تأملات في مسألة الإنسان المغربي الصحراوي والحكم الذاتي المعروض عليه
قال تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " (النساء:114)وحيث الكلمة الطيبة صدقة. فأي كتابة أو حديث لا يندرج ضمن الإحسان و تسدي معروفا أو تصلح بين الناس لا خير فيها. ولكن لكي تصلح الكتابة في الإصلاح بين من شجر بينهما خلاف وجب أن تتعامل معهما على فدم المساواة، وأن تتفهم موقف كل من الطرفين دون محاباة طرف على حساب أخ، وأن تبحث عن جذور الخلاف وما يخفيه ظاهره، إذ أن المدفون في الأرض يكسر سلاح المحراث، كما يقول المثل لدينا ، ويقابل الأرض هنا نفوس المتخاصمين والمدفون فيها هو الرواسب النفسية المتراكمة ، خاصة إذا ما كان خلافهما طويل الأمد، وعمر قرابة 35 عاما، مثل النزاع بين جبهة البوليزاريو والدولة المغربية.
ولقد كنت أنبه كثيرا في كتاباتي إلا أن الكتابة السياسية تعد قاصرة ما لم تبنى على ثلاثة مقومات أساسية هي : الإنسان والمكان والزمان. وعلوم النفس والاجتماع والدين والاقتصاد والسياسة والفلسفة والقانون واللغة والأنثروبولوجيا والفسيولوجيا والطب والصيدلة....كلها تتعلق بالإنسان. أما الجغرافيا والجيولوجيا والطبوغرافيا والبيولوجيا والفلك وعلم البحار والكيمياء والفيزياء فتتعلق بالأرض أكثر من غيرها أي : بالمكان، كما يرتبط الزمان بعلم التاريخ وحده تقريبا.
هذه المقومات الثلاثة هي التي تعسر سياسات الدول، وتحدد مصالحها ، وتتحكم في اقتصادياتها ويرجع اليها تقدمها وتأخرها، وتفسر بها نزاعاتها وحروبها. ويتأسس عليها أي مشروع تنموي يرفع من شأنها، وإن أهملت جانبا منها في خطط تنميتها كان هذا الإهمال السبب الرئيس في فشلها.
والأرض إن خلت من إنسان يعمرها كانت خرابا ويبابا ومواتا وفقدت كل أهمية لها. والزمان إن لم يكن الإنسان فاعلا فيه ومنفعلا به ، فقد أيضا قيمته. إذن.. الإنسان هو الأكثر أهمية من المكان والزمان. وهو المحور الرئيس داخل الثلاثة أركان. وهو الذي استخلفه الله في الأرض، أي المكان، لكي يعمرها وليشكل فعله فيها أهم ما في تاريخها.
ولذا فإن الكتابة السياسية التي لا تعني بذلك وتكتفي بالانفعال بالحدث، والتحمس له أو ضده، منساقة وراء العاطفة والهوى أو المصلحة ، أو لأنها تجهل هذه الآليات المتشعبة والضرورة للبحث والتحليل، تكون مجرد عمل إنشائي لا يحمل معرفة ولا ينبني علي علم وليس فيه من خير يرجي.
وفقا لهذا المنظور وإتباعا لهذا المنهج فإن النظر فيم إذا كان الإنسان الصحراوي مغربيا أم لا في أي مقاربة لمشكلة الصحراء، أهم من البحث عما إذا كانت الصحراء، كأرض، مغربية أم لا. واذا كان مغربيا فهل ذلك يبرر ظلمه ، أو سلبه حقوقه المشروعة كإنسان، أو منحه حقوقا وحرمان باقي المغاربة منها؟
وإذا كان السياسي المحترف يعتني بالأرض فقط وملكيتها، فإن الكاتب السياسي ليس مشتغلا بالسياسة مثله ليتبعه وإنما هو منشغل بها فقط، ويمارس في انشغاله بها حريته ويتعامل معها وفق قيمه ومبادئه، وبالقدر الذي ينفع الناس، أو يدرء عنهم الضرر. ويحول بينهم وبين أن يفسدوا في الأرض ويسفكون الدماء، لأن الله لم يسخر لهم الأرض ليعيثوا فيها فسادا..
يوم الأربعاء 9يناير، . استرعي انتباهي في يوميةالمساء موضوعا عن السيد/ الخليلي محمد البشير الركيبي ، المقاوم والجندي في الجيش المغربي سابقا. ووالد محمد عبدالعزيز بن الخليلي الركيبي رئيس جبهة البوليزاريو المتنازعة مع الدولة المغربية حول الصحراء. وسبق لي أن قرأت كل ما جاء فيه على لسانه بالحرف الواحد. ولكن كانت أهميته أن ذكرني به وبأقواله والتي هي خير شاهد علي أن الإنسان الصحراوي مغربي أبا عن جد.هذا بالإضافة إلي ما تشهد به وقائع تاريخية كثيرة. ولم يخامرني شك في ذلك من قبل. ولكن كانت شهادة السيد الخليلي داعمة لذلك وتحمل أيضا دلالات هامة لمن يريد أن يفهم سيرورة القضية، وأسباب تعقدها والتي تكاد تكون نفسية محضة، وتسببت في استمرارها كل هذه المدة الزمنية. وفي الملحق الثقافي ليومية الشرق الأوسط وجدت عرضا لكتاب مترجم إلي العربية بعنوان : الدولة القومية خلافا لإرادتها – تسييس الأثنيات وأثننة السياسة في البوسنة والهند وباكستان" وفيه يؤكد مؤلفه بأن الاختلاف في الدين أو اللغة أو الأنثروبولوجيا المتمثلة في العادات والتقاليد لا تكون أثنية أو قومية تستوجب إقامة دولة لها أو الانفصال عن دولة قائمة. ولقد كنت دائما اعتبر أن انفصال باكستان عن الهند كان خطأ تاريخيا وأن الانفصال لم يكن في صالح المسلمين الهنود. وأعرف أن مفكرين مثل محمد حسن الندوي و أبوالأعلى المودودي كان لهم نفس الرأي حتى اضطرا إلى الاستسلام للأمر الواقع. وقد ترتب علي الانفصال الحروب والمآسي وتسبب في انفصال بنجلاديش عن باكستان فيما بعد وفي المذابح بين الهندوس والمسلمين الهنود....الخ. وتمزيق شبه القارة الهندية إلي دول كان ضد وحدة الإنسان حيث كل السكان هنود وإن اختلفت ألسنتهم ودياناتهم وينتمون إلي ثقافة هندية واحدة عريقة ـ وضد وحدة المكان التي كرستها الجبال والأنهار والسهول الغير قابلة للإقتسام إلا بتعسف وطغيان علي الطبيعة. وضد وحدة الزمان حيث جمع التاريخ المشترك الهندوس والمسلمين مئات السنين متساكنين متعايشين معا في سلام.
وقياسا على ذلك يمكن اعتبار أي توجه انفصالي لمجموعة من الناس لا يشكلون قومية مستقلة ، والتي تعتبر شرط أساسي لتكوين أية دولة،عملا غير عقلاني أو شرعي أو مسؤول.
النوازع النفسية أساس الرغبة الانفصالية:
الثابت تاريخيا أن الصحراويون كانوا دائما وحدويون وكانوا يعتبرون المغرب وطنهم بما في ذلك الرئيس المؤسس لجبهة البوليساريو مصطفي السيد الوالي الذي سبق ذكر أنه كان وحدويا وخلفه هو الذي رفع لواء الانفصال والمطالبة بتكوين دولة مستقلة عن المغرب. وعندما يتحول الوحدويون إلي انفصاليين فقد يكون لهم أسبابهم وأعذارهم ، فلا شيء يحدث من فراغ، والتي لو تمت معالجتها ربما عادوا إلى ما كانوا عليه أول الأمر، أي وحدويون ، وإذ لا يكون المرء منصفا لهم إن طالبهم بتبني خيار الوحدة، وما حولهم عنها مازال قائما . فإنه ليس من العقلانية أيضا أن يؤيد انفصالهم وتكوينهم دويلة تزيد من تمزق القومية المغاربية وتشتتها عوض أن تسهم في إعادة توحيدها.
منطقيا لا يمكن التوصل إلى حل ما لم تتم معرفة ودراسة الأسباب والدواعي التي حولت الإنسان المغربي الصحراوي من وحدوي إلى السعي للانفصال عن باقي الشغب المغربي.
النزعة الانفصالية ، كونها نزعة ، هي إذن حالة نفسية لها ما يبررها أو ما يدفع إليها عقليا مثل أية حالة نفسية. وهي في ذلك مثل نوازع المحبة والكراهية والتعاطف والتغابن والثأر والانتقام ...الخ.ومعالجتها كانت تستوجب من البداية علاجها داخل الوطن علي هذا الأساس، وليس في منظمة الوحدة الأفريقية،أو في أروقة الأمم المتحدة أو من خلال العلاقات الخاصة مع دول معينة تمكنها من استخدام القضية للابتزاز السياسي والاقتصادي للمغرب.كان يجب أن ينبني العلاج بوسائل غير أمنية أو سياسية ، تزيل الرواسب النفسية الناتجة عن تعامل خاطئ من أجهزة المخزن والسلطة ، وتعيد الإحساس بالمواطنة والكرامة والأمن على النفس من الضيم والعسف لدي الإنسان الصحراوي المغربي. كان الأمر يتطلب من البداية رقع شعار " الصحراويون مغاربة" وليس " الصحراء مغربية" ولكن السلطويون همتهم الأرض وليس الإنسان ، الذي اعتادوا علي انتهاك حرماته. ولو تركوا النزاع علي الأرض والسيادة عليها ، وقدموا نموذجا يسود فيه الإنسان المغربي صحراويا كان أم غير صحراوي في وطنه ، وتم الحديث عن سيادة الإنسان ، وليس سيادة الدولة ، لحلت القضية دون حاجة إلي مفاوضات أو حروب.إهمال الإنسان والتركيز على الأرض لم يترك أثارا نفسية سلبية علي المواطن المغربي الصحراوي فقط وإنما حكم وسيطر وهيمن أيضا على معاملة السلطات المغربية والأمنية خاصة التي أقحمت نفسها في موضوع ذي طبيعة سياسية وإنسانية وليس ذو طبيعة أمنية.وبدأت هذه المعاملة مع الصحراويين المغاربة الذين كانوا يقيمون داخل المغرب وليس داخل الصحراء المحتلة من أسبانيا قبل عام والذين شكلوا جبهة البوليزاريو لتحرير وطنهم المحتل في عام 1973.وتسببت هذه المعاملة المبكرة في نزوح جزء كبير من الصحراويين عن أرضهم واللجوء الى الجزائر عندما أعلن المغرب عن تنظيم المسيرة الخضراء ، إذ توقعوا ألا يجدوا من أبناء الشمال القادمين إليهم سوى الاعتقال والمهانة. وهذا النمط فى التعامل الأمني الذي تفادي التعرض له من ذهبوا الى الجزائر تعرض له الذين بقوا ولم يسيئوا الظن بالإدارة المغربية. وكان ذلك سببا في تحول الوحدويين الذين لم يهربوا الى الجزائر الي التوجه الانفصالي. وتأكد للسلطات المغربية أخيرا بأن أي استفتاء لتقرير المصير ينظمه المجتمع الدولي استجابة لإلحاح البوليزاريو لن يكون تأكيديا لحق المغرب في الصحراء أبدا، كما كان يردد باستمرار الراحل وزير الداخلية المغربي السابق إدريس البصري ومن تبعه من السياسيين وقت أن كان ممسكا بملف الصحراء.
دون الدخول في تفاصيل كثيرة ، يمكن إعادة قراءة ما ورد علي لسان السيد/ الخليلي الركيبي عن بعض ما حدث قبل عام 1975 لكي نفهم كيف أشعل الأمنيون أو بيروقراطيو المخزن المغربي النار في نفوس الصحراويين المغاربة الوحدويين بتعسفهم معهم .والذين حاربوا من أجل استقلال المغرب وحاربوا معه بعد الاستقلال.يقول الشيخ الخليلي ، الذي تجاوز عمره الثمانين ، وقضي معظمه بالمغرب ومازال مقيما به :
" آلمني أن يعتقل أفراد من عائلتي ، بينما أنا أؤدي الدفاع عن بلدي (في القوات المسلحة المغربية) ، وقد طالت الاعتقالات أخي عبدي ...بمنطقة توزكي وابني البكر محمد وابن أخي محمد وزوجتي التي اعتقلوها في بيتها في طانطان واقتادوها الى أكادير وتركت خلفها أبناءها الصغار الذين لم يجدوا من يهتم بهم في غيابي وغياب أمهم ، وظلوا على ذلك الوضع شهريــــن الي أن تم الإفراج عنها...".وبعدها اختفى ابنه محمد عبد العزيز رئيس جبهة البوليزاريو حــــــاليا . ولم يره والده أو يعرف مصيره حتى سمع صدفة خطابا للملك الحسن الثاني ذكره فيه. وعرف أنه يقود البوليزاريو في الجزائر.كانت جناية الذين اعتقلوا من أهله بما فيهم زوجته مشاركة بعضهم في مظاهرة يطالبون فيها بتحرير الصحراء من الأسبان.
ثم ماذا كان مصير الرجل بعد أن أحيل الي التقاعد من القوات المسلحة المغربية وعمره يناهز وقتها 55 عاما ؟..يقول الرجل : " تم تهميشنا،نحن الذين حملنا السلاح منذ البداية للدفاع عن وحدة المغرب، وكل ما كنت أتقاضاه من الدولة 1100درهما أعيل بها عائلة كبيرة من 14 فردا" ويضيف الصحافي : " وظلت رخصة النقل التي منحها أياه الملك الحسن الثاني بعد لقاء القذافي ...مجمدة ، كاتب وزير الداخلية آنذاك ووزير النقل والديوان الملكي ..لكن دون جدوى "
طبعا كل من كاتبه خشي علي منصبه لو استجاب لطلب والد محمد عبد العزيز، والنتيجة أن الدولة لم تف بما وعدت به حتى وإن كان الوعد صادر من الملك نفسه. بينما أغدقت الدولة على شيوخ القبائل لاستمالتهم إليها وأهملت القبائل نفسها وهو الأمر المخالف للتقاليد الصحراوية التي تمنع شيخ القبيلة من أن ينفرد بمنفعة دون باقي أفرادها ودون مشورتهم وبالتالي يفقد قيمته وهيبته في القبيلة إن خالف الأعراف ، ولا يعود له فائدة عند من أعطاه ولا عند من حرموا من عطيته.
لم يأخذ الأمنيون في اعتبارهم أهمية الروابط الإنسانية وصلة الرحم عند الصحراويين التي تربط صحراوي الداخل مع صحراوي الخارج الانفصاليين ، والتي لا تؤثر فيها الخلافات السياسية أو موقفهم من الوحدة مع المغرب أوالانفصال عنه.
يمكن أن نستشف ذلك بوضوح في حديث الشيخ الخليلي وهو عن موقفه من السياسة أو عن مشاعره الأبوية تجاه ابنه المخالف له .. في السياسة رغم ضمه – ربما علي غير رغبة منه – الي المجلس الاستشاري للشئون الصحراوية ، يقول الشيخ ، مبررا رفضه الانضمام الي أي حزب سياسي مغربي: " لا أحب السياسة ولا أريــــدها ، فالسياسة تخلق المشاكل بين النـــــــاس والعــداوة بين الأخوة" فالـسياسة هي التي ألحقت الضرر به وبأسرته وأهله وحرمته من ولــده وفرقت بينه وبين إخوته المقيمين في المغرب والذي يتضح مما نشر أن أحدهم طبيب في بني ملال وواحد آخر محام في أكادير.. أما عن عاطفته تجاه ابنه محمد عبد العزيز، التي لا يمكن لإنسان أن يلومه عليها ، ما لم يتجرد من انسانيته، فيعبر عنها بوضوح تام : " إن أمد الفراق طال لآزيــد من 35 عاما ...كنت أعمل وأكد لأرسل له المال حتي يتابع دراسته بمدينة الربــــاط
، وكنت أعتقد أنه يثابر من أجل التحصيـــل المعرفي . فوجئت به يغادر الربـــــاط في اتجاه العاصمة الجزائر" . ثم يضيف : " تنتابني رغبة في احتضانه وأربت على كتفيه ...أريد منه أن يأتي عندي الي المغرب لأراه فقد طال أمد الفراق ... ولم أعد أقوى على فعل أي شيء . أتمني أن يرجع الى المغرب ، أرصه ووطنه ووطن أجداده ، فهو مغربي ، وأريد لقياه قبل أن أرحــــل الي دار البقـــــاء".
ومن المؤكد أن الإبن يشتاق إلي أبيه وأسرته أيضا ولكنه يغالب شوقه وحنينه ،لا لأنه انفصالي أو لا يشعر أنه ينتمي لشعب المغرب، لأنه إذا كان ما دفعه للخروج الظلم الذي تعرضت له والدته وإخوته وعائلته قبل أن يخرج من البلد ويهجرها مليا ، ولكي يعود اليها يجب أن يتأكد أن هذا الظلم لن يتكرر ، وهم ما لا يوجد دليل عليه بالنسبة اليه ، فمازالت الانتهاكات للكرامة الإنسانية تحدث . صحيح أنها كانت موجودة في الجزائر علي نحو أكثر بشاعة خلال سنوات التسعينيات كلها ، ومازالت بقاياها قائمة ، وطالما عسكر الجزائر مازالوا يمسكون بمقادير البلد السياسية والاقتصادية ، فإن عودة الماضي ممكنة ، ولكن لم يقل بأنه جزائري أو أنه يريد ضم بلاده للجزائر، وإنما هو حتى في انفصاليته يريد أن يعيش في بلد لا ينتهك فيها أحد كرامة أهله وأسرته سواء كان هذا الأحد مغربيا أو جزائريا ، رغم أنني – كما يتضح مما سبق – لا أفرق بين المغرب والجزائر وأعتبرهما بلدا واحدا تم تقسيمه الى اثنين تعسفيا ، وبقاءه مقسما يعد استمرارا للعسف وسوء السياسة. أعتقد أنه لو تم النظر الى القضية بهذا المنظور لأمكن إيجاد حل ينهي الخلاف بين الأهل ، ويمنع سفك المزيد من الدماء أو استمرار المعاناة سواء لصحراوي الداخل أو الخارج، أو للجزائريين والمغاربة. أي أن يضع المرء نفسه مكان الخصم ويفكر بتفكيره لا أن يحاول أن يفرض عليه أفكاره.. إذا ما استحضرنا قوله سبحانه وتعالي : " إن الله لا يحب الجهر بالسوء إلا من ظلم " لأدركنا ، حتى لو لم يكن لنا دراية كافية بعلم النفس ، ما ذا يعمل الإحساس بالظلم في النفس والعقل والسلوك. وأشدد هنا أيضا علي الإحساس بالظلم وليس الظلم نفسه ، فهناك نفوس تقبل الضيم بحكم عاداتها وثقافاتها ، وهناك نفوس تأبي القبول به ، وهذه التي لا تقبله يكون إحساسها بالظلم أشد ورد فعلها عليه هو الرغبة في الثأر والانتقام ، وهو رغبة أحيانا لا يقلل من حدتها الزمن ، بل نجد هذه الحالة أيضا في بعض الحيوانات مثل ما هو شائع عن الإبل ، فالجمل إذا ما أذاه مالكة يتحين الفرصة لكي يقضي عليه حتى لو بعد سنوات. للأسف الذين تعودوا على اقتراف المظالم لا يدركون هذا أو يدركون سوء ما فعلوا بعد فوات الأوان.لقد خبرت الإحساس بالظلم ، كتجربة ذاتية ، في المغرب ، وعرفت كم هو خطر ومدمر لو تمكن المظلوم أن يطبق عدالته هو بعد أن خذلته عدالة الدولة أو المجتمع ، إنها العدالة اليائسة الهوجاء التي لا تتقيد بدين أو قانون وكل ما تريده فقط هو الثأر والانتقام ورد الصاع الواحد ألف صاع. ربما كان من حسن حظي أنني كنت عاجزا عن ذلك بسبب كبر السن والغربة وضعف البنية وجفاف الموارد عندما كنت تحت وطأة ذلك الإحساس
أثناء جولة المفاوضات الثالثة بين الجانبين في مانهاست بنيويورك والتي انتهت بالفشل كسابقتيها ، أعاد الوسيط الأممي والسوم مقترحه الهادف لبناء جسور الثقة بين الطرفين وذلك بالعمل على تنظيم زيارات عائلية عبر البر وإجراء مقابلات رياضية وسباق للإبل بين الفرق الصحراوية والمغربية وتبادل الرسائل عبر البريد المباشر ووضع برنامج مشترك لبعثة الحج الصحراوية مع إحداث لجنة مشتركة بين المغرب والبوليساريو تشرف على وقف إطلاق النار ونزع الألغام ، أثناء جولة المفاوضات الثالثة بين الجانبين في مانهاست بنيويورك والتي انتهت بالفشل كسابقتيها ، أعاد الوسيط الأممي والسوم مقترحه الهادف لبناء جسور الثقة بين الطرفين وذلك بالعمل على تنظيم زيارات عائلية عبر البر وإجراء مقابلات رياضية وسباق للإبل بين الفرق الصحراوية والمغربية وتبادل الرسائل عبر البريد المباشر ووضع برنامج مشترك لبعثة الحج الصحراوية مع إحداث لجنة مشتركة بين المغرب والبوليساريو تشرف على وقف إطلاق النار ونزع الألغام ، والقيام بزيارات علي مستوى عال بين الطرفين ، وإحداث مشاريع بالمنطقة تشرف عليها الأمم المتحدة علي مستوي التمويل.بالإضافة إلي إحداث لجنة مشتركة مابين الطرفين لمراقبة كيفية التعاطي مع هذه النقاط العشر. من المؤكد أنه لو حسنت النوايا لدي الطرفين لرحبا بذلك ولكن للأسف لم يوافقا عليها.
لماذا لا يجب القبول بمزيد من تجزئة الأرض:
لم تنشأ معظم الدول العربية علي أساس قومي مثل الدول في أوروبا التي قامت على قوميات مكتملة المقومات،وإنما تم تقسيم القومية الواحدة إلي أكثر من دولة. مما يعني أن تلك الدول قامت على أساس غير عقلاني أو مستنير أو مسؤول .ولم يتم هذا التقسيم أو تلك التجزئة بفعل كما حدث في الشرق الأدنى وإنما باردة الحكام الذين سلمهم الاستعمار أمر شعوبهم ، هذه القيادات التي عملت على تكريس التجزئة بكل الوسائل، ضدا علي رغبة شعوبهم. أقرب مثال لذلك تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا التي يشكل سكان الدول الأربع قومية واحدة موزعة على أربع دول. وكان ذلك بمثابة مغامرات من الحكام لأسباب ودواعي شخصية ودون حساب العواقب على المدى البعيد. وقياسا علي ذلك لا يمكن اعتبار أي توجه انفصالي أو لتكوين دويلة أخرى داخل هذه القومية الواحدة عملا إلا غير مقبول وضار. مهما سيق من مبررات لتسويغه.
وإذا كان دعاة انفصال باكستان عن الهند تعللوا باختلاف الديانة ، فإن دعاة تقسيم المغرب إلي أربعة دول لم يجدوا ما يبررون به فعلتهم سوي التاريخ الاستعماري ، وهو تاريخ ما كان يجب الخضوع له ، خاصة وأن وجوده كان مرفوضا من الشعب في المنطقة المغاربية وقاومه الشعب في كل جهة حتى تخلص منه ، وكانت وحدة الكفاح والخلاص كافية لوضع حد نهائي لكل ما خلف الاستعمار وما ترك من رواسب.
لا يمكن أيضا اعتبار اختلاف النظام السياسي مبررا للتمزق أو استمراره ، إذا استحضرنا أن الثورة الجزائرية عرضت على المغرب توحيد البلدين تحت قيادة الملك محمد الخامس . وهو ما أعلنه الرئيس الجزائري السابق أحمد بن بيلا في الرباط وفي حضوري عندما جاء قبل سنوات قليلة للمشاركة في ندوة نظمتها المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير. كما كان المجاهد عبد الكريم الخطابي رئيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة خلال سنوات النضال من أجل الاستقلال قد طلب من ممثلي المغرب والجزائر وتونس الاتفاق علي تأسيس دولة واحدة بعد الاستقلال فرفض الحبيب بورقيبة ممثل تونس آنذاك وأول رئيس لها بعد الاستقلال وانسحب من المكتب منشقا عنه. ووافق الأستاذ علال الفاسي ممثل المغرب، إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفنه فيما بعد. أي أنه لو قبل العرض الجزائري في الرباط آنذاك لكان بالإمكان أن تشكل الجزائر والمغرب دولة واحدة قومية ملكية دستورية ديموقراطية غنية وحرة وقوية ومتقدمة وتوفر لشعبها الحياة الكريمة، وذات حضور فاعل في السياسة العربية والأفريقية والدولية وكلمة مسموعة في المجتمع الدولي. وما كان يمكن أن تظهر للوجود قضية مثل قضية الصحراء وتظل ثلاثة عقود بلاحل وتسفك بسببها الدماء ويعاني منها الصحراويون سواء داخل المغرب أو المغتربون في المنفى الجزائري.
عندما نتذكر كل ذلك ،لا يمكن أن نلوم البوليزاريو علي تشبثها بموقفها الداعية فيه الى تمتيع الشعب الصحراوي المغربي بحق تقرير المصير، طالما فهمنا أن دعوتها تلك فيها انقاذ له من سوء المصير ، ولكن أيضا لا يمكن الموافقة على عزل هؤلاء الصحراويين عن باقي شعبهم المغربي في دويلة صغيرة العدد من السكان حتى لو لم تكن مساحتها صغيرة قياسا إلي دول كثيرة ذات مساحة أقل. ولكن أيضا يجب البحث عن حل سياسي مرض ويشعر فيه الصحراويون بالحرية والأمان والكرامة ويطمئنون إليه ويحسون أن معاناتهم في المنفي لأكثر من ثلاثين عاما لم تكن بلا جدوي.
في الحقيقة يجد الإنسان المنصف نفسه حائرا بين أمرين ينطبق عليهما القول : أحلاهما مر. من كل قلبي كنت أتمني أن يقول أحد الأطراف المعنية بقضية الصحراء : تعالوا نقيم وحدة جامعة للمغرب والجزائر وموريتانيا لمصلحة أمة مغربية واحدة بما فيها أبناء الصحراء وتنحل مشكلتهم بذلك بدون ضم أو انفصالية ،ودولة مؤسسات مدنية ديموقراطية تحقق العدالة ووتؤمن حقوق الإنسان كاملة لكافة مواطنيها.خاصة وأن الصحراويين لهم امتدادات عرقية وثقافية وتاريخية في موريتانيا والجزائر فضلا عن الوحدة الجغرافية للأراضي التي يتوزعون عليها لا تقل أهمية عن امتداداتهم في المغرب. المناطق الصحراوية تمثل دائما مناطق عزل جغرافية ولكن السكان الصحراويون كانوا يمكن أن يكونوا بمثابة اللحمة التى تربط بين الدول الثلاث وتوجدها وتتغلب على طبيعة الصحراء في العزل ويكون ذلك لمصلحة جميع الشعوب التي ينهكها الفقر والفساد الاداري ونهب ثرواتها وتبديدها فيما لا يعود عليها بنفع. ولكنه حلــــم- للآسف الشديد- لا يسمح به الواقع والمهيمنون عليه المستفيدون من النهب والذين يحصنونه بسياسات قمعية سادية لغرس الخوف في النفوس وفرض الخضوع لإراداتهم،رغم قبول الشعب وترحيبه بأي وحدة تجمع الأهل المشتتين في أسرة واحدة كبيرة.
الحكم الذاتي المعروض علي الصحراويين:
يقول الشيخ الخليلي الركيبي : " رأيي مع رأي العاهل المغربي الملك محمد السادس ، وهو رأي يقول بمنح السكان حكما ذاتيا لتسيير شئونهم بأنفسهم تحت السيادة المغربية ، وبذلك تظل لحمــة الأخوة قائمة ، أما تشتيت الناس فلن يفيد في شيء .بل سيزيد من تأزيم حالات الإنسان النفسية "
وحالات الإنسان النفسية التي ذكرها الشيخ الحكيم هي التي يبدو أن جميع سياسات أنظمة الحكم العربية والمغاربية وبالتالي المغربية لم تقم لها وزنا بعد أو تأخذها في الحسبان .
الابن محمد عبدالعزيز الخليلي الركيبي يواصل ممثلوه في المفاوضات مع المغرب التمسك بحق تقرير المصير بموجب استفتاء ، لكي يقرر الصحراويون إما البقاء تحت السيادة المغربية أو الاستقلال والاستغناء عنها. أو يعودون لحمل السلاح . هذا الموقف الثابت والعنيد الرافض للحل المعروض عليه من قبل المغرب يقول السياسيون والإعلاميون في المغرب عادة من أن الجزائر تحرضه على التمسك به، ورفض أي حلول يعرضها المغرب بسبب عداء الجزائر – الحقيقي أو المتوهم – للمغرب. ولا أدري لماذا لا يفترضون أنه لو اقتنع به ما كانت الجزائر بقادرة على منعه من القبول به: وهو يستطيع أن يتفق مع المغرب وهو خارج الجزائر إذا كانت تتحكم في أمره لوجوده على أرضها. هذا الوجود الذي لا يمكن لنا أن نتصور بأنه يريده ، كما أن الجزائر لن تستطيع منع الصحراويين اللاجئين لديها من العودة إلى وطنهم برعاية الأمم المتحدة اذا ما وصلت قيادة البوليزاريو إلى حل يرضيها مع المغرب. وعلينا إذن أن نفكر لماذا يرفض حل الحكم الذاتي المعروض عليه، وذلك بإعادة النظر في ماهية هذا الحكم الذاتي وآخذين في الاعتبار انعدام الثقة بين الطرفين ولا توجد أية مستجدات تجعل أي منهما يثق بالآخر وبحسن نواياه.
الذي يجعلنا نقول بأن هذا الجهد في المراجعة أو التأمل بغرض المزيد من الفهم والبعد عن التحيز ما يدفع إليه هو قناعتي – التي أرجو أن تكون خاطئة – بوجود نية لإشعال حرب في المنطقة . وتهديدات البوليزاريو بالعودة إلي حمل السلاح رغم صعوبة توفرها على تأمين متطلبات الحرب لاتعني سوى أنها ستقوم بدور البادئ في المركبات المتحركة starter لتنشب بعدها حرب بين الجزائر والمغرب إن لم يربح من الصحراويين فلن يخسروا كثيرا، بل قد تكون تقديراتهم بأن ربحهم سيكون أكثر منالا، بعد أن تسمح التطورات بتدخل عسكري أممي وتنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالنزاع والتي تتفق مع أجندة البوليزاريو. ليست المشكلة هنا ستكون أهمية إنشاء دويلة جديدة في المنطقة من عدمه وإنما في الخسارة الفادحة البشرية والاقتصادية التي ستلحق بكل من المغرب والجزائر ومن شأنها أن تزيد وهنهم السياسي وتبعيتهم وخضوعهم لإملاءات الخارج والمزيد من تدهور الأوضاع المعيشية للسكان عوض العمل على تحسينها. هنا فإن درء الضرر يكون أهم من جلب المنفعة ، والبحث المسؤول الغير منحاز لأي من الجانبين هو الذي قد يفسر الخلفيات التي يراها كل طرف محتملة ، ويستريب فيها بسبب انعدام الثقة أصلا لدي كل منهما في الآخر ، ييسر عليهما التوصل إلي حل سلمي يمنع عن المنطقة ويلات الحرب التي قد يجلبها المغامرون من العسكر هنا أو هناك. وهي بالنسبة للمغامرين العسكريين بمثابة المغامرة الأخيرة لهم، فقد يمكنهم أن يتصوروا كيف يمكن أن تبدأ الحرب ولكن ليس بإمكانهم أن يتصوروا كيف ستنتهي الحرب. أي أنها أشبة بالرغبة في الانتحار بعد أن يبلغ اليأس أو الخوف من المجهول مداه. وهو ما أوضحته في مقالي السابق.
علينا أن نضع أنفسنا في مكان محمد عبد العزيز الذي هو أكثر ثقافة سياسية من والده ويتحمل أيضا مسؤولية ما اعتبرها قضية حياته بينما صلة والده تعد منبته بها وكل ما يهمه منها ألا تظل حائلا دون رؤية ابنه واحتضانه قبل أن توافيه منيته. وذلك لمعرفة الأسباب الموضوعية المحتملة التي تكون خلف رفضه للعرض المغربي الذي يعتبره المغرب غير قابل للرفض . فإلى جانب التراكمات النفسية التي عززت عدم الثقة قد تظهر أسباب موضوعية كانت غائبة عن أذهاننا بينما هي حاضرة في ذهنه.
بداية البحث الموضوعي قد يكون التساؤل حول أين توجد تطبيقات الحكم الذاتي في العالم؟
سنجد بالبحث أن هذه الصيغة موجودة في الصين والهند وروسيا الاتحادية. ومنحت لقوميات صغيرة داخل الدولة تمثل أقليات في داخلها ، وهذه الصيغة حرمت منها قوميات أو إثنيات أكبر حجما في نفس الدول الثلاث لأنها في الأطراف ، وظهرت فيها بوادر نزعة انفصالية، مثل : إقليم أسام في الهند وإقليمي سانكيانج والتبت في الصين وأقاليم القوقاز في روسيا. وكلها أقــــــاليم طرفية لن تتردد في انفصالها إذا ما تمكنت من ذلك. ولم يمنح في تلك الدول أي جزء فيها من نفس القومية حكما ذاتيا.
القول بأن الصحراء لها خصوصية ثقافية من حيث لغتها الحسانية أو عاداتها وتقاليدها ونظامها الاجتماعي التراتيبي المتوارث غبر قرون ، والذي احترمه الأسبان ولم يتقيد به المغاربة للأسف وفرضوا أحكامهم القيمية عليه.هذه الخصوصية تلك لا تنحصر في الساقية الحمراء ووادي الذهب وإنما ممتدة في موريتانيا وداخل المغرب في واد نون وورزازات والرشيدية وبصفة عامة كل الأراضي جنوب نهر درعة. ويتطلب هذا المنطق إلى مد الحكم الذاتي إلي جميع هذه المناطق سواء كانت تتكلم الحسانية أو الشلحة. هذه المبررات ، التي يتم بها تضخيم الخصوصية الثقافية ، لا يساندها ما جاء عرض الكتاب السابق الإشارة إليه . والمنشور في ملحق صحيفة الشرق الأوسط. ومع الأخذ في الاعتبار أن صيغة الحكم الذاتي باتت سيئة السمعة بعد أن تم توريط الفلسطينيين فيها وإيهامهم بأنها السبيل لإقامة الدولة المستقلة التي يحلمون بها. ويشهد الآن العالم كله على ما آل اليه الوضع في فلسطين المحتلة من حصار وتقتيل واعتقالات وتدمير مساكن وتجريف مزارع ومعابر وجدران عازلة ومستوطنات صهيونية مافتئت تتوسع في الأرض المحتلة فضلا عن اقتتال الإخوة عوض قتالهم العدو المشترك...الخ . هذه السمعة السيئة لصيغة الحكم الذاتي في طبعتها الإسرائيلية من شـــأنها
أن تبعث الريبة في نفس من تعرض عليه وأن في طرحها سوء نية مضمر، وسوء مآل مدبر. وأقل مخاطر العرض أنه لو تراجعت السلطات المغربية عن استمرار الوفاء بما التزمت بعد قبول الصحراويين لصيغة الحكم الذاتي ، حتى لو كانت قد تمت بضمانة دولية ، فإن الخلاف بين الصحراويين والسلطة في الرباط سينظر إليه بأنه خلاف محلي أو داخلي لا دخل للمجتمع الأوروبي به. قبل اتفاقات أوسلو التي أتت بنظام الحكم الذاتي للفلسطينين أو السلطة الفلسطينية كان العالم كله يعتبر الكفاح المسلح الفلسطيني مقاومة مشروعة للاحتلال وحركة تحرر وطني أما بعد أوسلو اعتبر العالم أي عمل مسلح ضد إسرائيل هو عمل إرهابي ، وأن أي عمل مسلح إسرائيلي ضد الفلسطينيين هو شأن إسرائيلي داخلي لا يتجاوز رد الفعل عليه أكثر من مطالبة إسرائيل بعدم الإفراط في استعمال القوة.
وفق الأعراف الدولية والتي تؤخذ في الحسبان بصفتها بمثابة قانون دولي ، فإن صيغة الحكم الذاتي فيها إقرار بأن الذين متعوا به يشكلون إثنية مختلفة عن النسيج القومي للدولة ولكنها تقيم على جزء من أرضها لا يمكن فصله عنها ، وتخضع لكل أنظمة وقوانين الدولة ، ولكن يسمح لها بتدبير شئونها المحلية اليومية بنفسها.
العرض المغربي منحصر في الساقية الحمراء ووادي الذهب فقط ، أي الصحراء المتنازع عليها مع البوليزاريو ، فإذا كان مقدما بسبب خصوصية ثقافية وجب أن يتسع نطاقه ليشمل كافة المجتمعات الصحراوية في جنوب المغرب ،كما يجب أيضا تمتيع كل المناطق التي تتمتع بخصوصية ثقافية في المغرب بنفس الحكم الذاتي حتى لا تكون الدولة تكيل بمكيالين في تعاملها مع مواطنيها ، خاصة وأن منطقة الريف مثلا التي كانت بدورها خاضعة للاستعمار الأسباني لها نفس الخصوصية.وإن كان الدافع إليه وجود نزاع حول السيادة على الأرض بين المغرب والبوليزاريو فسيكون بمثابة عرض من غير أرضية الخلاف وخارج موضوعه . ومجرد عرضه على الصحراويين هو إقرار بأنهم يشكلون قومية أو أثنية خاصة مغايرة وهم ليسوا في الواقع كذلك . ولو كانوا يشكلون قومية خاصة متميزة لما وجب منازعتهم في حقهم في إقامة دولتهم المستقلة.
الخصوصية الثقافية أو الاجتماعية أو ما شابه ذلك لا يشكل قومية مستقلة تستوجب أن يكون لها دولة خاصة بها خارج امتدادها القومي ولا تستوجب أن يكون لها نظام حكم ذاتي. ولكن قد تتم إدارتها داخل الدولة بنظام هو أقرب إلى الدولة المستقلة، وأكثر شرعية وقوة من صيغة الحكم الذاتي ، وهو النظام الفيدرالي. ففي النظام الفيدرالي، تدبر كل ولاية أو مقاطعة شئونها بكامل حريتها، وتصوغ قوانينها، وتنظم علاقاتها ليس بباقي الولايات فقط وإنما بالدول الخارجية كذلك أحيانا.هذا النظام موجود في العديد من دول العالم خاصة سويسرا وألمانيا والولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والهند. وقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن أبدى إعجابه بالنظام الألماني. وأبدى حينها السياسيون ترحيبهم بنظام حكم فيدرالي يطبق في المغرب ، وسال مداد كثير يعرف بمزاياه في الصحف. وأفترض أن هذا التوجه حتى لو انعقدت عليه إرادة القصر،التي تعتبر مطلقة، فإن معارضة أجهزة في الدولة تخشي أن يترتب عليه تقليص نفوذها والحد من تدخلاتها في الشئون السياسية والاقتصادية، وبالتالي الإضرار بمنافعها المادية والرمزية ، هذه المعارضة قد تكون قادرة على منع القصر من المضي قدما في هذا السبيل، إن كان حقا يريد تحديث الدولة .وإن كان صحيحا ما ذكره باحث إسرائيلي من أن الملك محمد السادس يريد حكما للمغرب على غرار النظام الملكي الإسباني ، كان ذلك تأييدا لما سبق. وذلك البحث أترجمه حاليا لكي ينشر يوم الجمعة القادم 18يناير في يومية التجديد.
العريضة التي قدمها نواب في الكونجرس الأمريكي تأييدا للعرض المغربي يمكن النظر إليها أنها محاولة لإضفاء مشروعية على الحكم الذاتي الفلسطيني تحت السيادة الإسرائيلية وقطع الطريق علي إقامة دولة فلسطينية كحق مشروع للشعب الفلسطيني الذي يشكل قومية متميزة عن الدولة الإسرائيلية. ونفس الشيء بالنسبة لفرنسا ساركوزي والذي أثير مؤخرا حديث عن أصوله اليهودية.
لذا أعتقد لو أنه عرض علي الصحراويين المغاربة نظام حكم فيدرالي يجرى تطبيقه في جميع التراب المغربي وباعتباره النظام الذي يكفل الإدارة الذاتية لولاياته أو مقاطعاته التي تكون الصحراء واحدة منها ما كان يمكن للبوليساريو الامتناع عن قبوله ولنال تأييد جميع دول العالم له.علما بأن الحكم الفيدرالي يتم أقامته على أسس جغرافية واقتصادية أساسا باعتباره أفضل نظام حكم يتيح تعبئة الموارد البشرية والاقتصادية للنهوض بالدولة وتحقيق التقدم السريع لها.
نعود الآن إلي فقرات مما ورد في عرض الكتاب سالف الإشارة إليه لنجد الآتي: " نشوء الأفكار في الحقل السياسي أساسا ، واستعمال أو سوء استعمال في الحقيقة ، تلك الأفكار في إثارة الصراعات والأزمات بين الجماعات التي مضى على تجاورها مئات بل آلاف السنين (...) الصحيح والحقيقي ، إنما هو حديث عن صراع ينشطه ويغذيه مؤيدون أو ناشطون ، أو ساسة كبار أو ملاك أراضى ( ويمكن أن أضيف عسكر ومراكز قوي وأصحاب نفوذ ومصالح) أي أننا أمام مفهوم نظري غير واقعي تمكنت أطراف كثيرة من فرضه علي الواقع ، واضطرت أطراف أخري للقبول به (...) مفهوم الإثنية المبني على التقاط سمة مميزة أصلية أساسية لدي جماعة من البشر، بهدف جعلها وسيلة تضاد رئيسية مع آخرين يعيشون في المجال الجغرافي ذاته ، غير أن هذه السمة قد لا تنفع في التعبئة السياسية لمواجهة آخرين . ولذلك يتم إنزال تيمات أخري ذات سمات ثانوية. (...) يضاف إلى تقنيات التضاد أو خلق التضاد بين الجمــاعات المتجاورة ، زيادة التأكيد على العادات والتقاليد ، وإعادة تأويلها، والمثال الأوضح ، هو مسألة تقديس البقرة (في الهند) لدي الهندوس حيث تمكن القوميون من إثارة المشاعر الجماعية لدى المؤمنين بهذا الدين من أجل توسيع الفجوة بينهم وبين المسلمين الذين يذبحونها.في حين لم تكن هذه المشاعر موجودة قبل أن يستغلها القوميون المتعصبون لتكون رافعة من روافع الصراع الطائفي. يستخدم القوميون أيضا التاريخ لعزل أنفسهم عن الآخرين ، وفي هذه الحالة يعاد تركيب التاريخ انتقائيا، ويستغل كل الحكايات التي يمكن تصورها . ويتم اختراع أساطير تساعد على صياغة ماض خاص لكل ديانة (أو لكل جزء من الشعب الواحد ) تنعقد النية على تحويلها إلى إثنية...." ينطبق ذلك على كل ما نشاهده اليوم في المنطقة المغاربية.
مع إعادة التذكير بأن المشكل الصحراوي له جذوره النفسية التي لا يمكن إهمالها عند بحثة وإنما يجب معالجتها بحلول سياسية كافية لأزالتها وعودة اللحمة للشعب الواحد ، أريد الإشارة أيضــــا إلى أن انخراط العسكر والأمنيين في الشئون السياسية عوض تفرغهم لأداء واجبهم الأساسي في حماية الأمن الوطني والقومي سواء في تركيا أو العراق أو سوريا أو مصر أو باكستان أو الجزائر أو المغرب أو غيرها ، لم يجلب على أوطانها سوى المصائب والخراب والدمار والتخلف والتبعية بينما ضاع الأمن الوطني والقومي في غمار ذلك وانتشر الفساد والجهل والتفسخ والأمية والبطالة والإرهاب والحروب الداخلية والخارجية وتبديد الموارد الوطنية والقومية الطبيعية والبشرية ، وفي نفس الوقت الذي زادت فيه القبضة العسكرية على المجتمع اختفت فيه السياسة والسياسيون ولم يعد في المشهد السياسي سوى أحزاب متصارعة على كل شيء إلا الإمساك بسياسة تعيد للشعوب والدول أمجادها الغابرة عوض القبول بأن تكون ذيولا للمؤسسات الأمنية من أجل السماح لها بالبقاء داخل اللعبة الغير مجدية للشعب أو الدولة. بل يمكن أن أضيف بأن تضخم نفوذ الأجهزة العسكرية والأمنية داخل الولايات المتحدة سوف يكون أحد الأسباب الجوهرية لدمار الدولة ونفوذها الدولي، أي عكس ما تأمله هذه الأجهزة.رغم أنها ،على خلاف مثيلاتها أو توابعها في الدول المتخلفة التي تجهل السياسة، تعتمد على مراكز أبحاث إستراتيجية وسياسية على مستوى عال من الدراية بعلم السياسة. وهذه مفارقة أخرى تستدعي النظر والتأمل في دلالاتها.
9يناير 2008 فوزي منصور