Wednesday, December 17, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى -الحزءالثامن

صفات المؤمنين في سورة الفرقان
قال الله تعالى في سورة الفرقان : " وَعِبَادُ الرَّحْمَـانِ الَّذِيـنَ يَمْشُـونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا(63)وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا(64)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(66)وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا( 67)وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا(68)يُضَـاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا(69)إِلا مَـنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)وَالَّذِيـنَ لا يَشْـهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا(72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَــات رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا(73)وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا( 74)أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا(75)خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا( 76)قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(77)".

وتتضمن هذه الأيات مجمل الصفات والشيم والقيم والإخلاق التي تقتضيا وتتطلبها طهارة وصفاء ونقاء النفس المؤمنة الطيبة المحبة لله وللخير والعدل والإحسان. وميلها للآعتدال وتجنب الظلم و التطرف والمغالاة . وكان أبي يرحمه الله عندما يفسر للناس هذه الأيات يلفت النظر إلى أن نسبة العباذ للرحمن وليس لأي أسم أخر من أسماء الله الحسني انما القصد منه هو التنبيه إلى صفات العباد الذين يستحقون رحمة الله.

ويقترب الشيخ القرضاوي من هذا المعني إذ يرى أن التعبير عنهم بعباد الرحمن دليل على الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء، فهم عبيد للرحمن الذي لم يعرف قدره المشركون الذين قالوا: «وما الرحمن؟» لما قيل لهم اسجدوا للرحمن، فعرض الله تعالى صفات العباد الذين يعرفون قدر الرحمن، وهي صفات تميزهم عن غيرهم، وهي صفات إنسانية وربانية،” (...) وأول وصف لهم “أنهم يمشون على الأرض هونا “وهي صفة لها دلالة كبيرة، ولذا بدأ القرآن بها ولم يبدأ بأنهم صوامون قوامون وغير ذلك، وهي تعبير عن شخصية الإنسـان، فكل إنسان تعرفه من مشيته، فالشخص المغرور المتكبر المختال في نفسه والمستعلي على غيره يظهر ذلك في مشيته، والشخص الوقور المتواضع المعتز بالله وبإيمانه، وليس المعتز بدنيا ولا بمال ولا جاه أو أولاد، تراه في مشيته هيناً لينا متواضعاً، وقد قال تعالى في وصايا الحكمة التي جاءت على لسان لقمان لابنه وهو يعظه “وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًـا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ” وقال تعالى أيضا:« إِنَّـكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً” ، والثاني أنهم “وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا”، لا يقابلون السيئة بالسيئة، فالأعمار عندهم أغلى من أن تضيع في المهاترات مع الناس، ولذلك فإن عباد الرحمن إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، معرضين عن أهل الجهل، وهذا حالهم في نهارهم مع الخلق، أما حالهم في الليل مع الله تعالى فقد أوضحه قوله تعالى: وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا، موضحاً أن عباد الرحمن لا يقابلون السيئة بالسيئة بل يعفون ويصفحون، وفي الليل هم مع الله، يبيتون لربهم سجداً وقياما، ولأن أفضل حالات العبد مع ربه عندما يكون في الصلاة، وأفضل حالاته في الصلاة حالة السجود «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.....الخ». ولفت الشيخ القرضاوي النظرإلى أن الدعاء بـ “اصْرِفْ عَنَّا “يعطي دلالة كبيرة وكأن النار تلاحقهم وتجري وراءهم، فهم يرجون ربهم ان يصـرف عنهم عذاب جهنم لأن “عذابها كان غراما “أي لازماً ودائماً لأصحابها، وقد ساءت مستقراً ومقاما، لأنها لا تكتفي بالعذاب المادي والحسي فقط بل تتعداه إلى العذاب المعنوي، وهو الحجب عن رؤية الله تعالى: «كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون» وهي إهانة شديدة لأهل جهنم والعياذ بالله. ».

تفصيل للصفات الواردة في تلك الأيات :
1 – عباد الرحمن : العباد هنا من العبودية ، وهي تحمل معني العبادة أيضا ، ونسبتهم للرحمن تحديد للسيد ، بما يعني ألا سيد للعبد سواه ، ثم وصف السيد بأنه رحمان ، أي عظيم الرحمة ، يحدد نوعية العلاقة بين السيد وعبده منذ البداية، وأنها قائمة على الرحمة ،وبالتالي على المحبة . فالمحب هو الذي يرحم محبوبه ولا يقسو عليه. .وهنا رفع لقيمة العبد ليكون بمثابة مولى لله ، أو بتعبير آخر من أولياء الله.

ويقول الأستاذ سيد قطب : فهاهم أولاء عباد الرحمن، الذين يعرفون الرحمن، ويستحقون أن ينسبوا إليه، وأن يكونوا عباده. ها هم أولاء بصفاتهم المميزة ومقومات نفوسهم وسلوكهم وحياتهم. ها هم أولاء مثلاً حية واقعية للجماعة التي يريدها الإسلام، وللنفوس التي ينشئها بمنهجه التربوي القويم. وهؤلاء هم الذين يستحقون أن يعبأ بهم الله في الأرض، ويوجه إليهم عنايته؛ فالبشر كلهم أهون على الله من أن يعبأ بهم، لولا أن هؤلاء فيهم، ولولا أن هؤلاء يتوجهون إليه بالتضرع والدعاء.

2 – يمشون على الأرض هونا:
أي بدون خيلاء وكبرياء كما قال الشيخ القرضاوي ولكن أيضا بدون مظاهر تلفت إليهم الإنظار. فالذي يسير وحرس مسلحون بسلاح ظاهر ،يلتفون حوله ويفسحون الطريق له ، ويدفعون الناس بعيدا عنه ، حتي لو بدا أنه يسير بينهم في تواضع وبدون كبر، فهو لا يسير على الأرض هونا.لآن من يسير على الأرض هونا يمر عليها كالنسيم لا يكاد ينتبه اليه أحد. وليس بالضرورة أن يكون سائرا على قدميه فقد يكون راكبا خثلا مطهمة ومزينة أو سيارة فارهة ويطلق بوقها لكي ينتبه لسيره على الإرض الناس. بل لا يتوقف الأمر أيضا على مظاهر الأبهة والسلطة وإنما يشمل أيضا مظاهر التدين اللآفته للنظر. والتي تخالف ما اعتاذ الناس عليه ، فينتبهون إليه لشذوذ منظـره عما ألفوه. كرجل أرسل لحيته دون تشذيب وحرص على لبس جلباب على نحو ولون معين تختص بلبسه جماعة محددة . هذا أيضا لا يمكن اعتباره ممن يمشون على الأرض هونا٫ نفس الشـيء بالنسبة لمرأة أقرب إلى العارية منها للكاسية ، وما ارتدته يحدد شكل ما عطته وربما لونه أيضا وأريج العطر النفاذ يسبح خولها مع كل خطوة وينبه إليها الناس ، فهذه أيضا لاتمشي على الإرض هونا.
ونهي الله سبحانه وتعالي في سورة الإسراء أيضاعن مشية المرح والكبر والخيلاء فقال تعالى "وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً"(الإسراء-37).وفال تعالى على لسان لقمان يوصي ابنه "وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ "( لقمان – 18).

ويقول في ذلك الأستاذ سيد قطب رحمه الله :ها هي ذي السمة الأولى من سمات عباد الرحمن: أنهم يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفخ، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة. وليس معنى:« يمشون على الأرض هوناً “ أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان؛ كما يفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح! وهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا مشى تكفأ تكفياً، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كأنما الأرض تطوى له ـ وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث. وقال على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا مشى تكفأ تكفياً كأنما ينحط من صبب. وقال مرة إذا تقلع ـ قلت والتقلع الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة.

3 – وإذا خا طبهم الجاهلون قالوا سلاما:
المؤمن العالم قدر استطاعته بما تيسر له بأمور دينه ودنياه ، ملتزم بحكم إيمانه في سلوكه وحركته على الأرض بالقيم الأخلاقية ،عملا بما ورد في شأنها في كتاب الله و أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أثر عنه قوله : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. والمسلم المؤمن الملتزم بالقيم الأخلاقية يكون على نقيض السفهاء الذين لايقيمون لها وزنا . وإذ يجد السفهاء أنه غريب عنهم وليس منهم ولا على شاكلتهم فإنهم يندفعون إلى استفزازه ومشاكسته بكلمات السوء وفحش القول ، أو في الحد الأدني بالسخرية منه ، والتهكم عليه . فإن كان رد فعله هو أن يشغل نفسه بسفاهاتهم أو يكيل لهم الصاع صاعين ، ثأرا لنفسه وكرامته ، أو اندفاعا في غضبه وفي الدفاع عن نفسـه ، فقد هبط بذلك إلى مستواهم وصار منهم . وإن يكون المسلم مثل السفهاء يظل مسلما ولكنه يفقد إيمانــه والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بحسن الخلق. إذ لايبقي في تلك الحالة من أهل الحلم والصبر والكرم والعفة والإحسان في القول . فضلا عما قد تجره المنازعات معهم من تهديد محتمل للسلم الإجتماعي عندما تتطور إلى قتال بينهما ، يلحق الأذى به حتي وإن تمكن من إلحاق أذى مماثل بهم. ولكي يحافظ المسلم على حسن الخلق وطهارته ونقائه عليه أن يتجاهل إسائتهم أليه حتي يملون ويكفون عنها ، وأن يسلم أمره وأمرهم إلى الله سبحانه وتعالي وهو نعم المولي ونعم النصير. ويتفادى الدخول معهم في نزاعات ومهاترات وصراعات ويلتزم بالسلم وهو ما يعبر عنه فوله تعالي : « وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” والجاهلون ليسـوا فقط السوقة والرعاع وإنما قد يكون منهم من حصل على الدكتوراة من الجامعات والمدارس العليا في بلاده واحتسب زورا من أهل العلم وهو ليس منهم ، ومن هم أقل تعليما منه كذلك ، وباع كل منهم نفسـه للشيطان على طريقة فاوست. أو استؤجر من المفسدين لمهاجمة أهل الصلاح المصلحين ، أو دفعه الغيرة والحسد ممن يشعر بأنهم أفضل منه قيلا وعملا وخلقا ودينا ويعجز أن يكون مثلهم . وقانون “ العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق “ ليس مجرد قانون في الأقتصاد فقط وإنما نجده في حياتنا العملية وفي العلاقات الاجتماعية ومواجهة غير المؤمنين وإن كانوا من المسلمين للمؤمنين. والتزام المؤمن بالسلم بأن يقول لهم : سلاما ،هو درء للفتنه ومنع لزيادة العداوة والبغضاء وقد يهذي الله الجاهل فيكف عن جهالته ويتحول من بعد عداوته إلى ولي حميم إن شاء الله تعالي ذلك.وفي قوله سلاما يكون قد قال مثل ما فاله ابن آدم الذي تقبل الله قربانه لأخيه الذي لم يتقبل الله منه عندما هدده بالقتل وقتله فعلا.وفد أمرنا الله الأنسب مثلهم فيتجرؤون على الله ويسبونه :قال تعالي :”ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم (أي بسبب جهالتهم )كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون. “ (الأنعام ـ 108)
ومعني سلاما ، أن يقول إن لزمه القول قولا لينا كريما ويصبر على أذي الجاهلين كما صبر الرسول على أذي أهل الشرك وكان منهم أقارب له مثل عمه عبد العزى (ابولهب) وزوجته جميله والتي نزلت فيهم الآيات : «  تبت يذ أبي لهب وتب * ما أغني عنه ماله وما كسب * سيصلى نارا ذات لهب *وامرأته حمالة الحطب *في جيدها حبل من مسذ «(سورة المسد:1-5) وعن أنس ،رضي الله عنه، قال: كنت أمشي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي،صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك, فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء.قال الله عز وجل : « ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن ﻔﺇذا اﻟذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها ﺇلا اﻟذين صبروا وما يلقاها ﺇلا ذو حظ عظيم.» ( فصلت، :34-35.)
ويقول الأستاذ سيد فطب رحمه الله في قولهم سلاما للجاهلين: “وهم في جدهم ووقارهم وقصدهم إلى ما يشغل نفوسهم من اهتمامات كبيرة، لا يتلفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في جدل أو عراك، ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين:» وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً } لا عن ضعف ولكن عن ترفع؛ ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم “

ولذا قإن استجابة إعلام الجماعات والأحزاب الدينية المسلمة لمثل هذا الضرب من الاستفزاز من قبل السفهاء والجاهلين يعد مخالفا لما يجب أن يكون عليه عباد الرحمن من خلق كريم . ومثل هذه الصـراعات ،في المجال السياسي خاصة، تشغل الجماعات والأحزاب الإسلامية عن مهامها وأولوياتها فيها والدور الأساسي الذي عليها القيام به، وهو: تثبت الإيما ن في قلوب المسلمين وحثهم على عمل الإحسان في المجتمع المسلم.
إن القول بأن دفع المضرة أولى من جلب المنفعة هو مبدأ خاطئ رغم أنه شائع ويردده الفقهاء وعلماء الدين ، والأصح منه هو صرف الجهد كله أو معظم الجهد ، إن لزم الأمر ، في جلب المنافع للناس. ولله در الأستاذ الفاضل أحمد الريسوني الذي هداه الله إلى ذلك ، وأثبته ووثقه من كتاب الله وسنة رسوله وكتابات الشاطبي صاجب المقاصد والموافقات. فقد دافع عن ذلك في مقال نشرته يومية المساء المغربية الصادرة يومي 15و16 سبتمبر 2008 ، وكان مما جاء في مقاله:
“إن الأمر بالمعروف دائما متقدم على النهي عن المنكر ، والأية الجامعة في هذا الباب ، وهي قوله عزوجل : » ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” (آل عمران: 104) دالة دلالة واضحة على كل ما تقدم ، فالرسالة المحمدية ، والرسالة الإسلاحية ، تتضمن ثلاثة عناصر هي : 1- الدعوة إلى الخير. 2- الأمر بالمعروف 2- النهي عن المنكر.
وهذه العناصر عادة ما تتزامن وتتداخل ، ولكن الترتيب المطرد في النصوص الشرعية الكثيرة ، يدل على الأسبقية والأولوية بصفة عامة . وهذا واضح كذلك فى الآية الجامعة التي تتحدث عن المضامين والخصائص الكبرى للبعثة المحمدية ، وذلك قوله تعالي : «  ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون ، الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضـع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم “ (الأعراف: 156و157) ويختم الأستاذ الريسوني مقالته قائلا: « وبالعودة إلى ما سبق من كلام حول الحاجة إلى الإجتهاد والتجديد ، وخاصة لدي الحركاات السـاعية إلى البناء والإصلاح على أسس ومنطلقات إسلامية ، فإن أعادة ترتيب الأولويات بصفة عامة ، وقضية التقديم والتأخير بين الإشتغال بتحصيل المصالح ، والاشتغال بمحاربة المفاسد ، تبدو قضية ملحة وعاجلة ، وحتي لا يستمر تقديم العربة على الحصان ، ولو في بعض الأحيان. ومقتضـي هذا أن تعطي العناية والأولوية للأعمال والمبادرات والمشاريع الإيجابية البناءة والمفيدة . ولو”اكتنفها من خارج أمور لا ترضي شرعا، على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج “ على حد تعبير الشاطبي . كما أن هذا النهج سيقتضي حتما تقليصا في مقدار الإشتغال بمحاربة المفاسد والرذائل ، لفائدة إنجاز المصالح البدائل . إن القيمة الحفيقية ، أو القيمة المضافة ، لأعمالنا وجهودنا ، هي أن نوقد شمعة لاأن نلعن الظلام . فلعن الظلام يحسنه كل أحد ويمارسه كل أحد. (...) الاشتغال بالمعارضة والمناهضة ينبغي أن يكون مهمة عرضية ، لا مهنة دائمة . أما الأصل الدائم ، فهو الاشتغال بالبناء والإنجاز وتحقيق المصالح والمنافع.»

وتعقيبا على الكلام الطيب للآستاذ الريسوني أود الإشارة إلي ما يلي :
أولا: إن الآية التي أشار اليها الأستاذ الريسوني :«ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر “ فهمها البعض أن يكون في الأمة الإسلامية من يقوم بذلك بينما الآية تكلف بذلك كل الأمة وألا كان هناك أمة داخل الأمة، وهو ما لايستقيم عقلا . وهذا لايمنع أن يتخصص بعض الناس من الأمة في التفقة في الدين وتعليمه. ولكي تكون الأمة المسلمة كلها قادرة على هذا التكليف ، أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سواء أمر نفوسها أو الأمم الأخرى ، فإن هذا يتطلب أن يرتفع مستوى جميع أفراد الأمة في العلم والمعرفة . وبما لايقتصر على الدين وحده بالطبع. فالأمم المتخلفة تتطلع إلى تقليد من هم أكثر منها تقدما .ولذا وجب على الأمة لتكون قادرة على القيام بما يطلبه منها دينها أن تكون متقدمة في علمها ومعرفتها وتحضرها..
ثانيا : إن الأستاذ الريسوني يتجنب -عن حق -القول بجماعة إسلامية أو حزب إسلامي فهذا التعبير استعمله الغرب وترجم عنه للتفرقة بين نوعين من المسلمين : نوع يجهل دينه ، ولا يلتزم بأحكامه، ويقبل الدنية والخضوع لمشيئة الإمبريالية العالمية ، وقسم من المسلمين يطالب بتطبيق أحكام الأسلام والإلتزام بأومره ونواهيه أطلق الغرب عيليه إسم :“الإسلاميين” واعتبروه “راديكاليا” معاديا للغرب ،لما في الإسلام من مبادئ تمنع المسلم المؤمن الموحد الحق من الخضوع لغير الله . ولما وجدوا بين هؤلاء الإسلاميين الراديكاليين نوعين : نوع يقاتل المستعمرين ونوع يسالمهم ، قسموا الراديكاليين إلى متطرفين ومعتدلين مسالمين. ولو أنهم طلوا في عداد الراديكاليين بالنسبة لهم . وقد سبق للغرب، قبل بروز الصحوة الدينية على الساحة، أن اعتبر أيضا دعاة القومية العربية راديكاليون لآنهم يعادون تقسيم الأمة العربية ألى دول وشعوب متنازعة كما يريده الغرب لها .وخوفا من أن تتحدالشعوب العربية ضده. ولا يوجد ما يستحق أن يسمى إسلامي في الدين سوى كتاب الله وسنة رسوله،وهما مثال مطلق يتبناه المسلمون على نحو نسبي ، ويتفاوتون في تبنيه ومعرفته دون أن يستطيع أحد الإدعاء بأنه تمثل فيه المطلق وبالتالي أمسي أسلاميا. وإذا كان القرآن مازال يكشف يوما من بعض يوم عن كنوزه وذلائل إعجازه ، ومن يعرفه اليوم سيأتي غدا من تكون معرفته أفضل ، فإن أحدا لا يعرف حدود المطلق ولا يمكنه القول بأنه إسلامي ، فقط الذي بمقدوره أن يقول : إنه مسلم. واستعمال لفظ إسلامي منا يعد استعمالا خطرا لأنه يفرق بين المسلمين ، ولايمكن القول بأن الذين ينتسبون فقط إلى الجماعات الدينية والأحزاب الدينية أكثر إسلاما من غيرهم . فقد يكون خارج صفوفهم من المسلمين من هم أكثر منهم علما بالدين والتزاما بأحكامه وأوامره ونواهيه.ووصفهم بالإسلاميين قد يدفعهم إلى الغرور والأستعلاء بمرور الوقت ، وهذا الذي نخشاه قد ظهرت بالفعل بوادر له دعت الدكتور العثماني إلى انتقاده في مقالات أخيرة له.
ثالثا: لو لم تكن الأدلة الشرعية التي وثق بها الأستاذ الفاضل أحمد الريسوني مقالته بتقديم المصالح على درء المفاسد قائمة لوجب أيضا هذا التقديم بحكم المنطق والعقل وعلم الاجتماع . فجلب المصالح يفضي على نحو مباشر أو غير مباشر إلى القضاء على المفاسد أو الحد منها حاضرا ومستقبلا إن كان القضاء عليها مستحيلا.
فإذا كانت المفاسد يدفع اليها عوامل مثل الفقر أو الجهل أوعوامل من تداعيات ونتائج الحكم الاستبدادي الفاقد شرعيته ، أي الغير منبعث من إرادة الشعب وممثلا لها باتباع ما يعرف اليوم بالديموقراطية ، وما يتبعه من سياسات فاسدة ومدمرة ومؤذية لمعظم قئات الشعب ، فإن القضاء على الفقر ونشر التعليم النافع والمعرفة الصحيحة وتنمية الثروة الشرية رأسيا وإنسانيا بالعلم والمعرفة ، وإقامة حكم الشعب وتقويم السياسات كلها تفضـي إلى القضاء على الفساد المستشرى في المجتمع. حيث لكل نتيجة سبب. وتغيير النتائج يقتضي تغيير أسبابها ومسبباتها . ولا تنفع أي مواعظ أو خطب تندد بالمفاسد في تحقيق ذلك. بل يشهد الواقع بأنها تزداد انتشارا رغم المعارضة المعلنة لها من قبل الجماعات الدينية. ومقابل كل عشرة شبان أو شابات يمكن اجتذابهم للآلتزام بالدين، لو إلتزموا به حقا ،يوجد ألف كانوا في منزلة بين المنزلتين فانحرفوا وهبطوا إلى المنزلة الأدني. ولا يمنع من ملاحظة ذلك سوى الغرور والثقة الزائدة عن حدها أو التعامي عن الحقيقة في الواقع.
ولو أخذنا مسألة انتشار الدعارة والبغاء السابق الإشارة إليها كمثال ، والتي هي رجس من عمل الشيطان ، فإن انقاذ الساقطات فيها منها وفتح باب التوبة أمامهن باعتبار أن الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به , وفتح سبل الحياة الشريقة والكريمة أمامهن واعتبارهن ضحايا، هو وحده الذي ينهي أو يحد من انتشار الدعارة والبغاء والتي تستشرى وتزداد حضورها في المجتمع عاما بعد عام . وهذا أفضل من صب اللعنات عليهن والاكتفاء بهذه السلبية. المنتسبون للجماعات الدينية أو الدعوية يعتبرون أنفسهم أطهارا أو متطهرين وأي مقاربة منهن لمثل هذا الأمر هو اقتراب من المعضوب عليهم من الله والضالين. وهذا الموقف في جوهره هو بمثابة إعانة للشيطان على نشر الرجس ، سواء كان الشيطان من الإنس المحترفين للقوادة أو من الجن.حتي ولو كان في الامتناع عن المبادرة بمقاربة مجدية يتم عن حسن نية.
وكان الأولي من ذلك الاقتداء بالمسيح عليه السلام إذا جاءت إليه مريم المجدلية عند دخوله أورشليم تائبة نادمة على اقترافها الخطيئة لكي تدفع مصاريف علاج أخيها عازر للكهنة اليهود والذي لم ينفعه علاجهم له وتضحية أخته بعرضها وشرفها وتسليمها جسدها للصيادين في الساحل من أجله ينتهكون حرمته ومات أخوها عازر في النهاية قبيل دخول المسيح لأورشليم . انحنت مريم المجدلية على قدمي المسيح تقبلها وتغسلها بدموع الندم وبعطر من قنينة صغيرة أحضتها معها ، فوضع المسيح يده على رأسها وقال لها قومي فقد غفر لك. هنا تجمع اليهود لرجمها وفقا لشريعة نبيهم موسي وهدفهم لم يكن تطبيق الشريعة وإنما إظهار المسيح بأن يخالف شرع الله حيث يتسامح مع خاظئة عوض أن يأمر برجمها فكانت كلمته الشهيرة : من لم يكن منكم بخظيئة فليرم بأول حجر ، ولعلمهم بأن المسيح يعلم ما يسرونه ويخفونه في نفوسهم وما منهم إلا وارتكب الخطيئة معها ، ألقي كل منهم حجره خلف ظهره والنصرف . ولم يكتف المسيح عيسي عليه السلام بذلك وإنما طلب منها أن تدله على قبر أخيها عازر فذهب أليه وأخرجه منه وأعاده الى الحياة بإذن الله . وعاش عازر حتي واقعة الصلب. وجاء في إنجيل برنابه الذي منعته الكنائس المسيحية وحظرته عام 1917 بأنه في اليوم الثالث لواقعة الصلب كان في بيت المسيح مع أمه ومريم المجدلية وأخيها عازر والكل يبكي على المسيح، ظنا منهم أنه صلب ،فظهر لهم المسيح عليه السلام وأخبرهم أنه لم يصلب وإنما الذى صلب هو تلميذه الخائن يهوذا الآسخريوطي الذي باعه لليهود والرومان بثلاثين قطعة من الفضة . وقد استغلت الكنيسة حادثة مريم المجدلية لسن ما يعرف لديها بسر الاعتراف ضمن أسرارها السبعة باعتبار أن الكنيسة حلت محل المسيح في الأرض، وبإمكان القائم عليها الاستماع إلى اعتراف الخاظئ والمذنب وغفران ذنبه أو خطيئته بالنيابة عن الرب، الذي هو في عقيدتهم المسيح نفسه.
وهذا مثال فقط عن سوء التعامل مع السوء والموبقات الكثيرة المنتشرة في المجتمع من أكل أموال الناس بالباطل والتعامل بالربا وقد أحل الله اليع وحرم الربا ، وعصر الخمور وبيعها واحتسائها في الحانات والعلب الليلية وغيرها وانتشار الرشوة والمظالم وانتهاك حقوق الإنسان.
إن أكثر ما تحتاجه الجماعات والأحزاب الدينية هو أنسنة الدعوة للدين باضفاء طابع المحبة عليها لبني الإنسان بصف النظر عن مدى إيمانه أو ارتكاسه في الخطيئة ، واعتبار الخاطئ هو الأولى بالموعظة ودعوته إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، مع الانتباه هنا ألى أولوية الحكمة عن الموعظة ، إذ تقتضي الحكمة القضاء على مسببات الخطيئة إن كان لها مسببات وتقديم بذائل لتلك المسببات تقود صاحبها إلى التقوي ، ثم تأتي الموعظة الحسنة بعد ذلك لأكمال الجهد بعد أن أصبح الموجهة إليه على استعداد تام لاستقبالها.
ثالثا : أشار الأستاذ اريسوني في مقاله الذي أعطى له عنوان: «أنجاز البدائل مقدم على مقاومة الرذائل” بديلا هاما أخشى ألا يتم الانتباه له لأنه لم يفصله تفصيلا وهو قوله :«ومقتضـي هذا أن تعطي العناية والأولوية للأعمال والمبادرات والمشاريع الإيجابية البناءة والمفيدة “. فهو هنا يتحدث عن أعمال ومبادرات ومشاريع أيجابية وبناءة ومفيده كبديل عن المواعظ والنشرات والخطب وما شابه ذلك.على نحو ما تنهجه االجماعات والأحزاب الدينية الحالية أو ما يستهلك معظم جهودها ،إذا ما أخذنا في الاعتباربعض أعمالها الاجتماعية الخيرة أو مساعداتها المحدود لأفراد وفق أمكانياتها المادية المتواضعة في الغالب. وهو في تصوري يطالب هذه الجماعات والأحزاب بإقامة مشروعات ثقاقية وإعلامية وإقتصادية واجتماعية يكون من معايير نجاحها الكمية المردودية المالية لها التي تساعدها على التوسع فيها، بالإضافة ألى المردودية المجتمعية التي تجعل المستفيدين منها يعيشون في ظروف أفضل. باعتبار أنه كاد الفقر أن يكون كفرا.
والمردودية الكمية الاجتماعية ذات الطابع الإنساني تعني التوجه بهذه المشروعات لفائدة كل شرائح المجتمع مع منح أولوية للفقراء والمساكين والعاطلين والتنمية الإنسانية( وليس التنمية البشريـــة).
. ومردودية هذه المشروعات والمبادرات العملية للآحزاب الدينية أو التي تتخد من الشريعة الأسلامية مرجعية لها أفضل ألف مرة من الانهماك في الصراعات السياسية وبناء التحالفات مع أحزاب لا تقيم لمرجعيتهم وزنا بناء على أوهام لدى قادتها .عندما يتحول الشعب كله أو أغلبيته إلى شعب مسلم متشبع بالأيمان ويعمل الصالحات أي الإحسان ويلتزم في حياته العدل والاعتدال ، فإن تلك الأحزاب ستضمن قوة ضخمة مساندة لها وترفعها إلى سدة الحكم التي ترغبها كوسيلة تعبدية لخدمة المصالح المرسلة للمسلمين وطاعة الله بالالتزام بأحكامه وما سنه رسوله.وهذا هو الطريق الأسلم .
وأول ما يجب عمله من قبل الحركات الإسلامية لكي تبتكر وسائل جديدة أنجع هو عمل كشف بالأرباح والخسائر فتقوم بجرد كل منها ، وكذلك بالتخلص من أخطاء وقعت فيها .وكان منها مادله عليها صاحب الأخطاء الستة. والتي أقر الدكتور العثماني في حوار له بوجود أخطاء لدى الحركة الدينية وأيضا العجز عن إصلاحها. والذي يعود كما يظهر من كتاباته عشية ذلك الحوار إلى إستعلاء قيادات فيها يجعلها تضيق بالنقد مالم يكن موجها لغيرها من خصومها أو من تعتبرهم من منافسيها أو المزاحمين لها داخل التنظيم نفسه . ولا تمارس النقد الذاتي أبدا أو تعترف بأخطاء لها وكأنه معصومة من الخطأ مثل الأنبياء والمرسلين .بل يدفعها العناد ، أذا ماوجه لها نقد ،ألى الأستمرار في الخطأ وعدم التراجع عنه ، عوض الرجوع عنه وتصحيح مسارها وأساليبها. وأكثر هذه الأخطاءسوءا رفض الرأي الأخر حتي لو كان يندرج ضمن المرجعية الإسلامية ويؤيده علماء أجلاء موثوق فيهم لو كان الأخذ به يضر خطهم السياسي الذي اتفقوا عليه مع بعض أجهزة الدولة، وبالتالي يلحق الضرر بالتنظيم في نظرهم لأنه يستعدي عليهم الدولة ، وهذا من بؤس السياسة وما تجره على المنخرطين فيها ، دون أن تتوفر فيها شروط العمل السياسي القويم الذي لا ينسأ عنه تعارض مع الدين. وهو ما يخالفوجوب إفراد الله بالطاعة دون شريك له الذي تقتضيه عقيدة التوحيد ومتطلبات الإيمان بالله وحده لا شريك له. علما بأنه يظل بالإمكان سلوك سبيل الله دون ازعاج الدولة أو الدخول في صراع معها ، وذلك بفتح ساحات بديلة للعمل الديني لم تطرقها الحركة الدينية بعد.
ومن هذه المراجعة المطلوبة مراجعة إعلام الحركة ، فصحيفة أو صحف توزع ما بين ألف وخمسة آلاف نسخة يعني أن قدرتها على توصيل رسالة الجماعة الدينية أو الحزب جد محدودة ، وليس الحل بالتأكيد توقيف تلك الصحف وأنما الحل هو العمل على توصيلها لأربعمائة ألف أسرة على الأقل يوميا في شعب تعدادة ثلاثين مليون نسمة ،مثل ما هو الحال عليه في المغرب والجزائر، وإلى ثمانين ألف أسرة على الأقل في شعب تعداده أكثر من 60 مليون نسمة مثل الشعب المصرى ،والذي توزع فيه صحيفة الأهرام الحكومية يوميا مليون نسخة إلى جانب الصحف الحكومية والمستقلة الأخرى . والذي يحول دون تحقيق ذلك ليس نقص الموارد المالية ، أو انصراف الشعوب عن القراءة الى التلفزة والانترنيت ، أو الالتزام بالشريعة الإسلامية الذي يمنع نشر مواد لها جاذبية عند الصحف التي تبيع أكثر . وإنما يرجع ذلك الي العقلية الغير متفتحة على رأي الآخرأو شديدة الحساسية . . وها أيضا يمكن التذكير بما استشهد به الأستاذ الريسوني من أقوال الشاطبي : « الضرورية او غيرها من الحاجية أو التكميلية ، إذا اكتنفتها من خارج أمور لا ترضي شرعا ، فإن الإقدام على جلب المصالح صحيح على شرط التحفظ بحسب الاستطاعة من غير حرج” بل قد تكون تلك الأمور التي لاترضي شرعا ناتجة عن سوء فهم الشرع ذاته، أو يتم التحرج منها لأنها على حد قول الشاطبي “مثار اختلاف وتنازع” فقد يكون في إثارتها حسم للاختلاف والتننازع فيها ، وحتي لو كانت كذلك فهي عارض على أصل من أصول الدين واجب الحرص عليه أكثر منها ، على حد قول الشاطبي أيضا، لايخرج الأمور عن أصولها ، ويقصد بالأصل هنا جلب المصالح الشرعية. ولذا قد يكون من الفطنة والحكمة أن يتخلل مواد معرفية وعلمية ودينية بعض ما يغرى القارئ بقراءتها والتشبع بها ، حتي لو كان هذا الذي يتخللها ، ويعد عارضا عليها يعتبره البعض مخالفا للشرع في طاهره معين على فيهم الشرع في جوهره وفي أسباب اللجوء اليه.

4-”والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما»:
القرآن يفسـر بعضـه بعضـا ويكمل بعضـه بعضـا بسبب وحدته البنائية التي تقتضي ذلك ، وسورة القرآن سورة مكية وكان من أوليات السور التي نزلت على رسول الله سورة المزمل التي يقول فيها المولي سبحانه وتعالي : «  يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه . ورتل القرآن ترتيلا”(المرمل :1-4) ولم تكن الصلاة قد فرضت بعد والتي جائت من بعد الإسراء والمعراج . وبالتالي فإن قيام الليل في سورة المزمل لا يقصد فيه صلاة النفل على غرار الصلاة المفروضة، وإنما المقصود فيها هو صلاة الإيمان المتمثلة في الذكر وترتيل القرآن ترتيلا. وهي صلاة لأنها تصل القائم بالعبادة ليلا بالمعبود. وفي تلك الأية من سورة الفرقان نجد الله سبحانه وتعالي يقول : “يبيتون لربهم سحدا وقياما “ والمبيت قد يستغرق الليل كله ، وقيام الليل في المزمل قد حدد نصف الليل أو أقل أو أزيد منه قليلا ، وسورة الفرقان لا تنسخ ما جاء في المزمل ، وقضاء الليل كله في العبادة سيقتضي من صاحبه نوم النهار كله تعويضا لليل ، بينما جعل الله الليل لنسكن فيه والنهار لطلب المعاش بنص القرآن نفسه. وقال تعالي أيضا في أن قيام الليل يكون في جزء منه "وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ"( الإسراء 79) أي في جزء من الليل ، ويصـف المولي المتقين بقوله :« إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* آخِذِينَ مَا آتَـاهُمْ رَبُّـهُمْ *إِنَّهُـمْ كَانُوا قَبْـلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ *كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِـهِمْ حَـقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ”(الذاريات : 14 -20) أي كانوا يقومون شطرا من الليل ويهجعون باقيه أي ينامون. وكان قيامهم في السحر استغفار، والاستغفار ذكر.ونقل عن الحسن فوله في تفسيرها:‏ هجعوا قليلا ثم مدوها إلى السحر‏.‏وعن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن آخر الليل في التهجد أحب إلي من أوله، لأن الله يقول ‏”‏وبالأسحار هم يستغفرون‏”. ونقل ‏ عن ابن عمر رضي الله عنهما ‏"‏عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ‏‏”قال يصلون “وهو ما يؤكد ‏‏ هنا معني أن الذكربالليل والنهار هو صلاة أيضـا بالنسبة المؤمن .‏

ونجد هنا كلمة سجدا سابقة الاقامة ومرادفة لها في ذات الوقت ، بمعني أن يكون السجود والقيام متتابعين يعقب كل منهما الآخر ، أو شطر يتم مبيت الليل فيه في السجود وشطر آخر في القيام . في الصلاة المعتادة يتم أيضـا قراءة القرآن وترتيله ولذا إذا كان قيام الليل كما هو في المزمل قراءة القرآن، فإنه يمكن أن يكون بالصـلاة التي يقرأ فيها القرآن ويمكن أن يتم القيام بقراءة القرآن وحده دون صلاة. والمبيت يشتمل على اليقظة والنوم معا ، وهنا يمكن أن يكون للسجود معني غير ما نعرفه من سجود في الصلاة ، ويمكن أيضا أن يكون بمعناه الآخر يتم في النوم ويكون القيام في اليقظة. وهكذا يبيت العابد الليل سجدا وقياما.
فالسجود لغة: الخضوع والتذلل،كما جاء في لسان العرب ، أو التطامن والميل في غيره، ويقول ابن فارس (السِّين والجيم والدال أصلٌ واحدٌ مطردٌ يدل على تطامن وذل. يقال: سجد، إذا تطامن، وكلُّ ما ذلَّ فقد سجد.، قال أبو عمرو: أَسْجَدَ الرجل، إذا طأطأ رأسه وانحنى. وقال الفيروزآبادي: (سَجَدَ: خضـع وانتصـب ضِدٌّ، وأَسْجَدَ: طَأْطَأَ رأسه وانحنى وأدام النظر في إمراض أَجْفَان، ومما قال الراغب الأصفهاني: (السجود أصله التطامن والتذلل وجعل ذلك عبارة عن التذلُّل لله وعبادته، وهو عام في الإنـسان والحيوانات والجمادات، وذلك ضربان: سجودٌ باختيار وليس ذلك إلا للإنسان وبه يستحق الثواب نحو قوله تعالى: “فاسْجُدُوا لله واعْبُدُوا”، أي تذللوا له، وسجود تسخير، وهو للإنسان والحيوانات والنبات، وعلى ذلك قوله تعالى:« وللـهِ يَسْـجُدُ مَـنْ في السّمَوَاتِ والأرْضِ طَوْعا وكَرْها وظِلالُـهُمْ بِالغُدوِّ والآصالِ»(الرعد : 15). فهذا سجود تسخير، وهو الدلالة الصامتة الناطقة المنبهة على كونها مخلوقة وأنها خلق فاعل حكيم، وقوله:”ولله يسجد ما في السموات وما في الأرْضِ مِنْ دَابَّةٍ والمَلائِكَةِ وهُمْ لا يَسْتَكْبرُون »(النحل: 49) ينطوي على النوعين من السجود والتسخير والاختيار. وسجود الصلاة هو معني اصطلاحي لما فيه من خشوع لله . وإذا أخذنا الاية التي يقول فيها الله تعالي : ألا بذكر الله تظمئن القلوب “ أمكننا القول أن مبيت الليل في العبادة شطر منه يكون ساهرا في ذكر الله وشطر أخر يكون نائما مطمئن القلب من ذكر الله وهو المقصود هنا بالسجود.وكان من فضل الله ورحمته بعبده الذاكر له أن اعتبره عابدا وهو قائم بذكره وهو نائم مطمئن القلب ، كأي ساجدا بالمعني اللغوء للسجود ،بذكره.وإذا قام الليل مصليا وفي الصلاة ركوع وسجود ، ثم سجد باقي الليل ، أي نام مظمئنا ، يكون قد حقق في ليله سجدتين واحدة في اليقظة وثانية في نومه. ويعزز ذلك قول الله سبحانه وتعالي في مثل هذا المعني : "أَمَّـنْ هُوَ قَانِـتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ"( الزمر:9) ، وهنا وصف الله العابدين بالعلم الذين هم قانتون طول الليل ، أي خاضع لله ، ساجدا وقائما ، أين نائما وقائما بالذكر والعبادة يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه ، أي يلتمس رحمة ربه في الآخرة ، فهذا الذي علم مقام ربه وبات في عبادته وذكره ليس مثل من لم يعلم ولم يقض شطرا من الليل في عبادته وهجع في باقيه. والله تعالي يقول :"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً"(الأحزاب -41 )
كما يسجد المؤمن أيضا وهو يقرا القرأن سجود تلاوة مثل سجود الصلاة المفروضه في عشرة مواضع محددة هي :
- سورة الأعراف : الآية 206 . 2- سورة الرعد : الآية 15 .
3- سورة النحل : الآية 49 4- سورة الإسراء : الآية 107 .
5- سورة مريم : الآية 58 6- سورة الحج : الآية 18 .
7- سورة النمل : الآية 25 8- سورة السجدة : الآية 15 .
9- سورة الفرقان : الآية 60 10- سورة فُصِّلت : الآية 38

ويقول العزالي في إحياء علوم الدين :إن الله تعالي أوحي إلي بعض الصديقين:إن لي عباداً من عبادي يحبوني وأحبهم ، ويشتاقون إليَّ وأشتاق إليهم ، ويذكروني وأذكرهم ، وينظرون إليَّ وأنظر إليهم ، فإن حذوت طريقهم أحببتك وإن عدلت عنهم مقتك قال:- يا رب وما علامتهم ؟ قال:-يراعون الظلال بالنهار كما يُراعي الراعي الشفيق غـنمه ، ويحنون إلي غروب الشمس كما يحن الطائر إلي وكره عند الغروب ، فإذا جنَّـهم الليل واختلط الظلام وفـُرشت الفرش ونصبت الأسرةوخلا كل حبيب بحبيبهنصبوا إلي أقدامهم وافترشوا إلي وجوههم وناجوني بكلامي وتملقوا إلي بإنعامي فبين صارخ وباك ، وبين متأوه وشاك ، وبين قائم وقاعد ، وبين راكع وساجد ، بعيني ما يتحملون من أجلي ، وبسمعي ما يشتكون من حبي ، أول ما أعطيهم ثلاث:-- أقذف من نوري في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم .- لو كانت السموات والأرض وما فيها في موازينهم لا ستقللتها لهم.- أقبل بوجهي عليهم : فتري مَن أقبلت عليهم يعلم أحد ما أريد أن أعطيه.

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :التعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن، في جنح الليل والناس نيام. فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يتوجهون لربهم وحده، ويقومون له وحده، ويسجدون له وحده. هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون؛ ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام.
وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلىء قلوبهم بالتقوى، والخوف من عذاب جهنم. يقولون: { ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً. إنها ساءت مستقراً ومقاماً .

5- “والذين يقولون ربنا أصرف عنا عذا ب جهنم إن عذابها كان غراما»:
وفي هذه الأية أقرار بضعف النفس البشرية وحاجتها لصرف السوء عنها الذي قد ينتهي بها إلى جهنم ، فصرف عذا ب جهنم هنا يعني صرفهم عما يفضي بهم إليها والذي يحتاجون فيه إلى عون الله ، ويذكرنا هذا بقصة النبي يوسف الذى هم بزليخا زوجة العزيز بعد أن أغوته حتي رأي برهان ربه ، ولم يذكر الله قصص المرسلين والنبيين عبثا وإنما لالتماس العلم والمعرفة والحكمة والعظة منها ، وزيادة المؤمنين نورا على نور ، أي علما على علم ، ويهدي الله لنوره من يشاء من عباده. والمؤمن يدرك من ذلك ألا عصمة له من الخطيئة إلا أذا عصمه الله منها ولا يتأتي له ذلك ما لم يكن من الذاكرين والصابرين والشاكرين وأولي العزم من طالبي العلم والحكمة والساعين اليها سعيها.
وقولهم "اصرف عنا عذاب جهنم "يعني أبعد ه عنا ويقول الشيخ الفرضاوي عن هذه الصورة البيانية باستعمال لفظ : "اصرف عنا "توحي كما لو أن النار تلاحقهم وتطاردهم ،فيقول :”تعطي دلالة كبيرة وكأن النار تلاحقهم وتجري وراءهم، فهم يرجون ربهم ان يصـرف عنهم عذاب جهنم لأن عذابها كان غراما أي لازماً ودائماً لأصحابها...” .فغراما هنا تعني ما فاله الشيخ ، وفيه تشبيه بغرام شخص بأخر فيابي مفارقته بمعني أن النار لو لحقت بهم فلن تفارقهم ولن يكون بإمكانهم الانفكاك منها ما لم يصرفها عنهم الله سبحانه وتعالى.وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله ‏"‏ان عذابها كان غراما‏"‏ قال‏:‏ ملازما شديدا كلزوم الغريم غريمه ، قال‏:‏ وهل تعرف العرب ذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ أما سمعت قول بشر بن أبي حازم‏:ويوم النسار ويوم الجفار * كانا عذابا وكانا غراما .ونقل عن الحسن قوله عذابها :‏ قد علموا ان كل غريم يفارق غريمه إلا غريم جهنم‏. والآية التالية المكملة لهذه الأية تصف جهنم بقولها: إنها سائت مستقرا ومقاما.أي بئست جهنم منزلاً ومكان إقامة قال القرطبي: المعنى بئس المستقر وبئس المقام، فهم مع طاعتهم مشفقون خائفون من عذاب الله، وقال الحسـن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل فرَقاً من عذاب جهنم .
ويقول الأستاذ سيد قطب:«".. وما رأوا جهنم، ولكنهم آمنوا بوجودها، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم. فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق، وثمرة التصديق.
وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم. لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجداً وقياماً؛ فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم، ولا يرون فيها ضماناً ولا أماناً من النار، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته، فيصرف عنهم عذاب جهنم.
والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد، متصدية لكل بشر، فاتحة فاها، تهم أن تلتهم، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً، يخافونها ويخشونها، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها!
ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفاً وفزعاً: { إِن عذابها كان غراماً }: أي ملازماً لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله؛ فهذا ما يجعله مروعاً مخيفاً شنيعاً.. { إِنها ساءت مستقراً ومقاماً } وهل أسوأ من جهنم مكاناً يستقر فيه الإنسان ويقيم. وأين الاستقرار وهي النار؟ وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار!»

6-» وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً “
وكثيرا ما يستشهد القائلون بالوسطية بهذه الآية ضمن ما يستشهدون به من أيات القرآن الكريم ، وهي أبعد ما تكون عن ذلك. فقواما هنا تعني العدل في الإنفاق باتفاق المفسـرين. وتعني أيضا ما يقوم بحاجتهم . والأية تصفهم هنا بأنهم أذا أنفقوا عى أنفسهم لايريدون في انفاقهم عن ما يقوم بحاجتهم الضرورية وفقا لحجم التزاماتهم بالنسبة لمن يعولونهم ومستوي معيشه مثلهم . ولا يقترون عليهم أيضا وإنما التزموا ما تقتضيه عدالة المعاملة والاعتدال فيها. وقد يقتضي الأمر هنا من أجير ما أن ينفق أجره كله ليكون عادلا مع أهله لأنه لايقوم بحاجتهم أقل منه . بينما آخر أكثر دخلا ينفق ثلاثة أرباع مرتبه ويدخر الربع الباقي لآن ما أنفقه يقوم بحاجة عياله بمفتضي العدل ، ولا علاقة للأمر هنا بالوسط بين الأمرين، الانفاق والتقتير ، والمعنى: ليسوا مبذرين في إِنفاقهم في المطاعم والمشارب والملابس، ولا مقصِّرين ومضيِّقين بحيث يصبحون بخلاء”وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا”أي وكان إنفاقُهم عادى و معتدلاً لاهو يدخل ضمن الإسراف ولا يعد تقطير. ومثله قوله تعالي :« ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط ، فتقعد ملوما محسـورا”.أخرج أحمد عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏من فقه الرجل رفقه في معيشته‏"‏‏.‏ ونقل ابن جرير وغيره عن ابن عباس في ":والذين إذا أنفقوا لم يسـرفوا ولم يقتروا‏"قوله:‏ هم المؤمنون‏.‏ لا يسـرفون فيقعوا في معصية الله، ولا يقترون فيمنعون حقوق الله.ويرى الشيخ القرضاوي مثل بعض الفقهاء القدامي إن التبذيرالمقصـود في الآية هو الانفاق في الحرام ،والإسراف هو التوسع في الانفاق الحلال، وقد نهانا الله عن الاسراف ليلفتنا إلى أناس ربما لا يجدون ما يسدون به رمقهم فضلا عن البيت الذي يسكنه أو الدواء الذي يلزمه. وهذا يخالف قول مجاهد:: "لو أنفقت مثل جبل أبي قُبيس ذهباً في طاعة الله ما كان سَرفاً، ولو أنفقت صاعاً في معصية الله كان سرفاً فيقال: عملت يوم كذا وكذا ، كذا وكذا فيقول: نعم. لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه “ . وإذا رجعنا إلى قوله تعالي : يسـألونك ماذا ينفقون (أي فس سبيل الله ) فل : العفو” يتضـح أن مازاد عن العفو( أي ما يفيض بعد سد الحاجه ) يعد أسرافا حتي لو كان صدقات في سبيل الله. لأن أهل بيته وسد حاجتهم أولي . كما أن إنفاقه أي مال في معصية الله مما زاد عن حاجته وحاجة أهل بيته ،يكون إسرافا كما جاء في الشق الثاني من كلام محاهد. حيث لايجوز أن يبدد ما أنعم به الله عليه فيما يخالف به أمر الله وفيم حرمه عليه ..

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات؛ ويتجه إليها في التربية والتشريع، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال. والمسلم ـ مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة ـ ليس حراً في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء ـ كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير. فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع؛ والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والإسراف والتقتير يحدثان اختلالاً في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب. ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان”.

7- “وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ “
أي لايشركون بعبادة ربهم أحدا وهم في ذلك في نبذ الشرك وتوحيد الله على مثل ماقال تعالي “قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله. قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين. قل إني على بينة من ربي وكذبتم به ما عندي ما تستعجلون به إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين.»( الأنعام : ـ 57)وقوله :« إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون.وإن تدعوهم الى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون اليك وهم لا يبصرون. خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.»( الأعراف 196 ـ 199).

ويقول الأستاذ سيد قطب :”وتوحيد الله أساس هذه العقيدة، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد؛ والغموض والالتواء والتعقيد، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة.والتحرج من قتل النفس ـ إلا بالحق ـ مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن؛ وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء. »

8 -وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ”

ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بما يحـقُّ أن تُقتل به النفوس، في جهاد في سبيل الله ضد معتد غاصب لرده عن أرض المسلمين أو دفاعا عن النفس من ذاك المعتدي إذا كان يستهدف القضاء على حياته أو قتل من كفرٍ بعد إيمان، أو القتل قِصاصاً مالم يكن القتل بالخطأ أو يعفو ولي القتيل عن القاتل ويقبل الدية فيه.كما يعد ذلك أيضا تحريم للإجهاض تحريما مطلقا لأن فيه قتل لنفس بغير حق ، وقد رأينا في تاريخ المسلمين القديم والحديث كيف قتل أناس بغير وجه حق بدعوى الخوف من أن يزعزعوا سلطة الحاكم ، وكيف حكم على ابرياء بالإعدام بالشبهة أو اعتراف للتخلص من تعذيب وحشـي بجرم لم يرتكبوه ، أو بمحاكمة نوايا قديمة لهم لم تتحول إلى أفعال وتخلوا عنها.

9- وَلاَ يَزْنُـونَ”
أي لا يرتكبون جريمة الزنا التي هي أفحش الجرائم ، ولايتعدون ما أحله الله وهو معاشرة الزوجة أو الزوج حسب الأحوال إلى ما حرمه . فيستبدلون بذلك الطيب بالخبيث. وأسوء الزنا هو الذي يكون مع المرأة المتزوجه أو الرجل المتزوج والذي يعد بمثابة سرقة واغتصاب ماهو حق للغير الغافل في غيابه. ولذا يعد أكل أموال الناس بالباطل ، أو أخذها منهم غصبا من جنس الزنا ، ومشابه له.

“وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يضاعف له العذا ب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا“
“وَمَـنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا”أي ومن يقترف تلك الموبقات الكبائر من الشرك والقتل والزنى ينتظره في الآخرة النكال وأشد العقاب حيث”يُضَـاعَفْ لَـهُ الْعَذَابُ يَـوْمَ الْقِيَامَةِ،” أي يُضاعف عقابُه ويُغلَّظ بسبب الشرك وبسبب المعاصي “وَيَخْلُدْ فِيـهِ مُهَانًا” أي يُخلد في ذلك العذاب حقيراً ذليلاً أبد الآبدين . ويقول الشيخ القرضاوي إنهم بذلك " يجتنبون الكبائر من المعاصي وأكبر الكبائر هو الشرك بالله عز وجل، ويليه قتل الأنفس التي حرم الله، وبعد ذلك الزنا، وذلك إشارة إلى الاعتداء على الدين ثم النفس ثم العرض،"أما غيرهم ممن يقترف تلك الأثام فإن الله يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا . ما لم يتوبوا ويؤمنوا ويعملوا الصلحات في حياتهم . قال تعالي في الآيتين التاليتين :”إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(70)وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا(71)»فالتوبة لكي تكون مقبولة عند الله يجب أن يصدق بعدها إيمان صاحبها وأن يتبع إيمانه العمل الصالح ، فبهذا يكون قد تاب حقا إلى الله ، وبدون ذلك لايكون لتوبته معني أو قيمة تستحق أن يعتد بها. ومن تاب وأمن وعمل صالحا أنقذ نفسه من العذاب الذي أوجبه سوء عمله السابق على التوبة.
وفي سبب نزول الآية(68): "وَالَّذِينَ لا يَدْعُـونَ مع الله إلها آخرا ...": نقل عن ابن مسعود قوله: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي الذنب أعظمُ ؟ قال: "أن تجعل لله نِدّاً، وهو خَلقَك"، قلتُ: ثم أي ؟ قال: "أن تقتلَ ولدك مخافةَ أن يَطْعم معك"، قلت: ثم أي ؟ قال: "أن تُزاني حليلة جارك" فأنزل الله تصديقها: “وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ” الآية.
الإ أن القرآن الكريم لم يأخذ بتحديدات الرسول وجعل القتل لأي نفس والزنا بأي امرأة ، وأخرجا رواية عن ابن عباس: أن ناساً من أهل الشرك قَتَلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لِما عملنا كفارة؟ فنزلت: “وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ” إلى قوله:”غفوراً رحيماً ». ونزل: “قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِيـنَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْـمَةِ اللَّـهِ
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ” الآية [الزمر: 53].
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :م يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح: « إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً “ ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة: « فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات “. وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال، وثاب إلى حمى الله، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة. « وكان الله غفوراً رحيماً ..وباب التوبة دائماً مفتوح، يدخل منه كل من استيقظ ضميره، وأراد العودة والمآب. لا يصد عنه قاصد، ولا يغلق في وجه لاجئ، أياً كان، وأياً ما ارتكب من الآثام.
روى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير " عن أبي فروة، أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال: " أسلمت؟ " فقال: نعم. قال: " فافعل الخيرات واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها " قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: " نعم ". فما زال يكبر حتى توارى ".
ويضع قاعدة التوبة وشرطها: « ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متاباً ».. فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية. وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية. فالمعصية عمل وحركة، يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع. وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة، تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة. ومن أخبر من الخالق بما خلق؟ سبحانه وتعالى!»

10- « وَالَّذِيـنَ لا يَشْـهَدُونَ الزُّورَ”
الزور، هو: الكذب والفسق والكفر واللغو والباطل، كما في الصحيحين عن أبي بكرة قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا قلنا: بلى يا رسول الله، قال: "الشرك بالله وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور ألا وقول الزور" فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب، أنهم لا يؤدون شهادة زور، لما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم. وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعاً منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع.

11-« وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا”
وإن مرؤا باللغو مروا كراما أى لا يحضرونه . ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله : وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر: { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } لا يشغلون أنفسهم به، ولا يلوثونها بسماعه؛ إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل.

12- وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَــات رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا
أى أن حالهم يختلف عن حال غير المؤمنين الذين لايؤثر فيهم سماعهم آيات الله فيستمرون على حالهم كأن لم يسمعونها. ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله:« وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان؛ لا يسمعون ولا يبصرون، ولا يتطلعون إلى هدى أو نور. وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى.
فأما عباد الرحمن، فهم يدركون إدراكاً واعياً بصيراً ما في عقيدتهم من حق، وما في آيات الله من صدق، فيؤمنوا إيماناً واعياً بصيراً، لا تعصباً أعمى ولا انكباباً على الوجوه! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير.»

13- وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا
أي يدعون ربهم ليجعل لهم من أزواجهم وما أنعم عليهم به من ذرية ما يسرهم اونفرحهم ويسعهم رؤيتهم وأن يتوفق في طاعة الله ، ويكونون دعاةً إلى الخير هُداة مهتدين بما يجعلهم نستحقون أن يكونوا قُدوة يقتدي بها المتقون، قال ابن عباس: أي أئمة يقتدى بهم في الخير.جعل الله سبحانه وتعالى للإمامة في هذا الدين شرطين أساسيين الصبر والايمان اليقيني القوي، فقال تعالى: قال تعالي : "وحعلنا منهم أئمة لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"(السجدة:24) والدعاء :« إجعلني اللمتقين إماما” يعني الهمني الصبر ومتعني بقوة الإيمان لكي أكون نموذجا طيبا للمؤمنين يقتدي به الناس.والإمامة هنا تعني ذلك ، أما الإمام الذي تتبعه أمه وتأتم به فلا يجب أن يكون للآمة غير إمام واحد تهتدى بهديه حتى لا تتفرق بها السبل ، وإمام الأمة المسلمة هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإمامته لا تورث من بعده ، ولا أمام للأمة سواه حيا وميتا.ويقول الأستاذ سيد قطب: «وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق: شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله. وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال. والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير، يأتم به الراغبون في الله. وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله.»
فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان:

أُوْلَئِـكَ يُجْـزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّـوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا(75)أي يتبوؤن منزلة عالية في الجنة، لقاء طاعتهم لربهم وتوحيدهم له وعدم معصيته وصبرهم على الابتلاء والمكاره، وتدخل عليهم الملائكة تحييهم وتسلم عليهم كقوله تعالى “وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُـونَ عَلَيْهِـمْ مِـنْ كُلِّ بَابٍ* سَلامٌ عَلَيْكُمْ”. أي أنهم نحاطون بالترحاب والتكريم في الملأ الأعلي.

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :"والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة، أو المكان الخاص في الجنة، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض، عندما يستقبلون الأضياف. وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم، يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام، جزاء ما صبروا على تلك الصفات والسمات. وهو تعبير ذو دلالة. فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس، ومغريات الحياة، ودوافع السقوط. والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر. الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان.
وفي مقابل جهنم التي يتضرعون إلى ربهم أن يصرفها عنهم لأنها ساءت مستقراً ومقاماً، يجزيهم الله الجنة “ خالدين فيها. حسنت مستقراً ومقاماً “ فلا مخرج لهم إلا أن يشاء الله. وهم فيها على خير حال من الاستقرار والمقام.
والآن وقد صور عباد الرحمن. تلك الخلاصة الصافية للبشرية. يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء. فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزام.
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا(76) فيتم تعويضهم عن حياة زائلة بطبيعتها وزالت بحياة دائمة مديدة لانهاية منظورة لها ولكنها ممتدة إلى ما شاء الله ، ويلقون فيها جزاء إحسانهم السابق في الدنيا إذ مستقرا ومقاما حسنا.

قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُـمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ :
أي قل لهم يا محمد: لا يكتـرثُ ولا يحفلُ بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إيّاه في الشدائد . هو الذى جعله يهتم بكم رحمة منه وكرما . وفي نفس الوقت تحث الآية المؤمنين على التوجه لله سبحانه وتعالي بالدعاء ،وطلب رحمته وعونه في كل أمر . فالدعاء هو نوع من الذكر والعبادة أيضا . ومثل ذلك قوله تعالي :« قل ادعوني أستجب لكم “ وقوله سبحانه وتعالي:«وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان “ والدعاء لا يقتصر على معني الطلب وإنما يمتد إلى كل ماهو ذكر واستغفار وإقرار بوحدانية الله ...الخ ومن ذلك دعاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه دعاء الأنبياء قبله وهو: أشهد ألا إله الاالله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيذه الخير، وهو على كل شيء قدير”.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :"وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها؛ ومساقها للتسرية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم، وتطاولهم عليه، وهم يعرفون مقامه؛ ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون.. فما قومه؟ وما هذه البشرية كلها، لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله. وتتضرع إليه. كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون؟"

أدعية القرآن :
وقد ورد في القرآن الكريم نماذج كثيرة للدعاء أوردها منها ما يلي:
1- (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة/201]
2- (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة/250]
3- (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة/286]
4- (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران/8]
5- (رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران/16]
6- (رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران/38]
7- (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَِ) [آل عمران/53]
8- (ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَِ) [آل عمران/147]
9- (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد ِ) [آل عمران/191-194]
10- (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف/23]
11- (رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف/47]
12- ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف/126]
13- (حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) [التوبة/129]
14- (رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس/85-86]
15- (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) [هود-47]

فَقَدْ كَذَّبْتُـمْ فَسَوْفَ يَكُـونُ لِزَامًا(77)".: أي فقد كذبتم أيها الكافرون بالرسول والقرآن فسوف يكون العذاب ملازماً لكم في الآخرة.كما أن المسلم الذي يحجم عن الإحسان المطالب به في الدنيا بموجب عقيدته وكتاب الله ووما سنة رسوله يعد أيضا مكذبا بهما ، إذا لو كان مصدقا بهما حقا لعمل بهما وأطاع الله ورسوله.

المؤمنون في سورة العصــر

قال تعالى:*بِسْـمِ اللّهِ الرَّحْمـنِ الرَّحِيـمِ "وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ*" (العصر:1-3)
بيان تخلص السورة جميع المعارف القرآنية وتجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان، وهي تحتمل المكية والمدنية لكنها أشبه بالمكية.
وسورة العصر على قصرها سورة جامعة شاملة لخير الدنيا والآخرة للعلم والعمل، للعمل الخاص والعمل المتعدي, وجاء عن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- "أنه لو ما أنزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم".وبالإمكان في تفسير هذه السورة أن يتكلم المتحدث عن جميع أبواب الدين؛ لأنها في ألفاظها الوجيزة كل لفظ يدخل تحته من أصول وفروع الدين.
وورد أن الصحابة -رضوان الله عليهم- كانوا إذا التقى أحدهم بالآخر لم يفترقا حتى يقرأ أحدهم أو أحدهما سورة العصر،
قوله تعالى: “وَالْعَصْرِ”
لاأدرى لغمري لما يصر المفسرون على أن حرف الواو هو حرف له دلالة القسم فقط بينما الواو في اللغة تدل على التنبيه أو تستعمل للعطف على ما سبق ، فالواو العاطفة معناها مطلق الجمع، فتعطف الشيء على مصاحِبِه، وسابقِه ولاحقِه، من غير دلالة على الترتيب أو عكسه. أوتدل على المصاحبة .وهناك الواو الاعتراضية: وتقع بين مُتَطالِبَيْن: (كالمبتدأ والخبر - الفعل وفاعله - الفعل ومفعوله - الموصوف وصفته) نحو : إن الصحافة ، وقد خبرتها، مهنة متعبة .وهناك الواو الاعتراضية: وتقع بين مُتَطالِبَيْن: (كالمبتدأ والخبر - الفعل وفاعله - الفعل ومفعوله - الموصوف وصفته) نحو : إن الصحافة ، وقد خبرتها، مهنة متعبة.
والواو الدالة على الحال: وتدخل على الجملة الاسمية والفعلية نحو:"سافرت و المطر منهمر، وعدت و قد انقطع " و واو المعية : وينتصب بعدها الفعل المضارع ، لعطفه على اسمٍ صريح او مؤوَّل. فالصريح نحو: و لُبسُ عباءةٍ وتقرَّ عيني أحبُّ إليَّ مِن لُبسِ الشُّفوفِ . والمؤوَّل ، شرطُه ان تُسبَق الواوُ بنفيٍ او طلب :فالنفي نحو: 'أم حسبتم أنْ تدخلوا الجنّة ولمّا يعلمِ اللّهُ الذين جاهدوا منكم ويعلمَ الصابرين "، والطلب نحو:لا تنهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَهُ عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عظيمُ و واو المفعول معه : نحو:سرت و الجبلَ .
واو القسَم: وهي حرفُ جرٍّ، ويأتي عقبها المقسوم به ¨ واو ربَّ : ولا تدخل إلاّ على اسمٍ نكره مجرور بـ "ربَّ" محذوفة نحو : قول امرؤ القيس:وليلٍ كموجِ البحر أَرْخَى سدولَهُ عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي . وقد تأتي ضمير رفع في نحو : "كانوا سافروا ، وقد يعودون".وتأتي كعلامة رفع، في الأسماء الخمسة ، وجمع المذكّر السالم ، نحو:" سافر أخوك ومعلّموه ".وتأتي زائدة نحو ان تُسْألَ : "أسافرت؟" فتجيب : "لا و عافاك الله". وقد تستعمل أيضا للنداء ، كما هو الحال في الاستعمال الدارج لها.أو للاستئناف على نحو: "لنبيِّنَ لكم ونُقِرُّ في الأرحام ما نشاء " إذن لها في اللغة استعمالات شتي وليست قاصرة على دلالة القسم. وقد تكون في بداية كل سورة لها معني أو دلالة لغوية مختلفة عن الأخري . والأقرب إلي العقل أن الله ليس في حاجة إلى القسم بالعصر أو الضحي وبالليل، و بالفجر، أو غير ذلك .ولذا قال بعض أهل العلم أن ثمة مقسم به مضاف إلى العصر محذوف فيقول: ورب العصر، وهناك أيضا ملاحظة لم يتم الانتباه إليها وهي أن غالبية استعمال الواو جاء في السور المكية وليس المدنية وللسور المكية خصائص غير السور المدنية ، وفي السور المكية يتم الإخبار بوقائع وأحداث مستقبلية بلغة الاستعارة أو الرمزيات التي يقتضيها التنبؤ ، ولعل هذا الذي جعل المشركين يختلط عليهم الأمر ويرون في صيغ الأيات المكية اللغوية ما يشبه كلام الكهان الذين يتنبؤون بالغيب. والعصر هنا هو الزمن ، وإذا كانت الواو للتنبيه فيكون المراد تنبهوا ألى الزمن الذي يكون بني الانسان فيه خاسرين إلا من أمن وأصلح أو عمل صالحا. وإذا كانت للعطف على ما سبقها من أيات ، كاستطراد لبيان معني ما سبق ، فستكون إما عطفا على ما سبقها مباشرة في ترتيب النزول أو ما سبقها مباشرة في المصحف الشريف.وبالنسبة لسورة العصر هنا سنجدها نزلت بعد سورة الانشراح التي يقول فيها تعالي: "أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ * فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ *? وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ * "(الانشراح :1-8)، ويكون أيضا من المنطقي يعد أن ذكل الله رسوله بأنه شرح قلبه بالحق وبشره بأن بعد العسر يسر ، أن يواصل الحديث في نفس السياق ويطالبه بالتمسك هو والمؤمنين بالحق والصبر لكي يكون في ذلك الربح وتجنب الخسارة ، وهو خلاصة ماورد في سورة العصر.
وفي ترتيب وجودها بالمصحف سنحدها وردت بعد سورة التكاثر التي تتحدث عن زيارة المقابر والتي جاء فيها: "أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ “ (التكاثر:1-8)
". والجحيم هنا هو ذروة الخسران في الأخرة . وهذا الخسران لا يستثني منه سوي من أمن وعمل صالحا وتواصي مع المؤمنين والصالحين أمثاله بالحق والصبر. وهم الدين ينعمون في الآخرة.
واذا كان المقصود بالعصر هنا هو الزمن ، فقد يكون الزمن هنا على إطلاقياته وقد يكون زمن الرسالة ، وقد يكون زمن يقع في زمن الانسانية موقع وقت العصر في النهار ، أي قرب نهاية الزمن واقتراب اليوم الأخر والقيامة. وقد يكون العصر المقصود هو القيامة ذاتها. وقد يجمع اللفظ هنا بين دلالتين : العصر بمعني الزمن والعصر أيضا بمعني الحساب الذي يتم فيه اعتصار الانسان أثناء محاسبته.وكل الدلالتين يتفقان مع سياق معاني السورة في مجملها.وقيل أيضا العصرهو الليل والنهار، محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر، والخاسر ضد الرابح.

إأما القول بأن المراد به صلاة العصر لأنها تفضل باقي الصلوات فهو قول لا يوجد ما يبرره سوى القول بأن الصلاة الوسطي هي صلاة العصر وهو تأويل للصلاة الوسطي لا يتفق مع السياق الذي وردت فيه في سورة البقرة والذي هو سياق الحديث عن الزواج والطلاق وليس الحديث عن الصلوات المفروصة , والذي يجعل أقرب معني للصلاة الوسطي هو صلات الرحم.
أما المراد بالإنسان فهو جنسه، أي الانسان في مفهومه المطلق .ذكرا وأنثي ، والايمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والصبر لايولد بهما الانسان وإنما يقدم عليهما أو لايقدم بعد ذلك خلال حياته , ولذا فالأسلس أو القاعدة أن كل البشر في خسر ويتم الاستثناء من الخسران من أنقذ نفسه منه بالايمان والعمل الصالح. وجاءالتَّأْكِيدْ بإنَّ ؛ لأنَّ “ إنَّ “ حَرْف توكيد ونصب و “ لفي “ المُؤكدة “لَفِي خُسْر”
ويتفق ذلك مع قوله تعالي: «الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين»: الزمر 15. والقرأن يفسر بعضه بعضا.ويكون قوله تعالى:« إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ” استثناء من جنس الإنسان الواقع في الخسر، والمستثنون هم الأفراد المتلبسون بالإيمان والأعمال الصالحة فهم آمنون من الخسر. والخسارة مراتب متعددة متفاوتة:قد يكون خسارًا مطلقًا، كحال من خسر الدنيا والآخرة، وفاته النعيم، واستحق الجحيم.وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض، ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان، إلا من اتصف بأربع صفات:الإيمان بما أمر الله بالإيمان به، ولا يكون الإيمان بدون العلم، فهو فرع عنه لا يتم إلا به.والعمل الصالح، وهذا شامل لأفعال الخير كلها، الظاهرة والباطنة، المتعلقة بحق الله وحق عباده ، الواجبة والمستحبة. ، فَكُلُّ إنْسَانْ مَحْكُومٌ عليهِ بالخَسَارَة ، إلاّ مَنْ اسْتُثْنِي ، فَكُلُّ إنْسَانٍ يَتَّجِه إليْهِ قَوْلُ الله جلَّ وعلا”إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ “ ثُمَّ بعد ذلك اسْعَ في خَلاصِ نَفْسِك مِنْ هذهِ الخَسَارَة ، وحَقِّقْ مَا بَعْدَ إلاّ ، حَقِّقْ مَا بَعْدَ إلاّ لِتَنْجُو مِنْ هذهِ الخَسَارة الفَادِحَة التِّي لَيْسَتْ خَسَارة الدَِّراهِمْ والدَّنَانِيرْ ، الخَسَارة خَسَارة الآخِرَة ، ولذلك يقُولُ الله جَلَّ وعلا “ذَلِكَ يَـوْمُ التَّغَابُنِ”( التغابُن:9 ) يعني التَّغَابُن الحَقِيقِي هُنالِكْ لا فِي الدُّنْيَا ، فَلًوْ أنَّ إنْسَان فَقَد جميع ما يَمْلِك في هذهِ الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ ، ووَلَدْ ، وجَاهٍ ، وصِحَّة ، وبَقِيَ لَهُ رَأسُ مَالِهِ الذِّي هُو الدِّينْ هذا لَيْسَ بِخُسْرَانْ ؛ لَكِنْ لَوْ خَسِرَ دِينَهُ ، وبَقِيَ جَمِيع مَا يَمْلِكْ فِي هذهِ الدُّنْيَا ، وأضْعَافْ أضْعَافْ مَا كَانَ يَمْلِك لَفِي خُسْر ، ،والنَّتِيجَة لا شـيء ، عِبَرْ ؛ لِنَعْرِفْ الخَسَارَة الحَقِيقِيَّة”قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيـهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ” [ الزُّمَر: 15 ] ، ، أمَّا خَسَارَةُ الدُّنْيَا ، فالدُّنْيَا عَرَضٌ يَطْرَأُ ويَزُولْ ، اأنَّ الخَسَارة خَسَارَةُ الدُّنْيَا لا شَيْء بالنِّسْبَة لِخَسَارة الدِّينْ أوْ شَيء من الدِّينْ و كتاب الله يبين أن حياة لا تنقطع بالموت وإنما الموت وانما هي مستمرة بعذه وما الموت سوى انتقال منالحياة الدنيا ‘لى الحياة الأخرة كما في قوله تعالى: «على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون»: الواقعة 61، وقوله: «و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع»: الرعد 26، وقوله:«كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة»: الأنبياء 35. وقوله : «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى»: النجم 41، وقال: «من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون»: (الروم 44)، وقال: «من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها»: ( السجدة :46)، وقد سمى الله تعالى ما سيلقاه الإنسان في الآخرة جزاء وأجرا في آيات كثيرة.
و يتبين بذلك كله أن الحياة رأس مال للإنسان يكسب به ما يعيش به في حياته الآخرة فإن اتبع الحق فوعمل صالحا في الحياة الدنيا ربحت تجارته وأمن االخسارة في الدنيا والأخرة ، وإن اتبع الباطل وأعرض عن الإيمان والعمل الصالح فقد خسرت تجارته وحرم الخير في عقباه وهو قوله تعالى: «إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات».
و المراد بالإيمان الإيمان بالله ومن الإيمان بالله الإيمان بملائكته وبكتبه و رسله وا باليوم الآخر والقدر خيره وشره. والايمان لا ينفعه وحده مالم يصاحبه ويلابسه العمل الصالح . فقوله : «وعملوا الصالحات» يعني التلبس بجميع الأعمال الصالحة ، والتي يدخل ضمنها التواصي بالحق والتواصي بالصبر مع غيره ممن معه من المؤمنين والصالحين .والإيمانُ : قَوْلٌ باللِّسَانْ ، واعْتِقَادٌ بالجَنَانْ ، وعَمَلٌ بالإحسان ، هذهِ أَجْزَاؤُهُ التِّي يَتَرَكَّبُ منها ، فَمُجَرَّد الاعْتِقَادْ لا يَكْفِي ؛ لأنَّهُ دعوى ، لابُدَّ عليها من دَلِيلْ يُثْبِتُها بالقول ، فالنَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام أمر أنْ يُقاتل النَّاس حتَّى يقُولُوا لا إله إلا الله ، فَلا بُدَّ من القول ، والقول أيضاً دعوى مَا لَمْ يُصَدِّقْها العمل ، كما قال الحسَنْ " لَيْسَ الإيمانُ بالتَّحَلِّي ولا بالتَّمَنِّي ؛ ولكِنْ الإيمانُ مَا وَقَر في القَلْب ، وصَدَّقَهُ العمل " .قوله : "إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ" ، عَطْـفْ الأعمال على الإيمـانْ من باب عطف الخاص على العام ، للاهتمام بِشَأْن الخَاص، والعِنَايَةِ بِه، و إلاَّ فالإيمـانْ مُتَطَلِّـبٌ للأعْمَـالْ ، فَلا بُدَّ من العمل في الإيمان، فالتَّنْصِيصُ عليهِ ـ أي العَمَلْ ـ للاهْتِمَامْ بِشَأْنِهِ ، والعِنَايَةِ بِهِ، " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " والصَّالِحَاتْ جمعُ صَالِحَة أو صالح ، والعمل الصَّالِح مَا تَوَافَرَ فيهِ شَرْطَا القَبُول :وهما الإخْلاصْ فيه لله تعالي والطاعة فيه لله ولرسوله فيما يحقق مقاصد العقيدة والسرع.
فَلا بُدَّ من الإخلاص ، فَلَو أنَّ إنْسَاناً عمل جميع ما سَمِعَ بِهِ ، ومِمَّا جاء الحَثُّ عليهِ في الوحْيَيْنْ ؛ لَكِنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ فِي عَمَلِهِ لله سبحانه وتعالي ، ولـمْ يُرِدْ بِهِ طاعة في الله ومرضاة له ؛ فإنَّـهُ لا يُقْبَلُ مِنْيـهُ ، وإن خالف عمله ماف كتاب الله وسنة رسوله يرد عليه خسرانا :" مَـنْ عَمِلَ عَملاَ لَيْـسَ عليهِ أمْرُنا فَهُو رد " ، يعني مَرْدُودٌ عليهِ ، "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً " ( الملك :2 ) قال الفُضيل : أحْسَنُ عملاً : أخْلَصُهُ وأَصْوَبَهُ ؛ فـإنَّ العمـل إذا كَانَ خَالِصاً ، ولَمْ يَكُنْ صَواباً لَمْ يُقْبَلْ ، وإنْ كَانَ صَواباً ، ولمْ يَكُنْ خَالِصاً لَمْ يُقْبَلْ ، فَلا بُدَّ منْ تَحْقِيقْ هذيْن الشَّرْطَيْنْ ، الإخلاص لله جَلَّ وعلا ، وأنْ يَكُون صَواباً أ متفقا مع كتاب الله و سُنًَّة النَّبي عليهِ الصَّلاة والسَّلام .
. والتواصي بالحق والصبر هنا تخصيص من العام ، وتأكيد عليه في قوله تعالى« وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” وهنا إشارة إلى إندماج المؤمن في المجتمع المؤمن ، وتبادل المعرفة التي هي الحق و تبادل ما يعين على مواجهة الصعاب وهو الصبر . والتواصي بالحق هو أن يوصي بعضهم بعضا بالحق أي باتباعه والدوام عليه فليس دين الحق إلا اتباع الحق اعتقادا وعملا والتواصي بالحق أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لشموله الاعتقاديات ومطلق الترغيب والحث على العمل الصالح.

قوله تعالى : "إِلَّا الَّذِيـنَ آمَنُـوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " ابُدَّ من العمل لِتَتَـحَقَّقْ النَّجَاة من الخُسْرَانْ الذِّي حُكِمَ بِهِ على جَمِيع النَّاسْ ؛ لأنَّ الإنْسَانْ وإنْ كَانَ لَفْظُهُ لَفْظُ المُفْرَدْ إلاَّ أنَّ المُـرَادْ بِهِ الجِنْسْ ، ، ويُخْرِجُهُم من الحُكْم العَامْ بالخَسَارة على جميع النَّاسْ فَحَقَّقُوا الإيمَانْ ، وعَمِلُوا الصَّالِحات ، وبَقِي النَّفْع ، بَقِيَ النَّفْع المُتَعَدِّي ، فَعَلَى الإنْسَانْ أوَّلاً أنْ يَعْلَم ، ثُمَّ يَعْمَلْ لنفسه وللأخرين ومعهم،وفي تكرار ذكر التواصي تأكيد على أهمية ما يتم التواصي به .حيث قال: «و تواصوا بالصبر» ولم يقل: وتواصوا بالحق والصبر.
و على الجملة ذكر تواصيهم بالحق وبالصبر بعد ذكر تلبسهم بالإيمان والعمل الصالح للإشارة إلى حياة قلوبهم وانشراح صدورهم للإسلام لله فلهم اهتمام خاص واعتناء تام بظهور سلطان الحق وانبساطه على الناس حتى يتبع ويدوم اتباعه قال تعالى: «أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين»( الزمر :22).
و قد أطلق الصبر فالمراد به أعم من الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند النوائب التي تصيبه بقضاء من الله وقدر.
مِنْ مُتَطَلَّبَاتِ العمل الصَّالِح أنْ تَكُون هذهِ الأعمال الصَّالِحَة مُتَعَدِّيَة "وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ " التَّوَاصِي تَفَاعُل لابُدَّ أنْ يَكُون مِنْ طَرَفَيْن ، فَكُلُّ وَاحِدٍ يُوصِي أخَاهُ بالحَق الذِّي هُو الدِّينْ ، الدِّينْ بِجَمِيعِ فُرُوعِهِ وأُصُولِهِ هُو الحَق "فَمَاذَا بَعْدَ الْحَـقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ " ( يُونس: 32 ) فإذا تَواصَى المُسْلِمُونَ بالحَق نَجَوْا مِـنَ الخَسَارَة وتَواصوا أيْضاً بالصَّبْر ؛ لأنَّ الإنْسَان إذا عَلِم هذا الدِّينْ ، وهذا الإيمَانْ، وعَمِل بِهِ ، ودَعَا غَيْرَهُ إلى هذا المَطْلُوب المُنجي مِنَ الخَسَارة المَحْكُوم بِها على العُمُومْ ،ا يُوصِي نَفْسَهُ ، ويُوصِي غَيْرَهُ بالصَّبْر ، ويُوصِيهِ غَيرهُ أيْضاً بالصَّبْر ، لابُدَّ أنْ يَتَواصوا بالصَّبْر ؛ ، ويَتَجَمَّلَ بهذا الخُلُق العَظِيمْ الذِّي هُو الصَّبر ، فلا بُدَّ من الصَّبْر ؛ لأنَّ الجَنَّة حُفَّتْ بالمَكَارِه ، والمَكَارِه تَحْتَاجُ إلى صَبْر ، والصَّبْر حَبْسُ النََّفْس ، فَلا بُدَّ مِنْ أنْ يَصْبِرْ على طَاعَةِ الله وعدم معصيته، و أنْ يَصْبِر على أَقْدَار الله المُؤْلِمَة التِّي تُخَالِف مَا يَشْتَهِيه ، فعليه أنْ يَصْبِر على جمِيع مَا يَعْتَرِضُهُ فِي طَرِيقِهِ ، فِي عِلْمِهِ ، فِي عَمَلِهِ ، فِي دَعْوَتِهِ ، فِي أمْرِهِ ، فِي نَهْيِهِ وجميعِ ذلك ، يَقُول “ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ " ( البقرة : 155 ) وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ فَلا بُدَّ مِنَ الصَّبْر ،
ويمكن القول بأن التواصي بالحق أعم،من التواصي بالصبر، وأن الصبر نوع من أنواع الحق .وويكون التنصيص عليه من باب التنصيص على الخاص بعد العام . وقد يكون الأصح أن كل منهما مستقل بذاته ومطلوب أيضا لذاته ، وأن الحق هو العدل والصبر هو الرضي بما قضي به الله وقدره حتي لو كان ذلك صعبا على النفس .به وشدة العناية به، والحاجة إليه، فالتواصي بالحق قلنا إنه الدين بجميع ما يتطلبه الدين من أصول وفروع، يتواصى به مع غيره، فيوصي غيره ويوصيه غيره, ومع ذلك إذا ترتب على ذلك شيء مما يحتاج إلى صبر تواصوا به.
والتواصي هنا متبادل بينه وبين غيره وهو لا يعني ، كما فهمه البعض ، أن يذكر المؤمن أخيه بالكلمات بأن يلتزم الحق والصبر ، وإنما يعني أن يساند كل مهما الأخر بالقول والعمل في التزامه بالحق والصبر ، فليس المطلوب هنا نصحا وإنما المطلوب المشاركة في العمل الإيماني ، لأن التواصي هو من ضمن الايمان والعمل الصالح وليس مستقلا عنهما.وفي التواصي بالحق والصبر أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، بما يتفق مع قوله تعالي:"كُنتُـمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَـتْ لِلنَّـاسِ تَأْمُـرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَـوْنَ عَـنِ الْمُنكَرِ"( آل عمران : 110).والمعروف هنا هو التزام الحق والمنكر هو القنوط من رحمة الله .
والسورة هنا تجمع خمس خصال للمؤمنين:
1- التعامل مع الزمن ومع الناس بما يتحقق به الربح في الدنيا والأخرة .
2- الإيمان ، والإيمان إذا أطلق يكون شاملا للإيمان يالله ورسوله .
3- عمل الصالحات ، وعمل الصالحات يشمل كل ضروب الإحسان والأعمال المرتبطية به أو المنسوبة إليه.
4- التواصي بالحق ، أي التضامن في عمل الخير والبر والتزام الحق والعدل ، حيث الحق عدل والعذل حق.
5- التواصي بالصبر : أن يشد كل منهم أزر الأخر في تحمل المشقة والشدائد وهو معني التكافل أيضا.

المرتكزات الخمس في المجتمع الإيماني :

إقامة مجتمع الإيمان :
جاء في سور القرآن الكريم السابق ذكرها بيان لصفات المؤمنين ، وقد تم عرضا تفصيلا .و اهتمام الدين الإسلامي بذكر وتحديد صفات المؤمنين وأخلاقهم وسلوكياتهم يأتي من الحاجة إلى تحسين أدائهم فيما كلفهم الله به من استخلاف في الأرض لتعميرها والمحافظة عليها كما خلقها الله وسخرها للآنسان ليمشي في مناكبها محسنا فيها وهي يسعي للحصول على الرزق والتمتع بخيرات الله في الأرض . ويقيم الإسلام المجتمع المسلم على خمس دعائم يقتضيها الاستخلاف هي :
1 عمارة الأرض :بالوحدة وبالعمل الفائم على الايمان والمعرفة والتدافع المبني على التسابق في الخير والاحسان والتعاون على البر والتقوى والتكامل والتساخر الخالي من الظلم والعدوان والطغيان. وفي عمارة الأرض قال تعالى " هو الذي أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها .."العبادة في الإسلام نوعان: عبادة روحية ، وعبادة عمرانية. قال صلى الله عليه وسلم " الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق” . وفي الوحدة قال الله تعالي : "واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا".وفي العمل قال الله تعالى :"وفل اعملوا وسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" وقال: " من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها سنوفي إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون .. " ولا يتحقق الوجود االحقيقي في الحياة بغير طاعة الله ورسوله . قال تعالى:" يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم “. وفي التدافع قال تعالي : " ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع ومساجد يذكر فيها أسم الله كثيراً "ويدخل فيه قوله تعالي:" .. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاج ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم فيما كنتم فيه تختلفون ". وفي التعاون قال تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ".
وفي التكامل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة فيه , فلأخذ الناس يطوفون ويقولون ما أجمله وما أحسن لولا موضع لبنة فيه , فأنا اللبنة وأنا خاتم الأنبياء "
وفي التساخر المشمول بالتراحم ، قال تعالي: " .. أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون ".
2. إقامة العدل في المجتمع الإنساني .قال الله تعالي: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وأيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر يعظكم لعلكم ترحمون" وقال صلى الله عليه وسلم :"أيها الناس إن الله قد حرم الظلم على نفسه وجعله بينكم محرماً فلا تظالموا "وحكم الله هو ذروة الحق والعدل . قال تعالى:" وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم فيما كنتم فيه تختلفون "
3. المحافظة على كرامة الإنسان وصيانة حقوقه الإساسية:
4. المحافظة على التوازنات في الطبيعة وتجدد الموارد كما قدرها الله لها :
5. المحافظة على السلام والأمن والتعايش القائم على التعارف والعدل والمودة والرحمة :
وفي التعارف قال تعالى:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله خبير عليم . . " وفي التراحم: " ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".
والكثير مما ذكر أما سبق ذكره مفصلا أو سيأتي ذكره فيما بعد.
قوزي منصور
fawzym2@gmail.com

No comments: