاعْلَمُـواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُـمْ وَأَوْلاَدُكُـمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ " ( الأنفال : 28.) . والتزيين هنا يتمثل يتمثل في غريزة التملك التي فطر الإنسان عليها ، والتي قد تقود الإنسان إلي استعمال ما تزينه له وتخلق عنده الرغبة في الحصول عليه فيما أحله الله وفيما حرمه ، وقيما يعد من قبيل التقوي والفجور، فإن لزم المؤمن فيما متعه الله به في الدنيا سبيل الحل والتقوس كان عند الله له حسن الثواب ، علىنحو ماورد في الأية الأولي ، ولذا يعد تملكه أو تعامله في المال وغيره من متع الحياة الدنيا فتنة له أو بمثابة اختبار له ليرى الله عما إذا كان سيطيعه ويراقبه فيه أم سيتعامل معه وفق هواه وليس وفق ما حدده المنعم به.

ومصدر هذا النوع من الملكية الفردية الذي استخلف عليها الأقراد يكون عادة مما يلي:
1)من الاستخلاف العام: وذلك في حالة كون مصدر ملكية الفرد يعود إلى الملكية العامة المتاحة لكافة الإفراد في المجتمع مثل الصيد أو الأراضي المخصصة للرعي ،أوما قام بتدجينه من حيوانات وطيور أو من انتاج الفرد نفسه عن طريق استغلاله لبعض الأرض في الزراعة والصناعة ونحوهما.
فالأفراد وفقاً لمبدأ استخلافهم العام في الأرض قد جعل الله لهم سلطاناً مباشراً على بعض ما فيها من الخيرات والطيبات ،ومكَّن لهم الانتفاع منها بما أعطاهم ووهبهم من القوى العقلية والجسمية والمعارف المتوارثة مما علم الله أدم في البدء من أسماء أي معارف .قال تعالى " أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون " (يس:71) ، وقال " يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض " (البقرة:267) .

2) استخلاف خاص: وذلك إذا كان مصدر ملكية الفرد للشـيء من مالك سابق عليه كالإرث أو الوصية أو من عقد يترتب عليه انتقال الملكية . فيكون قد حل محل المستخلِف السابق عليه فيما استُخلِف فيه ، وانتقلت اليه كل الالتزامات المترتبةعلى الملكية شرعا.

وقد أشار الله سبحانه إلى هذا النوع من الاستخلاف في قوله تعالى " آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " (الحديد:7) , حيث نسب الاستخلاف إلى الأفراد مباشرة، فهم مستخلفون فيما تحت أيديهم من الأموال . كما أن النصوص التي تثبت الملكية الخاصة تدل عليه.
فكل من ملك مالاً بطريق شرعي فهو مستَخْلَف فيه , سواء كان مسلماً أو كافراً , براً أو فاجراً أو غير ذلك كما قال تعالى " كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً " (الإسراء:20)، أي كلا الفريقين ممن كان يريد الدنيا , أو يريد الآخرة نعطيه من رزقنا , وما كان رزقنا ممنوعاً عن أحد من عبادنا إذا اتخذ الأسباب الموصلة إليه.
وقد بيَّن في آيات أخرى أنه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر الرزق لمن يشاء منهم " الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له " (العنكبوت:62) .
وقد وعد الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالتمكين في الأرض واستخلافهم فيها كما حصل لمن كان قبلهم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " [النور:55]

التداول على الاستخلاف بين الأمم:
إنَّ الله تعالى خلال مسيرة التاريخ قد استخلف أمماً كثيرة على الأرض، فمنهم من نجح ومنهم من فشل وقد حان الدور في نهاية المطاف على هذه الأمة، ولم تحسن أمة المسلمين الخلافة و فشلت في تحمل المسؤولية فإنّها ستستبدل كما استبدلت أمم من قبلها.. هذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا.قال الله تعالي قي قوم صالح عليه السلام : “وَإِلَى ثَمُودَ أَخَـاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَـوْمِ اعْبُدُواْ اللّـهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود:61) وقوله تعالى في هذه الآية "واستعمركم فيها" أي جعلكم عُمَّاراً في الأرض مثل فوله تعالي :"إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـاجِدَ اللّـهِ مَـنْ آمَـنَ بِاللّهِ وَالْيَـوْمِ الآخِرِ وَأَقَـامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَـمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِـكَ أَن يَكُونُـواْ مِـنَ الْمُهْتَدِينَ" (التوبة:18) فلما أصروا على عصيانهم ولم يمتزج عمارتهم للأرض بالإيمان ليكون إعمارهم لها في عداد الإحسان ،أبادهم الله وأسكن غيرهم مساكنهم وأرضهم.قال تعالي : “أوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا” (الروم:9) فالتعمير إن لم يكن دافعه الايمان لم يقبله الله وحرم أصحابه منه مثل قوله تعالي :”مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ”(التوبة:17) .

والطبيعة في القرآن ليـست مصـدر للخيرات المادية فقط ، وإنما هي أيضا مصدر الحكم والمعرفة والبرهان والجمال والأيمان ، والدليل الحي على إعجاز الرحمن ، وأياته العظمي المائلة للعيان ، والتي يستجليها العقل ويرتاح لها الوجدان. وقد تساءل أبي رحم الله :
قـل للريـــاض وما بهــا من خضرة من أين خضرتك التي تتحــــــير؟
الأرض سوداء الأديم فكيف مــــــن هذا السواد بـدا النبــــات الأخضر؟
جمـل الثمــار رقيــــقة وكأنهــــــــا ذهب تعلق بالغصـــــون وجوهــر
والماء يسقيــــها وليس بـــه شـــذى فمن أين يأتيها الشــــذى المعطـــر؟
الله ألبسها الجمــــــــال وصـــاغها لتكـــون آيتــه الـتي لا تكفــــــــــر

الطبيعة والاتخلاف عليها:
فالنبات بقدر ما يشهد على قدرة وإعجاز الخالق ، يقدم للإنسان عبرة الحيــاة في نشأتها الأولي وفي مسيرة نموها وازدهارها ثم بلوغها أجلها وموافاة الموت لها ، ولكنها لا تفني بالموت وإنما تبعث مرة أخرى متجددة حية . وكما يقول في ذلك الخالق المبدع جل شأنه :” إنما مثل الحياة الدنيـــا كماء أنزلنـاه من السمـاء فاختلط به نبـات الأرض مما يأكل الناس والأنعام ، حتي إذا أخـذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، أتاها أمرنا ليلا ونهارا ، فجعلناها حصيـدا كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيــات لقوم يتفكرون ”(يونس :24) . وتتكرر نفس الصورة في آيات أخرى مثل قوله تعالي :” واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السمـاء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيئ مقتدرا “(الكهف : 45) . فالنبات يبعث مرة أخرى بعد موته ،لتحيا به الأرض وتعود إليها خضرتها وزينتها من جديد . وفي هذا المعني يقول الله أيضا : “ والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، إن في ذلك لآية لقوم يسمعون”(النحل: 65) وقوله : “ وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج “(الحج :95) وقوله : “ وأية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منه حبا فمنه يأكلون ، وجعلنا فيها جنات من من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ، ليأكلوا من ثمره ، وما عملته أيديهم ، أفلا يشكرون”(ياسين :33-35) وقوله :” ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت ، إن الذي أحياها لمحيي الموتي ، إنه على كل شيئء قديـر”(فصلت:39)....الخ.
تكرار هذه الصور البيانية ليس الهدف منه لفت النظر إلى قدرة الخالق أو إثبات وجوده فإن الإنسان بفطرته يعلم أن الله هو الصانع ،” ولئن سألتهم من أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ، ليقولن : الله . قل الحمد لله ، بل أكثرم لا يعقلون “(العنكبوت 63). ولكن الهدف هو إثارة قضية منطقية هامة مؤداها أنه إذا كان الإنسان يخضـع هو والنبات لقانون واحد في بـدايته ونها يته وبعثه وتجدده عبر أجياله . ولما كان النبات لا يتوقف عن العطاء والانتاج في حياته من كل الثمرات ، وكل ما هو حسـن وبهيج في جوهره ومنظره ، إذن : الإنسان ملزم أيضـا أن يكون في حياته منتجا معطاء. وأن يكون كل ما ينتجه متقنا ومقيدا وجميلا وبهيجا ولا يمنعه من هذا الالتزام إدراكه لحقيقة الموت . ففي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :” لو أن القيامة قامت على أحدكم وهو يغرس فسيلة فليعرسها” . فمهمته في هذه الحياة الدنيا أن يغرس ويعمر ، وسواء استفاد هو وغيره من ثمرات ما غرس ، وعاد عليه ما عمره أم لا . فالعمل الحسـن المنتج عبـادة ، العبادات ملزم بها الإنسان ، لقوله تعالي :” وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون “
ومجرد العمل الإنساني كعمل لا يكفي ما لم يكن إلى جانب منفعته جميلا وبهيجا ، أ ي يكون لما ينتجه إلى جانب قيمته الاستعمالية قيمة جمالية أيضا ، وفي هذا المعني يضرب الله الأمثال بالنبات أيضا ، فيقول :” وأنزلنا لكم من السماء ماء ، فأنبتنا به جدائق ذات بهجة “(النمل :60) . وقوله : “ وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج” ق:7) وقوله : “ فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام ، والحب ذو العصف والريحان(الرحمن:11و12) وقوله:” هو الذي أنشـأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله ، والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ، كلوا من ثمره إذا أثمروأتوا حقه يوم حصاده ، ولا تسرقوا إنه لا يحب المسرفين “(الأنعام: 141)٫
ويتلازم الماء مع النبات في كل آية تتصل بالحياة ، وتوصف الجنة دائما بأنها تجرى من تحتها الأنهار . فوحدة الماء والنبات يمثلان الحياة في تجددها مثلما يمثلان أيضا البهاء والجمال والبهجة . ولم يخطئ من قال : إن الجمال يكتمل عند ما تجتمع الماء والخضرة والوجه الحسن . فهذه المقولة وما تمثله من وحدة الطبيعة والإنسان هي ما يستهدفه القرآن من جعل الطبيعة مرجعية دائمة يضرب بها المثل لكل عمل جميل أو خلق جميل حسن ونبيل . بل سنجد أنه حتي الكلمة الطيبة يضرب لها المثل من الطبيعة فيقول :” ألم تر كيف ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفروعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس ، ولعلهم يتذكرون ، ومثل كلمة خبيثة اجنثت من فوق الأرض مالها من قرار “(ابراهيم :24و26) .
فالكلمة الطيبة يجب أن تستمد جذورها وأصولها من بيئتها وتاريخ وثقافة وفطرة وتقاليد تلك البيئة الحسنة. وإن تقال فيما يرضي عنه الله في علياء سمائة ، وأن تكون مفيدة ونافعة للناس في حياتهم ودائمة المنفعة بحيث تستقيد منها الأجيال المتعاقبة . أما الكلمة الخبيثة في منبته الصلة بالأرض وبما ينفع الناس عليها . وما ينطبق على لفظ”الكلمة “ ينطبق أيضا على كل فلسفة أو نظرية ليست بنت بيئتها الثقافية ولاتلبي مصالح إناسها . ربماصلحت في وطنها ولكنها تفسد إذا نقلت إلى أى تربة أرض أخرى.
وكما يضرب الله المثل من الطبيعة للعمل الطيب والكلمة الطيبة ، يضرب المثل بها للمجتمع الصالح . فيقول تعالي في وصف المؤمنين : “ محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلامن الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ، ذلك مثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ( ما ينبت في أسفل ساقه) فاستغلظ فاستوى على سوقه ، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين أمنوا وعملوا الصالحاات منهم مغفرة وأجرا عظيما .” (الفتح 29) .
وفي مقدمة الحديث عن الأمم التي أرسل اليها الرسل ليهدونهم سبل الرشاد فكذبوهم فباءوا بغضب من الله وأهلكهم الله بكفرهم ، يشبه الله الرسل بسحب مثقلة بالأمطار تسوقها الرياح ، فإن هبطت الأمطار على بلد طيب ربت أرضه واخضرت (أي أمنت ساكنته واهتدت وأحسنت) وإن أمطرت على بلد خبيث لم تنتج خيرا لأهله وأنما كانت لهم نكذا . يقول تعالي : “ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ، والذي خبث لايخرج إلا نكدا ، كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون “(الأعراف : 58) وهو امتداد لوصف الكلمة الطيبة المستقي من الطبيعة بدوره. فإن وجدت الكلمة الطيبة أرضا طيبة تستقبلها وترحب بها ، أنبتت وأثمرت ، وأبهجت ، وأسعدت . وإن قيلت في بلد خبث أهله ، صموا آذانهم عنها ، أو كانوا بيها يستهزؤون ، فجلبوا على انفسهم التعاسة والنكد.

وإن واصلنا التجوال في إفنان الجنان العامرة بالفرقان ، وجدناه يلح على مقهوم الأسرة ووحدة الزوجين ضاربا الأمثال من الطبيعة أيضا. فيقول : “ وأنبتت من كل زوج بهيج..”(الحج:95) .” وأنبتنا فيها من كل زوج بهيح”(ق:7) فيقرن بين الزوجية والبهجة مرتين . ويقول :” فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى” (طه:53) ويقول “من كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين”(الرعد:3) ويقول “ سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرضومن أنفسهم ومما لا يعلمون“(ياسين: 36) فيقرن سبحانه وتعالي هنا بين الطبيعة والانسان في آية واحـدة، ثم يجعلها قانونا عاما فيقول :”ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون”(الذاريات49) ثم يضفي على الزوجية صفة الكرامة مرتين فيقول “ ألم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم” (الشعراء:7) ويعود فيكررها بنفس الألفاظ فيقول :” فأنبتنا فيها كل زوج كريم”(لقمان:10). وهذه المعاني كلها لم يفهمها الأقدمون حق الفهم ويشكلون منها منظومة فكرية وفلسفية إسلامية ، وتطبيقها عمليا في حياة المسلمين.
ماذا يعني هذا كله سوى التأكيد باستمراروإصرار على أن هذا الدين يستمد حكمته وتعاليمه من الفطرة. والتأكيـد أيضا في نفس الوقت بالآيات السابقة ومثيلاتها التي تتخذ من الطبيعة مرجعية لها لبيان الحق ،على أن:
1- خلافة الله في الأرض ترتبط ارتباطا وثيقا بالنبات والماء والتربة ، وبالتالي أولويــــة الزراعــة وانتاج الغذاء في تعمير الأرض بالنسبة لأي نشاط إنساني .
2- التوحد والمسالمة مع الطبيعة بما يحافظ على ما أقامة الله فيها من توازن بين الأحياء وهو ما يوضحه القرأن جليا وبقوة في قوله تعالي :”والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي ، وأنبتنا فيها من كل شيء موزون ، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين”(الحجر:19)
3- يعلمنا كيف نصـون الأرض من التعرية ووالانجراف والتصحر بالمحافظة على الغطاء النباتي عندما يشبه الذي ينفق أمواله رئاء الناس من المنافقين بأنه:" كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، لايقدرون على شيء مما كسبوا، والله لا يهدي القوم الكافرين”. ثم يضرب المثل بصدقات المؤمنين فيقول :” ومثل الذين ينفقون أموالهمم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ، فإن لم يصبها وابل فطل ، والله بما تعملون بصير”(البقرة:264و265) ثم تأتي الآية التالية مؤكدة نفس المعني ، وإن كانت في مجال أثر المن على أبطال الصدقات فتقول :” أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيـل وأعناب تجري من تحتها الأنهار ، وأصابه الكبر ، وله ذرية ضعفاء ، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت ، كذلك يبين لكم الآيات لعلكم تتفكرون”.
4- أن الزوجية ووحدة الذكر والأنثي وبالتالي الأسرة المكونة منهما، بما تتضمنه من الوحدة والايثار والتكامل والتكافل هي أساس الحياة والانتاج والاستخلاف، وليس الفردانية بما تتضمنه من أنانية وأثرة .
5- أن القيمة الاستعمالية تزداد قيمتها عندما تقترن بالجمال ، وبالتالي إقتران الحق بالجمال . وإن هذا الاقتران يحمل معه في نفس الوقت الجمال النفسـي المتمثل بالبهجة والفرحة والمسرة . وصدق المسيح عندما قال :" بالله المسرة وعلى الأرض السلام”.

القرآن والأمن الغذائي:
لم يعد أمير المؤمنين على بن أبي طالب كرم الله وجهه الحقيقة عندما وصف القرآن بأنه :" حمال معان” ولو أنه يستشهد بها عادة بمعني سلبي ناتج عن سوء فهمها . فحمله المعاني هو من ايجابياته وإعجازه لكي تظل أحكامه الإلهية صالحة لكل زمان ومكان. كما أن هذا لا يعني إطلاقا بأن له ظاهر وباطن ، فكل معانيه ظاهرة لآولي الألباب ، مما يستخدمون عقولهم ، ويتأملون أيات الله ويتدبرون القرآن. ومع تعدد معانيه فإنها لا تتناقض وإنما يكمنل بعضها بعضا . ويأتي سوء الفهم عندما يتم التعامل مع الآيات كأن كل منها لا علاقة له بالآخر ويختلف الأمر عندما يتم النظر إليها من منظور الوحدة البنائية للقرآن الكريم. فيتنبه بأن الآيات يشـد بعضها بعضـا ، ولا يكتمل معناها ألا بضمها معا . وكان لابد للقرآن أن يأتي هكذا لأن من تلقاه أول مرة كانوا أناسا يعيشون في مجتمع بداوة صحراوى وغالبيتهم من الأميين ومحدودي المعرفة ويتعذر عليهم فهم ما يتعلق بالمجتمعات الزراعية والمتحضرة، ويحتاج فهمه إلى مستوى حضاري وثقافي لم يكن قد توصلوا إليه بعد. ولذا طلب منهم ألا يسألوا الرسول فيه لأنه لو أخبرهم سيستاءون نتيجة سماعهم بيان فوق مستوى أفهامهم . ولذا فإن فهم الأقدمين له ، حتي وإن كانوا من صحابة رسول له لا يجب أن يحتج به.

ويؤكد القرآن على أهمية الأرض وفلاحتها من قبل المستخلفين فيها في إنتاج الغذاء في مواطن كثيرة . فيقول :” كلوا من طيبات ما رزقناكم “ (البقرة:57) و”كلوا من ثمره إذا أثمر”(الأنعام:141) و”ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم”(ياسين:35) و”ولكم فواكه كثيرة ومنها تأكلون”(المرمنون:19) و”ومن ثمرات النخيل والأعناب منه سكرا ورزقا حسنا”(النحل:67) و”فأخرج به من الثمرات رزقا لكم”(ابراهيم:32) و”فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم”(السجدة:27) و”أخرجنا منها حبا فمنه يأكلون”(ياسين:33) وقوله :” فلينظر الإنسان إلى طعامه ، إنا صببنا الماء صبا، ثم شققنا الأرض شقا، فأنبتنا فيها حبا ، وعنبا وقضبا ، وزيتونا ونخلا، وحدائق غلبا ، وفاكهة وأبا ، متاعا لكم ولآنعامكم “(عبس:24-32).

ولقد قرأت أن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول بعد وفاة الرسول : لقد عرفنا فاكهة فما “أبا”؟ . بما يعني أن الصحابة لم تسأل عن معني الكلمة رسول الله في حياته ،ولم يهتدوا إلي معناها من تأملها بعد وفاته . ثم جاء مفسرون من بعد وفسروا الكلمة بأنها العشب لما جاء في الآية من أن هذه النعم “ متاعا لكم ولأنعامكم“وهو تفسير غير مقنع . بينما رأيت والله أعلم بأن الكلمة متصلة بمعني الأبوة في الأشجار والنباتات ، وهي الآشجار التي تنتج حبوب اللقاح ولا تنتج الثمار مثل النخل والكثير من أنواع الفاكهة. وقد ألحقت بالفاكهة لأن الفاكهة لا تتكون بدونها.ويتفق هذا التفسير مع البلاغة القرآنية ومع اللغة ، وليس لكلمة “أبا” أية علاقة بالعشب الذي لا يلحق بالفاكهة وإنما بالحبوب التي ورد ذكرها في بذاية الآية فتكون الحبوب والسيقان الجافة التي كانت تحملها (القش والتبن) تقدم الحبوب عذاء للأنعام والقش الناتج عن حصادها غذاء للأنعام. (نـشرهذا الموضوع لأول مرة ضمن سلسلة مقالات لي عن عقيدة التوحيد في يومية أنوال المغربية بتاريخ 1994/8/19). والعرب الذين كانوا يؤبرون النحل لكي يثمر بدس السنابل الحاملة لحبوب اللقاح في أكمامه لكي يثمر كان كل علمهم مصدره المعرفة المكتسبة من التجربة وليس عن علم درسوه وأوضح لهم سر ذلك. ولعدم إدراك الرسول سـر ذلك ، وهو أمر من أمور الدنيا وليس الدين ، كانت واقعة تأبير النخل التي انتهت إلى أن الرسول قال للناس : أنتم أعلم بأمور دنياكم ، أي لا تسألونني فيها ولا تأخذون برأيي فيها.

ويأتي بعد منتجات الأرض من الغذاء في القرآن منتجات البحار والأنهار من الأسماك ، والتي ورد ذكرها ضمن تعداد نعم الله فيقول المولى :” هو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا ، وتستخرجوا منه حلية تلبسونها، وترى الفلك مواخر فيه ، ولتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون”(النحل:14) , وتشير هذه الآية الكريمة إلى عدد من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالبحر مثل : الصيد البحرى (لتأكلوا منه لحما طريا) وللغوص لاستخراج اللؤلؤ والمرجان(وتستخرجوا منه حلية) وفيها أيضـا إشارة لمشروعية طلب الزينة والتجمل ، وللنقل البحرى (وترى الفلك مواخر فيه) وإلى التجارة الدولية فيما وراء البحار(ولتبتغوا من فضله) وإلى مجموع المنافع التي تتحقق من تسخير البحر للآنسـان والتي تستوجب شكر الله المنعم (ولعلكم تشكرون).والأرض عبارة عن يابسة وماء ولاشيء فيها ساكن بل متحرك ويتسبب في الحركة في الطبيعة. فالأرض نفسها تدور في فلكها حول الشمس ، تقترب منها وتبتعد عنها ، وابحار تتحرك بما فيها من تيارات بحرية ومد وجزر وأمواح،فيما يمكن اعتباره حركة أفقية ، وتتحرك ايضا جزئيا حركة رأسية بما يتبخر منها من ماء يتسبب في السحب والتي ينتج عنها الرياح والأعاصير والأمطار، والماء في حركة دائرية تبعا لذلك , والانسان مطالب بأن يتوافق مع هذه الطبيعة ويتحرك معها وفيها. ولهذا يمكتن اعتبار الاستخلاف في الأرض حركة دائبة ودائمة فيها من قبل الانسان الذي سخرها له وسخره أيضا لعبادته والتي تتمثل في أعلي صورها في حركته وليس سكونه.
ويقول الله أيضا :” وما يستوى البحران، هذا عذب فرات سائغ شرابه ، وهذا ملح أجاج ، ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها ، وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ، ولعلكم تشكرون”(فاطر:12) وفيالآيتين نجد الصياعة شبه واحدة فيما تضمنت لفظا ومعني , وضم فيهما إلى الغذاء الحلي مثل اللؤلؤ والمرجان والذهب أيضا في أعماق البحاروالتجارة البحرية والنهرية أيضا . فالماء العدب الفرات يقصد به ماء الأنهار. هذه الأنهار التي تصب في البحار عادة ويمتد منها تيار ماء عذب لا يختلط بماء البحار المالح وإنما بينهما برزخ لايبعيان وهي الحقيقة العلمية التي لم تكتشف وتتأكد إلا مؤخرا.
ويدخل في نطاق منتجات البر لحوم الحيوانات والطيور التي تستخدم في الغذاء ويدخل وبرها وجلودها وريشها في الكساء وفي الزينة أيضا.

ويرشدنا كتاب الله إذن فيما أوردناه من أيات كثيرة مجالات التنمية والنشاطات الانتاجية الأساسية ، والتي يكملها مافي الأرض، يابسها ومائها، أيضا ،من معادن مختلفة وبترول وغاز ، وكان لها الفضل في إقامة الصناعات وتطورها ، ومما جاء في المعادن قوله تعالي: “... وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ... “(الحديد/ 25.)، دون أن يؤثر دلك في أولوية إنتاج الغذاء. كما يجدد لنا شروط استخلافنا في الأرض وضوابطه ، ويجدد الموارد الطبيعة التي تؤمن الضروريات والتحسينيات (الحلي) التي يتم بها تجاوز حد الكفاية إلى حد الرفاهية. ويكون الفائض منها والوفر فيها الثروات ، بما ءؤمن أيضا أعادة التوزيع والقضاء على الفقر والحرمان لمن كان نصيبهم أو قدرتهم على انتاج النعم محدودة. وإظهار دلائل نعمة الله “وأما بنعمة ربك فحدث” ويسوق الله لنا الحكمة والمعرفة بالأمثلة التي يضربها لنا والتي ينتهي ذكرها غالبا بألفاظ مثل : لعلهم يتذكرون، لعلهم يتفكرون، لعلهم يعقلون, وهي دعوة صريحة لأغمل العقل في التفكير والتدبر والتدبير والتأمل ومعرفة سنن الله في الكون وقوانينه ، وفهم أيات الله في القرأن حق الفهم في كليتها وسياقاتها ومعانيها ، ويدعونا بعد تحقيق المعرفة إلى العمل بها بما ينفع الناس , وهو عمل يجب أن يتسم أيضا بالحسن والجمال المحقق للبهجة والفرحة والسرورفي نفوس المؤمنين.

ويربط كتاب الله أيضا بين الغذاء أو الأمن الغذائي والأمن الوطني أو القومي , فلا أمان لمن لايؤمنون لأنفسهم الكفاية مما يحتاجونه من غذاء وتأمين فائض فيه . فالإسلام هو دين الإخلال الأيجابي بالتوازن ، فالمطلوب في الاقتصاد ليس تساوي الانتاج مع الاستهلاك وإنما زيادة الانتاج عن الاستهلاك بما يحقق فائض يعاد استثماره وزيادة الانتاج به . والمثل البسيط الدال على صحة ذلك هو أنه لو كان انتاج الحبوب في حدود الاستهلاك الذي يتطلبه الغذاء ، لم توفرت بذور منها يمكن غرسها للحصول على محصول حديد في موسم الحصاد التالي.وزيادة الفائض هو الذي تقوم عليه التجارة الخارجية فيما وراء البحار والأنهار التي تمخر فيها السفين محملة بالسلع المنتجة الفائضة عن حاجة منتجيها .

الاستخلاف غير فاصر على المسلمين:
الاستخلاف العام: هو استخلاف جميع البشر في الأرض، باعتبارهم مسلَّطين عليها، يقومون بعمارتها، منذ عهد آدم عليه السلام.
قال الله تعالى:" مَنْ كان يُرِيْدُ العَاجِلَةَ عجَّلْنَا له فيها ما نشاءُ لمن نريدُ ثم جعلْنَا له جهنَّمَ يصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً.ومن أرادَ الآخرةَ وسعى لها سَعْيَها وهو مؤمنٌ فأولئك كان سعيُهُمْ مشكوراً. كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ مِنْ عطاءِ ربِّك وما كان عطاءُ ربِّك محظُوراً ". وقال سبحانه:" قُلْ إنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ مِنْ عبَادهِ ويَقْدِرُ لَهُ".
هذا الاستخلاف للبشر مقيَّد بطاعة الله وعبادته وحده، والالتزام بمنهجه وهدايته, وإنْ خالفوا ذلك استحقُّوا جزاء مخالفتهم وضلالهم، كما في قوله تعالى:" وقلنا اهبِطُوا منها جميعاً فإمَّا يأتينَّكُمْ مني هدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فلا خوفٌ عليهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ ".

إن المسلمين الذين لا يعملون بأحكام دينهم ولا يحترمون ما جاء فيها من أحكام وضوابط الاستخلاف ، يستخلف الله قوما آخرين حتي ولولم يكونوا على دين الإسلام ، يكونون أكثر استقامة من المسلمين على المنهج القرآني . ولقد كتب الأستاذ المغربي لحسن حداد مقالا عن النرويج جاء فيه :(...) “عوض السيارات الفخمة والفيلات والقصور ، يستثمر النرويجيون في التربية والثقافة والبيئة ودعم الديمقراطية ودعم مؤسسة العائلة ومساعدة الإنسانية على حل مشاكلها (...) ما يعطي للنرويج والنرويجيين ه الثفة المتواضعة في الإنسانية ، مثلها مثل مثيلاتها في السويد وقنلندا والدانمرك، مباشرة وتكاد تقترب من التسيير الذاتي المباشر الذي نجده في سويسرا. هناك مساءلة ومحاسبة دقيقة لعمل المنتخبين وهناك رقابة من طرف المواطنين والصحافة والمجتمع المدني على كل شاذة وفاذة في عمل الحكومة والمجالس المنتخبة. بل إن هناك مصلحة في كل مؤسسات الدولة خاصة باستقبال المواطني ليطلعوا على حسابات المؤسسة ...(...) إنها ديموقراطية أبانت عن فاعليتها لأنها خولت الشعب النرويجي أخذ زمام أموره بيده في نوع من المسؤولية أمام التاريخ والإنسانية والأجيال القادمة . والمسؤولية أمام الأجيال القادمة تتجلي في تدبير عقلاني لموارد النفط ، حيث تم وضع صندوق خاص لاستثمار أموال النفط ، لايحق لأي كان استعماله حاضرا. (...) يعرف النرويجيون أن النفط ثروة غير دائمة ، لهذا لم يبذروا موارده بشكل لا مسؤول كما تفعل دول أخرى منتجة للنفط , خين تجف موارد البترول ستجد الأجيال القادمة ثروة مالية هائلة أمامها يمكن استعمالها لضمان ديمومة واستمرارية نمط الحياة الذي يسلكه الجيل الحاضر . إنها نفس الرؤية المتواضعة للجياة والموارد الطبيعية والمستقبل . (...) المجتمع النرويجي يعتبر نفسه سيد حاضره وماضيه وصانع قدره ومستقبله ..." الشعب النرويجي يطبق إذن جوهر الإسلام في شأن الاستخلاف ا شعوب مسلمة تتصرف وكأنها لا دين لها يضيء لها الطريق الذى سلكته أمم غيرها غير مسلمة وتقدمت طريق الاستقامة والحكمة والأمانة والسداد. ولاعجب أن تحسب الشعوب الاسكندنافية من أرقي الأمم وأن تتصدر ترتيب الدول باستمرار في التنمية الإنسانية . ودول أخرى في شرق أسيا وفي أمريكا اللاتينية اهتدت إلى الطريق الذي ضلته الشعوب المسلمة ومازالت سادرة في ضلالها ، وتعتبر الشعوب المسلمة ، او معظمها ، أن تلك الدول لادين لها ولا قيم ومبادئ تلتزم بها وهي ليست كذلك .
لقد كان بإمكاني أن أكتب ما أكتبه هنا ، ويتفق تماما مع ماجاء في كتاب الله وسنة رسوله ، دون حاجة إلى الاستشهاد بأية قرآنية واحدة ، وأكتفي بعمل أمم أخرى به ، وهي تجهل كتاب الله ومع ذلك تتبع معظم أحكامه ، ولو اتبعتها جميعها لبلغت في الرقي أكثر مما بلغت، ولكنني آثرت أن يعيد المسلمون اكتشاف كنز من الحكمة في أيديهم ، هم عنه غافلون.

توزع مسؤوليات الاقتصاد:
تتوزع مسؤليات الاقتصاد الناتج عن ممارسة الخلافة على أركان الإحسـان الخمسـة ،عل النحو المبين بعد ، والتي تجعل الاقتصاد هو عصب الأمة ، وهو الأهم في أركان الإحسان :

1- وإذا كانت الخلافة تختص بالعمل على إنتاج الخيرات من الموارد الطبيعية والمحافظة عليها متجددة لا ينـضب معينها ، وبالتالي المحافظة على البيئة وتوازناتها ، علما بأن التوازنات هنا لا تعني التسـاوى في المقدار، وعلى سبيل المثال لو كانت الفئران بقدر ما تنتجه الأرض من الحبوب لأكلت الفئران الحبوب وحدها ولم يعد للآنسان ما ياكله ، ولذا فإن مفهوم التوازن مفهوما مركبا ومعقدا . وقد يحتاج في التوصل إليه إلى معادلات رياضية معقدة.ومع ذلك يمكن الانسان أن يحقفه باتاع الفطرة والتجربة المكتسبة عبر آلاف السنين.

2 - يختص ركن التكافل في الاقتصـاد بالاستهلاك والتوزيع ودورة المال بحيث لايكون دولة في أيد قلة من الناس . مع المحافظة على البيئة وحقوق الأجيال القادمة في الموارد الطبيعية .

3- . ويتحمل ركن الولاية بمسؤولية إدارة النظام المالي والاقتصـادى وتنظيم اصدار وتداول النقد وضبط التضخم النقدي وضمان الخدمات العامة التي لا غني عنها في لانتاج ونقل السلع والأفراد وتأمين التعليم والصحة وحرية التعامل. وكلها من ضروريات التنمية الاقتصـادية والانسـانية..

4- تدخل أخلاقيات ركن التعامل في الزراعة والتجارة والصناعة والخدمات بتحريم الاحتكار والغبن والغش والتطفيف والربا والرشوة والغل والغرر والسرقة ونهب أموال وممتلكات الغير أو إتلافها.

5- تتجـسد مختلف المسـؤوليات في الأسرة سواء كوحدة اجتماعية صغيرة منتجة أو كوحدة احتماعية كبيرة تتمثل في المجتمع ككل. وفي الأسرة الصغيرة والكبيرة تصب عائدات الانتاج والاقتصاد.

التنمية الاقتصادية :
التنمية الاقتصادية هي العمل لزيادة ثروة المجتمع وقد عبر عنها المسلمون القدامي بتعمير الأرض واستخلصوا هذا المعني من قوله تعالي :"هو أنشأكم في الأرض واستعمركم فيها"(هود:61) وهي جوهر الاستخلاف لقوله تعالي :"ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تفعلون"(الأعراف:129) وإذ تكمل الآيات القرآنية وتفسر بعضها البعض فإن العمل في هذه التنمية أو إعمار الأرض أو الاستخلاف هو عمل تعبدي يجزي الله العاملين فيه في الدنيا والآخرة بقدر عملهم لقوله تعالي : "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"(الذاريات: 56) .وهو بالتالي درب من دروب الاحسان .ولقد أسبغ الله على الانسان نعمه التي تعينه على ذلك فقال تعالي:"وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار*وأتاكم من ما سألتموه ، وإن تعدوا نعمةالله لاتحصوها، إن الإنسان لظلوم كفار"(ابراهيم:33_34). وإذا عدنا للآية الكريمة في سورةالأعراف :"ويسخلفكم في الأرض فينظر كيف تفعلون" أدركنا أن الله سيحاسبنا عما فعلنا بنعمه التي أسبغها علينا والتي استخلفنا فيها فإن أحسنا كان جزاؤنا الحسني وإن أسئنا أحاطت بنا إساءتنا وحبط عمله.ونستنبط ذلك من قوله تعالى "ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لايظلمون"(الأحقاف:19). وقوله تعالى "إنا لانضيع أجر من أحسن عملا"(الكهف:30). وكذلك قوله تعالى "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" (فاطر :10). ومن ذلك قول النبي ":«ما من مسلم يغرس غرسًا ، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة». وفي الحث على العمل في الزراعة على سبيل المثال، جعل تمليك الأرض الميتة حقا لمن أحياها وأصلحها للزراعة و الإنسان بفطرته مجبول على حب المال والتملك.فورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:«من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وما أكلت العافية منه له به صدقة»
وإذ التنمية عمل جماعي يستثمر فيها نعم الله التي لم يختص بها فرد وإنما بذلها لكل الناس في كل منحي من مناحي الأرض الذي استعمرهم فيها فإن عائدها يجب ألا يحرم منها أحد ويجب توزيعه بالعدل والفسطاس بين العاملين فيها كل حسب عمله وإنتاجيته وأهميته وماأفاء الله به عليه وتخصيص مازاد عن احتياجات العاملين في الانتاج أو العفو في التعبير القرأني :"يسألونك ماذا ينفقون؟..قل العفو"للإنفاق على غير القادرين على الكسب أو استثماره بما يحقق تراكم الثروة الاجتماعية ..ويتطلب ذلك بأن تفي مخارج التنمية الاقتصادية باحتياجات الأسر التي يتكون منها المجتمع.بالقدر الذي يشبع احتياجاتهم ويحسن من مستوي معيشتهم ويمكنهم من حياة طيبة يشعرون فيها بالرضا والاطمئنان والأملن.حيث تعد التنمية الاقتصادية من قبيل إعمال الأسباب لبلوغ الحياة الكريمة التي أمر الله الناس أن يبتغوها في الدنيا ووعد عباده المؤمنين بأفضل منها في الآخرة.وقد جعل لها مالك بن نبي ثلاثة ضوابط:
ـ الاستخدام الأمثل للموارد والبيئة والطبيعة التي وهبها الله تعالى للإنسان وسخرها له.والنعم التي أنعم بها عليه ، قال تعالي:
-”... وأمددناكم بأموال وبنين ... “( الإسراء/ 6.)
-”ويُمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً ”( نوح/ 12.)
- “ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيماً ” ( الإسراء/ 66.)
- “... وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ... “(الحديد/ 25.)
- “ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ... “( الأعراف/ 10.)
-” والأرض وضعها للأنام”( الرحمن/ 10.)
ـ الالتزام بأولويات تنمية الإنتاج، والتي تقوم على توفير الاحتياجات الضرورية ، والمعيشية، لجميع أفراد المجتمع دون إسراف أو تقتير، قبل توجيه الموارد لإنتاج غيرها من السلع.وأولى الأوليات هي المواد الغذائية ، حيث ينسب حديث للرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيه :”فلولا الخبز ما صلينا ولا صمنا” أي ما كان لنا جلد على الصلاةوالصيام.ودعاء يقول فيه :”اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرّق بيننا وبينه”
ـ إعتنبار أن التنمية الإقتصادية وسيلة لتحقيق طاعة الله، وتحقيق رفاهية المجتمع وتأمين عدالة التوزيع بين أفراد .قال تعالي :”فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ... “ (الجمعة/ 10.)، وقال :”وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ...”( الإسراء/ 12.)
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل يوماً يد عامل وقال: “طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة. ومن أكل من كَدّ يده مرّ على الصراط كالبرق الخاطف. ومن أكل من كدّ يده نظر الله إليه بالرحمة ثم لا يعذبه أبداً. ومن أكل من كدّ يده حلالاً فتح له أبواب الجنة يدخلها من أيها شاء”، وقال: “ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه انسان أو طير أو بهيمة إلا كانت له به صدقة”, بل طلب من المسلم أن يواصل عمله الانتاجي حتي لو رأي الساعة قائمة، فقال:”إن قامت الساعة وفي يد أحكم الفسيلة فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها”,
وينسب إلى جعفر الصادق رضي الله عنه قوله :"لا تكسلوا في طلب معايشكم فإن آباءنا قد كانوا يركضون فيها ويطلبونها"
وقال عمر بن الخطاب الأحد عماله : ماذا تفعل إذا جاءك سارق؟ قال: أقطع يده. قال عمر: فإني إن جاءني منهم جائع أو عاطل فسوف أقطع يدك.لأن الله -سبحانه وتعالى- استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم، ونستر عورتهم، ونوفِّر لهم حرفتهم، فإذا أعطيناهم هذه النعم تقاضيناهم شكرها. يا هذا إن الله خلق الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً، التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية."؟.

متطبات التنمية:
ولايمكن أن تتحقق أهداف التنمية الاقتصادية والقيام بوظائفها التي شرعها الإسلام لها ما لم يتوفر لها الآتي:
1- تعبئة كل الموارد البشرية القادرة على العمل.
2- تعبئة جميع الموارد المالية والطبيعية اللازمة للآنتاج وخاصة المياه والمواد الآولية أو استقدامها لمناطق الانتاج من المناطق المتوفرةفيها والتي تفيضعن حاجتها .
3- التوزيع العادل لمشاريع التنمية مع مراعاة الكثافة السكانية على جميع أنحاء التراب الوطني بحيث تتاح ويتمتع بعائدها جميع السكان وهو ما يعني نشر التنمية المحلية بما يحقق التوازن السكاني وبما يضمن تثبيت السكان في مواطنهم واستمرار انتشارهم بما يصب في خدمة الأمن الوطني ويحول دون تكدسهم في مدن أو مناطق دون غيرها.
4- تحديد منتجات كل منطقة للتنمية التي يمكن أن تحقق فيها ميزة نسبية وتمكنها من القدرة التنافسيةفي الأسواق.
5- نشر المعرفة العملية التقنية على أوسع نطاق حسب متطلبات التنمية المحلية في كل منطقة وعلى مستوي الوطن وتأمين الحصول المستمر عليها للعاملين في التنمية في كافة تخصصاتها مدي الحياة.
6- توفير البنيات التحتية الأساسية الملائمة والتي تفي باحتياجات التنمية (الطرق - وسائل النقل - الطاقة - المياه -وسائل الاتصالات -التخزين- الأسكان- خدمات التعليم والصحة - الصرف الصحي ...الخ).
7- تمكين المرأة من لعب دور في التنمية في نطاق المساواة الكاملة مع الذكور,

وا كان مطلوبا من التنمية المحلية الاعتماد على التنمية الاقتصادية التقليدية فإنه يجب عليها أيضا ألا تهمل دورالتكنولوجية الحديثة للإعلام و المعرفة في التنمية الإقتصادية و التطور الإجتماعي.خاصة وأننا أمسينا في زمن يلعب فيه إقتصاد للمعرفة دورا هاما فيه والذي يقوم على البحثوالابتكارو الإبداع والانتاج الذهني والمهارات الفردية .

وعلينا أن نستفيد من تجارب الشعوب الأخرى. فالنجاح المذهل لدول مثل الصين وكوريا الجنوبية والهند وماليزيا وفيتنام في تحقيق معدل تنمية اقتصادية ثابت ومرتفع عاما بعد أخر ، يجب أن يكون موضع درس لدينا وأن نتخذ من هذه البلدان قدوة لنا في تحديد سياسات التنمية لدينا سواء على المستوى المحلي أو الوطني أو الآقليمي وهي دوائر تنمية متداخلة ومتكاملة ولا يجوز الفصل بينها ..

وبالنسبة للصين على سبيل المثال فقد أفاد تقرير اقتصادي صادر عن البنك الدولي بأن الصين ستستمر بتحقيق معدلات نمو قوية، متوقعا ان تسجل بكين نموا بنسبة 9.6 في المائة من إجمالي الناتج المحلي لعام 2008.وانه إذا كان للتباطؤ العالمي أن يصبح أكثر حدة، فإن الصين في وضع قوي من ناحية الاقتصاد الكلي بما يكفي لتحفيز الطلب، من خلال تخفيف سياسات المالية العامة و/أو تخفيف الرقابة على الائتمان. ويشير هذا التقرير الفصلي إلى أن التوقعات العالمية قد ضعفت وأصبحت غير مؤكدة، لكنه ينتهي إلى أن الصين ستشهد نموا قويا على الأرجح عام 2008 ، وإنها في وضع جيد يؤهلها لتحفيز الطلب عند الحاجة. وهنا أشار ديفيد دولار، المدير القطري بالبنك الدولي المسؤول عن الصين، «لا بد أن يؤثر تباطؤ الاقتصاد العالمي على صادرات الصين والاستثمار في قطاع التجارة. ومع هذا، يجب أن يظل زخم الطلب المحلي قويا، كما يمكن أن يساهم حدوث تباطؤ عالمي متواضع في إعادة التوازن لهذا الاقتصاد.وكان رئيس صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس ـ كان، الذي يزور الصين حاليا، قد قال أول من أمس ببكين، إنه على الرغم من تأثيرات أزمة الرهن العقاري الأميركية على الصين إلى حد ما، إلا أنه لا يزال يتوقع أن معدل نمو اقتصاد الصين للعام الحالي سيصل إلى 10 في المائة.
وأضاف كان في مؤتمر صحافي عقده الصندوق، أن الصين اتخذت خلال السنوات الخمس الماضية سلسلة من سياسات السيطرة الكلية الفعالة لضمان سرعة نمو اقتصادها، واصفا إنجازات الصين في التنمية الاقتصادية بأنها «لافتة للأنظار». وأشار كان إلى أن تحقيق التنمية الاقتصادية بشكل مستمر وسريع في الصين لا يزال يواجه سلسلة من التحديات والصعوبات في المستقبل، وأن مهمة الساعة للصين تتمثل في سرعة تعافيها من التأثيرات الخطيرة على البلاد ومعيشة مواطنيها والناجمة عن كوارث الأمطار والجليد والثلوج وانخفاض درجات الحرارة في بعض مناطق جنوب البلاد. وكانت المصلحة الوطنية الصينية للإحصاءات قد اعلنت أخيرا أن الاقتصاد الصيني حقق في عام 2007 نموا بمعدل 11.4% مقارنة بالعام السابق، وهذه السنة هي الخامسة على التوالي، التي بلغ فيها معدل النمو الاقتصادي الصيني 10% أو تجاوزه. وأشارت الاحصاءات الأولية إلى أن اجمالي الناتج المحلي في العام الماضي تجاوز 24 تريليون يوان صيني بزيادة 11.4% مقارنة بالعام السابق. وكانت الاستثمارات سببا مهما في دفع النمو الاقتصادي السريع في الصين .و قال لويس كوجيز، وهو خبير اقتصادي أول والمؤلف الرئيسي لهذا التقرير الفصلي، «إن مخاوف التضخم تدعو إلى اعتماد سياسة نقدية متشددة نسبيا». ومع ذلك، فإن القيود على أسعار الفائدة تظل أسيرة تخوف السلطات من جذب تدفقات رأسمالية حساسة للتغيرات في أسعار الفائدة. ومن ثم، ففي ظل التوقعات ببقاء الفائض الخارجي كبيرا للغاية، ستواصل السياسة النقدية اعتمادها على الرقابة على الائتمان وإدارة السيولة. ومن شأن استمرار ارتفاع سعر صرف اليوان (عملة الصين) مقابل الدولار أن يساعد على لجم ضغوط التضخم وتقليص الفائض في الحساب الجاري.
كان ذلك قبل أن تحتدم الأزمة المالية في الولايات المتحدة و تنخفض على إثرها أسعار البترول بنسبة تصل الى 80 في المائة مما كانت عليه وانخفاض أسعار المواد الغذائية التي عادت بدورها الي مستوياتها السابقة. فالصين وإن إزدادت نشاطا في الأسواق التجارية الدولية تزذاذ أيضا استقلالية نسبيا عن الأسواق المالية العالمية بما يجنبها سلبيات تقلباتها ويحد من تأثرها بها.
وديننا يرشدنا إلى التماس الحكمة أينما وجدت وثمة حديث مشهور منسوب ألي النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إطلبوا العلم ولو في الصين".
ولايقل النموذج الذي تقدمه كوريا الجنوبية أهمية عن النموذج الصيني إذ أن كوريا الجنوبية (على نحو ماجاء في موقعها على الانترنيت:http://arabic.korea.net/aboutkorea/kor_loca.asp?code=E01)التي عرفت في الماضي بأنها واحدة من أكثر المجتمعات الزراعية الفقيرة، عملت على تنفيذ تنمية اقتصادية منذ أوائل عام 1962. وفي أقل من أربعة عقود، استطاعت كوريا تحقيق ما يسمى " بالمعجزة الاقتصادية على نهر الهان - كانغ " ، وهو نهر يجري في وسط العاصمة سيئول هذه المعجزة وما تبعها من خطوات شاقة كانت بمثابة نقطة تحول في التاريخ والاقتصاد الكوري.
لقد أسهمت استراتيجية التنمية الاقتصادية الشرقية الانفتاحية ، التي تغير الصادرات بمثابة محرك للنمو، إلى حد كبير في التحول الكبير للاقتصاد الكوري. اعتماداً على مثل هذه الاستراتيجية، وقد تم بنجاح تنفيذ العديد من برامج التنمية. ونتيجة لذلك، زاد اجمالي الدخل القومي الكوري من 2.3 بليون دولار في سنة 1962 الى 477 بليون دولار في العام 2002م. كما ارتفع نصيب دخل الفرد من اجمالي الدخل القومي من 87 دولار إلى حوالي 10013 دولار أمريكي. وتشير هذه الأرقام المعبرة إلى النجاح الكبير لبرامج التنمية الاقتصادية وما أتت به من نتائج.
وفي عام 1998 انخفض إجمالي الدخل القومي إلى 312 بليون دولار، كما انخفض نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي الى 6744 دولار وذلك بسبب تذبذب معدلات الصرف الأجنبي، إلا أن هذه الأرقام استعادت مكانتها و مستوى ما قبل الازمة في عام 2002م.
أما بالنسبة للواردات الكورية فقد زادت بمعدل منتظم بسبب سياسة التحرير التي طبقتها كوريا وزيادة مستويات دخل الفرد. وبوصفها واحدة من أكبر الأسواق المستوردة في العالم، فقد تجاوز حجم الواردات الكوريةالواردات الصينية في سنة 1995، واقتربت من الواردات الماليزية والإندونسية والفلبنية.
هذا وقد شملت الواردات الرئيسية الكلية على المواد الخام التصنيعية مثل البترول الخام، والمعادن الطبيعية، والبضائع الاستهلاكية، والأغذية، والمكننة، والمعدات الالكترونية ومعدات النقل.
لقد نمت كوريا بسرعة فاقت بها فترة الستينات، حيث ساعدتها في ذلك معدلات الادخار والاستثمارات العالمية والتركيز القوي على التعليم. واصبحت كوريا العضو التاسع والعشرين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وذلك في 12 ديسمبر 1996.
ونظراً لأن تاريخ كوريا الاقتصادي معروف بانه واحد من اسرع الاقتصاديات في العالم نموا، فقد عملت كوريا على أن تصبح محط انظار التكتل الاقتصادي الاسيوي القومي خلال القرن الحادي والعشرين. حيث يتمتع إقليم شمال شرق آسيا بتوفر المصادر الضرورية للتنمية الاقتصادية، وتعداده السكاني يبلغ 1.5 بليون نسمة، ووفرة المصادر الطبيعة والأسواق الإستهلاكية الكبيرة."

يقول المرجع الشيعي الصدر رحمه الله :"حين نريد أن نختار منهجاً أو إطاراً عاماً للتنمية الاقتصادية داخل العالم الاسلامي يجب أن نأخذ هذه الحقيقة(أي العقيدة الإسلامية) أساساً ونفتش في ضوئها عن مركب حضاري قادر على تحريك الأمة وتعبئة كل قواها وطاقاتها للمعركة ضد التخلف، ولابد حينئذ أن نُدخل في هذا الحساب مشاعر الأمة ونفسيتها وتأريخها وتعقيداتها المختلفة..(...)ان حاجة التنمية الاقتصادية إلى منهج اقتصادي ليست مجرد حاجة إلى إطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب ... ولا يمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف أن تؤدي دورها المطلوب إذا اكتسبت إطاراً يستطيع أن يدمج الأمة ضمنه وقامت على أساس يتفاعل معها. فحركة الأمة كلها شرط أساسي لإنجاح أي تنمية اقتصادية وأي معركة شاملة ضد التخلف لأن حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية".

والعمل في إنتاج الموارد المادية فرض غين على كل قادر على العمل وكفء وميسرة له سبل العمل ، وفرض كفاية على كل من اقتضي تقسيم العمل الاجتماعي أن يعمل في التجارة أو الخدمات أو الادارة أو تربية النشأ أو غير ذلك من المهام الضرورية لحياة المجتمع واستمراره واستقراره . إلا أن استقامة النظام الاقتصادى تتطلب أن يكون عدد المشتغلين في انتاج الغذاء والضروريات للحياة المعاصرة هو الأكبر من عدد المعولين منهم ، أي الذين يعتمدون عليهم في توفير الغذاء والا حتياجات الضرورية لهم . مما يجعل عدم استثمار معظم الموارد البشرية القادرة على العمل في الإنتاج بمثابة اهدار لها . كما أن تضخم الجهازالبيروقراطي في دولة فقيرة على حساب الانتاج يعد سياسة هدامة للاقتصاد وضرب من ضروب السفه وتبديد الموارد المالية. وأيضا نوع من أنواع الظلم الاجتماعي ، فليس من العدل أن يعول كل فرد منتح عشرات من تنابلة السلطان الذين يستهلكون الثروة الوطنية دون أن يشاركوا في انتاجها. وفي هذا يقول الله في كتابه : “ وضرب الله مثلارجلين أحدهما أبكم لايقدر على شـيء ، وهو كل على مولاه ، إينما يوجهه لا يأت بخير ، هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ؟”(النحل 76) . وقد مرت علينا آيتان بنفس اللفظ والمعني يحددان أولويات النشاط الاقتصادي حيث يأتي في المرتبة الأولي إشباع الضروريات وهي الأولويات التي فطن اليها الشاطبي وغيره من فقهاء الأصول فرتبوا الاولويات إلى ضرورات وحاجات وتحسينيات . وفي الايتين في سورتي النحل وفاطر تم ذكر الغذاء كمثل للضروريات وليس كلها والحلية والزينة من الحاجيات وليس كلها ثم أتت بعد ذلك التجارة فيما وراء البحارللتعامل مع فائض الضروريات والحاجيات بيعا وشراء بغرض زيادة حجم الثروة وهو ما يعد من التحسينيات.
وأن تأتي الزينة في المرتبة الثانية بعد الغذاء مباشرة ، وبالتالي من الحاجيات حسب تقسيم علماء الأصول ، فإن ذلك يكشف عن اهتمام الإسلام في مجال الإحسان بالحسـن والجمال ، لأن الإحسان مشتق أساسا من الحسن , وفى ذلك أبلغ رد على الذين يريدون الحياة كئيبة ويدعون إلى التجرد من الزينة أو نغضون من قيمة الفنون الجميلة والاستعراضية والغناء والموسيقي والتمئيل ,,,الخ بدعوى مخالفتها للدين أو تشغلهم عن العبادة بينما قد يكون في هذه القنون ما يمكن اعتباره من العبادة ، إذا كان سيثير الفرحة والتفاؤل في قلوب المؤمنين ويفرج عنهم همومهم لتصفو قلوبهم ويمكنها التواصل مع الله . والمحرم قطعا منها هو ما يشتمل على فسوق وفحش وابتذال ومجرد من القيم الجمالية والاخلاقية ، أو يدعو إلى فساد أو انجلال ، إذ يصبح من قبيل إشاعة الفسوق والفساد في المجتمع ويشكل خطورة على استقراره وتماسكه وقيمه ومن قبيل العبث . أما ما كان في هذه الفنون ما يدفع نحو التأمل في آيات الله وجميل صنعه أو استيعاب القيم الجمالية والاخلاقية والرقي بالذوق العام للجمهور ويبعث الهدوء والسكينة في النفس القلقة المتعبة ويزيل الاحساس بالتعب والعناء ، ويرقي بالمشاعر الإنسانية ، فهو ليس حلالا فقط وإنما هو مطلوب أيضا بإلحاح ويتفق مع ما أوردت من آيات تحض على البهجة والمسرة في الحياة الزوجية وفي أحضان الطبيعة وفي الحياة كلها. ولست أدرى لماذا يريد هؤلاء المتزمتين الذين يدعون الغيرة على الدين أن تسود الكآبة نفوس وبيوت وحياة المسلمين على عكس ما أراد لهم خالقهم ووليهم في الدنيا والآخرة ،وهوالذي جاءمن لدنه دينهم. ويؤثر عن المسيح فوله :”لله المجد في الاعالي وعلى الأرض لسلام وبالناس المسرة ...”هذ الكلمات التي يرددها المسيحيون في صلواتهم. ونحن أولي بها.
إن ما يمكن أن يكون مكروها وليس محرما في هذه الفنون هو المغالاة والاسراف فيها بما يشغل عن العمل والانتاج فديننا دين الاعتدال والله لا يحب المسرفين.
وبالنسبة للحلية فقد حرم الذهب فقط على الرجال حتي يتوفر منه ما يحتاجه النقد المتعامل به في التجارة وتم استثناء النساء من هذا التحريم باعتبارهن أكثر حاجة إلى الزينة فكان ذلك بمثابة فضل لهن اختصهن به الدين ، وما كان أيسـر أن يحرمن من ذلك أسوة بالرجال ولكي يتساوين بهم . ولكن استعمال الذهب زينة للنساء يظل مقيدا بمبدأ عام هو عدم الإسراف اعتماداعلى قوله تعالي :” كلوا واشربوا ولا تسرفوا .." فإذا كان الاسراف ممنوعا في الغذاء وهو من الضروريات فإن الإسراف في الزينة وهي في مرتبة أقل يعد ممنوعا أيضا على المؤمنات التقيات.

الإصلاح الزراعي:
ويمتاز النشاط الانتاجي في الفلاحة(زراعة وإنتاج حيواني) فضلا عن انتاجه ماهو ضروى وحيوى للأمة ، بأنه الميدان الفسيح القادر على استيعاب ملايين السكان وتأمين الغذاء الضروري لهم في نفس الوقت ، وذلك عندما يتم تمكين أسرهم وعائلاتهم من أراض صالحة للزراعة أو الانتاج الحيواني ، في حدود قدرة الأسرة على العمل وبحيث لا تقل أو تزيـد مساحة الأرض عن ذلك ، لضمان الحصول من الأسر على أكبر انتاجية ممكنة . ويذلك يتم إتاجة فرص العمل للشباب العاطلين والقضاء على البطالة واستثمار الثروة البشرية المتاحة بالكامل ،وضمان استقرار وأمن ورخاء المجتمع . وكلما تواصلت التنمية الأفقية والرأسية في القطاع الفلاحي كلما أمكن لهذا القطاع أن يمتص حصة كبيرة من تشغيل القوى العاملة الجديدة الناتجة عن زيادة السكان ، وتحويل الزيادة السكانية إلى زيادة في الانتاج.
وتوزيع الأراضي الصالحة للزراعة على الأسر الفلاحية لا يدعو اليه الالتزام بأيديولوجية معينة وليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في ملكية أراض الوطن من منطلق مساواة المواطنين في واحباتهم نحوه ونحو حمايته ، وإنما لدواع اقتصادية بحته , وقد قام بالإصلاح الزراعي اليابانيون في عهد الميجي ولما يكن دافعهم لذلك فكرا اشتراكيا أو انطلاقا من الطاوية (ديانة اليابان) ونفس الشي حدث في كوريا الجنوبية بعد ذلك بواسطة قيادتها العسكرية والتي لم تكن أيضا لا اشتراكية ولا متأثرة بالتعاليم البوذية .
وفي تقرير صادر من هيئة الإستعلامات المصرية سنة 1994 تحت عنوان : استصلاح الصحراء وزراعتها ، جاء في صفحة 64 منه ما يلي : وفي مقارنة بين إنتاجية الأراضي نجد أن الأراضي الموزعة على المنتفعين انتاجيتها أعلى من انتاجية الأراضي الموزعة من المحترفين للزراعة ذات مردودية أعلى من تلك الموزعة على الخريجين “، ثم يوضح التقرير السبب في أن الحيازات الموزعة على صغار المنتفعين تتراوح بين 3-5 أقدنة في حين تتراوح حيازات الخريجين بين 20-30 فدانا ولا تساهم أسرهم في أداء العمل الزراعي ، حيث يقومون بتدبير الحد الأدني الذي تحتاجهم زراعتهم من العمالة مدفوعة الأجر . وفي مواضع أخرى يعترف التقرير أن إنتاجية أراضي صغار المنتفعين والتي لا تكاد تتلقى أى دعم تفوقت على انتاجية الشركات الزراعية أيضا المملوكة للدولة أو القطاع الخاص رغم أمكانياتها الكبيرة ، وانتاحية هذه الشركات والتي تعتمد على الزراعة الآلية.

أهمية الإصلاح الزراعي:
وما شهدت به هذه الوثيقة الحكومية سالفة الذكر، سبق أن أقر به العديد من خبراء الزراعة والتنمية في الأمم المتحدة وخارجها ،وتشهد به التنمية في الصين والهند ودول شرق أسيا الاخرى التي تطبق نموذج الزراعة العائلية، فالأسرة الصغيرة في الملكية الزراعية المحدودة وبسـواعد أفرادها وحدها هي القادرة على تحقيق أكبر انتاجيـــة بالمقارنة بالمساحة وليس كبار الملاك والزراعة الآلية أو الحديثة. ومع ذلك فإن أنظمة الحكم العربية لم تأخذ هـذا في اعتبارها . وواصلت توزيع الملكيات الكبرى من الأراضي على كبار الملاك والشركات الزراعية الكبرى وتركت صغار الفلاحين يواجهون مصيرهم ، بل تم اغتـصاب أراضيهم وتجريدهم منها في بعض الحالات . لم يكن التصرف هذا بمثابة منح من لايملك من لايستحق فقط ، أو إهدار لحقوق غالبية المواطنين وللعدالة الاجتماعية ، وممارسة بالتالي للظلم ، وانما دليل على اختيار الأسوء في السياسة الاقتصـادية وما يترتب عليه من خلق الأزمات الاقتصـادية في البلاد نتيجة سوء تلك السياسات المتبعة والمتعارضة مع ضوابط الاقتصاد وضروراته التي توصل إليها الخبراء فيه..
أن مشكلة البطالة المتفاقمة ، وارتفاع تكاليف المعيشة فوق طاقة محدودي الدخل بسبب التضخـم الناتج عن عدم تناسب المعروض من السلع الضرورية مع الطلب عليها ، وانتشار الفقرالمتزايد كنتيجة لتدهور الأوضاع المعيشية لأغلب السكان وضعف مواردهم ومحدودية وسائل الكـسب لديهم وفرصه ،وتزايد الهجرة من القرى نحو أقرب مدينة وما يترتب عليها من تطويق المدن بأكواخ الصفيح والمسـاكن العشوائية، وتدهور الخدمات الحكومية ، وما أفرز هذا كله من انتشار الفساد والدعارة والجرائم والمخدرات والمواد المسكرة (الخمور),,,ألخ. هي ظواهر صارت تطبع الحياة العامة في كل من مصر والجزائر والمغرب .كل ذلك كان يمكن التخلص منه أو الحد منه بانتهاج سياسة لإعادة توزيع ملكية الأراضي الزراعية . وإذا كان هذا كان مطلوبا وواجبا قبل خمسين عاما ، فإن تدراك الخظأ وإصلاحه أفضل من مواصلة الاستمرار فيه . وإذا تعدر إعادة توزيع الأراضي الزراعية بعدالة ومساواة ، كما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية ، فإنه يجب العمل على تنفيذ مشروعات للتمية الأفقية للأراضي الزراعية ، بإصلاح واستزراع أراض جديدة قابلة للزراعة بعد تأمين المياه إليها ، وهو أمر لو تعذر أن تقوم به دولة واحدة أمكن أن تتعاون فيه عدد من الدول في أقليم جغرافي واحد ، ولأن يتعاونون على النماء خير لهم من التنازع على البقاء.وتوزيعها على أسر الفلاحين المحتاجين وعلى خريجي المدارس الزراعية العاطلين وخريجي المدارس الأخرى بعد إخضاعهم لتكوين سريع يحصلون فيه على المعلومات الأساسية التي تتطلبها تنفيذ مشروعات زراعية صغيرة وتدريبات عملية كافية . فمثل هذه المشروعات لزراعية الصغيرة التي تقام على مساحة في حدود هيكتارين أو خمسة أفدنة كافية لإعالة أسرة متوسطة الحجم والوفاء بجميع احتياجاتها المعيشية ، لو توفرت مياه السقي ليه واستغلت في زراعة كثيفة ، أي طول السنة ..
وتتميز المشروعات الفلاحية عامة بما يلي :
1- تعتبر من أقل المشروعات استنفادا للنقد الأجنبي حيث لاتزيد نسبته عن 10 في المائة وقد لا تحتاجه أو لا تزيد حاجتها منه على 1في المائة.
2- تعتمد أساسا على السواعد والخبرة الفنية المحلية التي تسهم في جميع مراحل المشروعات .
3- تدفع المجتمع نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي عن طريق تنمية قطاعات الانتاج المختلفة الأخرى وخاصة الصناعات الغذائية المعتمدة على الانتاج الزراعي والحيواني ، وتنشيط خدمات التجارة والتمويل والنقل وتحقيق الرخاء للسكان عامة وللفلاحين خاصة.
4- دات مردودية في حالة توفير السقي والبذور المنتقاة والأسمدة شبه ثابتة ومضمونة ويساعد التقدم العلمي باستمرار في العلوم الزراعية والتكنولوجيا المرتبطة بها في زيادة الانتاجية ومردودية الأرض.
5- تعمل على خلق مجتمعات جديدة متكاملة تتوفر فيها ظروف معيشية مناسبة .
6- من أكثر المشروعات استيعابا للقوى العاملة ، والمزرعة العائلية يعمل فيها جميع أفراد الأسرة وما تتميز به من زيادة انتاجيتها عن غيرها ناتج عن ذلك.
7- تحرر البلاد من أهم مظاهر وأسباب التبعية للخارج وتوفر النقد الأجنبي الذي يتم به استيراد المواد الغذائية بتحقق الكفاية الذاتية من الغذاء.
8- وجود الطلب والأسواق المحلية والخارجية المتعطشة للسلعة الغذائية وضعف المنافسة والمزاحمة مما يجعل التسويق ميسرا.
وقد ضرب الله مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من زراعةالحبوب توضح قدرتها على مضاعفة رأس المال وكمية الغذاء المنتج . فقال الله تعالي “ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم “ (البقرة: 261) ،وما كان الله ليضرب هذا المثل ما لم يكن بإمكان الانسان إن أحسن العمل واستثمر التقدم العلمي أن يحصل مقابل الحبة المزروعة على 700 حبة أو أكثر بمشيئة الله .
ويمكن تخصيص جزء من هذه الأراضي للبيع الفورى للمقتدرين بالخارج أو المواطنين العاملين بالخارج للحصول على جزء من التمويل الذي يحتاجه مشروع اصلاح واستزراع الآراضي ,ويتم توزيع الباقي على أرباب الأسر ويحتاجون إلى الأرض الزراعية على أن يقوم الملاك الجدد بسداد ثمن الأرض على أماد طويلة.وأخضاع هذه الأراضي إلى تشريعات خاصة تضمن بقائها دون تجزئة أو تصرف فيها إلى أن يتم سداد ثمنها بالكامل ، وفي حالة الرغبة في التخلص منها من الملاك الجدد لها يتم إعادتها للدولة التي تقوم بأعادة توزيعها على المستحقين.مع سداد المبالع التي سددها المتنازل عن الأرض له بالتقسيط مثلما سددها هو من قبل بالتقسيط.

ويقر فقهاء المسلمين على أن الأصل هو حق كل أسرة أن يكون لها نصيب من أرض بلادها إن توفرت الأراضي واتسعت لسد حاجة الجميع منها . وأن هذا ليس منحة أو منه من الدولة لأن الأرض أساسا ملك لله وسكان الدولة مستخلفون جميعهم فيها . وبالتالي فإن تقسيم الأراضي حق شرعي يجب أن يتمتع به جميع أفراد الأمة ولكنهم يرون أيضا أن إعادة التوزيع للآراضي المستغلة فعلا قد يمس أوضاع مستقره وحقوق متوارثة ، ويثير من المشاكل ما يمكن تفاديها ، وبدعوى أن درء المفاسد مقدم عن جلب المنافع وهو عموما مبدأ خاظئ , بل إن نزع ملكية أو حيازة 1200هيكتار من شخص واحد وتوزيعها على 600 أسرة تضم 3000نسمة لضمان عيش كريم لها بمعدل هيكتارين لكل أسرة معدل عدد أفرادها خمسة أفراد. هو وضع حد لوضع فاسد وظالم ولا يرضي عنه الله من ناحية ،وفي نفس الوقت جلب منفعة لثلاثة آلاف نسمة من ناحية أخرى. ويرى الفقهاء بأنه عوض التعرض للملكيات القائمة يمكن أن يتم توزيع الأراضي البيضاء أو الموات وتمليكها لمن يعمرها ويزرعها وهذا حل لا بأس لو توفرت تلك الأراضي وبحيث يتم توزيعها على الأسر.
ولا توزع هذه الأراضي على الأفراد لآن فلاحة الأرض تحتاج تعاونا حده الأدني فردين ، وهو ما يتوفر في الأسرة التي تتكون من زوج وزوجه ، ويتحقق به أيضا المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق باعتبار أن الأسرة هي الجامعة بينهما وأن نفع الأرض سيعود عليهما معا وعلى من ينجبانه من أولاد.
إن الانسان العاطل الذي لا ينتج بمثابة ميت تماما مثل الأرض البور ، وإحياء موات الأرض لصالح موات البشر هو أحياء للأرض والبشر معا وزيادة منافع المجتمع وعلاج لعلله وشفاء لها بأدن الله.