Sunday, December 28, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى الجزء 12

الإصلاح الزراعي:

ويمتاز النشاط الانتاجي في الفلاحة(زراعة وإنتاج حيواني) فضلا عن انتاجه ماهو ضروى وحيوى للأمة ، بأنه الميدان الفسيح القادر على استيعاب ملايين السكان وتأمين الغذاء الضروري لهم في نفس الوقت ، وذلك عندما يتم تمكين أسرهم وعائلاتهم من أراض صالحة للزراعة أو الانتاج الحيواني ، في حدود قدرة الأسرة على العمل وبحيث لا تقل أو تزيـد مساحة الأرض عن ذلك ، لضمان الحصول من الأسر على أكبر انتاجية ممكنة . ويذلك يتم إتاجة فرص العمل للشباب العاطلين والقضاء على البطالة واستثمار الثروة البشرية المتاحة بالكامل ،وضمان استقرار وأمن ورخاء المجتمع . وكلما تواصلت التنمية الأفقية والرأسية في القطاع الفلاحي كلما أمكن لهذا القطاع أن يمتص حصة كبيرة من تشغيل القوى العاملة الجديدة الناتجة عن زيادة السكان ، وتحويل الزيادة السكانية إلى زيادة في الانتاج.
وتوزيع الأراضي الصالحة للزراعة على الأسر الفلاحية لا يدعو اليه الالتزام بأيديولوجية معينة وليس فقط لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في ملكية أراض الوطن من منطلق مساواة المواطنين في واحباتهم نحوه ونحو حمايته ، وإنما لدواع اقتصادية بحته , وقد قام بالإصلاح الزراعي اليابانيون في عهد الميجي ولما يكن دافعهم لذلك فكرا اشتراكيا أو انطلاقا من الطاوية (ديانة اليابان) ونفس الشي حدث في كوريا الجنوبية بعد ذلك بواسطة قيادتها العسكرية والتي لم تكن أيضا لا اشتراكية ولا متأثرة بالتعاليم البوذية .
وفي تقرير صادر من هيئة الإستعلامات المصرية سنة 1994 تحت عنوان : استصلاح الصحراء وزراعتها ، جاء في صفحة 64 منه ما يلي : وفي مقارنة بين إنتاجية الأراضي نجد أن الأراضي الموزعة على المنتفعين انتاجيتها أعلى من انتاجية الأراضي الموزعة من المحترفين للزراعة ذات مردودية أعلى من تلك الموزعة على الخريجين “، ثم يوضح التقرير السبب في أن الحيازات الموزعة على صغار المنتفعين تتراوح بين 3-5 أقدنة في حين تتراوح حيازات الخريجين بين 20-30 فدانا ولا تساهم أسرهم في أداء العمل الزراعي ، حيث يقومون بتدبير الحد الأدني الذي تحتاجهم زراعتهم من العمالة مدفوعة الأجر . وفي مواضع أخرى يعترف التقرير أن إنتاجية أراضي صغار المنتفعين والتي لا تكاد تتلقى أى دعم تفوقت على انتاجية الشركات الزراعية أيضا المملوكة للدولة أو القطاع الخاص رغم أمكانياتها الكبيرة ، وانتاحية هذه الشركات والتي تعتمد على الزراعة الآلية.

أهمية الإصلاح الزراعي:
وما شهدت به هذه الوثيقة الحكومية سالفة الذكر، سبق أن أقر به العديد من خبراء الزراعة والتنمية في الأمم المتحدة وخارجها ،وتشهد به التنمية في الصين والهند ودول شرق أسيا الاخرى التي تطبق نموذج الزراعة العائلية، فالأسرة الصغيرة في الملكية الزراعية المحدودة وبسـواعد أفرادها وحدها هي القادرة على تحقيق أكبر انتاجيـــة بالمقارنة بالمساحة وليس كبار الملاك والزراعة الآلية أو الحديثة. ومع ذلك فإن أنظمة الحكم العربية لم تأخذ هـذا في اعتبارها . وواصلت توزيع الملكيات الكبرى من الأراضي على كبار الملاك والشركات الزراعية الكبرى وتركت صغار الفلاحين يواجهون مصيرهم ، بل تم اغتـصاب أراضيهم وتجريدهم منها في بعض الحالات . لم يكن التصرف هذا بمثابة منح من لايملك من لايستحق فقط ، أو إهدار لحقوق غالبية المواطنين وللعدالة الاجتماعية ، وممارسة بالتالي للظلم ، وانما دليل على اختيار الأسوء في السياسة الاقتصـادية وما يترتب عليه من خلق الأزمات الاقتصـادية في البلاد نتيجة سوء تلك السياسات المتبعة والمتعارضة مع ضوابط الاقتصاد وضروراته التي توصل إليها الخبراء فيه..
أن مشكلة البطالة المتفاقمة ، وارتفاع تكاليف المعيشة فوق طاقة محدودي الدخل بسبب التضخـم الناتج عن عدم تناسب المعروض من السلع الضرورية مع الطلب عليها ، وانتشار الفقرالمتزايد كنتيجة لتدهور الأوضاع المعيشية لأغلب السكان وضعف مواردهم ومحدودية وسائل الكـسب لديهم وفرصه ،وتزايد الهجرة من القرى نحو أقرب مدينة وما يترتب عليها من تطويق المدن بأكواخ الصفيح والمسـاكن العشوائية، وتدهور الخدمات الحكومية ، وما أفرز هذا كله من انتشار الفساد والدعارة والجرائم والمخدرات والمواد المسكرة (الخمور),,,ألخ. هي ظواهر صارت تطبع الحياة العامة في كل من مصر والجزائر والمغرب .كل ذلك كان يمكن التخلص منه أو الحد منه بانتهاج سياسة لإعادة توزيع ملكية الأراضي الزراعية . وإذا كان هذا كان مطلوبا وواجبا قبل خمسين عاما ، فإن تدراك الخظأ وإصلاحه أفضل من مواصلة الاستمرار فيه . وإذا تعدر إعادة توزيع الأراضي الزراعية بعدالة ومساواة ، كما حدث في اليابان وكوريا الجنوبية ، فإنه يجب العمل على تنفيذ مشروعات للتمية الأفقية للأراضي الزراعية ، بإصلاح واستزراع أراض جديدة قابلة للزراعة بعد تأمين المياه إليها ، وهو أمر لو تعذر أن تقوم به دولة واحدة أمكن أن تتعاون فيه عدد من الدول في أقليم جغرافي واحد ، ولأن يتعاونون على النماء خير لهم من التنازع على البقاء.وتوزيعها على أسر الفلاحين المحتاجين وعلى خريجي المدارس الزراعية العاطلين وخريجي المدارس الأخرى بعد إخضاعهم لتكوين سريع يحصلون فيه على المعلومات الأساسية التي تتطلبها تنفيذ مشروعات زراعية صغيرة وتدريبات عملية كافية . فمثل هذه المشروعات لزراعية الصغيرة التي تقام على مساحة في حدود هيكتارين أو خمسة أفدنة كافية لإعالة أسرة متوسطة الحجم والوفاء بجميع احتياجاتها المعيشية ، لو توفرت مياه السقي ليه واستغلت في زراعة كثيفة ، أي طول السنة ..
وتتميز المشروعات الفلاحية عامة بما يلي :
1- تعتبر من أقل المشروعات استنفادا للنقد الأجنبي حيث لاتزيد نسبته عن 10 في المائة وقد لا تحتاجه أو لا تزيد حاجتها منه على 1في المائة.
2- تعتمد أساسا على السواعد والخبرة الفنية المحلية التي تسهم في جميع مراحل المشروعات .
3- تدفع المجتمع نحو التقدم الاقتصادي والاجتماعي عن طريق تنمية قطاعات الانتاج المختلفة الأخرى وخاصة الصناعات الغذائية المعتمدة على الانتاج الزراعي والحيواني ، وتنشيط خدمات التجارة والتمويل والنقل وتحقيق الرخاء للسكان عامة وللفلاحين خاصة.
4- دات مردودية في حالة توفير السقي والبذور المنتقاة والأسمدة شبه ثابتة ومضمونة ويساعد التقدم العلمي باستمرار في العلوم الزراعية والتكنولوجيا المرتبطة بها في زيادة الانتاجية ومردودية الأرض.
5- تعمل على خلق مجتمعات جديدة متكاملة تتوفر فيها ظروف معيشية مناسبة .
6- من أكثر المشروعات استيعابا للقوى العاملة ، والمزرعة العائلية يعمل فيها جميع أفراد الأسرة وما تتميز به من زيادة انتاجيتها عن غيرها ناتج عن ذلك.
7- تحرر البلاد من أهم مظاهر وأسباب التبعية للخارج وتوفر النقد الأجنبي الذي يتم به استيراد المواد الغذائية بتحقق الكفاية الذاتية من الغذاء.
8- وجود الطلب والأسواق المحلية والخارجية المتعطشة للسلعة الغذائية وضعف المنافسة والمزاحمة مما يجعل التسويق ميسرا.
وقد ضرب الله مثلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله من زراعةالحبوب توضح قدرتها على مضاعفة رأس المال وكمية الغذاء المنتج . فقال الله تعالي “ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، والله يضاعف لمن يشاء ، والله واسع عليم“ (البقرة: 261) ،وما كان الله ليضرب هذا المثل ما لم يكن بإمكان الانسان إن أحسن العمل واستثمر التقدم العلمي أن يحصل مقابل الحبة المزروعة على 700 حبة أو أكثر بمشيئة الله .
ويمكن تخصيص جزء من هذه الأراضي للبيع الفورى للمقتدرين بالخارج أو المواطنين العاملين بالخارج للحصول على جزء من التمويل الذي يحتاجه مشروع اصلاح واستزراع الآراضي ,ويتم توزيع الباقي على أرباب الأسر ويحتاجون إلى الأرض الزراعية على أن يقوم الملاك الجدد بسداد ثمن الأرض على أماد طويلة.وأخضاع هذه الأراضي إلى تشريعات خاصة تضمن بقائها دون تجزئة أو تصرف فيها إلى أن يتم سداد ثمنها بالكامل ، وفي حالة الرغبة في التخلص منها من الملاك الجدد لها يتم إعادتها للدولة التي تقوم بأعادة توزيعها على المستحقين.مع سداد المبالع التي سددها المتنازل عن الأرض له بالتقسيط مثلما سددها هو من قبل بالتقسيط.

ويقر فقهاء المسلمين على أن الأصل هو حق كل أسرة أن يكون لها نصيب من أرض بلادها إن توفرت الأراضي واتسعت لسد حاجة الجميع منها . وأن هذا ليس منحة أو منه من الدولة لأن الأرض أساسا ملك لله وسكان الدولة مستخلفون جميعهم فيها . وبالتالي فإن تقسيم الأراضي حق شرعي يجب أن يتمتع به جميع أفراد الأمة ولكنهم يرون أيضا أن إعادة التوزيع للآراضي المستغلة فعلا قد يمس أوضاع مستقره وحقوق متوارثة ، ويثير من المشاكل ما يمكن تفاديها ، وبدعوى أن درء المفاسد مقدم عن جلب المنافع وهو عموما مبدأ خاظئ , بل إن نزع ملكية أو حيازة 1200هيكتار من شخص واحد وتوزيعها على 600 أسرة تضم 3000نسمة لضمان عيش كريم لها بمعدل هيكتارين لكل أسرة معدل عدد أفرادها خمسة أفراد. هو وضع حد لوضع فاسد وظالم ولا يرضي عنه الله من ناحية ،وفي نفس الوقت جلب منفعة لثلاثة آلاف نسمة من ناحية أخرى. ويرى الفقهاء بأنه عوض التعرض للملكيات القائمة يمكن أن يتم توزيع الأراضي البيضاء أو الموات وتمليكها لمن يعمرها ويزرعها وهذا حل لا بأس لو توفرت تلك الأراضي وبحيث يتم توزيعها على الأسر.
ولا توزع هذه الأراضي على الأفراد لآن فلاحة الأرض تحتاج تعاونا حده الأدني فردين ، وهو ما يتوفر في الأسرة التي تتكون من زوج وزوجه ، ويتحقق به أيضا المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق باعتبار أن الأسرة هي الجامعة بينهما وأن نفع الأرض سيعود عليهما معا وعلى من ينجبانه من أولاد.
إن الانسان العاطل الذي لا ينتج بمثابة ميت تماما مثل الأرض البور ، وإحياء موات الأرض لصالح موات البشر هو أحياء للأرض والبشر معا وزيادة منافع المجتمع وعلاج لعلله وشفاء لها بأدن الله.

الإقتصـاد الإنتاجي:
ووفقا لمفهوم وفلسفة الخلافة ، فإن الاقتصاد المعتبر فيها هو الاقتصاد الانتاجي الدائم العطاء وليس الاقتصـاد الهدمي ، الذي يقوم على سلب الطبيعة ثرواتها دون أن يضيف إليها ، ويدخل ضمنه استخراج المعادن من باطن الأرض، ليس لأقامة صناعة مزدهرة عليها وإنما لتصديرها خامات يستغلها الأخرون في إقامة مصانعهم وزيادة انتاجهم الصناعي ، وكذلك استخراج وتصدير النفط والغاز، رغم محدودية احتياطاته واحتمال نفاده بعد سنوات معلومة . وقطع الأشجار للحصول على أخشابها دون تعويضها بزراعة غيرها . والرعي الجائر الذي يقتلع الأعشاب من جذورها ويحول بينها وبين التجدد في موسم مقبل . كل ذلك : يستنزف الثروة الطبيعية ولا يعوضها أو يتيح لها أن تتجدد ،وكذلك صيد الأسماك في مواسم توالدها بما يحول دون تجددها في مصائدها،كما يدخل ضمنه أيضا سوء استهلاك المياه الجوفية والمياه الجارية. فينتهي هذا الاقتصاد بانتهاء المصادر الطبيعية التي اعتمد عليها واستنزفيها في فترة تصيرة محدودة. ولذا فإن هذا النوع من الاقتصاد الهذمي ، إن دعت الظروف إليه وكان لزاما ، وجب تقنينة وممارسته ضمن شروط ضابطة له . بحيث لا يستهلك منه بأكثر مما اقتضته الضرورة .والاحتياجات الفعلية للدولة أو لمجموعة الدول في الاقليم التي دخلت معها في شراكة تنموية ومصالح مشتركة. والعمل بقدر الامكان على تعويض ما يتم استهلاكه من موارد وثروات طبيعية . فالثروات القابلة للنفاد لا يملك جيل الحق في الاستئثار بها وللآجيال القادمة حقوقهم فيها ، ما لم تنطوالاستفادة منها على استفادة الأجيال القادمة منها أيضا . واستهلاكها بأكثر من حاجة المجتمع إليها وقدرته على الاستفادة القصوى منها .يعد اسرافا ومناقضا لمقتضي العدل والاعتدال والإحسان. وهي المبادئ التي تقوم عليها الخلافة.والسياسة الحكيمة لا يتم بمقتضاها تصدير مواد أولية ضرورية للصناعة سواء القائمة أو التي يمكن إقامتها في المستقبل مالم يكن الهدف من تصديرالمادة الأولية هو مبادلة مادة أولية بأخرى غير متوفره محليا ويتطلبها النشاط الانتاجي.
كان العديد من الدول الأفريقية يمتلك احتياطات كبيرة من المعادن الهامة التي تقوم عليها الصناعات الثقيلة والهندسية . ولكنها صدرتها خامات إلى الدول الصناعية ،فازدادت الدول الصناعية ثراء وظلت الدول الأفريقية على فقرها . وبعضها ازداد فقرا ولم تنفعه الأموال التي حصل عليها مقابل صادراته من المعادن وغيرها. وأهدرت ما أنعم الله به عليها وكان بإمكانها به أن تكون من الدول الصناعية الكبرى, وبعض الأنظمة الحاكمة تفادت استغلال خاماتها المعدنية في التصنيع حتي لاتقوم مناطق صناعية تجمع أعدادا كبيرة من العمال يشكلون قوة تزعزع استقرار نظامها الاستبدادي الفاسد ، واستبدلت الاقتصاد الانتاجي باقتصاد الريع الذي تتحكم فيه وبه في رقاب البشر.

وبذلك يمكن اعتبار الدول المسلمة التي أهملت الإنتاج ، وتهالكت على إهلاك ما أنعم الله عليها به من ثروات طبيعية ، وتمادت في استنزافها وتصديرها ، خارجة على حكم الله وشرعه. ما لم تكن قد قصرت الانتفاع بها على المسلمين في بلدان أخري ، أو وظفت موارد التصدير في إصلاح أحوالهم كتطبيق لركن التكافل في الإحسان .(وهو مالم يحدث قط تقريبا) . وهي في غير ذلك تعد مفسدة في أرضها والفساد يجر المريد من الفساد، والله لا يحب المفسدين . “وما كان الله ليهلك قرية بظلم وأهلها مصلحون”.

واذا أخذنا العظة مما ساسه ساستنا أومن الجار القريب والجنب ، سنجد من استنزفت ثرواته من الحديد والفحم والفضة والنحاس والبترول والغاز ، لم يتمكن بعد عشرات السنين من اتباعه اقتصاد الهدم من انقاذ الشعب في بلاده من الفقر والتخلف ، وزاد على ذلك أنه بات يستورد معظم احتياجات شعبه من الغذاء من الخارج أو نصفها أو ثلثيها في أحسن الأحوال ، وفقد بذلك أمنه الغذائي.وفيهم من سقط في الدين الخارجي واضطر إلى أن يبيع ممتلكات الدولة بأرخص الأثمان للآجانب سدادا لديونه . وسقط في التبعية والمهانة. ولو أنهم عملوا وأصلحوا وأنتجوا وأحسنوا واستهلكوا ما أنعم الله عليهم به بقدر ، لكانت أوضاعهم اليوم أفضل مما هي عليه. ولكنهم حتي بعد أن رأوا بأعينهم سوء مأل سياستهم لم يتعظوا وإنما ازدادوا طغيانا وفسادا في الأرض ، وأعادوا إلى الذاكرة أمراء الطوائف في الأندلس في تعاملهم مع بعضهم واستعدائهم على إخوانهم إعداء دينهم ،وقطعهم ما أمر الله به أن يوصل . “ والذين ينقضون عهذ الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر به أن يوصل، ويفسدون في الأرض ، أولئك لهم اللعنة، ولهم سوء الدار."(الرعد:25)

وفي حالة تعمير الصحارى ،وتنمية المراعي ،وإنتاج الأعلاف وتربية الأبقار والأغنام وتصنيع منتجاتها ،مع تفادي الرعي الجائر ، فإن الاقتصاد الهدمي يتحول إلى أقتصاد بناء . ويزيد من تراكم الثروة باستمرار . وفي العالم دول اعتمدت في تكوين رؤوس أموالها وزيادتها وتنميتها على انتاجهم الحيواني في المقام الأول مثل نيوزيلاندا وهولندا والدانمرك واستراليا وكندا والأرجنتين. ولقد أرشدنا المولي إلى أهمية الانتاج الحيواني والجدوى الاقتصادية له ، والمنافيع المترتبة عليه ، بقوله سبحانه :” والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون. ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون . وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس . إن ربكم لرؤوف رحيم . والخيل والحمير لتركبوها وزينة ، ويخلق ما لا تعلمون”(النحل:5-8).

ويدخل في عداد الانتاج الحيواني تربية الأسماك في بحيرات صناعية أو مجارى الانهار أو حقول الأرز . وقد استطاعت بنعلاديش قبل أكثر من 10 سنوات انتاج الفريدس(الجمبرى أو الكروفيت) في مزارع صناعية على ساحل البحر للتصدير ما قيمته أكثر من ثلاثة مليارات دولار سنويا.

يدخل أيضـا تربية نحل العسل في المزارع والتي ثبت أنها تساعد على زيادة الانتاج الزرعي للمحاصيل من حولها بنحو 25 % إلى 30 % . فضلا عن انتاج عسل النحل والشمع وقد أثبتت ألأبحاث العلمية أهميةعسل النحل الغذائية والعلاحية . ويقول الله عنه: “ وأوحى ربك إلي النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر وما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبيل ربك ذللا. يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه ، فيه شفاء اللناس . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”(النحل: 68و 69).
وكذلك تربة الدواجن بمختلف أنواعها لأنتاج اللحم والبيض والأسمدة العضوية . فضلا عن أهميتها في تحسين ظروف معيشة السكان في العالم القروي. وكل هذه المنتجات الغذائية تدعم في نفس الوقت الأمن الغذائي في ذات الوقت التي تزيد من الدخل القومي . وتسهم في تحسين أوضاع العاملين في انتاجها ، سواء كان انتاجا عائليا محدودا أو انتاجا تعاونيا يجمع عددا كبيرا من الأسر.

الأمن الغذائي :
يعرف الأمن الغذائي بأنه حصول جميع الناس في جميع الأوقات على ما يكفيهم من الغذاء الملائمالذي يحتاجونه والتمتع بالتغذية الجيدة بطريقة كريمة التي تكفل لهم حياة طيبة نشطة موفورة الصحة. يعتبر الفقر والظلم الاجتماعي ونقص التعليم الأسباب الرئيسية للجوع وسوء التغذية، والعقبات الرئيسية أمام الحصول على الأمن الغذائي .
يقوم الأمن الغذائي على ثلاثة أعمدة أساسية هي: توافر الأغذيةإبانتاج كميات كافية من الأغذية السليمة والجيدة النوعية ، والقدرة على الحصـول عليها ت بحيث فى متناول يد جميع الناس في أي وقت وبما يكفى منها لاحتياجات الأسرمن حيث الكمية والنوعية والتنوع حسب احتياجات أفراد كل أسرة.والثالث هو:أن تكون أسعار السلع في متناول المواطنين.

إن الدين ومفهوم العبادة فيه الذي يشمل كل انتاج حلال من الخيرات وتحقيق المنافع للناس ورفع الإصر عنهم يعد محركا ومحفزا على الإنتاج ، كما أن الدين بفطرته يتوافق هنا مع التطلع الفطري الدائم للإنسان لكي يحقق العيش الكريم لآسرته ، فيكون لدينا دافعان ، دافع من التقوى ودافع من تلبية حاجة نفسية مشروعة.
ويستفاد مما جاء في سورة يوسف: "يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِـعُ إِلَى الـنَّاسِ لَعَلَّـهُمْ يَعْلَـمُونَ" [يوسف : 46] إلى قوله تعالى "وَفِيــهِ يَعْصِرُونَ" [يوسف : 49]،يمجموعة مؤشرات يمكن لها أن تهدينا لتحديد عناصرالمنهج الإسلامي في تحقيق الأمن الغذائي.والتي قد تتمثل في الآتي:

1- انتاج الغذاء بعمل وسعي لا يفتر وتوسيع الأراضي الزراعية بإحياء الأرض الموات، وبتوصيل مياه الأنهار إليها.
2- وترشيد الاستهلاك، بما في ذلك الحرص على الماء، لأنه أساس الحياة .
3- توزيع الغذاء بعدالة وفي حدود الحاجة الضرورية منه ،وبحيث لا يأخذ الفرد إلا ما يحتاج له.
4- حفظ المواد الغذائية لحين الحاجة اليها.
5- الحفاظ على خصوبة التربة والتوازن البيئي بعدم الإسراف في استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة الكيميائية وتعويضها ، ما أمكن، بالأسمدة العضوية الطبيعية.وأيضا عدم انهاك التربة .

ويشكل المترفون مصدر خطر على الأمن الغذائي عندما يمتلكون الأراضي الزراعية ولا يهتمون بما ينفع الناس ويسد حاجتهم من الغذاء وإنما تنحصر اهتماماتهم بما يستجيب الشهواتهم ونزواتهم ،
ومصالحهم الشخصية ،فتهلك الأمم بسبب فساد توجهاتهم وسياساتهم في الانتاج الذين يسيطرون عليه ، وبسبب النفص في انتاج الغذاء بما يفي بحاجة كافة السكان تنشأ الفجوة الغذائية، وحسن وعدالة
توزيع الأراضي على عموم الناس والمشتغلين بالفلاحة منهم خاصة هو الذي يحول دون ظهور طبقة المترفين وإفسادها ودمار وخراب المجتمعات وفي نفس الوقت لايمنع هذا من تحصين الأمن
الغدائي بالتكافل الاجتماعي وبالتسابق إلى فعل الخيرات، سواء بالزكاة، التي هي حق للسائل والمحروم، أو الوقف والصدقات، التي تتسع مجالاتها، ودرء الكوارث الطبيعية والجوائح البشرية
والتعاون على البروالتقوى واستثمار الطاقات الخلاقة لدى الإنسان.

إن زيادة الإنتاج عبادة وتغيير نمط الاستهلاك زهد ومحاربة السلوكيات التي من شأنها حجب السلعة الغذائية المنتجبة عن الأسواق لرفع أثمانها يدخل في باب الحسبة وردم الهوة بين الغني والفقراء
واجبتطوع، مؤكدا أنه لا مخرج للمسلمين -فيما يخص الأمن الغذائي - إلا بإطلاق الطاقات الروحية، ومقاربة القضايا الحياتية أكثر من التقوقع في قضايا العبادات.

وتتلخص العوامل المسببة لأزمة الغذاء الحاليةفي:
1- العوامل الديموغرافية. المتمثلة في زيادة السكان دون أن تقابلها زيادة مما ثلة في انتاج الأغذية الضرورية لهم . فزيادة السكان في حد ذاتها نعمة لما يترتب عليها من زيادة القوى العاملة الحية المنتجة ولكن حولها المتقاعسون عن زياذة الانتاج وتنفيذ سياسات اقتصادية راشدة ورشيدة ،إلى نقمة
وعوض تداركهم سوء سياساتهم استسهلوا المناداة بتحديد النسل لكي يأتي وقت على بلادهم يقل فيه عدد الشباب القادرين على العمل ويزيد فيه عدد المسنين الذين يشكلون عبئا على المنتجين.
2- العوامل الطبيعية. من تصحر وجفاف أو عدم انتظام هطول الأمطار.أو التعرض لظروف مناخية غير ملائمة للمزروعات مثل شدة الحرارة أو البرودة .وثمة حلول وإجراءات احترازية تتخذها الدول التي تخطط لمستقبلها وتأخذ في حسبانها أية تقلبات محتملة في ظروفها المناخية.
3- السياسات المتعلقة باستعلال الأراضي وهيكلة الانتاج الزراعي باستبدال زراعة الحبوب والمواد الغذائية بزراعات تجارية . ومن ذلك ما قاله الكاتب المغربي :أدريس ولد القابلة . من أن الولايات المتحدة الأمريكية خصصت 700 مليون دولار (5.5 مليار درهم تقريبا) للاقتصاد المغربي، 300 مليون دولار منها موجهة إلى القطاع الفلاحي، وذلك لدعم مشاريع زراعية غير مستهلكة لكميات كبيرة من الماء (أشجار الفواكه) بغية تعويض زراعة الحبوب بالنخيل وأشجار اللوز والزيتون والتين.وهو نفس الشيء الذي صنعته أحدى وكالات اهيئة الأمم المتحدة في تونس من قبل.
4- 'السياسات المتعلقة بالخيارات التنموية الكلية الناجمة عن عدم الاهتمام بالزراعة ضمن مخططات التنمية في حالة وجود مخططات ،وعدم نجاعة الهياكل الإدارية والتنظيمية في تنفيذ تلك المخططات لو كانت رشيدة.
5- تراجع نسبة مساهمة الانتاج الزراعي في الدخل القومي والتي تراوحت بالنسبة للدول العربية في عام 2000 مابين 11في المائة و13في المائة مع تدهور الانتاج الزراعي ، وتراجع معها حصة الفرد من الانتاج الزراعي المحلي ، وتراجعت أيضا نسبة انتاج الغذاء ضمن الانتاج الزراعي .وفقا لما جاء في التقرير الاقتصادي العربي الموحد، سبتمبر2001 .
و أدى ضعف أداء القطاع الزراعي إلى زيادة الواردات من السلع الغذائية لتلبية حاجيات مواطني الدول العربية من الأغذية الضرورية وليس لتحسين نوعيتها، وتعمقت الهوة بين الطلب على الغذاء
والإنتاج المحقق،
6- تغير أنماط الاستهلاك الغذائي نتيجة تزايد الهجرة من الريف إلى الحضر مما أسهم في زيادة الطلب على السلع الغذائية.ولو أن تأثير ذلك العامل مازال محدودا.
7- عدم ترشيد استهلاك الموارد المائية المتاحة ومحدودية استخدام أساليب الري العصرية مثل الري بالرش أو التنقيط ومواصلة الري بالغمر.مما تسبب هدر المياه في عدم التوسع الأفقي في الزراعة.
8- تخلف أساليب الانتاج مما تسبب عنه ضغف مردودية الأراضي بالمقارنة بالدول المتقدمة.
9- سوء استخدام موارد الأسماك أو عدم استغلالها محليا واستباحتها من قبل سفن الصيد الأجنبية.
10- تعرض انتاج وتجارة بعض المواد الغذائية الى نوع من الاحتكار يؤثر على حجم العرض أو زيادة أثمانها في الأسواق .

من أجل مواجهة التحدي الذي يفرضه الأمن الغذائي حاليا والتغلب عليه بتحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء محليا .فإنه ينبغي وجود تعاون وتضافر بين شعوب الإقليم الواحد فيما بينها، لوضع استراتيجية غذائية موحدة تضع في اعتبارها النقاط التالية :
1- إنتاج الغذاء مسؤولية قومية.
2- تنمية الموارد المائية وصيانتها واستغلالها مسؤولية إقليمية وليست قطرية فقط.
3- ضرورة التعاون الاقليمي في صناعة المستلزمات الزراعية.
4- التعاون االاقليمي في بناء البنية التحتية من شق مجاري المياه والطرق.
5- ضرورة تنفيذ الإصلاح الزراعي على المستوى الاقليمي سواء بإعادة توزيع الملكيات الزراعية أو إحياء الأرض الموات لتوفير الأرض للمزارعين الصغار.
من المتفق عليه أن القرآن الكريم – كتاب الله المعجز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – ملئ بالآيات التي تدعو إلى التفكير في ملكوت السماوات والأرض، وفيه كثير من االأيات التي تتصل بالنبات والحيوان،وقد سبق ذكر الكثير مما جاء في كتاب الله في هذا الشأن ومها قوله تعالى : " وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ " (النحل : 13)، ويقول عز من قائل : " وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ "(الجاثية : 4)،وقوله: “ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ “ (الأنعام : 99) ويقول الحق تبارك وتعالى
: “وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ “(الرعد : 4).وقوله تعالي: " وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ "(الذاريات : 20-23).

سوء مخططات التنمية:
”تم تخطيط التنمية بالقفز على الزراعة والعناية بها أولا وذلك بالعمل على تحويل الاقتصاد من وضع تهيمن فيه الزراعة وإنتاج السلع إلى اقتصاد يتعاظم فيه دور القطاعات الاقتصادية الأخرى الغير مساهمة في زيادة الانتاج على حساب الزراعة والصناعة، بينما شهدت الدول التي سارت في طريق التقدم ثورة في الزراعة أو ثورة خضراء كما حدث في أوروبا والصين واليابان قبل السعي لعمل ثورة في الصناعة . وفي الدول التي اهتمت اهتماما محدودا لدينا ،لم يتم التصنيع فيها وفق منظومة متكاملة وإنما على نحو أقرب من العشوائية ،كل همه هو انتاج بدائل لبعض الواردات حتي لو كان أقل منها جودة ،أو اتباع إستراتيجية النمو الذي تقوده الصادرات ا لزراعية والصناعية التي تتطلبها الإسواق الخارجية للحصول على النقد الأجنبي بصرف النظر عن احتياجات السكان المحليين. أو توفر القدرة التنافسية للمنتجات في الأسواق العالمية .

وحتي بالنسبة لهذه الدول التي أبدت اهتماما محدودا وغير متكامل بالصناعة، شهد الاهتمام بالتنمية الصناعية فيها انحسارا بعد أن كان طاغيا في عقدي الخمسينات والستينات .وبدأ التراجع مع مطلع السبعينات بعدما بدا واضحا أأن ما اتبع من سياسات كانت نتائجه غير مشجعة على المضي فيها وعوض أن تتم نهضة اقتصادية بدأت الدول تتعرض إلى الأزمات المالية والاقتصادية وتواجه مأزق النفص في انتاج الغذاء يقود إلى استيراد الغذاء من الخارج .وما يتبع ذلك من استنزاف المتاح من النقد الأجنبي. كما نتج عن تخلف القطاع الزراعي حرمان القطاعات الأخرى -خصوصا الصناعية- من المواد الأولية اللازمة لها, مما أدي إلى حدوث اختناقات تنموية حادة.ومع ذلك فإن الفشل في الصناعة لا علاقة له بإهمال الزراعة ، ولكن لو كان قد تم الاهتمام بالزراعة لاستطاعت الدولة المحافظة على قوة اقتصادها ولو في مستوي متدن عن الدول الصناعية ولكنه أقضل مما أل اليها حالها . وثمة دول صناعية حققت تقدما كبيرا في الصناعة رغم أن طبيعتها لم تكن تسمح لها بإحداث نفس التقدم في الزراعة ومن هذه الدول ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها ، بل إن الذي أشعل الحرب العالمية الثانية لم يكن فقط الثأر من الهزيمة في الحرب الأولي وإنما السعي للوصول إلى حقول القمح في أوكرانيا وروسيا لتأمين الغذاء للشعب الألماني ولا يكون تحت رحمة المنتجين له في الخارج.
وكان ما آل اليه اقتصاد الدول العربية يستدعي أن تتولي إصلاح الأمور حكومات وطنية قوية وأن يعاد تخطيط الإنتاج الزراعي والصناعي لسد الفجوة الغذائية التي تتسع عاما بعد أخر أو الحد من استيراد بعض المواد الغذائية الأساسية بانتاجها محليا . ولكن شهدت عقود الثمانينيات والتسعينيات لإجراءات تنهي دور الدولة في الإنتاج والتسويق وتم تصفية القطاع العام .واقتصرت مهام الدولة على لعب أدوار هامشية في الانتاج الزراعي والصناعي وتركت الأمور رهن رأسمالية محلية عير انتاجية أو ناضجة أو تهتم بالصالح القومي، وإنما تولي كل اهتمامها لمصالحها الماليةالذاتية ولا تعبأ بالمصالح الوطنية ،و تأسست على مفهوم اقتصاد الريع وعلى الأنانية وتكريس المكاسب ولو بالرشوة وإقساد الادارات الحكومية والمؤسسات السياسية التي تهيمن عليها ، بما فيها التشريعية ، لكي تشيع العشوائية والفساد والفوضي في الاقتصاد والسياسة معا.

وساهم في تعميق الأزمة الغذائية والاقتصادية غياب التعاون الإقليمي الذي كان بامكانه إيجاد حلول لها في نطاق التكامل ، ولكن الحكومات والقوى النافذة فيها سعت نحو تكريس العداوات مع دول الجوار لقطع الطريق أمام أي وحده معهم ولو على المستوى الاقتصادي بما ينقذ الجميع ويعود بالنفع على الشعوب. وعوض توجيه الأموال الفائضه أو المستدانة من الخارج لخدمة التنمية يتم
توجيهها لتكديس السلاح لحرب محتملة بين الجيران الذين ينتمون إلى عرق ودين واحد ويتكلمون لغة واحدة.
واستفحلت الأزمة مؤخرا بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية المتصاعد في الأسواق العالميةحيث أن مجموعة قليلة من الدول والشركات المتعددة الجنسية تحتكر انتاجها والتجارة فيها، وتتحكم بالتالي في الأسعار .وكلما انخفضت قيمة عملتها الوطنية في الأسواق المالية العالمية قامت بتعويض هذا الانخفاض بالرفع من اسعار المواد الغذائية في مخازنها ويزيد هذا أيضا من إمكانية استخدامها الغذاء كسلاح ضغط وعقوبة لترويض الحكومات المارقة من وجهة نظر ها.ويزيد أيضا من الأزمة زيادة أسعار البترول والتي تؤثر على تكلفة المنتج المحلي ويزيد بالتالي من سعر بيعه للمستهلك. ولو أن ما يتعذر فهمه هو أنه حين انخفضت أسعار الطاقة والمواد الغذائية نتيجة الأزمة المالية التي ضربت الأسواق المالية في الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية ظلت أسعار المواد الأساسية على حالها في العديد من الدول العربية ولم تهخفض لتحسين ظروف معيشه المواطنين.

ويمكن ارجاع مأزق الأمن الغذائي الحالي لعدة أسباب كان يمكن تفادي نتائجها لو تم اتخاذ السياسات الملائمة لكل منها ومن أبرز تلك الأسباب:
- ارتفاع معدلات النمو الديمغرافي دون أن يواكبه ارتفاع في معدل انتاج المواد الغذائية الضرورية.
التحسن في مستويات الدخل لدي شرائح الطبقة الوسطي من زاد من استهلاكها لبعض المواد الغذائية وزيادة الطلب عليها دون زيادة المعروض منها ، ومع زيادة أسعارها انتقلت العدوى للمواد الأساسية..
-تناقص مساحة الأراضي المزروعة مع تناقص انتاجيتها و الناتج عن إهمال الزراعة أو سوء استعلال الأراضي ووسائل استزراعها.فإزالة الغطاء النباتي في شرق السودان على سبيل المثال تسبب في انخفاض منسوب المياه الجوفية وعدم استخدام مصارف لفائض مياه الرى زاد من تملح التربة في سوريا وعدم قدرتها على الانتاج في مشروع الفرات و التمادي في استعمال المبيدات الحشرية لمقاومة دودة القطن وآفات زراعية أخرى فضلا عن الإصرار على زراعة القطن ذاته تسبب في تسميم التربة وأدهادها وفقدانها الصلاحية وموت الأسماك والأحياء المائية في بحيرات شمال دلتا النيل ,
- تراجع الاهتمام بمشروعات السقي أو تصرها على مناطق معينة دون غيرها مما جعل الأراضي الفير مسقية تحت رحمة التقلبات المناخية وتساقطات الأمطار .- استبدال زرا-
- استبدال زراعة الحبوب التى تمثل دعامة النمط الاستهلاكي إوأهم سلعة غذائية استهلاكية بزراعة منتجات أخرى للتصدير .
ندرة المياه وسوء استغلال المتاح منها وهدره عن طريق مواصلة السقي بالغمر وعدم نشر وسائل الري الموفرة لاستهلاك الماء مثل الري بالرش أو التنقيط.
ولذا يمكن القول بأن الأزمة الغذائية في الدول المسلمة لم تكن إلى حد كبير بسبب نقص أو شح في الموارد المتاحة، ولا هي نتيجة نمو سكاني متسارع أو عجز في التمويل نبقدر ما كانت
بالدرجة الأولى نتيجة فشل أو خلل في السياسات الزراعية وسوء استغلال لما هو متاح للوطن العربي من موارد، فهي جزء من مشكلة التنمية في جوهرها، بأنماطها الإنتاجية والاستهلاكية
والتوزيعية على المستوى القطري والقومي.

ويتطلب الخروج من المأزق الغذائي جهودا إقليمية جادة على طريق التكامل في جميع الأصعدة وبخاصة في القطاع الزراعي.وهو ما يحتاج إلى الإرادة السياسية وحكومات وطنية مسؤولة وقوى
ناشطة لتحقيق هذا الهدف الذي أصبح المخرج الوحيد من الأزمات التي تعاني منها الدول المسلمةحاليا على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إلا أن هذه الإرادة السياسية المطلوبة
والحكومات الوطنية الرشيدة ما زالت في حقيقة الأمر حلما ، لا توجد أي مؤشرات تبشر بامكانية تحقيقه في المستقبل المنظور.

إن تحقيق الأمن الغذائي لأي أمة هو قضية محورية لا يجب تركها رهينة للظروف أو للعوامل الخارجية تتحكم فيها، وإنما يجب العمل وبكل جدية إلى ضمان أمنا غذائيا دائما ، كما أننا يجب أن تعي جيدا إرتباط الأمن الغذائي بالأمن القومي والاستقرار الاحتماعي والسياسي ، وهي الحقيقة التي أدركها هتلر ولكنه أساء التصرف وأغرته الانتصارات العسكرية السهلة للتمادي وتوزيع نطاق الحرب متجاوزا ما تحدد من أهداف لها ، وإخفاق هتلر في الحرب لا يعني خطأ الربط بين توفير الغذاء محليا والحفاظ على الأمن القومي ، هذا المبدأ الذي نحد تأكيدا له فيما ورد في القرآن الكريم عندما تم الربط بين الغذاء والأمن والجوع والخوف في سورة فريش وأيات في سور أخرى مما يجعل بالإمكان القول بوجود ثمة تلازم بين ثلاثة أمور هي الغذاء والأمن والإيمان في المنظومة العقدية الإسلامية،
وصدق من قال : إن الجوع كافر.وهذا كله يستدعي قبل أي وقت من قبل تكثيف الجهود وحشد الطاقات من أجل زيادة العناية بالإنتاج الفلاحي : الزراعي والحيواني لتحسين انتاجية الغذاء كما وكيفا ، وتنمية مصادر الانتاج تنمية أفقية ورأسية وتنويع المنتجات الغذائية.

كما أن استزراع الصحراء يمكن أن يسهم في تحقيق الأمن الغذائي العربي وبخاصة إذا ما توجهت الدول العربية إلى زراعة نباتات رعوية وعلفية تتحمل الجفاف لتكون مصدرا لغذاء المواشي .وهو ما يؤدى إلى زيادة الإنتاج العربي من اللحوم والألبان مما يقلل الاعتماد على الاستيراد وتتقلص الفجوة الغذائية ويمكن أن يحقق فائضا أيضا للتصديرإو إغاثة الشعوب التي تتعرص إلى المجاعات.، ولكن تحقيق ذلك يتطلب إمداد الأراضي الصحراوية بالمياه ، وقد يتطلب جلب المياه إلى الأراضي الصحراوية في بلد ما الحصول عليها من بلد بعيد ومرور خطوط المياه عبر حدود دول أخرى وهو في النهاية لا يمكن أن يتم بغير تعاون إقليمي ومشروعات تنمية زراعية مشتركة يتم فيها تعبئة الموارد المتاحة في الدول المشاركة في تلك المشروعات سواء البشرية أو المائية أو التقنية.

ومما قد يزيد أزمة الغذاء خطورة هو الاتجاه المتزايد نحو انتاج الوقود الحيوي، الذي يتم استخراجه من الذرة والقصب السكري وفول الصويا والأرز والقمح والنخيل،والذي يترتب عليه تحويل مساحات زراعية شاسعة كانت تنتج الحبوب والمواد الغذائية إلى أراض مخصصة لإنتاج الوقود الحيوي. وهو ما يعني توسيع الزراعة بهدف التطبيقات الصناعية على حساب الزراعة من أجل توفير الغذاء، مما سيزيد من حدة الأزمة الغذائية العالمية ويزيد من ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
ويقول مارتن كايزر، المستشار السياسي لمنظمة السلام الأخضر في مجال التنوع البيولوجي والغابات والمناخ،في حديث له "إن الحوافز المالية الكبيرة التي تقدمها الشركات الكبرى المنتجة للوقود الحيوي تدفع بعض الحكومات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية إلى تحويل ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية والمراعي المخصصة للماشية وكذلك الغابات إلى مساحات شاسعة مخصصة لزراعة المواد التي تستخدم لإنتاج الوقود الحيوي، دون أخذ حاجيات السكان من المواد الغذائية بعين الاعتبار، مما يؤدي إلى عجز تلك البلدان النامية عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء."ويضيف بأن :"إن إنتاج الوقود الحيوي خلال السنوات القليلة الماضية قد أدى إلى قطع وتدمير مساحات لا بأس بها من الغابات الاستوائية في أندونسيا وماليزيا وإفريقيا الوسطى ومنطقة الأمازون في أمريكا الجنوبية. وأشار كايزر إلى أن هذا التدمير للغابات الاستوائية، التي تعتبر مأوى للحيوانات والنباتات، لتحويلها إلى أراضٍٍ للزراعة الصناعية، يخل بالتوازن البيئي ويؤدي إلى انقراض أصناف كثيرة من الحيوانات والنباتات. علماً بأن هذه الغابات تلعب دورا مهما في المحافظة على رطوبة الأرض بشكل فعال من خلال امتصاص ثاني أكسيد الكربون وتحويله إلى أوكسجين." وتقول كارولين بوين: باحثة في برنامج البيئة لشبكة السياسة العالميةبلندن،وتيصيب الجوع كل قطاعات الحياة―من دون غذاء كاف، يصبح الناس غير قادرين على العمل وعلى تربية عائلاتهم وعلى الذهاب إلى المدارس، وأيضاً غير قادرين على مقاومة الأمراض. إن أفضل طريقة للوصول إلى الأمن الغذائي هي التأكيد على حرية الناس وحقهم في تأمين الغذاء لأنفسهم ولعائلاتهم. ويتوجب على الحكومات ليس فقط وقف التدخل بالزراعة ووهم الاكتفاء الذاتي، بل يجب عليها أيضاً أن تدرك أن الإنسان يكون أكثر قدرة ومسؤولية عندما يكون حراً.

الحق في التملّك وتبادل الأموال سيشجع المزارعين على استثمار وقت ومال أكثر في أرضهم. وسيزداد عدد المزارعين الذين يستخدمون التكنولوجيا الزراعية إذا كانوا واثقين من أنهم سيحصلون على عوائد من استثمارهم. التملّك الآمن للأرض سيتيح أيضاً للمزارعين أخذ قروض بنكية باستخدام أرضهم كضمان. هذا سيتيح لهم الاستثمار لتحسين عملهم الزراعي، للبدء بمشاريع جديدة أو ببساطة توفير الصحة الجيدة والتعليم والرفاه لعائلاتهم.

إن دعم حقوق الملكية وتمكين الناس من العمل في مشاريع من أجل بيع المنتجات والخدمات سيقلل من الجوع بشكل كبير. قد تبدو هذه السياسات غير مرتبطة بموضوع الغذاء، لكنها مرتبطة جداً بحريّات المزارعين لإنتاج الطعام وجني المال. وبالمقابل، فإن التدخل المستمر من الحكومات والوكالات العالمية ترك المزارعين جوعى وغير منتجين، مما يتسبب أيضاً بملايين الجوعى من الناس.

منظمة الأغذية والزراعة على حق عندما تقول "إنه على الحكومات خلق بيئات ملائمة وآمنة ومستقرة وحرة ومزدهرة، بحيث يقوم الناس بإطعام أنفسهم بكرامة". لكن، هذا يعني زيادة سيطرة الناس على حياتهم وأرضهم وعملهم، دون سيطرة الحكومات.؟.. قد يكون هذا هو فعلا الحل الوحيد ، ولو أنه يحمل في طياته شهادة بعدم جدوى الحكومات .

الاقتصاد الواجب في مجتمع المسلمين :
يكتسب الاقتصاد و التنمية الاقتصادية أهميتهما من تحقيقهما الأهداف التالية:
1. توفير السلع و الخدمات المطلوبة لاشباع حاجات المواطنين .
2. استثمار جميع القوى البشرية القادرة على الانتاج في بناء الثروة الاجتماعية . و تحسين المستوي الصحي و التعليمي و الثقافي الذي يتطلبه ذلك.
3. تحقيق العدالة الاجتماعية بضمان توزيع عادل للثروة.
4. تنمية الثروة الاجتماعية وتحسين ظروف عيش المواطنين على نحو مطرد
5. تحقيق الأمن القومي للدولة .
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف ما يلي :
1. التخطيط و توفير البيانات و المعلومات اللازمة
2. تزويد الموارد البشرية بالمعارف والتقنيات التي تمكنها من إنتاج جيد من حيث الكم والكيف .
3. وضع السياسات الاقتصادية الملائمة
4. توفير الأمن و الاستقرار اللازم
5. نشر الوعي التنموي بين المواطنين
ويمكن تحديد أهم خصائص الاقتصاد الإسلامي في الآتي:
1- التكافل الاجتماعي والذي تقوم الزكاة بدور رئيس فيه .
2- تحريم الاحتكار والربا والمقامرة و انتاج وبيع المحرمات مثل الخمر.
3- تغليب المنفعة العامة على المنفعة الخاصة عند تعارضهما.
4- تحريم بيع ما لا يمتلكه الفرد - وذلك لمنع المخاطرة أو المقامرة
5- حرية البيع والشراء في السوق مع إخضاع السوق للمراقبة للمحافظة على أخلاقياته.مع الشفافية في التعامل والالتزام بكل القيم الدينية والأخلاقية الإسلامية.

التكــــافـل:
يعتبر التكافل قوام وهدف التنظيم الإقتصادي للآسلام في جانبه المالي على وجه الخصوص. وبحيث يتحقق للإنسـان -أي إنسان وأيا كانت عقيدته – في ظل المجتمع المسلم ، ومن خلاله، أن يأمن على أسباب الرزق التي تؤمن له مقومات حياته ومعاشه ومعاده منذ كان في رحم أمه جنينا ، وفي أحضانها رضيعا وفي ظل الأسرة طفلا ويافعا، إلى أن يستقل عنها شابا يكون أسرة جديدة ، وفي الشيخوخة ، وفي حالات الصحة والمرض والقوة والعجز ، والحاضر والمستقبل ، لا يخشي جوعا ولا عريا أو فقرا أو مسكنة أو حاجة أو مذلة أو ظلما وهضما لحقوقه .
ويحكم التكافل ما يسميه الفقهاء بنظرية الاستغراق . والتي يعمل الفرد في ظلها لذاته وفي نفس الوقت يكون مستغرقا في حياة الجماعة ، وعاملا من أجل خيرها . تأسيسا على قوله تعالي : « محمـد رسـول الله والذين معـه أشداء على الكفار رحماء بينهم “(الفتح:29) وقوله تعالى :« لو أنفقت ما في الأرض ما ألفت بين قلـوبهم ، ولكن الله ألف بين قلوبـهم ولكن اللـه ألف بينهم “ (الأنفال: 63) . وقوله صلى الله عليه وسلم : «  المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا “، وقوله : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحـــد إذا اشتكي منه عـضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمي” . مع ملاحظة أنه في هذين الحديثين تحدث الأول عن ترابط المسلمين ، وزاد الحديث الثاني عن الترابط التداعي المتسم بالمودة والرحمة وهي الصفات التي يتسم بها المؤمنون وليست بالضرورة موجودة عند من توفت عقيدته عند حد الإسلام وأركانه الخمسة.
فالفرد المسلم ، مستغرق في وجوده ، ومرتبط بالجماعة ، غير منفصل أو مستقل أو منعزل عنها ، وإنما يستمد ويرتبط وجوده بوجودها . أو بمعني الإنوجاد في الوجود على نحو ما قال به الفيلسوف المعاصر:«هيدجر”.ولذا فإن التكافل يجسد وحدة الأمة ، مصداقا لقوله تعالي : « المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض”(التوبة :71)
وقوله :« إنما المؤمنون إخوة” (الحجرات:10) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :«المسلمون تتكافأ دماؤهم ، ويسعى بذمتهم أدناهم ، وهم يد على من سواهم “ . وهنا أيضا نلاحظ في الأية وصف المؤمنين بالإخاء ، والذي لا يكون بغير المحبة والإحسان ، ووصف المسلمين بالتضامن ، وهو أمر قد تقتضيه العصبية وليس بالضرورة المحبة والإخاء.

ويتمثل التكافل إذن في جانبه الإقتصادي : الانتاجي والمالي ، في استغراق الفرد أو الأسرة داخل الجماعة ، بما يكفل لكل فرد فيها ، أو لكل أسرة ، حد الكفاية في خمس : المأكل والمشرب والملبس والمأوى والزواج . وتتحقق هذه الكفاية من خمسة مصادر متفرقات أو مجتمعة هي:

1- العمل والانتاج : ويفترض أن تلتزم الدولة المسلمة بكفالته والإعانة عليه بالتربية والتعليم اللذان يؤهلان الفـرد له ، وبتوفير متطلباته المادية والتقنيات التي تساعد على إتقانه وتطوره ، وبرعاية القوى البشرية المنتجة صحيا لكي تتمكن من أداء عملها على أحسن وجه. فإن قصرت الدولة أو عجزت ، وجب على المجتمع المؤمن أن ينظم نفسه في معزل عن الدولة ودون الاعتماد عليها للقيام بهذه الواجبات.
2- كفالة النفقة : وتجب على الموسر الملزم بها شرعا قبل أقراد أسرته وذوى رحمه والأيتام والمساكين والفقراء من جيرانه وأقاربه وأصهاره . وتعينه الدولة المسلمة إن قصرت موارده المالية عن القيام بذلك.
3- كفالة البر والكفارات : وتند ب للموسرين على ذوي القربى واليتامي والمساكين وابن السبيل وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب . وإذا كان الرق قد ألغي ، فهناك حالات من العبودية والاستغلال منتشرة في المجتمعات الفاسدة يعد إنقاذ المستغلين (بفتح الغاء) من المستغلين(بكسر الغاء) لهم بمثابة عتق لرقابهم.وهو ما سيتم التطرق إليه عند الحديث عن مصارف الزكاة.
4- كفالة الزكاة : وتجمعها لدولة المسلمة إن كانت محل ثقة وتصرفها على الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله . وسيتم تفصيل ذلك عند الحديث عن مصارف الزكاة. فإن لم تكن الدولة محل ثقة ، بحيث يخشي أن لاتصرف الزكاة في مصارفها الشرعية وتبدد أموالها وجب على مجتمع المؤمنين أن يشكلوا من بينهم جهازا يتم انتخاب القائمين عليه من كافة المكلفين لجمع الزكاة وصرفها فيما حدده الله لصرفها.
5- العطايا والأجور: وتدفها الدولة للقائمين بوظائفها والمحققين لأهدافها والمراقبين لاستقامة أعمالها وتصرفاتها في حياتهم ، ولمن يعولون بعد مما تهم أو تقاعدهم ، وكذا يصرفها أصحاب الأعمال لمن في خدمتهم من الأجراء، وليس على أساس العمل المنجز فقط ، وإنما أيضا أخذا في الاعتبار أن خدمتهم ساهمت في انتاج الثروة وشغلتهم في ذات الوقت عن انتاج ثروة يورثونها لم يعولونهم في حياتهم. مع مراعاة العدل فيها.

موارد الدولة المسلمة قديما:
وتعين الدولة ، إن حسنت سياستها ورشدت، على تحقيق التكافل وتوفير البنية الأساسية والخدمات للمتكافلين المستخلفين مما يتجمع لديها من موارد مالية تتحصل عليها.
وكانت موارد الدولة المسلمة قديما تنحصر في الخمس التالية :
1- الخراج : وهي ضريبة عينية تؤخذ على الأرض الزراعية بصرف النظر عن الممول مع مراعاة عدم إرهاقة، مع تحرى العدل والاعتدال والمساواة بين الممولين.
2- الزكاة : وهي ضريبة شخصية تفرض على صافي انتاج الممول ، ووفقا لمركزه المالي . ولها نصابها وقيمة محددة على كل نوع من أنواع الاستثمار والدخل الناتج عنه . ويتم إنفاقها في نفس الإقليم ، ومن مصارفها المحأددة ، وما فاض عن الإقليم ينفق مركزيا. وقد اعتبر الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه من امتنع عن أداء الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة بمثابة مرتد عن الإسلام وشن حربا في بداية عهده على الممتنعين عن أدائها بعد وفاة الرسول عرفت بحرب الردة.
3- العشـورأو المكوس: وتفرض على صافي عمليات الاستيراد والتصدير في التجارة الخارجية مع الدول والشعوب غير المسلمة خلال العام بواقع عشر الأرباح الناتجة عنها.
4- الحمي والوقف والممتلكات: وتتعلق بالإيرادات الناتجة عن استثمارات الدولة ودخلها مما تقدمه من خدمات بمقابل مادي واستغلال ممتلكاتها.
5- الضرائب : وتفرضها الدولة وفقا لضوابط خمس هي : العدالة واليقين والملاءمة والاقتصـاد وتحقيق غاية اجتماعية تعود على كافة افراد المجتمع بالنفع.

الموارد الإضافيـة :
وإلى جانب الموارد الذائمة تلك كانت توجد للدولة المسلمة موارد إضافية غير مستقرة أو ذات طبيعة ظرفية تتمثل أيضا في خمس هي الآتية :
1- الإركاز : وهي خمس ما قد يعثر عليه من ثروة لاصاحب لها أو مطالب بها لحق شرعي له فيها.
2- التوظيف : وهو ناتج عن الحجر عن أموال السفهاء بواسطة الدولة أو المكتنزين للدهب والفضة والأموال ، وما تصادره من مال اكتسب بالحرام.
3- وراثة من لاوارث له: حيث تعود أموال و ممتلكات من لا وارث له إلى الدولة.
4- الغنـائم : وهو ما يتم الاستيلاء عليه من العدو في حالات رد عدوانه.
5- الجزية أو الغرامات : وهي ما يفرض من بدل نقدي مقابل الإعفاء من خدمة العلم أو مقابل الحصول على امتيازات من أي نوع.

موارد الدول الحديثة.
لا تختلف موارد الدول الحديثة مسلمة كانت أم غير مسلمة عما سبق كثيرا ، وقد حذت الدول المسلمة حذو الدول غير المسلمة بالنسبة للموارد المالية والتي كانت الضرائب المفروضه أبرزها، وأحيانا تجاوزتها على نحو هدام بالنسبة لاقتصادياتها لافتقارالاقتصاد إلى العـدالة التي يحرص عليها شرع الله. وبسبب الجهل أيضا وعدم التقيد بالضوابط الخمس سابقة الذكر لفرض الضرائب. ومنها ما يزيد من تكاليف المعيشـة للسكان مثل الضرائب المباشرة المفروضة على السلع والمنتجات وخاصة ضريبة القيمة المضافة على السلع التي لم تعفي منها السلع الأساسية .وعندما ترتبط باتفاقات تجارة حرة تلزمها بإعفاء الوردات من الضرائب ، أو تعفي الواردات من الضرائب بسبب عضويتها لمنظمة التجارة العالمية،تقوم بتعويض هذا المورد بزيادة الضرائب غير المباشرة على مواطنيها. وبينما نجد اسعار الفائدة في الدول الغنيةغير المسلمة تتراوح ما بين 2-5 في المائة نجدها في الدول المسلمة تتراوح بين 10-15 في المائة في الدول المسلمة الفقيرة . أي تتعامل بالربا الفاحش ، ويمحق الله الربا ويربي الصدقات ، وبينما تفتح الدول غير المسلمة أبوابها لمصارف لا تتعامل بالربا لكي تتيح الفرصة للمسلمين المقيمين بها والذين يتحرجون من التعامل بالربا بالتعامل معها ، نجد دولا مسلمة تغلق أبوابها في وجه تلك المصارف ومعامللاتها حماية لمصالح البنوك الربوية فيها .وثمة دولة مسلمة فرضت ضرائب على مربيي الماشية من أبقار وأغنام ضعف ما فرضته على الأقلية التي لا تقيم وزنا للدين وتربي الخنازير ، وتفرض ضريبة على المقاهي التي لا تقدم لروادها سوى الشاي والقهوة ضعف ما تفرضه على الحانات والعلب الليلية التي تقدم لروادها الخمور ، أي أنها تميزمن يأكلون السحت المحرم شرعا عن الذين يسعون إلى الكسب الحلال.إن هذه الدول المسلمة لا تخون دينها فقط وإنما تخون في الواقع الإقتصاد ذاته ، وهي إذ تتدعي الحداثة وأنها تقلد الدول المتقدمة لكي تقلل الفجوة التي تفصلها عنها تتبع في واقع الأمر نظما اقتصادية غير ملائمة لها تزيـد شعوبها فقرا وتخلفا وتدمر اقتصادياتها بيدها. والجماعات الدينية التي ظهرت في هذه الدول وطالبت بتطبيق أحكام الشريعة لم تنتبه إلى وجود قيم إسلامية حاكمة للاقتصـاد بسبب محدودية معرفتها الاقتصـادية واقتصرت في مطلبها على تطبيق الحدود الرادعة للجرائم فقط.

إن القول بعدم وجود نظام اقتصادي في الإسلام ونظرية اقتصادية هو صحيح تماما ، ولكن ذلك لاينطبق على عالم المسلمين فقط وأنما ينطبق على كل شعوب العالم حيث لم تظهر النظريات والنظم الاقتصادية والمالية إلا مع تطور الرأسمالية في أوروبا وابتداء من القرن الثامن عشر الميلادي. ولكن يوجد في الإسلام قيم حاكمة للاقتصاد والمعاملات المالية ، يمكن للمسلمين وضع نظم اقتصادية تحترمها ولا تخرج عليها ويمكن أيضا التوصل إلى نظريات إقتصادية يتم تطبيقها في عالم المسلمين ،وستكون هذه الأنظمة والنظريات غير متمتعة بالثبات أو الاستقرار لأنها تدخل ضمن عالم السياسة وتدبير شئون المسلمين وهو الأمر الذي يفرض على هذه النظم التلاؤم مع الزمان والمكان وكل منهما من المتغيرات وليست من الثوابت , ويظل الثابت الوحيد هو القيم الدينية ، والتحقق دائما من أن العمل الاقتصادى هو عمل من الأعمال الصالحات ويندرج ضمن الإحسان في الدين. ولذا قإن النظام الاقتصادي للمسلمين قد يختلف من بلد إلى أخر ومن زمان إلى آخر وتستحق في نفس الوقت هذه الأنظمة أن توصف بأنها إسلامية رغم اختلافها طالما هي ملتزمة بالقيم الإسلامية .
ومن الموارد المالية للاقتصاد الحديث التمويل بالعجز، وهو لا يخالف الإسلام.والاستخدام الصحيح له هو تمويـل أو تحريك الإمكانات المعطلة في ظروف التضخم والكساد لأنه لايعدو أن يكون إجراء ماليا مؤقتا واضطراريا يتم التراجع عنه فور تحقيقه هدقه ولايعد أيضا الإصدار النقدي موردا لأنه في حقيقة أمره دين على الدولة والتزام تضمنه ممتلكاتها ويستثني من ذلك حالة الولايات المتحدة الأمريكية التي أمكنها بعد تثبيت الدولار كعملة دولية أن تطبع منه آلاف المليارات بدون أي رصيد حقيقي لها سوى سمعتها كأغني دولة في العالم ، بما يمكنها من تصدير التضخم المالي خارجها . وفي حدود قدرة السوق المالية الدولية التي تسيطر عليها على الاستيعاب ومزايا سيطرتها على ايرادات الدولة المنتجة للبترول في المنطقة العربية خاصة بحيث أصبح الدولار وحماية تداوله خارجيا هو مظهر وجوهر المصالح الاقتصادية الخارجية فيما وراء البحار والخطر الداهم في نفس الوقت الذي يهدد الاقتصاد الأمريكي بالانهيار إذا ما طولب مقابل لآلاف المليارات من الدولارات الهائمة خارج حـدود الدولة.
والتمويل بالعجز إن لم يكن من أجل دعم استثمار منتج ومربح يعد نكبة على الاقتصاد ويعوقه ولا يساعده في شيء . ومن التمويل الحديث أيضا سندات الخزينة ، وهي عبارة عن دين في ذمة الدولة لمن يشترى السندات ، وتستخدم أيضا لهدفين سحب السيولة المالية من السوق لمعالجة التضخم المالي ودعم الاستثمارات الحكومية بحيث يمكن تسديد قيمة السندات من عائداته ، وإن أنفقت في غير ذلك أضرت باقتصاد الدولة. ومن التمويل أيضا الحصول على قروض من الخارج ويفترض في السياسة الاقتصادية الرشيدة أن تستغل بكاملها في دعم استثمارات منتجة للثروة ، تسدد أقساط القرض وقوائدة من عائداتها. وإلا كانت بمثابة زيادة الاقتصاد رهقا.

خصائص التكافل ومقاصده:
والتكافل من حدود الله التي يجوز تعديها وحكم الله الذي لا يجوز مخالفته وإلا اعتبر المسلم مكدبا بالدين لقوله تعـالى : « أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين “(الماعون:1-3) . واعتبر أيضا قد تحول من الإيمان إلى الكفر به لقوله تعالي : « وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله ، قال الذين كفروا للذين آمنوا : أنطعم من لو يشاء الله أطعمه؟”(ياسين 47). وتقدير العظاء فيه كما يقول المواردي معتبر بالكفاية ، بحيث يخرج الفقير من إسم الفقر إلى أدني مراتب الغني . وكل التصرفات التي تتأسس على مبدأ التكافل تعد من ضروب العبادة ، ومما يعين عليها في نفس الوقت.
ولا يقف التكافل عند حد الكفاية إلا في حده الأدني ، ولكنه يتواصل حتي يتحقق لجميع الأسر في المجتمع ، مرحلة بعد أخرى ، حدا أعلى مما تم الوصول أليه في المرحلة السابقة.وهو ما عير عنه الفقهاء الأصوليون بسلم الأولويات والذي يتضمن أولويات خمس: الضروريات- الحاجيات – التحسينيات – الطيبات – الرفاه. وتوفير الحد الإدني لجميع السكان يعد فريضـة على المجتمع والحاكم. وفي ذلك يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «إن الله استخلفنا على عباده لنسد جوعتهم ، نستر عورتهم ، ونوفر لهم حرفتهم. » وكان يقول لعماله: » إذا أعطيتم فأغنوا” والمسؤولية تضامنية بين الدولة والمجتمع عن التكافل لا تتحقق لمجرد توفير العمـل المأجور لديها أو لدى أصحاب رؤوس الأموال وكبار الملاك للعاطلين والمحتاجين، وإنما تتحقق الحسني في تأمين العمل الحر أو التعاوني المنتج الذي يحولهم إلى ملاك وأصحاب ثروة وليس مجرد أجراء يتم استغلالهم من أصحاب رؤوس الأموال والاغتناء على حسابهم ، والتحكم في أرزاقهم بإتاحة العمل أو حجبه عنهم وزيادة الأجور أو خقضها فيما قد يلجئون اليه من إعادة الهيكلة لخفض نفقات التشغيل . ولذا يعطي الإسلام في التكافل الأولوية للحرف والمهن الحرة ، إذ أن الحرفة أو المهنة الحرة تضمن للفقير رزقا متواصلا بعد تيسيرها له ، ولو أن ذلك لا يضمنه سوى اقتصاد مزدهر أيضا وطلب متزايد على الحرفة أو المهنة وعلى انتاجها أو الخدمات التي يقدمها أصحابها. ويتحكم فيها ظروف العرض والطلب بالسوق . وفي ظروف اقتصادية مشجعة يكون الأفضل للعامل القادر على الانتاج وإتقانه في حرفة أو مهنة له الدراية الكاملة بأصولها وفنونها ، وجب إعانة الحرفي أو المهني عليها ، بتيسير حصوله على مستلزمات الإنتاج وعلى تمكينة من تسويق انتاجه أيضا. فذلك سيكون دائما أفضل له من عمل مأجور قد لا يحسنه أو غير مضمون استمراره كمورد رزق دائم متواصل يحتاجه في ظروف الرواج ويستغني عنه في ظروف الكساد أو لخسارة تعود إلى سوء إدارة صاحب العمل أو بسبب تطور التقنية أو استبداله بمن يقبل أجرا أقل منه لخفض تكاليف الإنتاج وزيادة القيمة المضافة للرأسمالي.

وأفضل ما يحقق ذلك ويسهم في نفس الوقت في دعم الاقتصاد الوطني هو ما يلي:
1- نظام الأسر المنتجة : ومثال لهذا النظام هو صناعة الجبن من الحليب في هولندا والدانمرك وتصديره إلى جميع أنحاء العالم ، فهذه الأجبان والتي تتولي تصديرها شركات كبرى هي من انتاج أسر فلاحية هولندية أو دانمركية تقوم الشركة التجارية بشرائها من الأسر لمنتجة لها وتغليفها وتصديرها باسمها. وفي مدينة موس البلجيكية تناولت الطعام في مطعم صغير عائلي أقامته أسرة بلجيكية في حديقة منزلها ويعمل فيه أفراد الأسرة : الزوج والزوجة والأولاد والبنات وجميعهم حاصل على شهادات جامعية وقضلوا العمل الحر عن العمل في الحكومة أو المصانع.وقرأت قبل سنوات عديدة عن مؤسسة بريطانية تقوم بإقامة مشروعات عائلية وكان منها محطة لتزويد السيارات بالوقود فيها مغسلة للسيارات وورشة أصلاح. ويتم إنتاج العديد من السلع التقليدية اليدوية عن طريق الأسر المنتجه.وينتشر هذا النمط من الانتاج العائلي أيضا في الصين وبدأ ينتشر في الهند ودول أخرى.
2- الشركات المسـاهـمة للخدمات والانتاح:.ويناسب هذا النوع من شركات الأموال للمهنيين مثل تجمع مجموعة من الأطباء من مختلف التخصصات الطبية وإقامة مصحة أو مجموعة من المهندسين من تخصصات متكاملة مختلفة وإقامة شركة للتصميمات والاستشارات الهندسية أو مجموعة من المحامين يقيمون شركة للمحاماة والاستشارات القانونية وتأسيس الشركات ...وهكذا وهو نمط منتشر في أوروبا والولايات المتحدة. كما قامت حكومة المجر عندما تحولت من النظام الشيوعي إلى النظام الرأسمالي بتمليك مصانع الدولة للعمال والمهندسين العاملين فيها.
3- الجمعيات التعاونية للآنتاج الجماعي. ويلجأ اليها الكثير من الحرفيين في انتاج جماعي وليس فقط لتسويق منتجاتهم.وفي الدول الأوربية واليابان لاتصنع الشركات الصناعية الكبرى أجزاء منتجاتها التي تبيعها فنجد الشركة التي تبيع مضخة مياه للزراعة مثلا مكونة من عشرين قطعة توزع انتاج القطع على عشرين ورشة صناعية للحرفيين تقوم كل منها بتصنيع قطعة واحدة وفق المعايير الهندسية المحددة في العقد المبرم معها وتقوم الشركة الكبرى بتجميع القطع لتكون منها المنتج النهائي , ونجد شركة يابانية كبرى متخصصة في الأجهزة الأليكترونية جميع المكوناتالأليكترونية لأجهزتها مصنوع في سنغافورةوتايلاند وتايوان .
هذه الأنماط الانتاجية تتفق مع مبدأ التكافل الإسلامي ولو أنها غير منتشرة في الدول المسلمة، بسبب تبنيها العمل الجماعي التضامني والعمل الجماعي له أفضلية على العمل القردي ، وكذلك لتحقيق الحرية والكرامة أكثر من غيرها من أنماط انتاجية.وتكريم اإسلام للعمل اليدوي والذي يعبر عنه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه : « ما أكل أحد طعاما قط خير من أن يأكل من عمل يده . وكان نبي الله داوود يأكل من عمل يد”(حيث كان نبي الله داوود حدادا يصنع الدروع).
يتطلب هذا أن يتم تصميم مناهج التربية والتعليم على أساس التأهيل المباشر للمهن والحرف وضمان وفرة الانتاج وإفامة مراكز أبحاث لابتداع تقنيات مناسبة ومؤسسات للتمويل عن طريق التمليك للمعدات والأجهزة التي يحتاجها الانتاج أو مؤسسةالخدمات الجماعية دون إثقال كاهل أصحاب المشروع.ومكاتب متخصصة تابعة للدولة أوحرة تقوم بوضع دراسات الجدوى لمثل هذه المشروعات وتقديم المعونة الفنية لأصحابها.
وفي هذا الصدد أو قريبا منه يقول النووي بإعطاء الفقير والمسكين “ما تزول به حاجتهما وتحصـل به كفايتهما. ويختلف ذلك باختلاف النواحي (أي الأمكنة) . فالمحترف الذي لا يجد آلة حرفية يعطي ما يشتريها به ،- قلت قيمتها أو كثرت،- والتاجر يعطي رأسمال ليشترى ما يحسن التجارة فيه ،- ويكون قدرها يفي ربحـه بكفايته. » . ولا يمكن الاحتجاج هنا بأنني أتحدث عن اقتصـاد بدائي قبل الثورة الصناعية بعد أن ضربت أمثلة بقدر ما يتسع له المقام بما هو موجود في دول أوروبية متقدمه ، وكنت شاهدا على بعض منه. كما لايعني هذا وضع عوائق أمام تحقيق التنمية على نظاق واسع وبواسطةمشروعات صناعية عملاقة أو متوسطة الحجم تحتاج إلى العمل المأجور. ولقد بينت أن ما نوهت به تعمل به شركات صناعية كبرى في الغرب . فالانتاج الصناعي يعتمد إما على التكامل الأفقي ويدخل ضمنه ما تحدثت عنه من ورش يتم توزيع صناعة أجزاء المنتج عليها أو تكامل رأسي تقوم الشركة الصناعية بصناعة جميع أجزاء المنتج بداخلها . ويتوقف التفضيل بين النوعين على نوعية المنتج أو نوعية الصناعة . أما إذا كان يمكن للمنتج أن يتم تصنيعة بكل من التكامل الأفقي والتكامل الرأسى فالمشاهد في الدول المتقدمة تفضيل التكامل الأفقي. وما أتحدث هنا هو وضع قاعدة تكنولوجية تخضع للتطور ، وليس من الضروى أن يكون هذا التطور على نسق نفس ما حدث من تطور رأسمالي في الغرب أو خاضعا لقوانينه . ولا مانع أن ينحو نحوه إدا اقتضت الضرورة ذلك ،فالمهم في النهاية هو نجاعة الاقتصاد ومردوديته وملائمته لقيم المجتمع وعقيدته. وقد يتخذ التطور الرأسمالي لدينا أشكالا جديدة غير مسبوقة . فعندما تعجز مجموعات صغيرة من الحرفيين من ذوى المشروعات الصغيرة نسبيا عن منافسة شركات كبرى قد يتداعون لإقامة مشروعات كبيرة بإدماج مشروعاتهم في مشروع واحد ذي ملكية اجتماعية يساهمون فيها بأصولهم العينية وبقوة عملهم وخبراتهم المكتسبة ويستعينون في أدارتها بذوى الاختصاص في الإدارة والتنظيم والمحاسبة والتسويق وغيرها مما تتطلبه الشركات الكبيرة.ويقتسمون عائداتها ،- وسواء كان ذلك في مجال انتاج السلع المصنعة أو في تقديم الخدمات مثل شركات التأمين والبنوك. ووجود الحرف اليدوية والأسر المنتجة لها في العالم القروى سيثبت الفلاحين فيه ويغنيهم عن الهجرة للمدن ويزيد من دخلهم ويمتص البطالة المقنعة أو الموسمية لديهم .
ووجود موظف أو عامل أجير ضمن أسرة منتجة سيؤمن موارد إضافية للأسرة تعينه على الاستقامة في عمله وعدم التطلع فيه إلى اكتساب مال حرام منه مثلالرشوة والعمولات وما شابههما.
وحدد الخليفة عمر بن الخطاب ضوابط المال المخصص لتحقيق التكافل من قبل الدولة في قوله: « وإنني لأجد هذا المال لا يصلحه إلا خلال ثلاث: أن يؤخذ بالحق ، وأن يعطي في الحق ،- وأن يمنع من الباطل.».

وأقول ولست أول من قالها: إن معني التكافل في الإسلام ، إن يؤخذ المال من كل حسب قدرته وأن يعطى لكل حسب حاجته. ولو أن هذه المقولة مستعارة من الفكر الماركسي الذي يثير حساسية كبيرة لدي الفقهاء لدينا ، ويعتبرون كل ما يتصل به بصلة كفر. وهم لا يعلمون منه أو عنه أكثر من أنه معاد للأديان والإيمان.فالمال يتم تجميعه من العقو :«....يسألونك ماذا ينفقون؟ قل العفو،- يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون» (البقرة:219). فالمال يتم جمعه من العفو لدي كل فرد أو أسرة أي مازاد عن جاجتهما ، ويتم استثماره بما يشبه تخزينه في مستودع أفقي ينساب منه رأسيا في أنابيب عمودية وفقا لنظرية الأواني المستطرقة ، ويختلف حجم كل أنبوب بقدر حاجته للمال الصاعد إليه ، ثم يفيض من جميع الأنابيب الزائد عن حاجتها منه عائدا مرة أخرى للمستودع لكي يعود ويرتفع في الأنابيب مرة أخرى وهو ما يعبر عنه بالدورة المالية النشطة والتي تشبه أيضا الدورة الدموية في الجسم إلى حد ما. وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إن الله فرض على الأغنياء في مالهم ما يتسع للفقراء” والعطاء للفقراء ليس الغرض منه إمدادهم ما يقيم أودهم في يومهم وليلتهم وغنما ما يزودهم بمصدر رزق يعنيهم ويحدث لديهم عفو منه يعودون لأنفاقة على فقراء آخرين.أي الهدف منه في النهاية زيادة انتاجية المجتمع ككل بمشاركة جميع أفراده في الانتاج.ويختلف الأمر بالنسبة للمساكين من المسنين ومعتلي الصحة الدين لايقوون على العمل ولاجلد لهم عليه.ولا يستثني من ذلك سوى التكافل في الطروف الصعبة . وفيه يقول عمر بن الخطاب في عام المجاعة أو الرمادة الذي أصاب المدينة في السنة الثالثةعشر للهجرة معبرا عن التكافل فيها :« إني حريص ألا أدع حاجة إلا سددتهاما اتسع بعضنا لبعض ، فإذا عجزنا تأسينا في عيشنا حتي نستوي في الكفاف”.

وينتج عن قصر امتلاك الثروة على فئة محدودة من المجتمع وجعل معظم المال دولة بينهم دون غيرهم،- وحرمان الأغلبيةمن الخيرات والثروة، كما نراه في العديد من دول المسلمين في زماننا، أن تعلوا هذه الأقلية وتستكبر وتطغي وتفسد في الأرض ، وتسيطر على السلطة السياسية ، ومقادير الأمور، منفردة بها ومتحكمة فيها،- ومسخرة لها لصالحها ، ومكونة عصابة مسلحة لحمايتها على نسق أنظمة الجريمة المنظمة المافيا في الجوهر وأن تسترت في نظام حداثي شكلي ،- فتزداد غني ،- وتزداد الأغلبية فقراوعوزا . وتتحول هذه الأغلبية إلى عبيد لها من حيث تدرى أو لاتدري، ضحايا لاستبدادها ، وانتهاك حرماتها وكرامتها وإنسانيتها . وفي هذا يقول المولى عزوجل :« إن الإنسـان ليطغي إن رآه استغني”(العلق:7) . والاستغناء هنا لا ينحصر في الغني بالمال وإنما الاستغناء عن الناس وعن رضاهم وعن إقامة العدل بينهم . وقوله أيضا :« ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض”. ويغرى النمو السرطاني للثروة لدي الأقلية المنعمة بالترف الاستفزازي ،- والممارسات الإجرامية. وفي ذلك يقول تعالي:« واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين”(هود:116) . وقال تعالي:« وإذ أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول ، فدمرناها تدميرا”. وفسوق المترفين منا لم يعد قاصرا على بلدهم بل يمتد إلى بلاد المسلمين الأخرى مسلحين فيها بسطوة المال وبعلاقاتهم بالقلة المترفة النافذة فيها والمتسلطة عليها. وهو ما نشاهده اليوم في حياتنا جليا.

والإرادة أو المشيئة الألهية هنا تعني توفر العلة التي تربط بين السبب او المسبب والنتيجة وفقا للقانون الألهي الذي يعبر عنه بالفضاء والقدر. والذي يدعو الإيمان به فهم سنن الله في كونه وخلقة وليس الاستسلام له . “والله لا يعير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم”، وأن تعاملوا مع القضاء والقدر تعاملا سلبيا لن يغيروا ما بأنفسهم ولن يغير الله أحوالهم ، بينما لو تعاملوا مع القضاء والقدر تعاملا إيجابيا واعيا ،- سيغيرون ما بأنفسهم ويغير الله من أحوالهم . وسيظل التغيير في الحالتين من القضاء والقدر أيضا.

ويقول روبرت ماكنمارا في كتابه “مائة دولة وملياري نسمة” عن أوضاع العالم الثالث :« حين يكون أصحاب المزايا الكثيرة قلة محدودة ، ومن يعانون الفقر والحرمان كثرة غالبة ، وتتسع الهوة بين الفريقين عوض أن تضيق ،فالقضية لا تعدو أن تكون قضية وقت يجب بعده إتخاذ خيار حاسم بين التكلفة السياسية للإصلاح والمخاطر السياسية للتمرد”.

وجاء في كتاب بعنوان”التوزيع والنمو” صادر بتعاون من البنك الدولي وجامعة سوسيكس :« إن أعادة توزيع الثروة والدخول على المستويين القومي والعالمي على نحو رشيد ، يؤدي حتما إلى رفع معدل النمو فضلا عن ضمان استمراره” . ويفسر هذا أهمية ما يقوم به التكافل من دور لإعادة توزيع الثروة ودفع عجلة النمو. ويندرج ضمن هذا الفهم أهمية الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الملكية الزراعية لتوسيع قاعدة المنتجين ، وتوفير فرص العمل للعاطلين والقضاء على الفقر والتذمر الاجتماعي الذي قد يتحول إلى تمرد وفتنة لا تحمد عقباها عندما يصل الأمر إلى مداه ويبلغ سيل المظالم الربا. كما أن نشر التنمية في كافة بقاع الدولة من شأنه أن يثبت سكان القرى ويقلل من ظاهرة المدن الكبيرة المزدحمة ، والتي لا يوجد مبرر اقتصادي لوجودها أصلا، وصعوبة تقديم الخدمات لسكانها ، وحماية المجتمع من تسلط وفساد قلة باغية طاغية مفسدة ومهلكة له. أمسـي المال دولة بينها لايفارق دائرتها لغيرها ممن هم أحق به منها. ويزداد لديها بما تمارسه من استغلال للأغلبية المغلوبة على أمرها.والتي تمارس عليها الأقلية السيادة والسادية معا. وتحول دون نشوء ظبقة وسطي منتجة ومدبرة ومدخرة ومستثمرة تنهض باقتصاد بلادها مثلما حدث في أوروبا التي لم نعد نجلب منها سوى أسوء ما لديها مما لايتفق مع ديننا وعقائدنا وتقاليدنا، أما ما يتفق في أوروبا علم ومعرفة وديموقراطية وعدالة واحترام حقوق الانسان وعيرها ويتفق مع عقيدتنا نتركه لها.

فوزي منصور/ يتبع

No comments: