Wednesday, December 10, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى - الجزء الخامس

مقتضى الوسطية طلب العلم :
قال الله سبحانه وتعالي :" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّـاسِ وَيَكُـونَ الرَّسُـولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ "(البقرة-143) . والتمعن في نص الأية سيحد أن الأمة المسلمة هنا تتوسط الناس التي هي شاهدة عليهم والرسول الذي هو شاهد عليها. ولكي تشهد على عيرها من الناس الذين سبقوها في الوجود ، أو الذين يشاركونها الأرض ولكنهم ليسوا على دين الإسلام يجب أن تكون على علم بهم . ومطلعة على تاريخهم المكتوب وعلى عقائدهم ، وما قد يكون فيها من حق وباطل، وعلى طبيعة أرضهم ، وعلى فضائلهم وجرائمهم وعاداتهم وتقاليدهم ، وعلى أسباب تصرفاتهم وأهدافهم منها. وعلى علومهم وتقنياتهم وأسباب تقدمهم أو تخلفهم ، وإلا ستكون بمثابة :(شاهد ما شافش حاجة “ . وكل هذه هي المعرفة الواجبة لمن ستكون شاهدة عليهم في الدنيا والأخرة تتطلب الإلمام بالعديد من العلوم الإنسانية والتطبيقية التي تعطي صورة حقيقية عما هي عليه الشعوب غير المسلمة التى جعل الله الإمة الإسلامية شاهدة عليها. وشهادة الرسول على أمتــــه تتمثل في أنه أبلعها رسالات ربه وأوامره ونواهيه وما أحل وحرم وأحكامه وكل ما نزل عليه بالوحي ولم يعد لها عذر في تقصير أو مخالفة لأمر الله.
لا تعني الوسطية هنا التوسط بين حدين وإنما تعني العلم بكل الحدود . وعندما سؤل الأستاذ أحمد الريسوني عما إذا كان الدين الإسلامي دين الوسطية لم يقل نعم ، وأنما قال : الإسلام دين العدل والاعتدال، فإذا كانت الوسطية تعني العدل والاعتدال كان الإسلام دين الوسطية . وبناء على قوله هذا يمكن قول العكس ، أي إذا لم تكن الوسطية تعني العدل والاعتدال فإن الإسلام لا يكون دين الوسطية.

وإذ قال الله تعالى: "شَـهِدد اللَّـهُ أَنَّـهُ لا إِلَـهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْـمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ"(آل عمران: 18). وحيث لا تقبل الشهادة من غير الشهود العدول المطيعين، فإن هذه الآية تدل على عدالة الملائكة وأهل العلم معا والثقة الربانية فيهم وفي أمانتهم عندما جعل سبحانه شهادة الملائكة وأولي العلم حجة على المنكرين، فالملائكة وأولوا العلم عند الله بمنزلة براهينه الدالة على توحيده سبحانه.وأهل العلم في طلبهم العلم متواضعين وتلقينه ونشره متطوعين إنما يتعبدون بذلك ويقتربون في هذه العبادة ممن يسبحون الليل والنهار لايفترون ، ولعل هذا الذي جعل الله يضعهم في مرتبة تالية لمرتبة الملائكة الذي قال عنهم :"وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ" (الأنبياء: 19، 20) ٫ ولهذا السبب أيضا تكون الشهادة ليست من عامة الناس وإنما من أهل العلم والإيمان والتقوي من المسلمين ، وهو ما يجعل العلم والتقوي من متطلبات قيام الأمة بأداء الشهادة المطلوبة منها وبالتالي يجب أن يكون العلم والتبحر فيه متاح لكل أفراد الأمة المسلمة . ويشترك أهل العلم المتقون مع الملائكة في أن كل منهما من الكاتبين ولا يكتبون غير الحق ، لا ينحرفون عن الحق لحفظهم الأمانة التي ائتمنهم عليها الله وحياء منه وخوفا. قال الله تعالى: "كَلا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ" ( الانفطار: 9-12).
وقال تعالى: " وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَـوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (الجاثية: 27 -29)
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب، فيقول: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيُقال لأمَّته: هل بَلَّغَكُم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، فتشهدون أنَّه قد بلَّغ، ويكون الرّسول عليكم شهيدًا فذلك قوله - جلَّ ذكره -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: من الآية143). والوسط: العدل)
وروى الطبري بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (البقرة: من الآية143) قال: «عدولاً».
وقد ساق الطبري عددًا من الرِّوايات في هذا المعنى. ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوبًا إلى بعض الصَّحابة والتَّابعين؛ كأبي سعيد ومجاهد وغيرهما، حيث فسَّروها ب «عدولاً».وكذلك نقل تفسير ابن عباس لها: «جعلكم أمة عدولاً».وقال ابن زيد: هم وسط بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الأمم,وقال الطبري: «وأمّا الوسط فإنه في كلام العرب: الخيار، يُقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرّفع في حسبه.وهو وسط في قومه وواسط؛ قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظَمِ
ويقول الحافظ ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى : " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا " أي إنما حولناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأمم ، لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل ، والوسط هنا الخيار والأجود ... ، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب . وجاء في الجزء السابع من لسان العرب بأن لفظ : “وسطا “فيه قولان قال بعضهم وسطا عدلا وقال بعضهم خيارا واللفظان مختلفان والمعنى واحد لأن العدل خير والخير عدل . وقيل في صفة النبي إنه كان من أوسط قومه أي من خيارهم . ويوصف الفاضل النسب بأنه من أوسط قومه .وهذا يعرف حقيقته أهل اللغة، لأن العرب تستعمل التمثيل كثيرا . فتمثل القبيلة بالوادي والقاع وما أشبهه فخير الوادي وسطه فيقال هذا من وسط قومه ومن وسط الوادي وسرر الوادي و سرارته .

وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: » وكذلك جعلناكم أمة وسطا”، قال عدلا . وفي التنزيل قال أوسطهم القلم أي أعدلهم .في مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن بن ماجة ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل " .
ويتفق هذا مع وصف الله تعالى الأمة المسلمة في قوله:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(آل عمران:110)، حيث القرآن يفسر بعضه لأنه من مشكاة واحدة.
وفسـر قوله تعالى :" فوسطن به جمعا" (سورة العاديات:5 ) بأنه يعني أن الخيل توسطت جمعا فبعثرته وجعلته أشتاتا. وأري أن الأيات التي افتتحت بها سورة العاديات ليس مقصودا بها الخيل وأنما هي كناية يقصد بها التنبؤ بأحداث مستقبلية ستحدث لأمة المسلمين . وقال صلى الله عليه وسلم: “من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا؛ سهل الله له طريقًا إلى الجنة” ـ مسـلم
وقال ابن كثير في تفسيره: وقوله - تعالى -: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) الوسط هنا: الخيار والأجود، كما يُقال في قريش: أوسط العرب نسبًا ودارًا، أي: خيرها.وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطًا في قومه، أي: أشرفهم نسبًا.

وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيُقال له: هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا من أحد فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمَّته، قال: فذلك قوله:”وَكَـذَلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً” قال الوسط: العدل، فتُدعون فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم» وقد رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة.

وقال السيد محمد رشيد رضا في تفسير المنار: «وَكَـذَلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً». وهو تصريح بما فهم من قوله:”وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ” (البقرة: من الآية213). أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمّة وسطًا.

وقال الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالى - في تفسير هذه الآية: «إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعًا، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛ وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها؛ فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على أعمالها وتقاليدها؛ ويزين ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة .. وبهذا تتحدد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادًا لائقًا. ». وتناول رحمه الله - رحمه الله تعالى – مزايا الدين الإسلامي فقال: «وهـو - مِنْ ثَمَّ - شامل متوازن منظور فيه إلى كل جوانب الكينونة البشرية أولاً، ومنظور فيه إلى توازن هذه الجوانب وتناسقها أخيرًا، ومنظور فيه كذلك إلى جميع أطوار الجنس البشري، وإلى توازن هذه الأطوار جميعًا. بما أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي خَلق، والذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؛ (...)وهو - مِنْ ثَمَّ - الميزان الوحيد الذي يرجع إليه الإنسان في كل مكان وفي كل زمان؛ بتصوراته وقيمه، ومناهجه ونظمه، وأوضاعه وأحواله، وأخلاقه وأعماله ليعلم أين هو من الحق، وأين هو من الله. وليس هنالك ميزان آخر يرجع إليه، و هو يتلقى قيمه وموازينه من هذا التصور، ويكيِّف بها عقله وقلبه، ويطبع بها شعوره وسلوكه، ويرجع في كل أمر يعرض له إلى ذلك الميزان: “فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُـولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِـرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً” (النساء: من الآية59)»وحول خاصية التوازن في دين الإسلام يقول: «... وقد صانته هذه الخاصية الفريدة من الاندفاعات هنا وهناك، والغلو هنا وهناك، والتصادم هنا وهناك؛ هذه الآفة التي لم يسلم منها أي تصور آخر. سواء التصورات الفلسفية، أو التصورات الدينية التي شوهتها التصورات البشرية بما أضافته إليها أو نقصته منها، أو أوَّلته تأويلاً خاطئًا وأضافت هذا التأويل الخاطئ إلى صلب العقيدة».
وإن من أبـرز سمات هـذا المنهج الرباني الهادي للتي هي أقـوم أنه متسم بالشمول والتوازن والعدل؛ ولذلك امتن الله عز وجل على هذه الأمة التي أنزل إليها كتابه الكريم ومنهجه القويم بجعلها أمة وسطا أي عادلة وشهادتها عللا غيرها من الأمم شهادة عادلة .فالمسلمون بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على النَّاس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم .

وقال الشيخ الشنقيطي - رحمه الله تعالى -في «أضواء البيان» في تفسيره تلك الأية ممجدا كتاب الله والأمة الإسلامي المهتدية به: “إِنَّ هَذَا الْقُـرْآنَ يَهْـدِي لِلَّتِي هِـيَ أَقْـوَمُ” (الإسراء: من الآية9): والخير كله والعدل والشمول والتوزان موجود في كتاب ربناوجل الذي “لايَأْتِيـهِ الْبَاطِلُ مِـنْ بَيْـنِ يَدَيْـهِ وَلا مِـنْ خَلْفِـهِ تَنْزِيـلٌ مِنْ حَكِيـمٍ حَمِيدٍ” (فصلت:42) وصدق الله العظيم في وصف المناهج البشرية بقوله سبحانه:”وَلَوْ كَـانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً” (النساء: من الآية82).
أو أنها «أمة وسطًا» في المكان .أي في وسط الأرض، بين شرقها وغربها وجنوبها وشمالها.
ويستدل ابن القيم - رحمه الله تعالى - بقوله تعالى: (وَكَـذَلِكَ جَعَلْنَـاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً… الآية) على وجوب اتباع الصحابة رضي الله عنهم فيقول: «ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى أخبر أنه جعلهم أمة خيارًا عدولاً؛ هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم، وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، والله تعالى يقبل شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوه بهم، ورفع ذكرهم، وأثنى عليهم؛ لأنه تعالى لما اتخذهم شهداء أعلم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم، وتدعو لهم وتستغفر لهم.
والشاهد المقبول عند الله الذي يشهد بعلم وصدق؛ فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به، كما قال تعالى: (إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: من الآية86).
فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به، فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم ...».
وبعد استعراض ما سبق من أقوال المفسرين يتبين لنا فهمٌ واضحٌ محددٌ لمعنى الوسطية المذكورة في صفة هذه الأمة وكونها أمة وسطًا. فالوسطية هنا لاتعني توسط بين نقيضين كما فهما البعض ، وإنما تعني العدالة أو واسطة بين النبي وغيرها من الأمم التي تتحمل عبء نقل رسالة النبي إليها، وهي شاهدة على تقبل هذه الرسالة أو رفضها من لدنهم . والذي يقوم بهذه المهمة ويتولي الشهادة ، يقتضي عدل الشهادة أن يكون على بينه وعلم بما يشهد به ، وهو ما دعاني للقول أن الوسطية تقتضي طلب العلم.
ومطلب العدل جائت به أيات كثيرة في القرأن الكريم منها :
- قوله تعالى: "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُـو الْعِلْـمِ قَـائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيـمُ" (آل عمران:18).
- قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً" (النساء:135).
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - في هذه الآية: «فأمر سبحانه بالقيام بالقسط - وهو العدل - في هذه الآية، وهذا أمر بالقيام به في حق كل أحد عدوًا كان أو وليًّا، وأحق ما قام له العبد بقصدٍ: الأقوال والآراء والمذاهب؛ إذ هي متعلقة بأمر الله وخبره.
والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في أمته وأمنائه بين أتباعه، ولا يستحق اسم الأمانة إلا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده. وأولئك هم الوارثون حقًا، لا من يجعل أصحابه ونحلته ومذهبه معيارًا على الحق وميزانًا له، يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته، فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل أحد؟ وهو في هذا الباب أعظم فرضًا، وأكبر وجوبًا»
- قوله تعالى: "وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" (الشعراء:182، 183). وهذه الآية وإن كانت في قوم شعيب الذين كانوا ينقصون المكيال لكنها تشمل كل وزن بالقسطاس والعدل في أي أمر حسي أو معنوي.
-قوله تعالى: "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" (الحديد: من الآية25). قال ابن كثير - رحمه الله - عند قوله تعالى:”وَأَنْزَلْنَا مَعَـهُمُ الْكِتَابَ»: «وهو النقل الصدق، (وَالْمِـيزَانَ) وهوالعدل؛ قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة ، كما قال تعالى: “أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ” (هود: من الآية17)، وقال تعالى:”فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا” (الروم: من الآية30)، وقال تعالى: “وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيـزَانَ” (الرحمن:7). ولهذا قال في هذه الآية “لِيَقُـومَ النَّـاسُ بِالْقِسْطِ” (الحديد: من الآية25) أي بالحق والعدل وهو: اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به؛ فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال تعالى: “وَتَمَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً” (الأنعام: من الآية115) أي صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوؤوا غرف الجنات والمنازل العاليات والسرر المصفوفات: “الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ »(الأعراف: من الآية43)».
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: «والله تعالى بعث الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط، وأعظم القسط عبادة الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على النفس»
فالعدل والحق من أصول الدين الإسلامي وقيمه الإساسية .

إن الإسلام لاينتهي إلى الوسطية وإنما يبدأ منها ، أي أنه ليس دين الوسطية وإنما هو دين ما بعد الوسطية . وهو ليس دين التوازن وأنما هو دين الموازنة والاخلال الآيجابي بالتوازن . والإخلال الإيجابي بالتوازن يصلح لآن يكون قانونا يحكم الاقتصاد والسلوك للمسلم. فبين حدي البخل والكرم لا يقع الموقف الأسلامي في نقظة الوسط التي تمثل في نفس الوقت نقطة التوازن . وإنما يبدأ من هذه النقطة التي تمثل الحد الأدني بالنسبة اليه في اتجاه الكرم . أي يخل بالتوازن لصالح القيمة الإيجابية بين القيمتين ، وعلى هذا المنوال يمكن القياس على كل حدين متناقضين في أي أمر.
وقوله تعالي في وصف عباد الرحمن بأنهم “الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” والتي يستشهد بها دعاة الوسطية لا تخدم دعواهم . فكلمة قواما لاتعني الوسط في الأمر، وإنما تعني ما يقوم بحاجتهم . وهذه الحاجة قد لا يقوم بها سوى أنقاق كل ما بيدهم من مال أو نصفه أو ثلثيه أو أقل أو أكثر. ولو فعلوا ذلك لم يكونوا من المسرفين ، وقد لا تتطلب سوى أقل من نصف دخلهم ولو فعلوا ذلك لا يحسبوا من المقترين.
ليس المجال هنا نقد مقولة الوسطية ، ولكن تصحيح مفهومها والذي يقتضي من المسلم طلب العلم وليس له علاقة بموقف سياسي أو اقتصادى أو أخلاقي.

ثانيـا : الصــلاة في الإيمــان : وقوامها الذكر والتفكر
قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا* هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا"(الأحزاب: 41، 43). فالصلاة من الله تشتمل على الرحمة الخاصة والصلاة من الملائكة: هي الدعاء والاستغفار.
ومعنى الآيات: هو الذي يترحم عليكم ويترأف بكم والملائكة يستغفرون لكم ويدعون لكم حين يدعوكم الله إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة فمن ذكر الله ذكراً كثيراً وسبحه بكرة وأصيلاً فإن الله سبحانه يكرمه فيصلي عليه هو وملائكته أي يصله ويصلونه من الصلة أي العطاء.و صلاة المؤمنين أيضا في عبادة إيمانهم هي ذكر الله والثناء عليه واستغفاره والتوجه إليه بالدعاء والرجاء ، وهذه صلاة بمعنى الوصل أأيضا ومد جسر روحي يصلهم بالله وملائكته في عليين والذكر يكون بالقلب أو باللـسـان ، وأفضـل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسـان ، وذكر القلب أفضـل ، وهو صلاة لأنه يجعل المؤمن الذاكر على صلة مستمرة بخالقه ، ولا تنتهي صلته به بانقضاء الصة المفروضة . .والدافع لكل صوره هو محبة في الله واالتماس رضوانه.
وهو يشتمل على الإتي :
قراءة القرأن وتدبر معانيه وأحكامه حيث القرآن هو الذكر الحكيم .
الصلاة التطوعية (النفل)
التأمل في أيات الله في الكون وفي أنفسنا
التفكير فيما فيه صلاج التدين وأحوال المسلمين
تذكر نعمة الله وحمده وشكره عليها
تسبيح الله بأسماءه والثناء عليه وتمجيده
التوجه بالدعاء لله سبحانه وتعالي
قال حنظلة: قلت نافق حنظلة، فقال - أبو بكر - سبحان الله ما تقول؟ قال - حنظلة -: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة، حتى كانا رأيُ عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والصنيعات نسياً كثيراً.
قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك؟" قلت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والصنيعات تدومون نسينا كثيراً! فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي في الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة - ثلاث مرات". رواه مسلم.
وفي كل أنواع الذكر تسبيح لله كلما ذكر الذاكر إسما من أسمائه سبحانه وتعالي وقال رسول الله صلى الل عليه وسلم :في تسابيح الدكر والأفعال المرتبطة به بأن كل منها صدقة ، إذ قال: "إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بضع أحدكم صدقة" ويقول كذلك: "تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأَذى عنِ الطريق صدقة".
جاء في موقع إسلام ويب في فوائد الذكر :" ذكر ابن القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه القيم (الوابل الصيب) للذكر أكثر من سبعين فائدة .
ونقل موقع إسلام ويب في فوائد الذكر :" ذكر عن كتاب ابن القيم : (الوابل الصيب) في فوائد الذكر عددا منها على النحو الأتي :
· منها أنه يطرد الشيطان ويقمعه ويكسره ، ويرضى الرحمن عز وجل ، ويزيل الهم والغم والحزن ، ويجلب للقلب الفرح والسرور والبسط .
· ومنها : أنه يقوي القلب والبدن ، وينور الوجه والقلب ويجلب الرزق .
· ومنها : أنه يكسو الذاكر المهابة والحلاوة والنضرة ، ويورثه المحبة التي هي روح الإسلام وقطب رحى الدين ومدار السعادة والنجاة .
· ومنها : أنه يورث المراقبة حتى يدخل العبد في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه ، ويورثه الإنابة والقرب ، فعلى قدر ذكر العبد لربه يكون قربه منه ، وعلى قدر غفلته يكون بعده عنه .
· ومنها : أنه يورث ذكر الله عز وجل ، قال تعالى : ( فاذكروني أذكركم)(البقرة/152) ، وفي الحديث القدسي : " فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " .
· ومنها : أنه يورث حياة القلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الذكر للقلب كالماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء .
· ومنها : أنه يورث جلاء القلب من صداه ، ، وصدأ القلب الغفلة والهوى ، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار .
· ومنها : أنه يحط الخطايا ويذهبها ، فإنه من أعظم الحسنات والحسنات يذهبن السيئات.
قال ـ صلى الله عليه وسلـم :"من قال في يوم وليلة سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر »(رواه البخاري ومسلم) .
ومنها أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده»(رواه مسلم والترمذي) .
· ومنها : أنه سبب لانشغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل ، فمن عَوَّد لسانه ذكر الله صانه عن الباطل واللغو ، ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله .
· · ومنها : أن العطاء والفضل الذي ترتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "من قال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شـيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب ، وكتبت له مائة حسنة ، ومحيت عنه مائة سيئة ، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه»(رواه البخاري ومسلم) .
ومنها : أن دوام ذكر الرب تعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده ، فإن نسيان الرب سبحانه وتعالى يوجب نسيان نفسه ومصالحها قال تعالى : "ولا تكونوا كالذين نسـوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون»(الحشر/19) . وإذا نسى العبد نفسه أعرض عن مصالحها ونسيها واشتغل عنها فهلكت وفسدت ، كمن له زرع أو بستان أو ماشية أو غير ذلك مما صلاحه وفلاحه بتعاهده والقيام عليه فأهمله ونسيه واشتغل عنه بغيره فإنه يفسد .
· ومنها : أن الذكر شفاء لقسوة القلوب ، قال رجل للحسن : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي ، قال : أذِبْهُ بالذكر ، وقال مكحول : ذكر الله شفاء ، وذكر الناس داء .و ذكر العبد لربه يكون قربه منه ، وعلى قدر غفلته يكون بعده عنه .
· ومنها : أنه يورث ذكر الله عز وجل ، قال تعالى " فاذكروني أذكركم»(البقرة/152) ، وفي الحديث القدسي : " فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في
ملأ ذكرته في ملأ خير منهم " .
ومنها : أنه يورث حياة القلب كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الذكر للقلب كالماء للسمك فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء .
· ومنها : أنه يورث يجلي القلب من صداه ، ، وصدأ القلب الغفلة والهوى ، وجلاؤه الذكر والتوبة والاستغفار .
· ومنها : أنه يحط الخطايا ويذهبها ، فإنه من أعظم الحسنات والحسنات يذهبن السيئات.
قال ـ صلى الله عليه وسـلم : "من قال في يوم وليلة سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ، وإن كانت مثل زبد البحر » (رواه البخاري ومسلم) .
ومنها أنه سبب لنزول الرحمة والسكينة كما قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "وما اجتمع قوم في بيتٍ من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة ، وغشيتهم
الرحمة ، وحفتهم الملائكة ، وذكرهم الله فيمن عنده »(رواه مسلم والترمذي) .
· ومنها : أنه سبب لانشغال اللسان عن الغيبة والنميمة والكذب والفحش والباطل ، فمن عَوَّد لسانه ذكر الله صانه عن الباطل واللغو ، ومن يبس لسانه عن ذكر الله تعالى ترطب بكل باطل ولغو وفحش ولا حول ولا قوة إلا بالله ومنها : أن الذكر يوجب صلاة الله تعالى وملائكته على الذاكر ، ومن صلى الله تعالى عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح ، وفاز كل الفوز ، قال تعالى :"يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا * وسبحوه بكرةً وأصيلاً * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيمـًا»(الأحزاب/41 ـ 43) .
ومنها : أن الله عز وجل يباهي بالذاكرين ملائكته كما في حديث أبي سعيد الخدري قال : خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله تعالى ، قال :الله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : والله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقل عنه حديثـًا مني ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال : "ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر الله تعالى ونحمده على ما هدانا للإسلام ومـنَّ علينا بك ، قال : آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟ قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذاك ، قال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله تبارك وتعالى يباهي بكم الملائكة » (رواه مسلم) .

ومنها : أن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله عز وجل قال تعالى : "وأقم الصلاة لذكري»(طه/14) ، أي لإقامة ذكري ، وقال ابن تيمية في قوله تعالى : "إن الصـلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر »(العنكبوت/45) أن معنى الآية: أن الـصلاة فيها مقصـودان عظيمان وأحدهما أعظم من الآخر ، فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولما فيها من ذكر الله أعظم من نهيها عن الفحشاء والمنكر .

· ومنها : أن الذكر يعطي الذاكرة قوة في قلبه وفي بدنه حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه ، وقد علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنته فاطمة وعليـًا ـ رضي الله عنهما ـ أن يسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثـًا وثلاثين ، ويحمدا ثلاثـًا وثلاثين ، ويكبرا ثلاثـًا وثلاثين لما سألته الخادم وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة فعلمها ذلك ، وقال : "إنه خير لكما من خادم »(رواه البخاري ومسلم) ، فقيل إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه تغنيه عن خادم .
ومنها : أن كثرة الذكر أمان من النفاق ، فإن المنافقين قليلوا الذكر لله عز وجل ، قال الله تعالى في المنافقين : "ولا يذكرون الله إلا قليلاً »(النساء/142) . قال كعب : من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق ، ولهذا والله أعلم ختم الله تعالى سورة المنافقين بقوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون» (المنافقون/9) .
·
ثـالثـا : الصيـــام في الإيمــان : وقوامه الأمانة والعفة والتقوي
الأمانـــة:
الأمانة أم المقاصد الكليةالضرورية:
حدد علماء أصول الدين مقاصد الشريعة الكلية والضرورية في خمس هم حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. وكلها نعم أنعم الله بها علي الانسان وهي أيضا أمانات ائتمنه عليها مما أوجب عليه حفظها .اذا الامانة هي أم المقاصد وكلية الكليات وضرورة الضروريات منها . واذا راجعنا الوصايا العشـر الذي جاء بها النبي موسى : لاتكذب ، الاتقتل ، لاتسرق ، لاتشتهي زوجة جارك....الخ سنجدها كلها أمانات تستدعي الحفظ ونفس الشيء في تعاليم المسيح التي أوردها كتبة الأناجيل وأيضا في التراث الديني للفراعنة المتمثل أساسا في كتاب الموتي ..سنجد أن كل هذه الأديان تتحدث عن أمانات مطلوب من الناس حفظها بل مطلوب في الاسلام ماهو أكثر من حفظها وهو رعايتهاحيث يقول الله في وصف المؤمنين :" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لاايمان لمن لاأمانة له" ويمكن القول قياسا عليه بأنه لاأمانة أيضا لمن لاايمان له فالإيمان والامانة متلازمان يشترط لوجود أحدهما وجود الآخر معه.والأمانة والأمن والإيمان تنتمي الي أصل لغوي واحد.
وأداء الأمانة وعدم خيانتها يقتضي العدل في الحكم وفي التعامل مع الناس والمخلوقات ويقتضي أيضا اعمال التراحم في شتي صوره والاحسان في القول والعمل ولذا فان العدل والتراحم والاحسان تعد أيضا مقاصد كلية وضرورية . بالإضافة الى ما يقتضيه التوحيد من وحدة الإمامة والإمة.

الأمانة التي حملها الإنسان:
قال الله تعالي : " انا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا" (الاحزاب 725).
وقد اختلف المفسرون في تحديد معني الأمانة . فمن قائل إنها العقل أو الدين فيكون قد قصرهما علي الانسان وحده بينما يخبرنا القرآن عن الجن مثلا بما ينبؤ بأن لهم عقول ودين بل نجد في قصة النبي سليمان والهدهد مايمكن الاستنتاج منه بأن للطيور عقولها ودينها ، وأ ن تسبح كل المخلوقات بحمد الله كما أخبرنا فإنه يعني أن كلها علي صراط الدين المستقيم.
 
ومن قال بإنها الاستخلاف في الأرض يمكن الرد عليه أن الاستخلاف تقرر مع بدء خلق الانسان في قوله تعالي : واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." وبذا يكون الاستخلاف مهمة الزامية لايملك الانسـان الخيرة فيها ليقبلها أو يرفضها وبذلك لايكون الاستخلاف هو المقصود بالأمانة هنا.
 
وحسب بنية نص الأية سنجد أن تلك الأمانة لم تعرض علي الانسان مثلما عرضت علي غيره وانما هو طلبها دون أن تعرض عليه  وألزم بها نفسه ظالما نفسه بذلك وجاهلا بتبعتها ومسؤليتها ومكابرا في قدرته علي حملها . ويمكن القول أن الانسان لم يفعل ذلك الا طمعا في مكاسب سيجنيها من حمله هذه الامانة والوفاء بمتطلباتها  فالجهل هنا يحمل معني الاندفاع والنزق وعدم التبصر وهو مايلازم غالبا الطمع في شيء.
 
ولفظ الانسان يطلق علي الفرد كما يطلق علي المجموع وعلي الجنس ويستغرق الأجيال من الجنس الانساني منذ ظهوره علي الأرض الي يوم أخر أجياله عليها. ويعني  النص في هذه الحالة أن الانسان، فردا كان أوجماعة، لم يقم  بالزام نفسه وحده بالأمانة وانما ألزم بها ذريته أيضا وهي مازالت في ظهور أبائها . تماما مثلما قال اليهود وهم يحرضون الحاكم الروماني علي قتل المسيح : اقتله ودمه علينا وعلي أولادنا من بعدنا. وهنا يتجلي معني ظلوماجهولا علي نحو آخر فقد يكون من طلب تحميله الأمانة لم يظلم نفسه بها لآنه كان قادرا علي الوفاء بمتطلباتها ومسؤلياتها ولم يكن جهولا بطلبه اياها طالما كل ماسيترتب عليها في استطاعته القيام به ، ولكنه كان ظلوما لأنه حملها من سيأتي من بعده وهو لايدري اذا ماكان له قدرته وجلده علي تحملها وأنه سيقبل بها ويفي بالتزاماتها وجهولا لأنه اعتبر أن طاعة خلفه لها مضمونة ومؤكدة وهذا مايعد بمثابة جهالة وغرور ومكابرة منه.ولو أنه يستقاد من الأية ضمنا مسؤلية السلف عنه تصرفات الخلف أيضا . أي مسؤولية الآباء عن حسن تعليم وتربية أولادهم حتي يؤدون أمانتهم علي أحسن وجه ومسئولية الحاكم أيضا لآن الحاكم ولي من لاولي له ومسؤول عنه . ويتضح هنا أن الأمانة مسؤولية ويترتب عليها مسؤوليات ممتدة في الزمان والمكان ومن ثم جاء قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
وقيل الأمانة هي الروح ولكننا نجد أن لكل ذي حرة رطبة روح.وبذلك يشترك الانسان فيها مع كل الحيوانات وجميع الكائنات الحية اذ اعتبرنا أن نسمة الحياة هي الروح فان كل خلية حية في النباتات أو الحيوانات تكون ذات روح بل ذرات الجماد أثبت العلم الحديث بأنها تمتلئ بالحركة بداخلها وليست جامدة أو ساكنة كما تبدو لآعيننا. واذا افترضنا أن الانسان هو وحده الذي نفخ الله فيه من روحه بينما باقي الكائنات الحية دبت فيها الحياة بكلمة : كن فيكون ، فان منح الله الانسان روحه كان مع بدء الخلق وبذلك لايكون قد عرضت عليه الامانة أو يكون في وضعية القبول لحملها أو الامتناع عنه . اذا لايمكن أن تكون الروح هي المقصودة بالأمانة في الآية الكريمة.
ويطلق أيضـا علي الوديعة والعارية لفظ الأمانة .وفي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).وربما اعتبرت الروح أمانة بمعني أنها وديعة أو عارية مستردة بالموت.ولكن يظل هذا المعني ثانويا أو عرضيا للآمانة وليس المعني الاصلي والجوهري المقصود.اذ أنه في حالة التعويل عليه سنظل في حاجة الي اكتشاف الوديعة أو العارية التي أؤتمن عليها الانسان دون غيره أو طلب أن تعلق ذمته بها الي أن يؤديها أو يردها أو يحافظ عليها دون تفريط فيها.ونكون بذلك فد عدنا الى نقطة البدء.
وتعني الآمانة في لغة القرآن حق الغير وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعاليفي سورة النساء:”إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأمانـاتِ إلى أهلها وإذا حَكمتم بين النَّاس أن تحكُموا بالعدلِ إنَّ الله نِعِمَّا يَعظُكُم به إنَّ الله كان سَميعاً بَصيراً(58)} فالآمانات هنا هي حقوق الغير سواء حقوق رتبها لهم الشرع  أو ودائع لهم أو ماشابه ذلك.ويمكن أن نستنتج من هذا المعني أن الآمانة التي نبحث عنها هي حق من حقوق الله علي الانسان عليه أن يؤديه له.  ويعزز ذلك قوله صلي الله عليه وسلم:" فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أن: «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له».

وقد قال بعض الفقهاء أيضا أن الأمانة هي التكاليف من أوامر ونواه وحلال وحرام ومنهم فخر الدين الرازي والذي عرف التكليف بانه الأمر بخلاف ما فى الطبيعة، و أن هذا النوع من التكاليف ليس فى السماوات ولا فى الأرض لأن الأرض والجبال والسماء كلها على ما خلقت عليه، الجبل لا يطلب منه السير فى والأرض لا يطلب منها الصعود، ولا السماء الهبوط، ولا فى الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء، لكن ذلك لهم كالأكل والشرب فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه. وهكذا يفرق الفخر الرازى بين الإنسان وغيره من المخلوقات بالتكليف حيث يجعل التكليف خاص بالإنسان وأن كل المخلوقات غير الإنسان أمر الله لها موافق لماهيتها وطبيعتها. الا أنني ألاحظ أن الامانة لابد  أن تكون شيئا ثابتا أبد الدهر لايتغير ولايتحول بينما التكاليف لم تكن ثابتة في الأديان وانما عرضة للتغيير . صحيح أنه في كل دين كانت الصلاة والصيام والزكاةحاضرة ولكنها تختلف في أشكالها ومواقيتها ولم يكن ثابتا سوى القيم الدينية والاخلاقية ولحق التغيير أيضا بعض الحلال والحرام لرفع العنت أو تغيير الظروف التي اقتضت كل منهما. ومن ناحية أخرى ماكانت السماوات والأرض والجبال لتخرج عن طاعة الله، وانما كلها تعمل وفق أومامره ومشيئته ، ووفق الوظائف التي خصصت لها . وكل ماخلقه الله يسبح بحمده وإن لم نفقه تسبيحه أو ندركه. والملائكة لاتعصي لله أمرا وماخلق الله الجن والانس الا ليعبدوه ، ولذا يمكن القول إن الإنسان وحده لايختص بالتكاليف وإن اختلفت نوعياتها عما كلف الله به غيره.
وقال الزمخشرى بأن المراد بالأمانةهو الطاعة وأنه يراد بها الطاعة لأن الطاعة لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز، وأما حمل الأمانة، فمن قولك فلان حامل الأمانة أو محتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته وتخرج عن عهدته. وهو هنا يلجأ للتفسير بالمجاز بعد أن أعياه فهم ظاهر اللفظ ولكنه لايوضح كيف يكون عرضها ولو علي سبيل المجاز علي من لم يخرج عن طاعة الله قط.
 أما الفيروزبادى فقال:" فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان"، أى أبين أن يخنها وخانها الإنسان قال والإنسان هنا هو الكافر والمنافق ففسر حمل بمعني خان وبالتالي فان الامتناع انصب علي خيانة الامانة وليس قبولها بينما نلاحظ أن لفظ الانسان  جاء في الاية عاما ولو أريد به التخصيص بالكافر أو المنافق لجاء ذلك واضحا.
 ولعل أفضل ماقرأت في هذا الشأن: " أن معرفة الخاصية التى يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات هى التى تقودنا إلى معرفة الأمانة التى انفرد وحده بقبولها ومعرفة الأمانة تقودنا بدورها إلى معرفة أهم حقائق الوجود الإنسانى.
إذاً ما هى ميزة الإنسان التى لا يشاركه فيها غيره من المخلوقا ت ليكون هو الخليفة فى الأرض؟
إجابة هذا السؤال تعرفنا ماهية الأمانة التى تميز بها الإنسان،ويمكننا أن نمسك بأول خيط فى تعريف الأمانة بمعرفة المعروض عليهم هذه الأمانة، من أبى أن يحملها، ومن حملوها، أما من أبي حملها أولهم تلك السماوات الرحبة المرفوعة بغير عمد ترونها، الأشد خلقا من الإنسان أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا "النازعات27" .وثانيهما   الأرض التى تحمل الإنسان وصلب الصخور وشاهق الجبال والمبانى والمـساكن، والبحار والمحيطات وما فيها جميعا." أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى وَجَعَلَ بَينَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً أَإِلَـهٌ مَّـعَ اللَّـهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يعْلَمُـونَ »(النمل61) وعرضت على الجبال التى تأخذ الأبصـار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: “وَمِـنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيـضٌ وَحُمْـرٌ مُّخْـتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "(فاطر27)
لم تكن جمادية هذه المخلوقات هى مناط العبرة فى العجز عن حمل الأمانة، كما ذهب متأولون.
ولكن العبرة ومناطها فى ضخامة أجرامها وطاقتها على الحمل والتحمل: .
كل هذه القدرات على الحمل لم تسعف هذه المخلوقات على أن تحمل الأمانة المعروضة، قدرتها على الحمل قائمة وغير منكورة، ومع ذلك أبت كلها أن تحمل الأمانة، بل وأشفقت من حملها فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا  وبقيت كما خلقت، وكما ارتضت لنفسها، بقيت مخلوقات مسخرة  وعرضت على الجبال التى تأخذ الأبصار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "فاطر27"

هنا تبدو أول وأهم ملامح الأمانة التى رفضـت تلك المخلوقات المسخرة أن تحملها، إنها مخلوقات أرادت بإشفاقها من حمل الأمانة ألا تخرج من طبيعة تكوينها التسخيرى، أى أنها رفضت إلا أن تكون مُسخرة، رفضت أن تكون حرة تفعل ما تشاء، وتحاسب على ذلك بأعدل الجزاء.
رأت نجاتها فى تسخيرها، فأشفقت من الأمانة أن تحملها، رأت نجاتها فى ألا تكون حرة الإرادة، فأبت أن تحمل ما عرض عليها، أبت تلك الحرية التى تضعها فى محنة الابتلاء، أبت مسؤولية الاختيار، لأنها عرفت أنها داخلة فى اختبار وابتلاء أن يكون لها حرية الفعل، ويكون عليها جزاء العمل. فرغبت عن الاختبار، ورغبت فى أن تكون مُسيرة، وذلك أفضل لها ألا تفى بحق المسؤولية، وذلك أفضل لها ألا تقوم بواجبات الإرادة الحرة فأشفقت منها، وأبت أن تحملها، قبلت التسخيرورفضت الحرية.
هى الحرية التى أشفقت منها تلك المخلوقات الكبيرة، هى الحرية التى أبت السماوات والأرض والجبال وما كان مثلها من مخلوقات أن تحملها، وحملها الإنسان، وهو من هو فى ضآلة جرمه ومحدودية طاقته، حمل الأمانة، فكان أن سخر الله له ما فى السماوات وما فى الأرض، تكريما له على قبوله الأمانة، وإعدادا له لخلافة الله فى الأرض.
وأصبح الإنسان مسئولا عن عمله، يحاسب عليه ثوابا وعقابا، ولا يحمل أحد عنه تبعة مسعاه، أبى الإنسان التسخير وتحمل تبعية الحرية والاختيار، قبل الإنسان مخاطر الابتلاء وعثرات الجهل، وفتح ربه أمامه أبواب التوبة فيتعثر ويخطئ ويتعلم من تجربته ويهتدى إلى سواء السبيل، حمل الإنسان الأمانة، فحمل جوهر إنسانيته: الحرية، لو قبل التسخير كما فعلت السماوات والأرض والجبال وكل من قبل التسخير، لو أنه فعل مثل ما فعلوا، لأعفاه ذلك من المسؤولية والحساب.

فالحرية تقابلها المسؤولية.، والتسخير يقابله الإعفاء من أية مسؤولية، الحرية يقابلها التكليف، والتسخير يقابله الامتثال، الحرية يقابلها الابتلاء، التسخير تقابله الطاعة، حمل الإنسان الأمانة، فحمل إنسانيته، وحمل حريته، حمل مسؤوليته، حمل ابتلاءه، وحمل تكاليفه، وما فتئ أن عصى ربه وغوى، وندم وتاب، وتاب عليه ربه فهدى، وأهبط إلى ساحة الابتلاء والتكليف حاملا أمانته، حريته معه واستخلف الإنسان فى الأرض، بقدر الله، وبأهليته للمسؤولية وبما تلقيه عليه من تبعات جسام أعفيت منها كل الكائنات الأخرى."

إذن يستخلص من الرأي السابق أن الأمانة هي الحرية التي منحت للانسان دون سواه من المخلوقات التي ظلت مسخرة ولكن ألم تمنح هذه الحرية للانسان من بداية خلقه؟الم يدخل الله آدم وزوجه الجنة ولم يقيد حريتهما الا في شيئ واحد وهو شجرة طلب منهما الايأكلا منها؟ إن الرأي الاخير رغم مايتضمنه من اغراء بالتوقف عنده والاكتفاء به يجب الا نستحيب للاغراء وأن نواصل الاستمرار في البحث لعله يصل بنا الي ماهو أقرب رشدا.
ولقد جاء ذكر الأمانة أيضا في القرآن بصيغة الجمع في قوله تعالي: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لاتخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون " وفي قوله تعالى فى وصف المؤمنين : والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون "وقد  نتوصل الي أن الأمانة التي نبحث عن معناها هي الأم التي تتفرع عنها أمانات كثيرة.
السياق الذي وردت فيه الآية:
مالم نبحث فيه حتي الآن هو السياق الذي وردت فيه الآية ضمن سورة الآحزاب والذي يبدأ  من قوله تعالي : " يسألك الناس عن الساعة قل إن علمها عند الله ، ومايدريك لعل الساعة تكون قريبا" (الاية63) ثم تتوالي الآيات من 64-68 تتحدث عن عذاب أهل السعير الذين عصوا الله ورسوله وأطاعوا ساداتهم وكبرائهم فأضلوهم السبيل ، ثم تتوجه الآيات 69و70 بالنصح للمؤمنين ثم تأتي الآية71 لتبشرهم بالفوز العظيم لمن يطع الله ورسوله وبأن الله جزاء طاعتهم يصلح لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم . بعد ذلك مباشرة تأتي الآية72 التي تتحدث عن الأمانة.وبعدها مباشرة تأتي آخر آية في سورة الأحزاب تقول: " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله علي المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما"
من هذا السياق يمكننا أن نستنتج أن الاية 72 يرتبط معني الأمانة فيها ارتباطا وثيقا بقيام الساعة ومايعقبها من حساب وعقاب وثواب.
وتطلعا لمزيد من الهدى سنبحث عن سياق آخر جاء فيه ذكر الآمانة في سورة " المؤمنون" التي عدد الله فيها صفات المؤمنين من بداية السورة وجاء ضمنها :" والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون" ثم يتم وصف المؤمنين عقب ذلك بأنهم"أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" . ثم يأتي الحديث عن الخلق حتي الآية14 لكي يذكر بعده : "ثم انكم بعدذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون" ثم ينتهي هذا السياق لكي تنتقل السورة منه الي سواه. ويذكرنا هذا بماورد في سورة الملك: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسـن عملا".
تتعزز معلوماتنا الان بأن الأمانة والأمانات ترتبط بالموت والبعث يوم القيامة والحساب والعقاب والثواب وبماهي التزام ومسؤولية وحق علي مؤديها مستحق الأداء لصاحب الحق وأن صاحب الحق هنا هو الله سبحانه وتعالي ودون أن يمنع ذلك من وجود أصحاب حق في الامانة القيام بواجبها نحوهم يكون بمثابة وفاء بحق الله فيها. وأول مايرد علي الخاطر ويتفق مع بنية الاية أن تكون هذه الأمانة أو الأمانات عهد التزم به الانسان وحق عليه الوفاء به ومرتبط أيضا بالايمان حيث يوجد حديث للنبي صلي الله عليه وسلم رواه أحمد وابن حِبَّان عن أنس عن النبي يقول فيه: لاايمان لمن لاأمانة له ولادين لمن لاعهد له". فالأمانة اذن قد تكون عهدا علي الانسان المؤمن يلتزم برعايته والوفاء به لكي يكون جديرا بدخول الجنة خالدا فيها جزاء حفظه وأدائه الأمانه أو يعاقب على عدم وفائه بالعهد بأن يكون من أصحاب السعير .
ويمكن أن يتطور استنتاجنا الآن الي احتمال أن يكون آدم عليه السلام قد قدم عهدا لله سبحانه وتعالي يلزمه ويلزم ذريته من بعده ، هو في نفس الوقت بمثابة أمانة في أعناقهم يلتزمون بالوفاء بها لك يمكن لآدم وزوجه أن يعودا الي الجنة وأن يأخذوا معهم أبناءهم وحفدتهم وذريتهم.بعد أن طردا منها من قبل بعد أن أزلهما الشيطان وعصيا ربهما وقد يكون هذا العهد هو الكلمات التي علمه الله آدم ليتوب عليه.وأن الله سبحانه وتعالي تقبل منهما هذا العهد لكي يكون بامكانهما العودة الي الجنة ومعهما ذريتهما بشرط التزامهما وذريتهما بالعهد.وهو مايتم التحقق منه عبر مسلسل الموت والبعث والحساب . فمن راعي أمانته وعهده دخل الجنة.  وبرحمة من الله كلما نسيت أمة منهم العهد أرسل الله لهم رسولا ليذكرهم وأخذ العهد علي الرسول أيضا والذي يأخذ بدوره العهد علي أتباعه فيما يعرف بالبيعة في الاسلام.ويعزز ذلك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: ياآدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يارب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها".
الأمانة اذن بهذا المعني هي عنوان دال علي عقد معاوضة بين الانسان وخالقه يحدد التزام الطرفينوالجزاءات المترتبة علي الانسان في حالة الاخلال به . ويمكن لنا أن نستنتج أيضا أن ماعرض علي السموات والأرض والجبال كان البعث بعد الموت والخلود من بعده في الجنة أو النار بشروط ذلك التي هي العهد الذي قبل به آدم .وبذلك يتسق التفسير مع بنية النص وجميع مفرداته وسياقه سواء في سورة الأحزاب أو مايماثله في سورة "المؤمنون".
فاذا دمرت الارض ودكت الجبال دكا وانهار نظام الفلك في السماوات فانه لن يتم بعث مايموت من أنظمة كونيةأو كائنات حية أخرى غير الانسان. دون أن يمنع ذلك من احتمال انشاء غيرها مثلما أنشأها الله أول مرة وهو علي كل شيء قدير ، أما الذي سيواجه وحده البعث بعد الموت ومابعد البعث فهو الانسان وحده.
العهد والميثاق:
هنا أيضـا يجب علينا النظر فيما جاء في أية يبدو أن لها علاقة بما نحن بصدده ، يقول فيها المولي عزوجل:"وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِـنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُـمْ وَأَشْهَدَهُـمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ؟ ،قَالُوا بَلَى ، شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّـا عَـنْ هَذَا غَافِلِيـنَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (سورة الأعراف172-174)وقد أثير جدل كثير حول تفسير الآية واعتمد معظم المفسرين علي ثلاية روايات متشابهة منسوبة لعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وأبوهريرة مع إاقرارهم بضعفها. وفحواها أن الله أخرج من ظهر آدم ذريته أو صور ذريتهم وأشهدهم علما بأن الآية تحدثت عن بني آدم وليس عن آدم نفسه وبني آدم يحتمل أن يكونوا أبناء آدم في حياته الذين اشتركوا معه في تقديم العهد أوالميثاق لربهم والذى أضحي أيضا بمثابة أمانة في أعناقهم وأعناق ذريتهم ولكن الارجح من ذلك أن المقصود هم الآنبياء الذين كانوا بمثابة الدر في السـلالة(أذا فرأت دريتهم وليس ذريتهم) وأخذ منهم العهد وهذا هو الاقرب الي ألفاظ الآية والذي تعززه آيات أخرى من كتاب الله وباعتبار أن القرآن يفـسر بعضـه. فقد ورد في نفس سورة الأحزاب-الآية7- قوله تعالي :”وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا»(الأحزاب:7)،.. فالميثاق اذن مأخوذ من آدم والنبيين والذين هم الدرر في سلالته.
يمكن لنا ايضا أن نستنتج من ذكر لفظ الأمانة مفردا في سورة الآحزاب بينما الأمانات في سورة:" المؤمنون" مقترنة بالعهد بصيغة الجمع بأن لفظ أمانات بصيغة الجمع هو تفصيل للعهد والأمانة بمعني أن كل بند في العهد هو أمانة في حد ذاته وبذلك تكون الأمانة في سورة الأحزاب هي جماع الأمانات المشار اليها في "المؤمنون" وبالتالي تكون كلمة تعني جمع الجمع وليست لفظا مفردا.
واذا طبقنا علم النفس سنجد أنه من المنطقي أن يطمع آدم بعد أن تاب عليه ربه العوده الي الجنة هو وزوجه ومعه بنيه وبناته بعد أن أمسى رب عائلة كبيرةوأن يطالب أيضا بالخلود فيها الذي كان تعلقه به سببا في خروجه من الجنة بعد أن أوهمه الشيطان بأن الشجرة التي منعهم الله عن الاقتراب منها هي الشجرة التي تهب من يأكل ثمارها الخلد.
واذا استعنا بالتاريخ والانثروبولوجيا نستطيع أن نفهم اهتمام الفراعنة البالغ بالبعث والحياة بعد الموت اذا ماأخذنا في الاعتبار أن آدم وبنيه استقروا في أدوميا بفلسطين علي حدودها، وأن العماليق من سلالته المباشرة قد حكموها. وأمكننا فهم أيضا تقديس الأسلاف عند القبائل الأفريقية المؤسس علي أن أرواحهم تراقب تصرفاتهم في الدنيا والتزامهم بالسلوك القويم واعتبار هذه المظاهر انعكاسات أو تداعيات أوبقايا ثقافات وعقائد قديمة متصلة بما كان عليه أدم وبنيه وجاء به الأنبياءوالمرسلون من بعده.
لقد جاء الخلط أو الخطأ في التفسير للآية:" واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم..." من فهمهم لعبارة "من ظهورهم " وكان الأولي بهم فهمها علي أساس أنها تعني منذ ظهورهم علي وجه الأرض فذاك الفهم المقبول في لغة العرب ييسرعليهم ادراك المعني ولايجعلهم يحولون مايمكن ادراكه بالعقل الي عمل غيبي أقرب الي الخرافة منه الي الغيب ويدعمونه بأحاديث ضعيفة أو موضوعة ويقولون هذا مافسرت به السنة.
الخلاصة :
الأهم من اثبات ما أثبته هو مايمكن استخلاصه منه .وهو جرد الأمانات مع كثرتها ومعرفة مدي التزامنا برعاية كل منها. اذ أن محاسبة النفس بالنقد الذاتي اليوم هو الذي ينجيها عند حساب الله لها غدا وقبل أن يفوت الأوان ويتعذر الاستدراك. وعلي سبيل المثال فان الابوين لايتحملان المسؤولية عن نفسيهما فقط وانما أيضا عن أبنائهم وبناتهم ونسلهم وكلهم أمانة يسألون عنها وأنه اذا كانت "كل نفس بما كسبت رهينة "فان الوفاء بالأمانة أو خيانتها,حيث اعتبر القرآن الاخلال بها خيانة، يدخل في اطار ماكسبت النفس من خير أو اكتسبت من سوء . وأداء ورعاية الأمانة هو فرض عين علي كل فرد وليس فرض كفاية يغنيه عنه أداء غيره له.وهو أيضا فرض جماعي علي المجتمع الإنساني عامة والمسلم خاصة لايمكن للمجتمع ان يتحلل من مسؤوليته عن ذلك. ولذا فإن أداء الآمانة ورعايتها يمتد داخل الدين الي مجالات السياسة والاجتماع والاقتـصاد والثقافة والاعلام والبيئة والتعليم ... أي جميع مجالات الحياة. ويتحمل الحاكم والمحكوم معا مسؤولية الأمانة واشاعتها في المجتمع لتكون اطارا حاكما لحركته وثقافته وعاداته وتقاليده ويحاسب الحاكم والمحكوم عليها في الارض مثلما يحاسبون عليه في السماء طالما أن التفريط في الأمانة هو في دين الأمة خيانة.ولذا جاء الآمر"وأدوا الأمانات الي أهلها" أمرا عاما يتم بمقتضاه اعطاء كل ذي حق حقه كاملا غير منقوص وبمايرضي الله ويتفق مع العدل وشرعية الأمانة.
فالعالم يجب أن يعلم الناس مماعلمه الله والا يكون قد خان الآمانة والميسور الحال يجب أن ينفق في سبيل الله من المال الذي استخلفه اله عليه والا يكون قد خان الأمانة والقاضي عليه أن يحكم بما أمر الله به من عدل والايكون قد خان الأمانة....الخ. وتتعدد السلوكيات التي تتطلبها الآمانة بما لايتسع المجال هنا لحصرها. وحديث الرسول : "لاايمان لمن لاأمانة له " يجعل وجود الامانة معيارا للتفرقة بين الايمان والكفر . اذ لايمكن أن يحسب الحاكم الذي فرط في مصالح الشعب أو اختلس المال الذي أوتمن عليه أوتنازل عن حقوق الشعب للآجانب مقبل عرض من أعراض الدنيا وكذلك القاضي المرتشي الذي حكم ظلما بعلم منه وعمد ..لايمكن حسبان هذا أو ذاك من المؤمنين.
ولأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فيما روي عنه :" لايزال الخير في أمتي الي يوم القيام’" فسنجد هنا وهناك قلة من الناس هم الذين لآماناتهم راعون أما الأكثرية حكاما ومحكومين فقد نعثر علي بقايا الأمانة عالقة في نعالهم من كثرة ماداسوا عليها بها..وكان الله للخائنين خصيما وبهم عليما.


ما يلحق بالأمانة ويتفرع منها مثل :الحياء والعفة والتقوى
العفة من أنبل السجايا، وأرفع الشيم والصفات ، لما تدل عليه من رسوخ الإيمان، وشرف النفس ، وحفظها للآمانة، واعتزازها بالكرامة، و هي حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة عليها ، إذا ما كانت الشهوة ستقودها إلى ما لا يرضي الله عنه ،أو ما لا ترضاه الذات لنفسها.وبالتالي يمكن تعريف العفة بأنها هي كف النفس عن الحرام وعن ما لا يجمل بالإنسان فعله،والرضا بالحلال وإن قل و الاستغناء عن الحرام قليله وكثيره وتجنب الشبهات ، وتشمل :عفة النفس و عفة الجوارح و الحواس و عفة البطن وعفة الفرج أو بمعني أخر مقاومة الشهوات والإغراءات ما لم تكن حلالا ومتفقة مع الأخلاق والعرف .
ويروى عن علي بن أبي طالب ، كرم الله وجهه قوله عن العفة : " العفة رأس كل خير ". وقوله:" العفاف يصون النفس وينزها عن الدنايا " . وقوله : "من عف خف وزره وعظم عند الله قدره ".
ويقول الشيخ سلمان بن يحيى المالكي: » العفة خلق إيماني رفيع ، العفة صبر وجهاد واحتساب ، العفة قوة وتحمل وإرادة ، العفة صون للأسرة المسلمة من الأهواء والانحرافات والشذوذ ، العفة دعوة إلى البعد عن سفاسف الأمور وخدش المروءة والحياء ، العفة لذة وانتصار على النفس والشهوات وتقوية لها على التمسك بالأفعال الجميلة والآداب النفسانية ، العفة إقامة العفاف والنزاهة والطهارة في النفوس ، وغرس الفضائل والمحاسن في المجتمعات ، حقا .. إنها عفة الإسلام ، التي تضبط سلوكيات الآدميين عن الانحراف إلى مهاوي الرذيلة والانحطاط ، وتحفظ إراداتهم وشهواتهم عن الانخراط في الزلل وعدم الانضباط ».

ومن العوامل المتحكمة في العفة والمحفزة عليها ما يلي :
1- الإيمان .
2- التقوى .
3- الوعي بالحلال والحرام وما يليق بالمؤمن وما لايليق به.
4- الحياء الفطري .
5- الوعي بمطلب العفة والمعرفة الصحيحة بالحلال والحرام.
6- التشبع بالأخلاق الفاضلة والتربية الحسنة.
7- الضمير والوازع الداخلي .
8- التعقل والتفكير بالعاقبة .
9- عزة النفس وحفظ ماء الوجه والكرامة.
10- الغيرة والحمية على الأعراض .

وأكثر ما تكون فيه العفة ، أو الحالة التي يكثر فيها الحديث عن العفة ، هي حالة البعد عن الزنا واشتهاء ما بيد الناس أو ماهو محرم وسؤال الناس عونا ، حيث يرى العفيف في السـؤال مذلة ، ولأن الحياء والعقة من الإيمان ، والعزة هي أكثر ما يعتز به ويحرص عليه المؤمن ، فإن سؤاله غير الله يعد مذلة ومناقض بالتالي لإيمانه وفيه أيضا شبهة شرك بالله.. وتسبق العفة وتلازمها خصلة أخرى هي الحياء.فالمرء قد يترك ما يشتهيه أو يعض الطرف عنه حياء من الله أو بسبب أن الحياء من طبعه. ولم أر في حياتي رجلا حييا أو إمرأة حييه ألا وكان لدي كل منهما قدر كبير من العفة والتقوى والمروءة.

وبشأن الكف عن محارم الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة لا ترى أعينهم النار : عين حرست في سبيل الله ، وعين بكت من خشية الله ، وعين كفت عن محارم الله " .
وتطلب العفة من غير المتزوجين للامتناع عن الزنا والاستجابة لشهوة الشبق في غير ما أحلها الله فيه بالزواج، كما تطلب أيضـا من المتزوجين وتعد عدم عفتهم خيانة وانتهاك لحرمات الله وحدوده ، وتعد العفة أيضـا من الأمانة .

والحياء يقود إلى التعفف والذي هو الامتناع عن كل ما يشين المرء ويخالف الدين والأخلاق الفاضلة والعرف والتقاليد الإجتماعية والعادات المرعية .
وعفة النفس هو السمو بها عن الدنايا ,هو تنزيهها عن كل ما يشينها مما هو محرم عليها شرعا أو مكروها لها خلقا ومسلكا ، أو يعد منقصا في الدين أو مدموما في أغراف المجتمع ، والحياء هو عدم الإقدام على ما يستوحب العفة البعد عنه ، وللجوارح أيضا ضمن عفة النفس ما يجب أن تستحي منه وتعف عنه.ومن ذلك :
عفة القلب : بتطهيره من الحقد والكراهية والغل والسوء والحسدوالرياء والنفاق.
عفة العين : وذلك بعض الطرف عن كل ما هو محرم ، وعدم النظر لما متع الله به أحدا قطعا للطريق على اشتهائه في غير ما أحله الله ، والطمع فيه .لما في ذلك من صيانة الأعراض عن الحرام والرذيلة ، وفي ذلك طاعة لآمر الله ،وغض الابصار وحفط الفروج مطالب به المؤمنين والمؤمنات معا يقال تعالي بالنسبة للمؤمنين : " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم " . وبالنسبة للمؤمنات : " قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن "
عفة اللسـان : وهو امتناع عن الكذب والخداع والعش وفحش القول والغيبة والنميمة وكفه عن الخوض فيما لايرضي الناس عنه أو في المساس بأعراض الناس..وألا يسبب للناس حياء ولا حرجا ولا خوفا ولا غضبا.ويمتنع عن ظلم الناس.
عفة اليد : وهو امتناع أكل أموال الناس بالباطل بما في ذلك العش في البيع والتطفيف في الكيل والميزان وعن السـرقة والغل والغصـب والنهب والرشوةوالتزوير ومد اليد لما هو محرم مثل الخمرولحم الخنزيروالمخدرات باستعمال أو بيع أو شراء أو نقل أو ترويج لها ، وكذلك الامتناع عن التعامل بالربا آن الله يمحق الربا ويربي الصدقات وأحل الله البيع وحرم الربا.،وعدم المشاركة في الميسـر والأزلام . وأكل مال اليتيم وأكل مال يعتبر شرعا في عداد السحت .والامتناع عن ايذاء الناس بها.
وعفة القدم : هي ألا تمشي في طريق لايرضي الله عنه أو تدهب إلى محفل يساء فيه إلى الله ورسوله ، أو تقعد مع الخائضين في ذلك حتي يخوضوا في حديث غيرة.
عقة البطن : وهو عدم مشاركة الناس في طعام لم يدع إليه ولا حق له فيه . بل يحمد إن دعي اليه فامتنع وهو جائع ويشتهي ما لديهم من طعام ، لأنه بذلك يتغلب على شهوة البطن ويدربها على الصبر مثل حالة الصائم.
وعفة الفرج : بألا يستعمله في غير ما أحله الله وينأى به عما حرمه الله .وقد وصف الله المؤمنين بأنهم “ لفروجهم حافظون ، الإ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، فإنهم غيرملومين”.وروي عن رسول الله قوله : " من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة " [ رواه أحمد ] .
وخير ما يحفظ عفة الفرج هو الإحصـان بالزواج ، فإن لم يكن الزواج متاحا فإن الصـوم يكسـر الشهوة ويعين على الصبر على عدم تلبية رغبتها وإرواء عطشها إلى أن ييسر الله الزواج من فضله وفي هذا يقول رسول الله : " يا معشـر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ؛ فإنه له وجاء " . ويقول الله سبحانه وتعالي :“ وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله “ .
وضرب الله لنا مثلا بعفة النبي يوسف فقال : " وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " .
وتعد العقة من المروءة أيضا وفي ذلك تروى أم سلمة عن قصة هجرتها من مكة إلى المدينة فتقول: «" لمّا فرق قومي بيني وبين ابني ، وهاجر زوجي إلى المدينة ، مكثت أيامًا أبكي أخرج إلى خارج داري ثم أعود إليه , فقام رجل من بني المغيرة رآني على حالي فرق لي , وقام إلى قومي وقال : ألا تخرجوا هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها وابنها . قالت : فتركوني أهاجر إلى المدينة وأعطتني بنو أسد ـ قوم زوجها ـ ابني , فأخذت ابني فوضعته على حجري وركبت بعيري وسرت وليس معي أحد إلا الله , حتى إذا أتيت إلى التنعيم - موضع قريب من مكة تجاه المدينة - لقيني عثمان بن أبي طلحة أخا بني عبد الدار , فقال : إلى أين يا ابنة أبي أمية ؟ فقلت : أريد المدينة , فقال : أو ما معك أحد ؟ فقلت : لا , قال : مالك من مترك ؟ ( أي كيف أتركك تسافرين وحدك ) فأخذ بخطام بعيرها فسار معها، قالت أم سلمة : فما رأيت قط رجل أكرم في العرب من عثمان بن طلحة , كان إذا جئت إلى مستراح أوقف بعيري وتأخر عني فإذا نزلت عن بعيري أخذ ببعيري وتأخر بالبعير فربطه في الشجرة واضطجع تحت الشجرة , فإذا حان موعد الرحيل جاءني بالبعير فترك البعير وتأخر عنّي , فإذا ركبت البعير جاء وأخذ البعير وسار بي على ذلك أيامًا متتالية حتى قرب من المدينة فرأى قرية عمرو بن أبي عوف فقال : يا ابنة أبي أمية , زوجك في هذه القرية , فقالت : فدخلت القرية فوجدت أبا سلمة , قالت أم سلمة - تحفظ الجميل لهذا الرجل : فما رأيت رجلاً أكرم من عثمان بن طلحة قط في العرب "

ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديثا كثيرةعن العفة والعفاف نذكر منها:
- "أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : حفظ أمانة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة في طُعمة " ( رواه أحمد).
- "اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى "(رواه مسلم )
- " بروا آباكم تبركم أبناؤكم وعفوا تعف نساؤكم " (رواه الطبراني بإسنادٍ حسن ) .
- " ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف " (رواه الترمذي )
- " عرض عليّ أول ثلاثة يدخلون الجنة : شهيد وعفيف متعفف وعبد أحسن عبادة الله ونصح لموالية " ( رواه الترمذي ) .
- " من أنفق على نفسه نفقة يستعف بها فهي صدقة ، ومن أنفق على امرأته وولده وأهل بيته فهي صدقة" (رواه بن ماجة).
-" قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " .(رواه مسلم )

وإذ تعد العفة حفظا للآمانات فإن من لا يعف يخون ، والخوان من أهل النار.وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: أهل الجنة ثلاثة وذكر منهم: "وعفيف متعفف ذو عيال،" و”أهل النار خمسة. وذكر منهم: "والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه "(رواه مسلم)
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أكثر ما تلج به أمتي النار، الأجوفان البطن والفرج" (الكافي)

ويبدأ الحياء كحالة تردد بين هوى النفس وما تشتهيه وما تقتضيه الأمانة والتقوى بما يشبه صراع داخلي بينهما يسبب إرباكا لصاحبه . وتظهر دلائل ذلك الارباك على صاحبه باحمرار الوجه والتعرق وارتعاش اليدين وجفاف اللاريق وإغضاء الطرف قتتجنب نظراته ما يشتهيه أو يسبب له الحرج والارتباك ، وينتهي الأمر غالبا إما بغلبة النفس وما تشتهيه على الحياء فيضيع وتضيع معه العفة ، أو ينتصر الإيمان وتنتهي المعركة الداخلية لصالح التقوى ، ويتم الحفاظ على صفاء النفس وراحة الضمير . وفي الحالة الأخيرة يكون ثمة انتقال من طور النفس اللوامة التي يعبر عنها الحياء إلى طور النفس الطيبة التي تعبر عنها العفة والتقوى.وفي العفة تحرر من عبودية الشهوات .

وتفتضي العفة إلا يتطلع المؤمن لما متع الله به غيره من نعم وخيرات وليس له حق فيها ، وفي ذلك يقول الله عز وجل للرسول صلى الله عليه وسلم في سورة طه:" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى" . وفي قوله تعالى: ولا تمدن عينيك أمر بالعفة، ونهي عن مجانبة سبيلها.وزهرة الحياة الدنيا ما يطمع فيه الناس مثل :(مال، سلطان، حدائق وبساتين، خيل مسومة وأنعام، قصور ومساكن طيبة، زوجات حسان، جاه عريض، قوة وجمال، أولاد وذرية)، ولا يأسي على ماحرم منه في الدنيا لأن ما عند الله هو خير وأبقى. وألا يأخذ ما لاحق له فيه ولو قل ,
وبلغ من التزام النبي وآل بيته العفة مارواه البخاري من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ، ثم أرفعها لآكلها ثم أخشى أن تكون من صدقة فألقيها " وروي أبضا :« مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة في الطريق فقال : « لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها” . وأخذ الحسن بن علي رضي الله عنهما وهو طفل تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كخ كخ ، ارم بها ، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة " ,

رابعـا: الزكاة في الإيمــــــان: وقوامها تزكيةو نقاء النفس وصفاؤها

التزكية في اللغة مصدر زكى الشيء يزكيه، ولها معنيان:المعنى الأول: التطهير، يقال زكيت هذا الثوب أي طهرته، ومنه الزكاء أي الطهارة. والمعنى الثاني: هو الزيادة، يقال زكى المال يزكوا إذا نمى ومنه الزكاة لأنها تزكية للمال وزيادة له.و الزكاة المفروضة في أصلها تطهيرا للنفس من أدران البخل والشـح ، وتعويداً للنفس على السخاء و الجود وقضاء حوائج الناس والشعور بأزماتهم، ولهذا قال الله عز وجل : « خُذْ مِـنْ أَمْوَالِـهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُـمْ وَتُزَكِّيـهِمْ بِهَا” (التوبة: من الآية103) وهي بهذا المعنى ليست ضريبة تؤخذ من الناس على كره منهم بل هي غرس لمشاعر الحنان والرحمة والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين أبناء المجتمع.
وعلى أساس المعنى اللغوي جاء المعنى الاصطلاحي لتزكية النفوس، وكما أن زكاة المال هي تطهيره وتنميته ، فإن تزكية النفس أيضا تعني : تطهيرها من الأدران والمفاسد،و من كل رجس ودنس.و تنميتها بالفيم اخلاقية والصفات الحميذة والفضائل والعمل الصالح ومختلف العبادات.وتزكية النفس عند الغزالي هي كمال النفس الإنسانية بقمع أهوائها وإطلاق خصائصها العليا.

قال تعالي : " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها * ، قد أفلح من زكاها* وقد خاب من دساها"(الشمس:7-10). ولا يطهر المؤمن بسبب اغتسال جسده وإنما بسبب نظافة قلبه من كل شرك وامتلائه بتمام التوحيد ، وتزكية نفسـه بالذكر والقرآن الحكيم والعلم والمعرفة واتباع هذي الله ورسوله. قال تعالي:" لَقَدْ مَـنَّ اللَّـهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ". ولذا قال تعاالي :"إنما المشركون نجس" (التوبة: 28)لفساد نفوسهم وتعفنها. وقال تعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِـمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ" (الجمعة:2).وتكون تزكية النفس هنا إعداد لها لتعلم ما في الكتاب وتحصيل المعرفة والعلم لكي لا تستخدمهما الا فيما يرضي الله.
قال تعالى: "ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدًا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم" (النور: 21). وهنا تزكية النفس ولو أنها تتم عن طريق مجاهدتها من قبل صاحبها إلا أنها عندما تتزكي تكون تزكيةها من نعم الله على صاحبها وبفضـل منه ، لأن سبيل التزكية هو ذكر الله ، ولذا- أثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم قوله:"اللهم آت نفسـي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها". ومن مطاهر تزكية النفس عفتها وعزتها :فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِـيِّ صـلى الله عليه وسلم قَال” لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ “ وقال تعالى :« إن العزة لله ولرسوله والمؤمنون.»


ويحتاج فوله سبحانه وتعالي : " ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دسـاها..."إلى وقوف منا عليها لتدبر معانيها .
هذه الآيات الكريمة تكشف عن نوعية الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها ، ويتضح منها وجود فطرتين : فطرة فجور وفطرة تقوى. أو فطرة مقسومة على فطرتين. وفطرة الفجور تسبق في الترتيب فطرة التقوى ، بما قد يكون له دلالة على أنها الأقوى في النفس ما لم يتم تقوية التقوى لكي تحد من قوتها وتتغلب عليها. وفي كل غريزة من الغرائز الفطرية ، سنجدها إن تركت على حالها الفطرية دون أن تستطيع التقوى كبحها فإنها تنطلق فيما يعد فجورا لا يمنعها مانع. مثال ذلك غريزة الشبق أو التناسل ,كذا غريرة حب التملك، إن لم تتمسك النفس فيهما بالعفة والأمانة لغوت بسببهما غيا. وكذلك ما دونهما قوة من الغرائز.

وتتغلب التقوى على الفجور بقدر ما تتزكي النفس . ولذا فإن للتقوى مراتب في سلمها . أذناها في أسفل درجات السلم هي النفس الأمارة بالسوء التي غلب الفجور التقوى في فطريتها ، وفي منتصف السلم توجد النفس اللوامة التي يتساوى في فطريتها الفجور والتقوى. وفي أعلى السلم توجد النفس الطيبة. ولكل نفس منها فطريتها.

ومهما بلغت النفس من التقوى، يظل بها شوائب من الفجور ، حيث لا عصمة لبشر غير الأنبياء والمرسلين ، ولو كان من الصحابة المكرمين ، أو المبشر منهم بالجنة، أو ممن يعتبرون من أولياء الله الصالحين. دون أن تمنع شوائب الفجور تلك النفس الطيبة من دخول الجنة والدخول في رحمة الله .

ولا يحجب سلبيات الفطرية لدى النفس الطيبة وسلبيات الفطرية لدى النفوس ادني منها ، ويمنع ضررها سوى العمل في مجتمع منظم ، تكون معه وتحت مراقبته ، يعينها وتعينه على الحق ، ويمنعها عن الباطل ، حيث يتم فيه التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وإذ تتفاوت حظوظ النفس من الفطرية الطيبة ، باختلاف مراتب التقوى لدى أفراد المجتمع ، وحيث لا فردانية في الإسلام ، فإن كل أصحاب هذه الفطريات يكونون أمة واحدة تعبد جميعها الله معا : " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون". وهي أمة استخلفها الله في الأرض ، وهو استخلاف يتطلب العمل الجماعي منها لكي تتحقق نتائجه المرجوة منه ، التي تحقق مقاصد الاستخلاف ومصالح المنخرطين فيه ،. وهذا العمل الجماعي يتوقف قيامه على تنظيم الأمة المشاركة فيه . والأمة لا يمكنها أن تنظم نفسها بنفسها دون منظم ينظمها. والمنظم إن لم يكن دولة شرعية اختارتها الأمة بكامل حريتها لأداء تلك المهمة ، كانت جماعة من المؤمنين المحسنين ، الذين يجمعون بيه الإيمان والعمل الصالح، و يلتزمون بالعدل والإحسان في القول والعمل. وهذه الجماعة الدينية لا بد لها أن تنظم نفسها أولا لكي تتمكن من تنظيم غيرها . حيث فاقد الشيء لا يعطيه.

والعمل المنظم في تنظيم الأمة يمثل كا بحا إضافيا لفجور النفس المنظمة لها ، ويزيد من التقوى في فطريتها ويحول بينها وبين الانحراف إلى الفجورا ، لأن مراقبة الجماعة لها محيطة بها . والجماعة المؤمنة تقدمها لقيادتها أ أو تؤخره عنها ، حسب مدي اتفاقها مع ما قضي به الله ورسوله ، وجاء في كتاب الله وسنة رسوله.

الذي يستوجب التحديد هنا ، ليس الفطرية والتنظيم ، وإنما هو منهج المنظم الحامل لفطرية حسنة أو طيبة في تنظيم الأمة . وضوابط هذا التنظيم وأهدافه ، وعما إذا كان عمله تعبديا يدخل في إطار الإيمان والإحسان أو لا صلة له بهما ,

من البديهي أن منظم وحدة الأمة في غياب الحكومة الواحدة الشرعية لها ، أي المطبقة لشرع الله والملتزمة بأحكامه، والعاملة على تحقق الاستخلاف على خير وجه ، بما يعززقوة الأمة وهيبتها وكرامتها ، فإن منظم الوحدة يجب أن يكون واحدا للآمة الواحدة.التي تعيش في رقعة جغرافية واحدة ومحدودة .فهذه الجماعة الواحدة تقوم مقام الإمام الواحد. وقد تتعدد الأئمة بتعدد الأماكن ولكن لا يجب أن يتعددوا في مكان احد ، قياسا على أنه لو تعددت الإلهة في الأرض لفسدت . وبالتالي فإن الأمة الواجدة تحتاج إلى منظم واحد لها .

ما نشاهده في واقعنا غير ذلك ، إذ تتعدد الجماعات الدينية وكلها ذات مرجعية واحدة ، وهي كتاب الله وسنة رسوله والمفترض أن تلك المرجعية توحد ولا تفرق ، وحيث لا يوجد خلاف بين تلك الجماعات على المرجعية . ولكن يرجع الاختلاف إلى اختلاف السياسات ، حيث فررت كل جماعة أن تنتهج سياسة تخالف ما استقر عليه رأي الأخرى. والخلاف الذي فرق تلك الجمعيات لم يكن إذن حول الفطرية والتنظيم . وإنما ا بين الفطريةالطيبة التي يفترض بوجودها نسبيا عند جميع التنظيمات وبين تعدد تلك التنظيمات ، والتي كانت الفطرية تستوجب منها أن تتوحد . أو أن الخلاف بينها يدور أصلا حول دخول هذه التنظيمات إلى السياسة وهي بطبيعتها مجال تختلف فيه الرؤى ووجهات النظر، ويعمه تدافع وصراعات وطموحات شخصية ونفعية من شأنها أن تتسبب ، كما هو مشهود ،في منع توحد الجماعات المتمسكة بالفطرية الطيبة أو ذات الفطرية الطيبة المشتركة ، وتتسبب في خلافات وصراعات داخل الجماعة الدينية أو الحزب الديني ، حول مفهوم السياسة وممارستها ومتطلباتها وإكراهاتها ونفعها وضررها , وتختلف كل جماعة أو حرب في تحديد مفهومها للسياسة وهل هي العمل داخل المجتمع لتحسين أحوال دينه ودنياه ، وهو عمل سياسي وإن لم يكن فيه انتخابات وعلاقات مع السلطة ،أو أن السياسة تنحصر في التعامل مع السلطة بتأييدها والانصياع لها أو معارضتها وعصيانها علنا. السياسة إذن واختلاف نظرة طل جماعة لها هي سبب الخلاف والفرقة وتعدد الأجزاب والجماعات ، وليس المرجعية أو الفطرية الطيبة.

والذين يقولون بأن الفطرية تتعارض مع إقامة تنظيمات ، دافعهم إلى ذلك سؤال يترددون في طرحه هو : هل يجب على الجماعات الدينية الإبقاء على سياسة التعامل مع الحكم التي تفرقها ، أم تجتمع على سياسة تنظيم وخدمة الأمة التي يمكن أن توحدها وتزيدها قوة معنوية ومادية في المجتمع وتتفق مع فطريتها وما تتطلبه من أن تكون حركة المؤمن في الأرض كلها ضمن الاستخلاف وبمثابة عبادة؟ .

وقد يكون داعي من قال بأن الفطرية أولي من التنظيم ، رغم أنه وإن دعا إلى هدم التنظيمات سنجده في ثنايا دعواه يقر بأهمية التنظيم في حد ذاته بمعناه المطلق ، هو ما رآه من تعدد جماعات على نفس الفطرية ولكنها تفرقت بسبب اختلافها على السياسة إزاء الحكم من موالاة له أو معارضة ، ومن اقتسام السلطة معه إن أمكن ، أو اعتزاله واعتزالها، وغير ذلك من الأمور السياسية وليست الدينية ،. وقد استسهل القول بأنه طالما تلك التنظيمات تقرق العمل ولا تجمعه ، عكس ما يقتضيه الدين ، فإن حلها جميعها أولي من بقائها. وهو بذلك موقف اليائس والذي لم يسعفه عقله ببديل يريح ضميره.

في مصر طالب الشيخ القرضاوي والأستاذ محمد سليم العوا وآخرون جماعة الإخوان المسلمين أن تهدر السياسة التي لم يصيبها من الاشتغال بها على مدي ثمانين عاما هي عمرها سوى الويلات والمحن والتمزق وتعتزلها ، وأن تقتصر في عملها على العمل الدعوى والاجتماعي بين الناس ، وتدع السلطة وشأنها ، لكي تدعها السلطة في حالها، وقد وجدت دعوة القرضاوي والعوا من يرد عليها من قيادات الجماعة، رافضا لها، ومؤكدا على تمسك الجماعة بالعمل السياسي لأنه يكمل عملها الدعوي.. القضية إذن مثارة والجدل حولها قائم. ولا يجب التحرج من بحثها. بل قد يفضي تواصل النقاش حولها إلى حل وسط أكثر أمنا وجدوى.

السؤال الذي قد يكون الأكثر أهمية هو: ما هو الموقف العملي وليس السياسي النظري من العمل الجماعي لتنظيم المجتمع بغرض انتشاله من الجهالة والفجور والفقر الذي هو أسوء من الكفر ، وأشد ضررا؟ .. فهذا العمل يمكن أن يتم دون حاجة إلى مطالبة الحكومة به ودون تدخل مؤسساتها وأجهزتها أو سن قوانين جديدة. وهو عمل تعبدي ويتفق مع فطرية هذه الجماعات ، خاصة عندما يركز على نشر العلم الذي يسهم في تعزيز التقوى وتزكية النفوس ، وتسهم تطبيقاته العملية في تحقيق مقاصد الشريعة في حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل ، وتحقيق مقاصد العقيدة في الاستخلاف والتكافل والعدل والإحسان ووحدة الأمة وكرامة الإنسان ...الخ. إنها سياسة في خدمة الإيمان والإحسان ، حيث مناط الإيمان هو العلم ومجال عمل الإحسان هو الاستخلاف والعمل في إنتاج الخيرات في الأرض بما ينفع الناس ويسد حاجتهم ويصون كرامتهم.
والعمل في مجالات الإيمان والإحسان لا تحتاج إلى تعامل مع الحكام ، فالحاجة إلى الحكم في الإحسان لا تزيد نسبتها في حقله عن 20 في المائة كما أوضح الأستاذ الريسوني مؤخرا، ويمكن الاكتفاء بالعمل في ال 80 في المائة الأخرى والاستغناء عن تلك ال20 في المائة . في هذه الحالة لن يكون لأية جماعة دينية ما تتعلل به للحيلولة دون توحيد العمل الإيماني والإحساني بينها والذي يتفق مع فطريتها ، وأن تحتفظ بآرائها السياسية إن شاءت أو تتركها فهذا شأنها ، ولكنه شأن لا يحب أن يكون حائلا دون وحدة فيما بينها تجمعها على تقوى الله ومنفعة عباده ..
والقول بأن الإنسان يولد صفحة بيضاء والتي عبر عنها بالفطرة في حذيث لرسول الله يقول فيه : يولد الانسان على الفطرة وأبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه” لا يتناقض مع ما سبق قوله ولاهم متعلق به وانما هو مرتبط ببيان أثر التربية والتعليم على الطفل الذي يتبع ما يلقي اليه من أبويه أو من جيرانه أو من معلمه أو من أجهزة الاعلام الحديثة مثل التلفزة والانترنيت ويشكل فكره وقيمه ومعتقداته,
وبعد تلك الوقفة مع تلك الأيآت أقول بإن التحضير للصلاة والذكر وقراءة القرآن يجب أن تسبقه تزكية النفس ، قال الله تعالي:"قد أفلح من تزكّى* وذكر اسم ربه فصلّى" (الأعلى:14-15).

وينقل لوقا في الإصحاح الرابع من أنجيله ما قاله المسيح عن الذي يدفع زكاة المال والثمر ولا يزكي نفسه من الفريسيين وهي طائفة من اليهود ، فقال:" و فيما هو يتكلم ساله فريسـي ان يتغدى عنده فدخل و اتكا. و اما الفريسـي فلما راى ذلك تعجب انه لم يغتسل اولا قبل الغداء . فقال له الرب انتم الان ايها الفريسيون تنقون خارج الكاس و القصعة و اما باطنكم فمملوء اختطافا و خبثا . يا اغبياء اليس الذي صنع الخارج صنع الداخل ايضا . بل اعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شيء يكون نقيا لكم .و لكن ويل لكم ايها الفريسيون لانكم تعشرون النعنع و السـذاب و كل بقل و تتجاوزون عن الحق و محبة الله كان ينبغي ان تعملوا هذه و لا تتركوا تلك. ويل لكم ايها الفريسيون لانكم تحبون المجلس الاول في المجامع و التحيات في الأسواق . ويل لكم ايها الكتبة و الفريسيون المراؤون لانكم مثل القبور المختفية و الذين يمشون عليها لا يعلمون . فاجاب واحد من الناموسيين و قال له يا معلم حين تقول هذا تشتمنا نحن ايضـا . فقال و ويل لكم انتم ايها الناموسيون لانكم تحملون الناس احمالا عسـرة الحمل و انتم لا تمسون الاحمال باحدى اصابعكم ."(لوقا11من 37إلى 46).

اوتزكية النفس تعبيد للطريق الذي ينتهي بها إلى الجنة، قال الله تعالى: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" . ويقول الإستاذ سيد قطب رحمه الله في طلال القرآن:" إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد مزدوج الاتجاه، بمعنى أنه في طبيعة تكوينه : من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه، وهو لذلك مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى أيهما أراد، وهذه قدرة كامنة في كيانه يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها..." ويعبر عنها بالهداية تارة "وهديناه النجدين" وإلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعدادات الخير فيها وتغليبها على استعدادات الشر فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب "قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها".

ويشرح المرجع الشيعي اللبناني الشيخ حسين فضل الله نفس الأيات الأربع في سورة الشمس فيقول:"ونفس وما سوّاها* فألهمها فجورها وتقواها" ، فالله تعالى عندما سوّى هذه النفس وحشد فيها كل العناصر في ما أعطاها من قوة التفكير، وفي ما منحها من حركة الشعور، ومن حالة النموّ في الروح والعاطفة، دلّها على طريق الخير وطريق الشر، وقال للإنسان: إن في الحياة طريقين: طريق الفجور الذي يعني أن تبتعد عن طاعة الله، فتترك ما أمرك به، وتفعل ما نهاك عنه، وهذا هو الفجور العملي، وهناك خط التقوى، وهي أن تأتي بما أمرك الله به، وتترك ما نهاك عنه، ولم يحدد لك الله تعالى في إرادتك ما يفرض عليك هذا أو ذاك، بل جعلك حراً في الاختيار، ولكنه حمّلك مسؤولية ما تختار، وقال لك: إذا اخترت الفجور فهناك حسـاب وعقاب، وإذا اخترت التقوى فهناك الثواب: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره* ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"(الزلزلة:7-8).
"قد أفلح من زكّاها"، لأن النفس بقدر ما تكون نفساً زكية منفتحة على الله والخير كله، بقدر ما يكون مصيرها مصير الأزكياء في كل مجالات الحركة في الحياة، فالإنسـان الذي يأخذ بأسباب الفلاح، هو الذي يزكّي نفسه ويهذبها ويربيها ويجعلها تنمو نمواً طبيعياً، ليغرس فيها غراس الخير، ولتنتصب منها أشجار الخير. "وقد خاب من دسّاها" ، من أهملها وتركها تعيش في داخل زنازين الشهوات والغرائز. وبتعبير آخر، من لا يطلقها في حركة الخير وفي خط الحق، وفي السير من أجل القيام بالمسؤولية في الحياة كلها.وقد فصّل القرآن الكريم في سورة "المؤمنون" مواقع الفلاح، التي تؤدِّي بالإنسان المفلح إلى أن ينال رضى الله ويتحرك بجهده نحو جنّته، يقول تعالى: “قد أفلح المؤمنون ». ما هي مظاهر فلاحهم؟ “الذين هم في صلاتهم خاشعون” هم الذين يجعلهم إيمانهم يخشعون لله عندما يذكرونه “والذين هم عن اللغو معرضون” (المؤمنون:1-3)، لا يتكلمون كلام اللغو الذي لا فائدة منه ولا منفعة، بل يعروضون عنه وعمّن يتكلّم به: “وإذا مروا باللغو مروا كراماً ».
أيضاً، من مظاهر فلاحهم "والذين هم للزكاة فاعلون«(المؤمنون:4)، هؤلاء الذين أنقذوا أنفسهم من البخل: "ومن يوقَ شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون" (الحشر:9)، لأن البخل يمنع الإنسان من القيام بما فرضه الله عليه، ومن العطاء في معنى مشاركته الإنسان الآخر في حاجاته الإنسـانية، “والذين هم لفروجهم حافظون" الذين يعيشون العفة في الجانب الجنسي، فلا يزنون، ولا يمارسون الشذوذ الجنسي المذكّر في اللواط، ولا يمارسون الشذوذ الشبقي المؤنث في السحاق، "إلا على أزواجهم" فالعلاقة الزوجية الشرعية هي العلاقة التي يمكن للإنسان أن يشبع فيها شهوة الجنس عنده، رجلاً كان أو امرأةً "أو ما ملكت أيمانهم" في ما كان يُعرف بملك اليمين في السابق، وقد زال من المجتمع الإسلامي "فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك"في ما حرّمه الله عليه من الزنا والسحاق واللواط "فأولئك هم العادون" (المؤمنون:5-7) هم المعتدون على شريعة الله.
ويفول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآيات : يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى نفسه أي بطاعة الله كما قال قتادة، وطهرها من الرذائل والأخلاق الدنيئة، كقوله تعالى: "قد أفلح من زكاها" "وقد خاب من دساها" أي دسسها وأخملها ووضع منها بخذلانه إيّاها عن الهدى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل، ويحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى الله نفسه وقد خاب من دسى الله نفسه هذا عن تعريف التزكية، أما النفس فقد ورد في القرآن الكريم وصفها بثلاث صفات : المطمئنة، واللوامة، والأمارة بالسوء، وقد اختلف الناس هل النفس واحدة وهذه أوصاف لها، أو للعبد ثلاثة أنفس : نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة.
فالأول قول الفقهاء والمتكلمين وجمهور المفسـرين، وهو قول محققي الصوفية، والثاني قول كثير من أهل التصوف، والتحقيق أنها واحدة باعتبار ذاتها، وثلاث باعتبار صفاتها، فالنفس المطمئنة : هي التي قد سكنت إلى ربها وطاعته وأمره، فاطمأنت إلى محبته وعبوديته وذكره، واطمأنت إلى لقائه ووعده، واطمأنت إلى قضائه وقدره، واطمأنت إلى ضمانه وكفايته وحسبه، وأنه لا غنى لها عنه طرفة عين.وأما اللوامة: (فهي النفس اللؤوم التي تُنَدِّم على ما فات وتلوم عليه) كما قال ابن عباس وقتادة.وأما الأمارة: فهي التي تأمر صاحبها بما تهواه من شهوات الغي واتباع الباطل؛ فإن أطاعها قادته إلى كل شر وقبيح، ولم تكن أمارة إلا بموجب الجهل والظلم لأنها خلقت في الأصل جاهلة ظالمة والعدل والعلم طارئ عليها بِإِلْهَامِ فاطرها. ويقول ابن القيم في إغاثة اللهفان إنه لولا فضل الله ورحمته على المؤمنين ما زكت منهم نفس واحدة، فإذا أراد الله بنفس خيراً جعل فيها ما تزكو به وتصلح من الإرادات والتصورات وإذا لم يرد بها ذلك تركها على حالتها التي خلقت عليها من الجهل والظلم.
كما يقول رحمه الله: (...فإن من العابدين أناس توفرت هممهم على استكثارهم من الحسنات دون مطالعة عيب النفس والعمل والتفتيش على دسائسها ومحاسبة النفس عليها، ويحملهم على استكثارها رؤيتها والإعجاب بها، ولو تفرغوا لتفتيشها ومحاسبة النفس عليها والتمييز بين ما فيها من الحظ والحق لشغلهم ذلك عن استكثارها، ولأجل هذا كان عمل العابد القليل المراقبة لعمله خفيفاً عليه فيستكثر منه ويصير بمنزلة العادة، فإذا أخذ نفسه بتخليصها من الشوائب وتنقيتها من الكدر وما في ذلك من شوك الرياء وجد لعمله ثقلاً كالجبال وقل في عينه، ولكن إذا وجد حلاوته سهل عليه حمل أثقاله والقيام بأعبائه والتلذذ والتنعم به مع ثقله، وإذا أردت فهم هذا المعنى كما ينبغي فانظر وقت أخذك في القراءة إذا أعرضت عن واجبها وتدبرها وفهم ما أريد بكل آية وحظك من الخطاب بها، وتنْزيلها على أدواء قلبك كيف تدرك الختمة أو أكثرها بسهولة وخفة مستكثراً من القراءة، فإذا ألزمت نفسك التدبر ومعرفة المراد والنظر فيما يخصك منه والتعبد به، وتنزيل دوائه على أدواء قلبك والاستشفاء به لم تكد تجوز السورة أو الآية إلى غيرها، وكذا لو جمعت قلبك كله على ركعتين فأعطيتهما ما تقدر عليه من الحضور والمراقبة لم تكد أن تصلي غيرهما إلا بجهد، فإذا خلا القلب من ذلك عددت الركعات بلا حساب، فالاستكثار من الطاعات دون مراعاة آفاتها وعيوبها دليل على قلة الفقه، ولكن أحب العباد إلى الله الذين يستكثرون من الصالحات مع المراقبة فيها، فقد ندب الله عباده إلى ذلك في قوله: " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون" وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) وإذا كان استعظام الطاعة ذنب، فإن استقلال المعصية ذنب أيضاً، فالعارف من صغرت حسناته في عينه، وعظمت ذنوبه عنده، وكلما صغرت الحسنات في عينك كبرت عند الله، وكلما كبرت وعظمت عندك قلت وصغرت عند الله .»
فوزي منصور

No comments: