Friday, January 16, 2009

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى الجزء الرابع عشر: أنظمة التكافل الإسلامي

التكافل الاجتمـاعي:
وضع الإسلام التكافل الاجتماعي لضمان التحرر الوجداني وتحقيق العدالة الاجتماعية. و التكافل الإجتماعى يقصد به إلتزام الأفراد بعضهم نحو بعض؛ فكل فرد عليه واجب رعاية المجتمع و مصالحه. و ليس المقصود بالتكافل الاجتماعي في الإسلام مجرد التعاطف المعنوى من شعور الحب و المودة، بل يتضمن العمل الفعلي الإيجابي الذي يصل إلى حد المساعدة المادية للمحتاج و تأمين حاجته بما يحقق له حد الكفاية. و ذلك يكون عن طريق دفع الزكاة، فإن لم تكفي فيؤخذ من الأغنياء ما يكفي للفقراء.تحقيقا للعدل الاجتماعي.

يقول الاستـاذ مصطفى الرافعي :"والعدل أوالعـدالة هـي واحـدة من القيم التي تنبثق من عقيدة الاسلام في مجتمعه. فلجميع الناس في مجتمع الاسلام حق العدالة وحق الاطمئنان إليها، عملاً بقول الله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"..واسم العدل الوسط مشتق من المعادلة بين شيئين بحيث يقتضي شيئاً ثالثاً وسطاً بين طرفين. لذلك كان اسم الوسط يستعمل في كلام العرب مرادفاً لمعنى العدل. فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن رسول .
والعدل في الاسلام لا يتأثر بحبّ أو بغض، فلا يفرق بين مسلم وغير مسلم، كما لا يفرق بين حَسَب ونَسَب، ولا بين جاه ومال.. بل يتمتع به جميع المقيمين على أرضه من المسلمين وغير المسلمين مهما كان بين هؤلاء وأولئك من مودة أو شنآن، بقول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون".
فالعدل في الاسلام ميزان الله على الأرض، به يؤخذ للضعيف حقه وينصف المظلوم ممن ظلمه، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا". وأبواب السماء مفتوحة أمام الإمام العادل وأمام المظلوم على سواء، يقول عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الإمـام العادل والصـائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم". فالله سبحانه يجيب دعوته، وينصف من يستغيث به، ويدفع عنه مظلمته. بل أباح للمظلوم فوق ذلك الدعاء على الظالم والتشهير به وقول السوء في حقه حتى يرجع عن ظلمه، مصداقاً لقول الله تعالى: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم".

لقد دعا الاسلام إلى عدالة اجتماعية شاملة ترسيخاً لفكرة العدل كمبدأ، وتنمية لها كسلوك لأن العدل هو أهم الدعائم التي يقوم عليها كل مجتمع صالح. فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والإنصاف هو مجتمع فاسد مصيره إلى الانحلال والزوال.

وعدالة الاسلام ذات سمة خاصة تميزها عن سائر العدالات. فمجتمع الاسلام يقوم على توحيد الإله وتوحيد الأديان جميعاً في دين الله الواحد، وتوحيد الرسل في الدعوة بهذا الدين الموحد منذ نشأة الحياة: "إن الدين عند الله الاسلام" و "إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون".ومجتمع الاسلام يقوم على الوحدة بين العبادة والمعاملة والعقيدة والسلوك والروحيات والماديات والقيم الاقتصادية والقيم المعنوية والدنيا والآخرة.
وعلى هذا، فإن عدالة الاسلام تتناول جميع مظاهر الحياة وجوانب النشاط فيها، وتسعى إلى تحقيق العدالة فيها بوسائل شتى .(...) إن كل عدل لا يقوم على اقتصاد منظم.. فهو عدل ناقص بل عدل ظالم ـ إن صحّ التعبير ـ فلن نكون عمليين حين نقول للجائع أو العاري أو المفلس أو العاطل عن العمل، لا ترتكب الجريمة قبل أن نحقق له مجتمعاً صالحاً لا يجوع فيه ولا يعرى ولا يتعطل عن العمل.

هذا وقد تشدد الاسلام في نظرته إلى العدالة من زاويتها الاقتصادية فحرّم ما نسميه نحن اليوم بلغتنا السياسيـة (الاستفادة غير المشروعة) عن طريق استخدام النفوذ والسلطان. ومن الأمثلة على ذلك سلوك عمر بن الخطاب مع ولده عبدالله حين رأى في طريقه إبلاً سمينة وسأل عمر عنها فقيل له إنها إبل عبدالله بن عمر، فغضب ابن الخطاب وقال: "ما سمنت إبل عبدالله إلا لأنه أرعاها بجاه أمير المؤمنين، ادفعوا بها إلى بيت المال" وأمر بمصادرتها.

ومـن أمثلـة العـدل الاقتصـادي في الاسلام: ضريـبة العشـور التي عرفتها معظم الشعوب القديمة كالفراعنة والفرس واليونان والرومان، وهي تشبه ضريبة الجمركية في أيامنا. فكانت تلك الشعوب قبل الاسـلام وبخاصـة الرومـان يجـبونها على حدود المناطق المتعددة من الدول الواحدة وكانوا يتقاضونها في العام الواحد مرات عديدة بعدد مرورهم على العاشر (أو الجمركي إذا جاز التعبير)، كما كانوا يتقاضونها على جميع سلع التجارة مهما بلغ ثمنها قليلاً أو كثيراً إلى ما هنالك من صعوبات ترهق كاهل المستوردأو التاجر المتجول على حين إذا ا قارنا نظام الضريبة هذه بنظامها في الاسلام نجد أن الاسلام امتاز فيها عن جميع الشعوب التي سبقته بأنه جمع العدل والرحمة والسماحة والحكمة في فرض تلك الضريبة وفي تقديرها وفي تقاضيها..
أ ـ لم يفرض الاسلام ضريبة العشور ما لم تبلغ قيمة البضاعة نصاب الزكاة الذي هو عشرون مثقالاً من الذهب أو مئتا درهم من الفضة.
ب ـ لا تستوفى في الاسلام ضريبة العشور إلا مرة واحدة في العام مهما تعددت رحلات التاجر عبر دياره.
ج ـ لا تدفع في أرجاء الدولة الاسلامية إلا مرة واحدة مهما تعدد العشار أو (الجمارك).
د ـ لا يتعرض التاجر حال مروره على العاشر للإساءة إليه بتفتيشه، بل يكتفي العاشر بإقراره، لأن عمر بن الخطاب أمر بعدم تفتيش التجار.
هـ ـ لم تكن الأعشار في بداية فرضها تؤخذ من المسلم إذا أدّى زكاته ومن الذميّ إذا أدّى جزيته، إنما كانت تضرب على المحاربيـن إذا استأذنـوا كي يتجروا في أرض المسلمين طبقاً لقاعدة المعاملة بالمثل، لأن ضريبة العشور هذه لم يعرفها الاسلام إلى على عهد عمر بن الخطاب حين كتب إليه أبو موسى الأشعري يستشيره في تجار من المسلمين يدخلون ديار الحرب فيأخذ منهم حكامهم العشور، فكتب إليه عمر بأن يأخذ من المحاربين على تجارتهم إذا دخلوا ديار الاسلام القدر الذي يأخذه هؤلاء من المسلمين وهذا مبدأ المعاملة بالمثل المطبق اليوم عند كافة الدول الراقية.

بالإضافة إلى أن الأوضاع الاقتصادية قد تغيرت في صدر الإسلام عنها في هذا الزمان حيث تنطلق فيه الصيحات من كل مكان من هذا العالم مطالبة بالمساواة والعدالة والمحافظة على حقوق الإنسان وحريته.والدين يعني العدالة، ويعني الحرية، ويعني المساواة. بل يعني الإنسانية في أنبل صورها وأقدس معانيها.

وفي ضوء هذه القيم الكبرى والمثل العليا، فإن للمجتمع أن يقرر ما يجلب له المنافع وما يدرأ عنه المفاسد بتحويل النظام الاقتصادي إلى ما يحقق للإنسانية حريتها وسعادتها ما دام المال في الأساس هو مال الله والناس وكلاء على هذا المال ومستخلفون فيهن ومعتبرون فيما يملكون بمثابة مديرين وموظفين عاملين على إصلاحه نائبين عن المجتمع في تنميته، وهذا هو معنى الاستخلاف عن الله في قوله:”وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه".
وقد سن الإسلام محموعة من المبادئ والأنطمة لتحقيق التكافل ولدعم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للمسلمين منها:

تجريم كنز المال:
ومن الضـوابط الاقتصادية في الإسلام تحريم الكنز، لأنه تعد على حقوق المجتمع، حيث يقول رسول الله (ص): “مَن جمع ديناراً أو درهماً أو تبراً أو فضة، ولا يعده لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة”.
وفي موت رسول الله وأبي بكر وعمر وعلي وخالد بن الوليد وكثير غيرهم من أفاضل الصحابة، من غير أن يتركوا ميراثاً لوارث أو مالاً لخالف، أبلغ شاهد على ذلك. إن حبس المال عن التداول وكنزه في الصناديق والخزائن يؤدي إلى اختلال التوازن المالي والتجاري والاقتصادي وبالتالي إلى اختلال التوازن الاجتماعي. وإلى هذا هدف القرآن الكريم حين قال: “والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم”. وهذا يعني: أن الكنز ليس سلوكاً شخصياً مؤاخذاً عليه فحسب، بل جريمة اجتماعية، يجب على الدولة أن تستأصلها بما تضع من تشاريع واقية.
فحبس المال إن كان سببه البخل والتقتير، فقد ندد الله سبحانه بالبخلاء والمقترين: “ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك”، وإن كان سببه التهرب من الإنفاق في سبيل الله.. أي في سبيل حماية المجتمع ومصالحه، فأحرى به أن يحارب ويعاقب.
ويؤدي الاكتناز الى حجب الجزء المكتنز من الأموال النقدية عن التداول واخراجه من التوسط في انجاز العمليات التجارية ، وهو عكس الادخار الذي يشترك بشكل لاحق في تسهيل التبادل التجاري وتلعب الفائدة كدور محفز للافراد في ادخار اموالهم تقوم بهذه المهمة المصارف المؤسسات المالية ، لا يمكن تساوي الادخار مع الاكتناز لان الاول سيدخل السوق لاحقا عن طريق اعادته من قبل المصارف اما الاكتناز فانه يحجب عن السوق بشكل كامل وهو يسمى بالادخار السلبي ، وهذا عكس ما ذهب اليه بعض المفكرين الاسلامين بتساويهم بين الحالتين من هذه الناحية .

شيوع الموارد العامة :
ومن الضوابط التي تكفل بقاء التوازن الاقتصادي (ولايقصد بالتوازن هنا تعادل كفتي ميزان أو نقيضين وإنما المقصود هو أن تكون مكونات النظام الاقتصادي موزونة بقدر بما يحفظ انتظامه )قائماً في الإسلام مبدأ (شيوع الموارد العامة) وهو ما يسمى بلغة العصر (تأميم المرافق العامة) قياساً على شيوع (الماء والكلأ والنار) التي نصّ عليها الحديث الشريف بوصفها موارد عامة لا يجوز تحديدها بملكية خاصة، وبوصفها ضرورات حياتية يجب ن تظل مشاعة بين الناس جميعاً. وقد رتب المذهب المالكي على هذا شيوع (الركاز) فلا يؤول إلى ملكية خاصة. فليس في نظر المالكية ـ المعادن والسوائل في محالها ـ أي مناجمها ـ من الأموال المباحة حتى يتملكها مَن وجدها واستولى عليها ـ وإنما هي ملك للمسلمين كافة ـ أنى وُجدوا ـ لأن دار الإسلام واحدة.
وكل ما في الأرض من نعم وخيرات هي من عند الله وهي موهوبة للبشرية كلها وليس من العدل أن ينعم بها فريق من الناس ويحرم منها فريق أخر.قال سبحانه: «  ... وأمددناكم بأموال وبنين ... » (الإسراء/ 6.) وقال:“ويُمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً”( نوح/ 12.)وقال: “ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيماً”( الإسراء/ 66.) وقال:«... وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ... »( الحديد/ 25.) وقال:”ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش ... »( الأعراف/ 10.)
“والأرض وضعها للأنام”( الرحمن/ 10).

ولا ريب أن رد الملكية العامة في هذه المرافق للجماعة فيه قضاء على سبب هام من أسباب فقدان التوازن المادي الاقتصادي في المجتمع، لأن هذه الموارد تمثل القسم الأكبر من الثروة العامة تملكه في النظام الرأسمالي شركات أو أفراد، وتنشأ من هذه الملكية آثار سيئة في المجتمع، كما تصبح سبباً من أسباب المنازعات الدولية ومبررات للطغيان والعدوان وأساليب الاستعمار. من تلك الضوابط مبدأ تحريم (الترف والإسراف).

والإسلام ليس بدين شظف وحرمان ولكنه دين يبيح لمعتنقيه أن يَنعموا بالحياة ويستمتعوا بطيباتها: “كلوا من طيبات ما رزقناكم”، “قل مَن حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق” غير أن ما ينكره الإسلام على معتنقيه، تعديهم حـدود الاعتدال وانغماسهم بالترف لما يورثه الترف من فساد وتعفن في كيان الفرد وكيان المجتمع، فلقد حدثنا القرآن الكريم أن المترفين كانوا عبر التاريخ علة انهيار المجتمعات وتقهقر الشعوب وانحلالها. قال تعالى: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً”.
إن الترف الذي تغرق فيه طبقة يقابله بالضرورة حرمان تعاني شظفه طبقة أخرى، لأن المترفين يمتصـون دمـاء الجمـاهير، ويستغلون جهودها، ويتصرفون بخيراتها، ليرضوا شهواتهم ويحققوا رغباتهم.
ولا شك أن مثل هذا السلوك الاجتماعي يفقد الجماعة روح السلام والإخاء، لأنه يثير أحقاد النفوس ويوقظ حزازات الطبقية، فضلاً عما يخلفه هذا الوضع من آثار اجتماعية هي بنت الشهوات القذرة التي يتفانى في سبيلها المترَفون.

مـن هنـا كانت حكمة الإسـلام في تحريم التبذير والإسراف والترف: “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين”، وذلك حفظاً للمجتمع من التفسخ والترهل الروحي والميوعة الخلقية.

منع الاحتكارات:
ومنها (منع الاحتكار)، لأن الاحتكار يخلق قوة طاغية في يد المحتكر لا يستمدها من الجودة والإتقان وحُسن الخدمة وكفايتها، وإنما يستمدها من وجود الامتياز في يده أو من احتكاره للسلعة في السوق. وهذه القوة الطاغية تستخدم دائماً ضد مصلحة المستهلكين، أي ضد مصلحة الجماهير. فالمحتكر أبداً مَناع للخير معتد أثيم مضيق لفضل الله على الناس، يقول له الله يوم القيامة: "اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك”.
لذلك حرّم الإسلام الاحتكار وندد رسوله الكريم بالمحتكر، فقال صلى الله عليه وسلم :"لا يحتكر إلا خاطئ. ومَن احتكر طعاماً أربعين يوماً فقد برئ من الله وبرئ الله منه" .

الاهتمام بالسوق:
إهتم المسلمون بدورالسوق في الاقتصاد حيث أن ثاني مؤسسة قامت بعد المسجد في المدينة المنورة هي السوق ولم ينه النبي محمد العديد من الصحابة عن التجارة بل حث عليها وقد اغتني العديد من الصحابة من التجارة مثل عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر الصديق وغيرهم.

تحريم الربا:
ومنها (تحريم الربا)، والربا في اللغة: هو الزيادة. قال الله تعالى: “فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ"[الحج:5], وقال تعالى:”أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ” [النحل:92]، أي أكثر عدداً يقال: ”أربى فلان على فلان، إذا زاد عليه“(2) وأصل الربا الزيادة، إما في نفس الشيء وإما في مقابله كدرهم بدرهمين، يقال: ربا الشيء إذا زاد.وأربى الرجل: تعامل بالربا أو دخل فيه ويطلق الربا على كل بيع محرم أيضاً . والربا المحرم في الأسلام هو مازاد عن قيمة الدين من مال أتفق على زيادته الدائن مع المدين.وعلة تحريمه مافيه من ظلم وأستغلال من الدائن للمدين ، والدين الإسلامي هو دين العدل والإحسان. قال تعالى فى حديث قدسى:" يا عبادى انى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما”. وقال تعالي :"إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكروالبغي,,,”

وقد حرمه الله بقوله تعالي:"الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم، إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون" [البقرة : 275-279].فجعلت الآية المتعامل بالربا في منزلة الكفار الآثم وأنذر الذين يصرون على التعامل بالربا بحرب من الله ورسوله لما فيه من ظلم الذائن للمدين,.وقال الله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّـقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُـونَ" (آل عمران : 130) .،وقال سبحانه وتعالى في شأن اليهود حينما نهاهم عن الربا وحرمه عليهم، فسلكوا طريق الحيل لإبطال ما أمرهم به : "وَأَخْذِهِـمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً" وقال عز وجل: "وَمَا آتَيْتُـمْ مِـنْ رِباً لِيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ النَّـاسِ فَلا يَرْبُواْ عِنْدَ اللَّهِ وَمَـا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ".
وعن سلمان بن عمرو عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع يقول: ”ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون".وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن ؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات».وعن جابر بن عبد الله قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه» وقال: هم سواء.وقال رسول الله صلى كالله عليه وسلم: "ما ظهر الزنى والربا في قرية إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله".

حيث لا جزاء في نظر الإسلام إلا على الجهد المبذول وليس على المال المحمول أو المنقول. وبما أن رأس المال في ذاته ليس جهداً فهو لا يربح بذاته، إنما طريقة الربح الوحيدة هي العمل، فلا يجوز إذن أن يكون وجود المال عند صاحبه وسيلة لزيادة المال بإضافة فائدة إليه عند اقتراضه.فالدائن عندما يقرض سواه يعني أن لديه فضل مال هو غني به في الغالب ومستغن عنه أيضا بينما الدين فقير إلى هذا الدين وفي حاجة له وفي رد الفقير للغني مالا فوق المال الذي استدانه يعني تمكين للغني من أن يستولي على مال الفقير مستغلا حاجته وهو ما لا يمكن أن يجيزه دين الرحمة. كما ينتج عن التعامل بالربا انقطاع المعروف والإحسان الذي في القرض، إذ لو حل درهم بدرهمين ما سمح أحد بإعطاء درهم بمثله.
فالمال لا يلد المال بذاته، والنقود لا تلد نقودًا . إنما ينمو المال بالعمل وبذل الجهد، والإسلام لا يحرم على الناس أن يملكوا المال، ويستكثروا منه، مادام يؤخذ من حله، وينفق في حقه، ولم يقل الإسلام ما قاله الإنجيل: لا يدخل الغني ملكوت السماوات حتى يدخل الجمل في سم الخياط . بل قال: (نعم المال الصالح للمرء الصالح) . والمال الصالح هو الذي يكتسب من حلال، وينمى بالحلال . أي بالعمل النافع المشروع، إما بنفسه أو بمشاركة غيره . وبهذا شرع الإسلام تعاون رأس المال والعمل لمصلحة الطرفين ومصلحة المجتمع أيضًا . ومقتضى هذه المشاركة أن يتحمل الطرفان النتيجة، أيًا كانت، ربحًا أو خسارة . فإن كان الربح كثيرًا كان بينهما على ما اتفق عليه، وإن قل الربح قل نصيبهما معًا بنفس النسبة، وإن كانت الخسارة أصابت كلاً منهما: رب المال في ماله، والعامل في جهده وتعبه . هذا هو العدل الكامل: الغرم بالغنم، والخراج بالضمان.

و هذا المبدأ الأساسي في الإسلام يحول دون تضاعف المال بذاته كما يقع في النظام الرأسمالي، ويحول دون تضخم الثروات على حساب حاجة الأفراد واضطرارهم للاستدانة بالربا..كما يمنع سبباً رئيسياً من أسباب الاستعمار والحروب الدولية، ويعطي العمل قيمة في مجال الإنتاج، ويحقق العدالة بين الجهد الحقيقي والجزاء على الجهد، ويمنع أن ينال القاعدون الكسالى جزاء ما لا يستحقـونه،وهـم ينالـونه فـي النظـام الرأسمـالي بمجـرد توظيــف أموالهم في المصارف وغيرها. فيضمنـون الربـح الحـرام وهم قابعون، وتتضاعف ثرواتهم وتتضخم وتخل بالتوازن الاقتصادي والاجتماعي معاً.

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في الظلال شارحا ما جاء في سورة البقرة من أيات تحريم الربا :النظام الإقتصادي الإسلامي مقابل النظام الربوي الوجه الآخر المقابل للصدقة الوجه الكالح الطالح هو الربا الصدقة عطاء وسماحة وطهارة وزكاة وتعاون وتكافل والربا شح وقذارة ودنس وأثرة وفردية والصدقة نزول عن المال بلا عوض ولا رد والربا استرداد للدين ومعه زيادة حرام مقتطعة من جهد المدين أو من لحمه من جهده إن كان قد عمل بالمال الذي استدانه فربح نتيجة لعمله هو وكده ومن لحمه إن كان لم يربح أو خسر أو كان قد أخذ المال للنفقة منه على نفسه وأهله ولم يستربحه شيئا ومن ثم فهو الربا الوجه الآخر المقابل للصدقة الوجه الكالح الطالح لهذا عرضه السياق مباشرة بعد عرض الوجه الطيب السمح الطاهر الجميل الودود عرضه عرضا منفرا يكشف عما في عملية الربا من قبح وشناعة ومن جفاف في القلب وشر في المجتمع وفساد في الأرض وهلاك للعباد ولم يبلغ من تفظيع أمر أراد الإسلام إبطاله من أمور الجاهلية ما بلغ من تفظيع الربا ولا بلغ من التهديد في اللفظ والمعنى ما بلغ التهديد في أمر الربا في هذه الآيات وفي غيرها في مواضع أخرى ولله الحكمة البالغة فلقد كانت للربا في الجاهلية مفاسده وشروره ولكن الجوانب الشائهة القبيحة من وجهه الكالح ما كانت كلها بادية في مجتمع الجاهلية كما بدت اليوم وتكشفت في عالمنا الحاضر ولا كانت البثور والدمامل في ذلك الوجه الدميم مكشوفة كلها كما كشفت اليوم في مجتمعنا الحديث فهذه الحملة المفزعة البادية في هذه الآيات على ذلك النظام المقيت تتكشف اليوم حكمتها على ضوء الواقع الفاجع في حياة البشرية أشد مما كانت متكشفة في الجاهلية الأولى ويدرك من يريد أن يتدبر حكمة الله وعظمة هذا الدين وكمال هذا المنهج ودقة هذا النظام يدرك اليوم من هذا كله ما لم يكن يدركه الذين واجهوا هذه النصوص أول مرة وامامه اليوم من واقع العالم ما يصدق كل كلمة تصديقا حيا مباشرا واقعا والبشرية الضالة التي تأكل الربا وتوكله تنصب عليها البلايا الماحقة الساحقة من جراء هذا النظام الربوي في أخلاقها ودينها وصحتها واقتصادها وتتلقى حقا حربا من الله تصب عليها النقمة والعذاب أفرادا وجماعات وأمما وشعوبا وهي لا تعتبر ولا تفيق وحينما كان السياق يعرض في الدرس السابق دستور الصدقة كان يعرض قاعدة من قواعد النظام الاجتماعي والاقتصادي الذي يريد الله للمجتمع المسلم أن يقوم عليه ويحب للبشرية أن تستمتع بما فيه من رحمة في مقابل ذلك النظام الآخر الذي يقوم على الأساس الربوي الشرير القاسي اللئيم أنهما نظامان متقابلان النظام الإسلامي والنظام الربوي وهما لا يلتقيان في تصور ولا يتفقان في أساس ; ولا يتوافقان في نتيجة إن كلا منهما يقوم على تصور للحياة والأهداف والغايات يناقض الآخر تمام المناقضة وينتهي إلى ثمرة في حياة الناس تختلف عن الأخرى كل الاختلاف ومن ثم كانت هذه الحملة المفزعة وكان هذا التهديد الرعيب إن الإسلام يقيم نظامه الاقتصادي ونظام الحياة كلها على تصور معين يمثل الحق الواقع في هذا الوجود يقيمه على أساس أن الله سبحانه هو خالق هذا الكون فهو خالق هذه الأرض وهو خالق هذا الإنسان هو الذي وهب كل موجود وجوده وإن الله سبحانه وهو مالك كل موجود بما أنه هو موجده قد استخلف الجنس الإنساني في هذه الأرض ; ومكنه مما ادخر له فيها من أرزاق وأقوات ومن قوى وطاقات على عهد منه وشرط ولم يترك له هذا الملك العريض فوضى يصنع فيه ما يشاء كيف شاء وإنما استخلفه فيه في إطار من الحدود الواضحة استخلفه فيه على شرط أن يقوم في الخلافة وفق منهج الله وحسب شريعته فما وقع منه من عقود وأعمال ومعاملات وأخلاق وعبادات وفق التعاقد فهو صحيح نافذ وما وقع منه مخالفا لشروط التعاقد فهو باطل موقوف فإذا انفذه قوة وقسرا فهو إذن ظلم واعتداء لا يقره الله ولا يقره المؤمنون بالله فالحاكمية في الأرض كما هي في الكون كله لله وحده والناس حاكمهم ومحكومهم إنما يستمدون سلطاتهم من تنفيذهم لشريعة الله ومنهجه وليس لهم في جملتهم أن يخرجوا عنها لأنهم إنما هم وكلاء مستخلفون في الأرض بشرط وعهد وليسوا ملاكا خالقين لما في أيديهم من أرزاق من بين بنود هذا العهد أن يقوم التكافل بين المؤمنين بالله فيكون بعضهم أولياء بعض وأن ينتفعوا برزق الله الذي أعطاهم على أساس هذا التكافل لا على قاعدة الشيوع المطلق كما تقول الماركسية ولكن على أساس الملكية الفردية المقيدة فمن وهبه الله منهم سعة أفاض من سعته على من قدر عليه رزقه مع تكليف الجميع بالعمل كل حسب طاقته واستعداده وفيما يسره الله له فلا يكون أحدهم كلا على أخيه أو على الجماعة وهو قادر كما بينا ذلك من قبل وجعل الزكاة فريضة في المال محددة والصدقة تطوعا غير محدد وقد شرط عليهم كذلك أن يلتزموا جانب القصد والاعتدال ويتجنبوا السرف والشطط فيما ينفقون من رزق الله الذي أعطاهم ; وفيما يستمتعون به من الطيبات التي أحلها لهم ومن ثم تظل حاجتهم الاستهلاكية للمال والطيبات محدودة بحدود الاعتدال وتظل فضلة من الرزق معرضة لفريضة الزكاة وتطوع الصدقة وبخاصة أن المؤمن مطالب بتثمير ماله وتكثيره وشرط عليهم أن يلتزموا في تنمية أموالهم وسائل لا ينشأ عنها الأذى للآخرين ولا يكون من جرائها تعويق أو تعطيل لجريان الأرزاق بين العباد ودوران المال في الأيدي على أوسع نطاق كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وكتب عليهم الطهارة في النية والعمل والنظافة في الوسيلة والغاية وفرض عليهم قيودا في تنمية المال لا تجعلهم يسلكون إليها سبلا تؤذي ضمير الفرد وخلقه أو تؤذي حياة الجماعة وكيانها وأقام هذا كله على أساس التصور الممثل لحقيقة الواقع في هذا الوجود ; وعلى أساس عهد الاستخلاف الذي يحكم كل تصرفات الإنسان المستخلف في هذا الملك العريض ومن ثم فالربا عملية تصطدم ابتداء مع قواعد التصور الإيماني إطلاقا ; ونظام يقوم على تصور آخر تصور لا نظر فيه لله سبحانه وتعالى ومن ثم لا رعاية فيه للمباديء والغايات والأخلاق التي يريد الله للبشر أن تقوم حياتهم عليها إنه يقوم ابتداء على أساس أن لا علاقة بين إرادة الله وحياة البشر فالإنسان هو سيد هذه الأرض ابتداء ; وهو غير مقيد بعهد من الله ; وغير ملزم باتباع أوامر الله ثم إن الفرد حر في وسائل حصوله على المال وفي طرق تنميته كما هو حر في التمتع به غير ملتزم في شيء من هذا بعهد من الله أو شرط ; وغير مقيد كذلك بمصلحة الآخرين ومن ثم فلا اعتبار لأن يتأذى الملايين إذا هو أضاف إلى خزانته ورصيده ما يستطيع إضافته وقد تتدخل القوانين الوضعية أحيانا في الحد من حريته هذه جزئيا في تحديد سعر الفائدة مثلا ; وفي منع أنواع من الاحتيال والنصب والغصب والنهب والغش والضرر ولكن هذا التدخل يعود إلى ما يتواضع عليه الناس أنفسهم وما تقودهم إليه أهواؤهم ; لا إلى مبدأ ثابت مفروض من سلطة إلهية كذلك يقوم على أساس تصور خاطىء فاسد هو أن غاية الغايات للوجود الإنساني هي تحصيله للمال بأية وسيلة واستمتاعه به على النحو الذي يهوى ومن ثم يتكالب على جمع المال وعلى المتاع به ; ويدوس في الطريق كل مبدأ وكل صالح للآخرين ثم ينشىء في النهاية نظاما يسحق البشرية سحقا ويشقيها في حياتها أفرادا وجماعات ودولا وشعوبا لمصلحة حفنة من المرابين ; ويحطها أخلاقيا ونفسيا وعصبيا ; ويحدث الخلل في دورة المال ونمو الاقتصاد البشري نموا سويا وينتهي كما انتهى في العصر الحديث إلى تركيز السلطة الحقيقية والنفوذ العملي على البشرية كلها في أيدي زمرة من أحط خلق الله وأشدهم شرا ; وشرذمة ممن لا يرعون في البشرية إلا ولا ذمة ولا يراقبون فيها عهدا ولا حرمة وهؤلاء هم الذين يداينون الناس أفرادا كما يداينون الحكومات والشعوب في داخل بلادهم وفي خارجها وترجع إليهم الحصيلة الحقيقية لجهد البشرية كلها وكد الآدميين وعرقهم ودمائهم في صورة فوائد ربوية لم يبذلوا هم فيها جهدا وهم لا يملكون المال وحده إنما يملكون النفوذ ولما لم تكن لهم مبادىء ولا أخلاق ولا تصور ديني أو أخلاقي على الإطلاق ; بل لما كانوا يسخرون من حكاية الأديان والأخلاق والمثل والمبادىء ; فإنهم بطبيعة الحال يستخدمون هذا النفوذ الهائل الذي يملكونه في إنشاء الأوضاع والأفكار والمشروعات التي تمكنهم من زيادة الاستغلال ولا تقف في طريق جشعهم وخسة أهدافهم وأقرب الوسائل هي تحطيم أخلاق البشرية وإسقاطها في مستنقع آسن من اللذائذ والشهوات التي يدفع فيها الكثيرون آخر فلس يملكونه حيث تسقط الفلوس في المصائد والشباك المنصوبة وذلك مع التحكم في جريان الاقتصاد العالمي وفق مصالحهم المحدودة مهما أدى هذا إلى الأزمات الدورية المعروفة في عالم الاقتصاد ; وإلى انحراف الإنتاج الصناعي والاقتصادي كله عما فيه مصلحة المجموعة البشرية إلى مصلحة المملوين المرابين الذين تتجمع في أيديهم خيوط الثروة العالمية والكارثة التي تمت في العصر الحديث ولم تكن بهذه الصورة البشعة في الجاهلية هي أن هؤلاء المرابين الذين كانوا يتمثلون في الزمن الماضي في صورة أفراد أو بيوت مالية كما يتمثلون الآن في صورة مؤسسي المصارف العصرية قد استطاعوا بما لديهم من سلطة هائلة مخيفة داخل أجهزة الحكم العالمية وخارجها وبما يملكون من وسائل التوجيه والإعلام في الأرض كلها سواء في ذلك الصحف والكتب والجامعات والأساتذة ومحطات الإرسال ودور السينما وغيرها أن ينشئوا عقلية عامة بين جماهير البشر المساكين الذين يأكل أولئك المرابون عظامهم ولحومهم ويشربون عرقهم ودماءهم في ظل النظام الربوي هذه العقلية العامة خاضعة للإيحاء الخبيث المسموم بأن الربا هو النظام الطبيعي المعقول والأساس الصحيح الذي لا أساس غيره للنمو الاقتصادي ; وأنه من بركات هذا النظام وحسناته كان هذا التقدم الحضاري في الغرب وأن الذين يريدون إبطاله جماعة من الخياليين غير العمليين وأنهم إنما يعتمدون في نظرتهم هذه على مجرد نظريات أخلاقية ومثل خيالية لا رصيد لها من الواقع ; وهي كفيلة بإفساد النظام الاقتصادي كله لو سمح لها أن تتدخل فيه حتى ليتعرض الذين ينتقدون النظام الربوي من هذا الجانب للسخرية من البشر الذين هم في حقيقة الأمر ضحايا بائسة لهذا النظام ذاته ضحايا شأنهم شأن الاقتصاد العالمي نفسه الذي تضطره عصابات المرابين العالمية لأن يجري جريانا غير طبيعي ولا سوي ويتعرض للهزات الدورية المنظمة وينحرف عن أن يكون نافعا للبشرية كلها إلى أن يكون وقفا على حفنة من الذئاب قليلة إن النظام الربوي نظام معيب من الوجهة الاقتصادية البحتة وقد بلغ من سوئه أن تنبه لعيوبه بعض أساتذة الاقتصاد الغربيين أنفسهم ; وهم قد نشأوا في ظله وأشربت عقولهم وثقافتهم تلك السموم التي تبثها عصابات المال في كل فروع الثقافة والتصور والأخلاق وفي مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين يعيبون هذا النظام من الناحية الاقتصادية البحتة دكتور شاخت الألماني ومدير بنك الرايخ الألماني سابقا وقد كان مما قاله في محاضرة له بدمشق عام أنه بعملية رياضية غير متناهية يتضح أن جميع المال في الأرض صائر إلى عدد قليل جدا من المرابين ذلك أن الدائن المرابي يربح دائما في كل عملية ; بينما المدين معرض للربح والخسارة ومن ثم فإن المال كله في النهاية لا بد بالحساب الرياضي أن يصير إلى الذي يربح دائما وأن هذه النظرية في طريقها للتحقق الكامل فإن معظم مال الأرض الآن يملكه ملكا حقيقيا بضعة الوف أما جميع الملاك وأصحاب المصانع الذين يستدينون من البنوك والعمال وغيرهم فهم ليسوا سوى أجراء يعملون لحساب أصحاب المال ويجني ثمرة كدهم أولئك الألوف وليس هذا وحده هو كل ما للربا من جريرة فإن قيام النظام الاقتصادي على الأساس الربوي يجعل العلاقة بين أصحاب الأموال وبين العاملين في التجارة والصناعة علاقة مقامرة ومشاكسة مستمرة فإن المرابي يجتهد في الحصول على أكبر فائدة ومن ثم يمسك المال حتى يزيد اضطرار التجارة والصناعة إليه فيرتفع سعر الفائدة ; ويظل يرفع السعر حتى يجد العاملون في التجارة والصناعة أنه لا فائدة لهم من استخدام هذا المال لأنه لا يدر عليهم ما يوفون به الفائدة ويفضل لهم منه شيء عندئذ ينكمش حجم المال المستخدم في هذه المجالات التي تشتغل فيها الملايين ; وتضيق المصانع دائرة انتاجها ويتعطل العمال فتقل القدرة على الشراء وعندما
يصل الأمر إلى هذا الحد ويجد المرابون أن الطلب على المال قد نقص أو توقف يعودون إلى خفض سعر الفائدة اضطرارا فيقبل عليه العاملون في الصناعة والتجارة من جديد وتعود دورة الحياة إلى الرخاء وهكذا دواليك تقع الأزمات الاقتصادية الدورية العالمية ويظل البشر هكذا يدورون فيها كالسائمة ثم إن جميع المستهلكين يؤدون ضريبة غير مباشرة للمرابين فإن أصحاب الصناعات والتجار لا يدفعون فائدة الأموال التي يقترضونها بالربا إلا من جيوب المستهلكين فهم يزيدونها في أثمان السلع الاستهلاكية فيتوزع عبؤها على أهل الأرض لتدخل في جيوب المرابين في النهاية أما الديون التي تقترضها الحكومات من بيوت المال لتقوم بالإصلاحات والمشروعات العمرانية فإن رعاياها هم الذين يؤدون فائدتها للبيوت الربوية كذلك إذ أن هذه الحكومات تضطر إلى زيادة الضرائب المختلفة لتسدد منها هذه الديون وفوائدها وبذلك يشترك كل فرد في دفع هذه الجزية للمرابين في نهاية المطاف وقلما ينتهي الأمر عند هذا الحد ولا يكون الاستعمار هو نهاية الديون ثم تكون الحروب بسبب الاستعمار ونحن هنا في ظلال القرآن لا نستقصي كل عيوب النظام الربوي فهذا مجاله بحث مستقل فنكتفي

بهذا القدر لنخلص منه إلى تنبيه من يريدون أن يكونوا مسلمين إلى جملة حقائق أساسية بصدد كراهية الإسلام للنظام الربوي المقيت الحقيقة الأولى التي يجب أن تكون مستيقنة في نفوسهم أنه لا إسلام مع قيام نظام ربوي في مكان وكل ما يمكن أن يقوله أصحاب الفتاوي من رجال الدين أو غيرهم سوى هذا دجل وخداع فأساس التصور الإسلامي كما بينا يصطدم اصطداما مباشرا بالنظام الربوي ونتائجه العملية في حياة الناس وتصوراتهم وأخلاقهم والحقيقة الثانية أن النظام الربوي بلاء على الإنسانية لا في إيمانها وأخلاقها وتصورها للحياة فحسب بل كذلك في صميم حياتها الاقتصادية والعملية وأنه أبشع نظام يمحق سعادة البشرية محقا ويعطل نموها الإنساني المتوازن على الرغم من الطلاء الظاهري الخداع الذي يبدو كأنه مساعدة من هذا النظام للنمو الاقتصادي العام والحقيقة الثالثة أن النظام الأخلاقي والنظام العملي في الإسلام مترابطان تماما وأن الإنسان في كل تصرفاته مرتبط بعهد الاستخلاف وشرطه وأنه مختبر ومبتلى وممتحن في كل نشاط يقوم به في حياته ومحاسب عليه في آخرته فليس هناك نظام أخلاقي وحده ونظام عملي وحده وإنما هما معا يؤلفان نشاط الإنسان وكلاهما عبادة يؤجر عليها إن أحسن وإثم يؤاخذ عليه إن أساء وأن الاقتصاد الإسلامي الناجح لا يقوم بغير أخلاق وأن الأخلاق ليست نافذة يمكن الاستغناء عنها ثم تنجح حياة الناس العملية والحقيقة الرابعة أن التعامل الربوي لا يمكن إلا أن يفسد ضمير الفرد وخلقه وشعوره تجاه أخيه في الجماعة ; وإلا أن يفسد حياة الجماعة البشرية وتضامنها بما يبثه من روح الشره والطمع والأثرة والمخاتلة والمقامرة بصفة عامة أما في العصر الحديث فإنه يعد الدافع الأول لتوجيه رأس المال إلى أحط وجوه الاستثمار كي يستطيع رأس المال المستدان بالربا أن يربح ربحا مضمونا فيؤدي الفائدة الربوية ويفضل منه شيء للمستدين ومن ثم فهو الدافع المباشر لاستثمار المال في الأفلام القذرة والصحافة القذرة والمراقص والملاهي والرقيق الأبيض وسائر الحرف والاتجاهات التي تحطم أخلاق البشرية تحطيما والمال المستدان بالربا ليس همه أن ينشىء أنفع المشروعات للبشرية ; بل همه أن ينشىء أكثرها ربحا ولو كان الربح أتما يجيء من استثارة أحط الغرائز وأقذر الميول وهذا هو المشاهد اليوم في أنحاء الأرض وسببه الأول هو التعامل الربوي والحقيقة الخامسة أن الإسلام نظام متكامل فهو حين يحرم التعامل الربوي يقيم نظمه كلها على أساس الاستغناء عن الحاجة إليه ; ونظم جوانب الحياة الاجتماعية بحيث تنتفي منها الحاجة إلى هذا النوع من التعامل بدون مساس بالنمو الاقتصادي والاجتماعي والإنساني المطرد والحقيقة السادسة أن الإسلام حين يتاح له أن ينظم الحياة وفق تصوره ومنهجه الخاص لن يحتاج عند إلغاء التعامل الربوي إلى إلغاء المؤسسات والأجهزة اللازمة لنمو الحياة الاقتصادية العصرية نموها الطبيعي السليم ولكنه فقط سيطهرها من لوثة الربا ودنسه ثم يتركها تعمل وفق قواعد أخرى سليمة وفي أول هذه المؤسسات والأجهزة المصارف والشركات وما إليها من مؤسسات الاقتصاد الحديث والحقيقة السابعة وهي الأهم ضرورة اعتقاد من يريد أن يكون مسلما بأن هناك استحالة اعتقادية

في أن يحرم الله أمرا لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه كما أن هناك استحالة اعتقادية كذلك في أن يكون هناك أمر خبيث ويكون في الوقت ذاته حتميا لقيام الحياة وتقدمها فالله سبحانه هو خالق هذه الحياة وهو مستخلف الإنسان فيها ; وهو الأمر بتنميتها وترقيتها ; وهو المريد لهذا كله الموفق إليه فهناك استحالة إذن في تصور المسلم أن يكون فيما حرمه الله شيء لا تقوم الحياة البشرية ولا تتقدم بدونه وأن يكون هناك شيء خبيث هو حتمي لقيام الحياة ورقيها وإنما هو سوء التصور وسوء الفهم والدعاية المسمومة الخبيثة الطاغية التي دأبت أجيالا على بث فكرة أن الربا ضرورة للنمو الاقتصادي والعمراني وأن النظام الربوي هو النظام الطبيعي وبث هذا التصور الخادع في مناهل الثقافة العامة ومنابع المعرفة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها ثم قيام الحياة الحديثة على هذا الأساس فعلا بسعي بيوت المال والمرابين وصعوبة تصور قيامها على أساس آخر وهي صعوبة تنشأ أولا من عدم الإيمان كما تنشأ ثانيا من ضعف التفكير وعجزه عن التحرر من ذلك الوهم الذي اجتهد المرابون في بثه وتمكينه لما لهم من قدرة على التوجيه وملكية للنفوذ داخل الحكومات العالمية وملكية لأدوات الإعلام العامة والخاصة والحقيقة الثامنة إن استحالة قيام الاقتصاد العالمي اليوم وغدا على أساس غير الأساس الربوي ليست سوى خرافة أو هي أكذوبة ضخمة تعيش لأن الأجهزة التي يستخدمها أصحاب المصلحة في بقائها أجهزة ضخمة فعلا وأنه حين تصح النية وتعزم البشرية أو تعزم الأمة المسلمة أن تسترد حريتها من قبضة العصابات الربوية العالمية وتريد لنفسها الخير والسعادة والبركة مع نظافة الخلق وطهارة المجتمع فإن المجال مفتوح لإقامة النظام الآخر الرشيد الذي إراده الله للبشرية والذي طبق فعلا ونمت الحياة في ظله فعلا ; وما تزال قابلة للنمو تحت أشرافه وفي ظلاله لو عقل الناس ورشدوا وليس هناك مجال تفصيل القول في كيفيات التطبيق ووسائله فحسبنا هذه الإشارات المجملة وقد تبين أن شناعة العملية الربوية ليست ضرورة من ضرورات الحياة الاقتصادية ; وأن الإنسانية التي انحرفت عن النهج قديما حتى ردها الإسلام إليه ; هي الإنسانية التي تنحرف اليوم الانحراف ذاته ولا تفيء إلى النهج القويم الرحيم السليم فلننظر كيف كانت ثورة الإسلام على تلك الشناعة التي ذاقت منها البشرية ما لم تذق قط من بلاء .

ويمكننا القول بأن علة تحريم الربا في الشريعة الإسلامية تعتمد أساسا على توقع الدور السلبي في ممارسة الدور الوظيفي غير التقليدي للنقود في النشاط التجاري الناتج من عملية المتاجرة في النقود ، وتمثل عملية المتاجرة بالنقد بالنشاط الربوي .فبموجب هذه المتاجرة يحصل التحول في وظيفة النقود في النشاط التجاري من دورها الوظيفي الطبيعي الى دور وظيفي غير تقليدي وتظهر على اثرها السلبيات والاضرار المتمثلة في تعطيل قانون العرض والطلب للسلع والخدمات في السوق حيث الدور التقليدي للنقود هو تحقيق عملية التقابل بين العرض والطلب في السوق اي تسهيل انجاز عملية البيع أي عرض السلعة من المنتجات و انتقال ملكية السلعة او الخدمة موضوع التعاقد لا تتم الا بعد تسديد ثمنها ( نقدا او عن طريق الائتمان ) ، فدور النقود يتمثل بكونها الوسيلة التي يستطيع بموجبها الطرفان من براءة ذمتهما اتجاه الطرف الاخر وانتقال الملكية بينهما ، فالعملية التجارية لايمكن ان تتم لولا الوظيفة التي توفرها النقود .

ذوحصول اي زيادة او نقصان بين احد الطرفين ( العرض او الطلب ) ينتج عنها حصول خلل في العمليات التجارية ، يتطلب معالجته باعادة التوازن بينهما لكي يتواصل التعامل الصحي في السوق.والبائع يحتاج للنقود لتنفيذ عملية شراء لاحقة وأي تعطيل لهذه العملية يعطل العمليات التالية.و حجب اي جزء من الاموال النقدية في فترة زمنية معينة يعني تعطيل جزء من العرض او الطلب حسب موقع العملية ، يعقب هذا التعطيل الجزئي حصول تعطيل مضاعف لعمليات تجارية كبيرة لاحقة .فبموجب هذا الحجب في احد طرفي العملية التجارية ( البيع او الشراء ) اوفي كليهما وما يعقبه من تأثير لعملية الحجب المضاعف يحصل الخلل في الدورة الاقتصادية في المجتمع .لان المال بكل انواعه يمثل العنصر الاساسي بالاشتراك مع العناصر الانتاجية الاخرى في نشوء وتحريك النشاط التجاري وتوازن الدورة الاقتصادية في المجتمع .وعندما يتجمع ويتراكم المال عند المرابين كان ذلك بمثابةحجب جزئي لهذا المال عن السوق قضلا عن أن هذا التراكم لديهم بمكنهم من التحكم في مقدار حجم النقد المتواجد في السوق لاغراض التداول لانجاز العمليات التجارية الجارية متي شاؤوا ، وفق مصالحها الذاتية الخاصة بها ، ولا يهمها عند قيامها بهذه الممارسة بتعطيل مصالح المجتمع الاساسية مما يجعل الخلل يتغلغل في كامل النشاط الاقتصادي في الدولة ، وقد يتوسع ليشمل منطقة اقليمية مرتبطة معها اقتصاديا ، او يتوسع ليشمل تاثيره الاقتصاد العالمي .وهذا ما حدث مؤخرا فعلا في ماعرف بالأزمة المالية التي ظهرت في الولايات المتحدة نتيجة القروض الربوية العقارية وانتشرت تداعياتها السلبية في أوروبا والعديد من جول العالم.

ولا يوجد ما يبرراجرة المال النقدي ( الفائدة ) من الناحية النظرية لان انتفاع المقترض في المال النقدي الذي استخدمه لا يتعرض الى الانتقاص ، ولا يؤدي استخدامه الى استهلاك اي جزء منه لان المال النقدي سوف يرجع الى صاحبه كما هو بدون نقص او زيادة ، لذلك لا يحق لصاحب المال النقدي اخذ بدل ايجار عنه لانه سوف يسترجع ماله كما هو بدون استهلاك . يضاف الي ذلك فقدان صاحب المال النقدي الفرصة الاستثمارية نتيجة تنازله عن هذه الفرصة الاستثمارية وتحويلها الى المقترض ، لان المال النقدي والعيني يمثل احد عناصر الانتاج الاساسية .
ومن الناحية الأخلاقية ،كما يرافق النشاط الربوي في الغالب جملة من الممارسات والعمليات المخلة بمفاهيم القيم المعنوية للمجتمع ، يؤثر الانحرافات في هذه القيم على مسيرة عمل النشاط التجاري واجاز عملياته بشكل سليم ، يمثل هذا الانحراف سلوكيات التجار باستخدام الاحتكار والغش والتدليس والبخل والجشع ... وغيرها .بما يتفق مع ا الدافع المادي في النظام الراسمالي الربوي يمثل المحرك الاساسي للانشطة ، ويعتبرالغاية والهدف الاساسي للافراد عند ممارسة نشاطهم الاقتصادي ، وبموجبه يتم صياغة المفاهيم والقيم الاجتماعية والسلوكيات الاخلاقية السائدة في المجتمع .
ولذلك يلاحط أنه غالبا ما تجتمع لدى الجهات المرابية القوة المالية والحماية القانونية والاجتماعية التي تمكنها من ممارسة انشطتها بفعالية عالية وليمتد تاثيرها مختلف الانشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في البلد . بل تعتبر هي المسيرة الفعلية للسياسات المحلية والخارجية في بعض الدول الرأسمالية الغربية بسبب ما منحه المال لها من نقوذ كبير وقوة مؤثرة.

نظام الوقف:
الوقف لغة يدل على الحبس والمنع يقال: وقف فلان داره على كذا: إذا حبسها ويجمع على وقوف.. عرف الفقهاء الوقف بأنه: (إعطاء عين لمن يستوفي منافعها والانتفاع بها، أو الانتفاع بها فقط على وجه التأبيد، وقد يكون على وجه التوقيت). كما عرفه ابن عرفة المالكي بأنه "إعطاء منفعة شيء مدة وجوده، لازما بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديرا".
فقوام الوقف إذن : هو منع التصرف في رقبة العين التي يدوم الانتفاع بها ، فلا يجوز بعد وقفها وجعلها على حكم ملك الله تعالى أن تباع ، أو ترهن ، أو توهب ،أو تورث ، أما منفعتها فتصرف على وجوه الخير والمنفعة العامة تبعا للشروط التي يحددها الواقف بمعنى أن الوقف تعطى منفعته لا أصله..
ويستدل على مشروعية الوقف بأيات القرأن الكريم التي تحث على عمل الخير وإعطاء الصدقات التي يتقرب بها إلى الله عز وجل كقوله تعالى: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون".، وقوله تعالى: " وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون".وقوله عز وجل " وما تفعلوا من خير، فلن تكفروه"،وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة" وقوله عز وجل: "لن تناولوا البر حتى تنفقوا مما تحبون". كما قال تعالى في موضع آخر:"وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون".ويعد الوقف صدقة جارية يستمر ثوابها بالنسبة للواقف بعد انتهاء حياته.وقال صلى الله عليه وسلم :"إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" .
كما أخرج ابن ماجه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن مما يخلف المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما نشره، أو ولدا صالحا تركه، أو مصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لأبناء السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه بعد موته".
أول صدقة موقوفة في الإسلام، كانت أراضي مخيريق اليهودي التي أوصى بها للنبي صلى الله عليه وسلم فأوقفها النبي .
روي عن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "من احتبس فرساً في سبيل الله، إيمانا واحتسابا، فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات"
ومما أخرجه البخاري "عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمرا أصاب بخيبر أرضا فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصبت أرضا لم أصب مالا قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث في الفقراء والقربى والرقاب، وفي سبيل الله والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا غير متمول فيه"
و روي عن جعفر بن محمد عن أبيه: " أن علي بن أبي طالب، قطع له عمر بن الخطاب ينبع ثم اشترى علي إلى قطيعة عمر أشياء، فحفر فيها عينا، فبينما هم يعملون، إذ تفجر عليهم مثل عنق الجزور من الماء، فأتى علي وبشر بذلك، قال: بشر الوارث، ثم تصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله وابن السبيل، القريب والبعيد، وفي السلم، وفي الحرب، ليوم تبيض وجوه، وتسود وجوه، ليصرف الله بها وجهي عن النار، ويصرف النار عن وجهي "أخرجه البيهقي.
وروي عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) أنه قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، أمر بالمسجد، وقال: يا بني النجار، ثامنوني بحائطكم هذا، فقالوا: لا والله لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تعالى" .

والوقف يعني إبقاء عين الأرض محبوسة على الجهة الخيرية المخصصة لها إلى قيام الساعة من دون أن يمسها أي تصرف، وبهذا نرى الإسلام وافق على حبس أصل الأرض، أمـا غلتها وثمارها فإنهـا تُبذل للمستحقين وفي مختلف وجوه البر الموجودة أو التي ستوجد.

نظام الوراثة:
ومنها أيضاً نظام (الوراثة)، الذي يعني في الإسلام تفتيت الملكية. وقد رأى حزب العمال الإنكليزي في برنـامجه الاشتراكي أن يتجه بالمواريث هذه الوجهة الإسلامية العادلة بدل أن تبقى الأموال عندهم من نصيب الابن الأكبر وحده.

فريضة الزكاة:
الزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة وهي الركن الثالث بعد الشهادتين والصلاة وهي فريضة واجبة بالكتاب والسنة والإِجماع فَمُنْكِرُ وُجُوبِها كافرٌ مُرْتَدُّ عن الإِسلام.وهي واجبة على كل مسلم وتدفع سنويا وتتعدد مواردها ومحددة مصارفها ولها أهمية كبرى في تحفيز الافتصاد وفي أعادة توزيع الثروة وتحفيق التكافل الاجتماعي.
ويوجبها قول الله تعالى:" وأقيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ" (النور :56) ولقوله تعالى: " خُذْ مِنْ أمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيْهِمْ بِهَا" (التوبة :103) ولقوله تعالى: " وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادهِا " (الأنعام :141) وقوله تعالى: " وَالَّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌ مَعْلومٌ لِلسَّائِل و اْلمَحْرُومِ " (المعارج 24- 25).
ويعزز وجوبها ما جاء في شأنها في السنةالمطهرة حيث روى ابن عباس رضي اللّه عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأني رسول اللّه، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن اللّه عز وجل افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد إلى فقرائهم.. ". وجاء في صحيح مسلم عن رسول الله قوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله " .
وقد جعل الإسلام فريضة الزكاة حقاً مقدساً في أموال الموسرين يدفعونها للفقراء والمحتاجين لا كصدقة تذل كرامة الفقير وتطعن كبرياءه، بل كحق له مفروض ونصيب له معلوم. ولهذا كانت فريضة الزكاة في الإسلام ركيزة اجتماعية ضخمة للمجتمع الإسلامي بغية إقامة التوازن الاقتصادي بين جماهير الشعب.
و الإسلام، وإن التقى ـ في بعض الجوانب ـ مع الرأسمالية أو الماركسية، مع الديمقراطية أو الاشتراكية، أو سوى ذلك من النظم العالمية والنظريات السائدة في زماننا، فإنه يظل غيرها، ولا يجوز أن نصفه بها أو ننسبه إليها.وتعد العدالة الاجتماعية من أهم مكونات و أساسيات العدل في الإسلام. و أوضح الأستاذ سيد قطب في كتابه “العدالة الاجتماعية في الإسلام” أن هناك ثلاثة ركائز تقوم عليها العدالة الاجتماعية في الإسلام. هذه الركائز هي التحرر الوجداني المطلق و المساواة الإنسانية الكاملة و التكافل الاجتماعي الوثيق حيث أن كل عنصر مبني على الآخر. و يعني بالتحرر الوجداني هو التحرر النفسي من الخضوع و عبادة غير الله لأن الله وحده هو القادر على نفع أو ضرر الإنسان. فهو وحده الذي يحييه و يرزقه و يميته دون وجود وسيط أو شفيع حتى لو كان نبي من الأنبياء. فلقد قال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قل إني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا" ( الجن: 21) كما قال: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" ( آل عمران:64). و الهدف من التحرر النفسي من الخضوع لغير الله هو التخلص من الخوف و التذلل لغير الله لنيل رزق أو مكانة أو أي نوع من أنواع النفع عن يقين أن الله وحده هو الرزاق.
و لقد جاء الإسلام ليساوي بين جميع البشر في المنشأ و المصير. فلقد قال الله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء" (سورة النساء، آية 1) و قال: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (الحجرات: 13). كما قال: "و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" ( الإسراء:70). فالكرامة مكفولة لكل إنسان و الفرق بين الناس عند الله هي درجة تقواهم و ليس جنسهم أو لونهم.

وقد تحددت مصارف الزكاة بالآاية الكريمة في سورة التوبة حيث يقول الله تعالي:"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"(التوبة:60), وتأتي موارد الزكاة من أنواع الأنشطة الاقتصادية المختلفة مثل: النقود(الذهب والفضة والعملات)والحلي وما في حكمهما وعروض التجارة والصناعة والزروع والثمار والأنعام والثروة لحيوانية والثروة المعدنية والمستغلات والأنشطة الأخرى المدرة للدخل.
وذهب الفقهاء الي القول بأنه موارد الزكاة تفسم بالتساوي على المصارف الثمانية وأرى أنها تقسم حسب الأولوية والترتيب الموجود في الآية على النحو التالي:
.بحيث تقسم الى 36 جزء توزع على النحو التالي:
-لِلْفُقَرَاء 8أجزاء ويمكن من هذا المصرف دفع قروض بدون فوائد لهم تساعدهم على أقامة مشروعات مدرة للدخل .
- ولْمَسَاكِينِ 7أجزاء ويمكن من هذا المصرف دفع قروض بدون فوائد لهم تساعدهم على أقامة مشروعات مدرة للدخل .
-الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا 6أجزاء وهي حصة مخصصة لرواتب الجهاز الإداري القائم على جمعها وتوزيعها
-الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم 5أجزاء ويمكن أن تخصص لتقديم خدمات اجتماعية مجانية.
-فِي الرِّقَابِ 4أجزاء ويمكن أن تسدد منه تعويضات مستحقة عمن لا يستطيع دفعها لتحريره منها,
-الْغَارِمِينَ 3أجزاء وتدفع للمدينين العاجزين عن دفع ديونهم
-فِي سَبِيلِ اللّهِ 2جزءان ويمكن تخصيصها للمنكوبين من الكوارث الطبيعية ولأقامة دور العبادة
_وَابْنِ السَّبِيلِ 1 جزء واحد وهي مخصصة للغرباء الذين انقطعت بهم السبل لاعادتهم الي بلادهم.

القضاء على الفقر:
هذا، وبالنسبة إلى ظاهرتي الغنى والفقر في الإسلام فإن القرآن الكريم لم يفته أن يعالجها على نحو سليـم وفعـال،فقـد قـدّم لتلك الظـاهرة علاجاً شافياً ينسجم مع كافة المتطلبات الإنسانية للمجتمع، ويشبعها، ويوفر لها أمنها وكفايتهـا في جو لا يسمح قط بأن تتدخل في شؤونها الجهات التي تسعى للهيمنة على المجتمعات الضعيفة أو استغلالها من قوى الاستعمار والامبريالية والصهيونية العالمية.
وليس أدل على ما أقول من أن الإسلام جعل الجماعة كفيلة للفرد من تاريخ ولادته إلى يوم مماته، وهذه الكفالة لا تقتصر على تأمين الغذاء وحـده لهذا الفرد، بل تتعداه إلى كفالته في جميع الحقوق الإنسانية، بل وجميع حرياته الشخصية والعقلية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية ونحوها.
صحيـح أن الإسـلام حَمَى الملكية الخـاصة، إلا أنه وضع من نـاحية أخرى ضوابط لهـا تكفل بقاء التوازن الاقتصادي قائماً بين سائر أفراد الأمة.وتسهم موارد الزكاة أيضا في الفضاء على الفقر.
ويمكن أن نستشف ذم الفقر من قوله تعالى: “لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا” (آل عمران:181).ثم تأتي الايات عديـدة للحث على مساعدة الفقراء والمساكين والإنفاق عليهم ومنها :
يقول تعالى: “يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين” (سورة البقرة:215)، وقوله :“وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون. للفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض” (البقرة:272-273).وقوله “إنما الصدقات للفقراء والمساكين” ( التوبة:60)، وقوله:“فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير” ( الحج:28).
بل ويجعل الله الجوع وهو من لزوم الفقر كثيراً ما كان عقاباً من الله للإنسان جزاء إهماله وانحرافه. فيقول تعالى: “ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون"( الأعراف: 130)، “وضرب الله مثلا قرية كانت أَمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون"( النحل: 112).والنجـاة من الفقر والخلاص منه هو نعمة من الله وفضل منه ، يقول تعالى: “فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً. يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً” (نوح:10-11-12).
وفي ذم الفقر يقول صلى الله عليه وسلم: "كاد الفقر أن يكون كفراً” ، ويقول: صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل. وأعوذ بك من الفقر والكفر والفسوق وأعوذ بك من الصمم والبكم والحنون وسئ الأسقام" وبعض الروايات تذكر أن حواراً دار بين الرسول وبين الصحابة قائلين له لقد سويت بين الفقر والكفر أيتعادلان يا رسول الله؟ قال نعم.
ويقول أمير المؤمنين علي ابن إبي طالب رضي الله عنه : "الفقر الموت الأكبر" وقال لأبنه: "يا بني إني أخاف عليك الفقر فأستعذ بالله منه. فأن الفقر منفقة للدين، مدهشة للعقل داعية للمقت" ، ويروي عنه أنه قال: "لو كان الفقر رجلاً لقتلته".

سد الذريعة:
من هذه الضوابط مبدأ (سدّ الذريعة)، ومعناه: أنه إذا كـان ثمة شيء مباحاً، وتجرُّ إباحته فساداً مؤكداً للمجتمـع جـاز منـع النـاس مـن هـذا المبـاح درءاً للمفسدة المؤكدة التي ستترتب عليه. مثال ذلك (التجـارة)،فهـي مباحة.. ولـكن التجـارة بالأسلحة مثلاً إذا كانت تعرض المجتمع لنوع من أنواع الخطر جـاز لولي الأمر منعها. وقراره حينئذ يعتبر قراراً من الشرع نفسه استناداً إلى القواعد العامة المقررة في كتب أصول الفقه.
كذلك (المبادلة بالنقد) هي من قبيل التجارة أيضاً، ومع ذلك فإن لولي الأمر أن يمنعها درءاً للمفسدة وتحقيقاً لمصلحة الأمة والجماعة.
وكذلك (مال الأغنياء)، فإنه يجوز لولي الأمر أن يأخذ منه ما تحتاجه الأمة بالغاً ما بلغ، لأن الجماعة فوق الفرد. ذكر (الشاطبي) في كتابه “الاعتصـام الجزء الثاني”، إنه: “ إذا قضت مصلحة عامة ضرورية للأمة بالحاجة إلى مال وليس في بيت مال المسلمين ما يقوم بهذه الحاجة، فإن للإمام العدل أن يرتب على الأغنياء ما يراه كافياً لذلك في الحال إلى أن يظهر مال في بيت المال”. وعلى هذا إجماع الأمة. وذلك استناداً إلى مبدأ (المصالح المرسلة)، يعني المصالح العامة التي تبيح تقييد الملكية الفردية وجعلها خاضعة لحاجات الدولة العامة (أي لحاجات الجماهير)، فضلاً عن أنها تحد من فورة الغنى ووطأة الفقر، وهي بالتالي عدل وكفاية وإنتاج ومشاركة وتعاون في مجالات التنمية. فالثراء الفاحش المستبد المتحكم في رقاب الناس والذي يقضي على تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع الواحد، لا يبيحه الإسلام.
كما يوجد تعارض بين وجود الطبيعة بمواردها العديدة الكافية لإشباع كل حاجة، المهيأة للاستخدام وبين وجود الفقرإذ يعني هذا أن تلك الموارد معطلة مهملة، أو غير مؤدية لما خلقت من أجله وبذلك يكون خلقها عبثاً في تلك الحالة إذ لأي شيء خلقت والعبث غير منصور في أعمال الله عز وجل، يقول تعالى: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) (سورة الحجر/ 85) (أفحسبتم أَنما خلقناكم عبثاً) (سورة المؤمنون/ 115).
إن وجود الفقريتعارض مع توافر تلك الطيبات التي لا تقف عند حد إشباع الحاجة الضرورية فقط بل تزيد على التوسع والترفه، على حد تعبير الإمام الغزالي.

التصرف في المـــال:
المال في نظر الاشتراكية هو مُلك المجتمع، وهو في نظر الإسلام مُلك الله. فالنتيجة واحدة، لأن مال الله يعني مال المجتمع، مال المصلحة العامة، يتصرف به الفرد في حدود المصلحة العامة أولاً. فمصالحه الخاصة ثانياً. فإذا هو أساء التصرف بالبخل أو التبذير أو بأي لون من ألوان سوء الاستعمال يوجب الاسلام على الدولة مصادرة هذا المال، وإعادة توزيعه حسب المقتضيات والأحوال. ذلك لأن للمال أهميته في خدمة المجتمع، والإسلام حريص على عدم إضاعته عبثاً وسفهاً من مالك سيئ التصرف سيما وأن المال في الأصل مال الأمة يدل على ذلك قول الله: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ( يعني أموال الأمة) التي جعل الله لكـم قيـاماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً". فصريح هذه الآية يفيد أن الأموال لجماهير الأمة، الأفراد يستغلونها في مصلحة الأمة أولاً، ثـم في مصالحهم الشخصيـة لكونهم جزءاً من الأمة، بدليل قوله تعالى: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم". فاعتـبرت الآيـة القرآنية السفه ، أي سوء التصرف في الأموال،سبباً مشروعاً للحجر على صاحبه. لأن شـرط التصرف بالمال هو الرشد، حيث قال تعالى بعد ذلك مـباشرة:”حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم". من هذا يتأكد كون الأموال في الأساس للأمة، يتصرف بها الفرد في حالة الرشـد، بدليـل قولـه تعـالى: (فادفعوا إليهم أموالهم). كانت (أموالكم) في حالة السفه، وصارت (أموالهم) في حالة الرشد.

ومن هذه القبيل الأرض الميتة، فإنها في الأساس للأمة والفرد يستغلها في مصلحة الأمة. فإذا أهملها وتركها من غير زرع واستثمار جاز لولي الأمر نزعها وتسليمها إلى مَن يحسن إدارتها واستغلالها، بدليل الحديث الشريف: “لا حق لمتحجر فوق ثلاث”، بمعنى أن مَن بيده الأرض الميتة إذا تركها على هذه الحالة مدة ثلاث سنوات ينزعها الحاكم منه ويسلمها إلى غيره.

ويقاس على الأرض الميتة كل أرض يملكها الإنسان لأن ملكيته لها مقيدة باستغلالها لصالح الأمة، إذ الملكية الأصلية لله: “ لله ملك السموات والأرض” فإذا أهملها هذا الإنسان حتى تعطلت جاز نزعها منه وإعطاؤها إلى مَن يُحسن استثمارها.

وما دامت الأرض أرض الله (يعني أرض الجماعة وتستغل لمصلحة هذه الجماعة)، فليس ثمة ما يمنع من وضعها في أيدي القادرين على الإفادة منها لما يه مصلحتهم ومصلحة جميع إخوانهم إذا اقتضت حاجتهم ذلك، والأرض في هذه الحالة أي ما دامت أرض المجتمع تكون كالشمس تضيء الجميع لأنها للمجتمع وملك الجميع، لأنهـا ملك المجتمع. كما تغدو الأرض عند حاجة جميع أفراد المجتمع إليها بمثابة: “المـاء والكـلأ والنار” التي نصّ عليها الحديث النبوي الشريف، وفي رواية (والملح)، لحاجة جميع الناس إلى هذه الأشياء، حيث جعل الإسلام الناس فيها شركاء.

وجعـل النـاس كـل النـاس فـي هـذه الحاجـات الضـروريـة شركـاء، فـي نظـرالإسـلام،إنما كان بسبب الضرورة، فتلحق الأرض بها وتأخذ حكمها عند الضـرورة: "فالضرورة مجبرة"، "والضـرورات تبيح المحظورات".

ليس أدل على ذلك مما فعله رسول الله بالنخيل الذي كان يملكه سمرة بن جندب، فلقد أزال رسول الله (ص) ملكيتـه عنه عندمـا تحـقق من أنه يؤذي رجلاً من الأنصار، حيث قال للأنصاري:”اذهب واقلعه”
ومثَـل ذلك فعـل رسول الله بأرض البقيع، حيـن حمـاها ـ يعني صادرها ـ وجعلها مرعى لخيول المسلمين. الأمر الذي يتضح منه جواز نزع الملكية الخاصة لصالح الجماعة، لأن مصلحة الجماعة أولى بالاعتبار، أخذاً بقاعدة “المصالح المرسلة”. والأمثلة على ذلك كثيرة، نجتزئ منها:
1 ـ إن عمر بن الخطـاب صـادر أرضاً (بالربذة) وجعلها مرعى لعامة المسلمين وبخاصة الفقراء منهم. ومستنده الشرعي في هذا التصرف هو القاعدة الإسلامية التي تقول”يتحمل الضرر الأدنى دون الضرر الأعلى”. فحمي الأرض من فرد (أي اقتطاعها منه) يضر ـ ولا شك ـ بمصلحة ذلك الفرد، ولكنه أهون وأقل ضرراً من تعريض كافة المسلمين للضرر.
2 ـ ولعل من هذا القبيل، ما فعله عمر نفسه بأرض العراق، حين امتنع عن توزيعها على الفاتحين، للراجـل سهم وللفـارس سهمـان،حسبمـا هـو معــروف مـن أحكـام الشرع الإسلامي.وأبقاها بأيدي أصحابها يقومون بزراعتها، ويأخذون كفايتهم لمدة عام كامل من ريعها، ويدفعون الباقي إلى بيت مال المسلمين خراجاً للدولة كي تنفق منه على إنعاش مرافقها المختلفة. إضافة إلى احتفاظها لنفسها بملكية الرقبة. وقال للمجاهدين الغانمين الذين عارضوه وناقشوه في إبائه توزيع الأرض عليهم قولته المعروفة:”أنا إن قسمتها بينكم فماذا أبقي لمن سيأتي بعدكم؟”. وقد انعقد إجماع المسلمين على تأييد عمر في تصرفه الحكيم، لأنه رضي الله عنه أدرك بثاقب نظره قبل إصدار حكمه عدة أمور، منها:
أ ـ أن الفاتحين لا خبرة لهم بالزراعة، وبتوزيع الأرض عليهم يشح عطاؤها وتبور زراعتها التي تعيش عليها جماهير الأمة.
ب ـ تخوف عمر من أن يُتخـم المحـاربون بسبب ما يصيبونه من ثراء سريع، فتقل مقدرتهم على الجهاد.
ج ـ حرصـه علـى عـدم خلـق “طبقة برجوازية” ـ إذا صحّ التعبير ـ بين جمـاعة المسلمين ـ فيختل التوازن الاقتصادي وتتعرض الأمة بسبب ذلك للاضطرابات والهزات.
الإسلام والاشتراكية:

يقول الأستاذ مصطفي الرافعي: .أهداف الاشتراكية على اختلاف نظرياتها وفئاتها، بل وعند جميع القائلين بها، تكاد تتلخص بما يلي:
ـ أولاً: إزالة طبقة الرأسماليين ونفوذهم.
ـ ثانياً: شخصية الجماعة فوق شخصية الأفراد.
ـ ثالثاً: تغيير نظام الملكية الخاصة بنظام ملكية جماعية.
ـ رابعاً: رفع مستوى المعيشة من جميع وجوهها لأفراد الشعب كافة.
ـ خامساً: إزالة نظام الملكية الزراعية والقضاء على الإقطاع.
ـ سادساً: كفالة الفرص المتكافئة للجميع دون تمييز طبقي.
ـ سابعاً: هيمنة النظام المركزي على الإنتاج، وإدارته طبقاً لخطة مرسومة توفر الحرية والطمأنينة والرفاهية للجميع على السواء.

وقد وقف الناس في شرقنا العربي من الاشتراكية مواقف مختلفة:
فمنهـم مَـن تعـامى عن حسناتها كلها واعتبرها شراً محضاً، وهؤلاء هم الرأسماليون وأنصاف الرأسماليين.
ـ ومنهم مَن أرادها متطرفة جارفة حاقدة، بل شيوعية بكل الظلال العلمية للكلمة، وهؤلاء هم الذين لا يؤمنون بالاعتدال.
ـ ومنهم مَن تحزّب واعتبرها جوهر الدين الإسلامي، وأنه قبل (ماركس وإنجلز وهيغل ولينين وسان سيمون) وغيرهم من فلاسفة الاشتراكية كان الإسلام أباً للاشتراكية، وكان محمد بن عبدالله إمامها الأول.
ـ ومنهم مَن ذهب إلى العكس تماماً فاندفعوا يحاربونها باسم الدين ويناهضونها زاعمين، أنها تناقض جوهر الإسلام ولا تأتلف مع تعاليمه.
ونحن لا نريد أن نتعرض إلى مواقف أولئك الفرقـاء جميعاً، ومناقشة فلسفاتهم بشأن الاشـتراكية، فأدلتهم جميعاً معروفة لدى خواص الأمة، وهي مثبوتة في كتبهم ومؤلفاتهم.
ويقول في المقارنة بين الاشتراكية والاسلام:"المال في نظر الاشتراكية هو مُلك المجتمع، وهو في نظر الإسلام مُلك الله. فالنتيجة واحدة، لأن مال الله يعني مال المجتمع، مال المصلحة العامة، يتصرف به الفرد في حدود المصلحة العامة أولاً. فمصالحه الخاصة ثانياً. فإذا هو أساء التصرف بالبخل أو التبذير أو بأي لون من ألوان سوء الاستعمال يوجب الاسلام على الدولة مصادرة هذا المال، وإعادة توزيعه حسب المقتضيات والأحوال. ذلك لأن للمال أهميته في خدمة المجتمع، والإسلام حريص على عدم إضاعته عبثاً وسفهاً من مالك سيئ التصرف سيما وأن المال في الأصل مال الأمة يدل على ذلك قول الله: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ـ يعني أموال الأمة ـ التي ج عل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً”. فصريح هذه الآية يفيد أن الأموال لجماهير الأمة، الأفراد يستغلونها في مصلحة الأمة أولاً، ثم في مصالحهم الشخصية لكونهم جزءاً من الأمة، بدليل قوله تعالى: “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم”. فاعتبرت الآية القرآنية السفه سبباً مشروعاً للحجر على صاحبه. لأن شرط التصرف بالمال هو الرشد، حيث قال تعالى بعد ذلك مباشرة: “حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم”. من هذا يتأكد كون الأموال في الأساس للأمة، يتصرف بها الفرد في حالة الرشد، بدليل قوله تعالى: “فادفعوا إليهم أموالهم”. كانت “أموالكم” في حالة السفه، وصارت “أموالهم” في حالة الرشد.
ومن هذه القبيل الأرض الميتة، فإنها في الأساس للأمة والفرد يستغلها في مصلحة الأمة. فإذا أهملها وتركها من غير زرع واستثمار جاز لولي الأمر نزعها وتسليمها إلى مَن يحسن إدارتها واستغلالها، بدليل الحديث الشريف: “لا حق لمتحجر فوق ثلاث”، بمعنى أن مَن بيده الأرض الميتة إذا تركها على هذه الحالة مدة ثلاث سنوات ينزعها الحاكم منه ويسلمها إلى غيره.
ويقاس على الأرض الميتة كل أرض يملكها الإنسان ـ لأن ملكيته لها مقيدة باستغلالها لصالح الأمة، إذ الملكية الأصلية لله:”لله ملك السموات والأرض” ـ فإذا أهملها هذا الإنسان حتى تعطلت جاز نزعها منه وإعطاؤها إلى مَن يُحسن استثمارها.

وما دامت الأرض أرض الله (يعني أرض الجماعة وتستغل لمصلحة هذه الجماعة)، فليس ثمة ما يمنع من وضعها في أيدي القادرين على الإفادة منها لما يه مصلحتهم ومصلحة جميع إخوانهم إذا اقتضت حاجتهم ذلك، والأرض في هذه الحالة أي ما دامت أرض المجتمع تكون كالشمس تضيء الجميع لأنها للمجتمع وملك الجميع، لأنها ملك المجتمع. كما تغدو الأرض عند حاجة جميع أفراد المجتمع إليها بمثابة: (النار والماء والكلأ) التي نصّ عليها الحديث النبوي الشريف، وفي رواية (والملح)، لحاجة جميع الناس إلى هذه الأشياء، حيث جعل الإسلام الناس فيها شركاء.
وجعل الناس ـ كل الناس ـ في هذه الحاجات الضرورية شركاء، في نظر الإسلام، إنما كان بسبب الضرورة، فتلحق الأرض بها وتأخذ حكمها عند الضرورة: (فالضرورة مجبرة)، ( والضرورات تبيح المحظورات).

ليس أدل على ذلك مما فعله رسول الله بالنخيل الذي كان يملكه سمرة بن جندب، فلقد أزال رسول الله صلـى الـله عليـه وسلـم، ملكيـته عنه عندمـا تحقـق من أنه يؤذي رجلاً من الأنصار، حيث قال للأنصاري: "اذهب واقلعه".
ومثَـل ذلـك فعل رسول الله بأرض البقيع، حين حماها ـ يعني صادرها ـ وجعلهـا مرعى لخيول المسلمين. الأمر الذي يتضح منه جواز نزع الملكية الخاصة لصالح الجماعة، لأن مصلحة الجماعة أولى بالاعتبار، أخذاً بقاعدة (المصالح المرسلة). والأمثلة على ذلك كثيرة، نجتزئ منها:
1 ـ إن عمر بن الخطاب صـادر أرضاً (بالربذة) وجعلها مرعى لعامة المسلمين وبخاصة الفقراء منهم. ومستنده الشرعي في هذا التصرف هو القاعدة الإسلامية التي تقول :(يتحمل الضرر الأدنى دون الضرر الأعلى). فحمي الأرض من فرد (أي اقتطـاعها منه) يضر ـ ولا شك ـ بمصلحة ذلك الفرد، ولكنه أهون وأقل ضرراً من تعريض كافة المسلمين للضرر.
2 ـ ولعل من هذا القبيل، ما فعله عمر نفسه بأرض العراق، حين امتنع عن توزيعها على الفاتحين، للراجـل سهـم وللفـارس سهمان، حسبمـا هـو معـروف من أحكـام الشرع الإسلامي وأبقاها بأيدي أصحابها يقومون بزراعتها، ويأخذون كفايتهم لمدة عام كامل من ريعها، ويدفعون الباقي إلى بيت مال المسلمين خراجاً للدولة كي تنفق منه على إنعاش مرافقها المختلفة. إضافة إلى احتفاظها لنفسها بملكية الرقبة. وقال للمجاهدين الغانمين الذين عارضوه وناقشوه في إبائه توزيع الأرض عليهم قولته المعروفة: "أنا إن قسمتها بينكم فماذا أبقي لمن سيأتي بعدكم؟". وقد انعقد إجماع المسلمين على تأييد عمر في تصرفه الحكيم، لأنه رضي الله عنهأدرك بثاقب نظره قبل إصدار حكمه عدة أمور، منها:
أ ـ أن الفاتحين لا خبرة لهم بالزراعة، وبتوزيع الأرض عليهم يشح عطاؤها وتبور زراعتها التي تعيش عليها جماهير الأمة..
ب ـ تخوف عمر من أن يُتخـم المحاربون بسبب ما يصيبونه من ثراء سريع، فتقل مقدرتهم على الجهاد..
ج ـ حرصـه عـلى عـدم خلـق (طبقة برجوازية) ـ إذا صحّ التعبير ـ بين جماعة المسلمين فيختل التوازن الاقتصادي وتتعرض الأمة بسبب ذلك للاضطرابات والهزات..
ويرى الطاهر بن عاشور أن للإسلام مقاصد خمسة في الأموال؛ هي: رواجها ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها . ونتناول هذه المقاصد بشيء من التفصيل فيما يلي:

1. مقصد التداول والرواج: ويراد بهذا المقصد تداول ورواج الأموال بين عامة الناس، وألا يكون ذلك قاصرا على الأغنياء فقط أو على فئة معينة من المجتمع دون الفئات والشرائح الأخرى، ويكون ذلك في مجالات الاستثمار والاستهلاك، ومن هنا شرعت العقود والبيوع والشركات في الفقه الإسلامي ونظمت معاملاتها، لتيسير وتسهيل حركة الأموال بين الناس.
ويدخل ضمن ذلك التكسب والاستثمار. ويراد به ما أوجبه الإسلام على الأفراد من السعي للكسب، واستثمار الأموال، فلا يعطل المال ولا يكتنز ولكن يدفع به لدوائر الأعمال لينمو ويعم خيره على المجتمع؛ فالحق تبارك وتعالى يقول: "فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الجمعة: آية 10) وهذا دليل وجوب السعي للرزق والكسب، ويقول عز وجل محذرا من اكتناز المال: "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (التوبة: آية 34).
2. مقصد الوضوح: والمراد بهذا المقصد هو شفافية المعاملات والتصرفات المالية من حيث تدوينها وتوثيقها والإشهاد عليها، وذلك دفعا للضرر والغرر والغش والتدليس، وإن كانت آية الدين هي الأشهر في هذا المجال، فإن كتابة جميع المعاملات والتصرفات المالية معمول به من باب حفظ وبيان الحقوق.
3- مقصد الحفظ : ويقصد به حماية أموال الناس من الغصب وقد نهى الله عن أكل أموال الناس بالباطل أيّا كانت صورته، ويقول الحق تبارك وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً" (النساء: آية 29).ومن التبديد ومنه قوله تعالي :"ولا تؤتوا السفهاء أموالكم" وقد اعتبر الإسلام التعامل بالربا فيه إضاعة للمال وليس فيه حفظ له ، قال تعالي :"يمحق الله الربا ويربي الصدقات"
4. مقصد الثبات: ويعنى بهذا المقصد الاختصاص وحرية التصرف في الملكيات والأموال الخاصة وعدم انتزاعها بغير رضا مالكها بالطرق المشروعة من بيع أو هبة أو تبرع،
5.مقصد العدل: والعدل المراد في هذا المقصد، جعل المال في نصابه الذي جعل من أجله فلا يستثمر ولا ينفق في حرام، وإنما في قنوات أمر بها الله عز وجل، تعود بالنفع على صاحبها وعلى من حوله من أفراد مجتمعه.


تحقق العدالة الاجتماعية لا يغني عن دوامها:
إن ما يجب أن تستهدفه وتلتزم به أية نظرية اقتصـادية لنظام اقتصادي للمسلمين إلى جانت تحقيق الوفرة الانتاجية والثروة الاجتماعية هو تحقيق العدالة الاجتماعية أيضا. ويجب أيضـا عدم حصـر الاهتمام في مجال العدالة الاجتماعية مجرد تحقيقها وإنما أيضـا ضمان دوامها وصمودها في مواجهة عاديات الزمن. في التاريخ الفرغوني يقول المؤرخون بأن النظام الاقتصادى ونظام الملكية للأراضي عرف عدة مرات ما يشبه النظم الاشتراكية التي تتحقق فيها العدالة الاجتماعية المنشودة منها ،ولكنه في كل مرة كان ينتكس ويتحول إلى نظام أقطاعي يتكرس فيه الظلم الاجتماعي وتهدر فيه كرامة الإنسان. وفي مصر الحديثة بدأ محمد على عملية بناء الدولة العصرية باصلاح زراعي قبل أسرة الميجي في اليابان. وسرعان ما انقلب اصلاح محمد على إلى نوع من النظام الإقطاعي بينما صمد النظام في اليابان. وشرع عبدالكريم قاسم في العراق وعبد الناصر في مصر فى نوع من الإصلاح الزراعي في وقت واحد . وكان كل منهما نزيها نقي الذمة ووطنيا مخلصـا ولكنه كان يفتقر إلى الثقافة الضرورية في السياسة والاقتصاد. لم يصمد إصلاح عبد الكريم قاسم وعجل بمقتله وسحله في شوارع بغداد بواسطة قتله جندتهم المخابرات البريطانية وبوساطة النظام الأردني وكان من بين المتآمرين على قتله :صدام حسين . ولم يجد القتلة في جيب سترته غير دينار عراقي واحد ، هو ما خلفه من وراءه في الدنيا . واتضح أن الرجل كان ينفق مرتبه على الفقراء والمساكين والمحتاجين في حياته .وحكم العراق من بعده مغامرون ولصـوص و انتهي أمره إلى ما انتهي اليه . وفي مصر استطاع عبد الناصر أن يقيم تنمية اقتصادية وكان من أمرها أنه في سنة تعرض مصـر لهزيمة ساحقة في سيناء عام 1967 كان الاقتصاد المصري من الاقتصاديات التي تحقق أكبر معدل تنمية في العالم. ومنذ وفاة عبدالناصر قبل حوالي 38 عاما بدء هدم النظام الاقتصادي الذي خلفه لبنة تلو لبنة وما زالت عملية الهدم مستمرة حتي اليوم ، وانتشر الفقر والظلم والفساد في ربوع مصـر . ليس المهم إذن تحقيق العدالة الاجتماعية في النظام الاقتصادي فقط وإنما ضمان استمرارها على طول المدى . وعلم المسقبليات والمعادلات الرياضية في تحليل الإقتصـاد الكلي لا تـساعد كثيرا في هذه الحالة وإنما الذي يمكن أن يكون مفيدا هو التحليل التاريخي لحالات العدالة الاجتماعية في التاريخ التي تعرضت لانتكاسات ومعرفة أسباب انتكاستها.

Monday, January 5, 2009

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى (الجزء الثالث عشر)

الحاجة إلى نظرية لاقتصاد المسلمين:
لاتوجد نظرية اقتصادية أو علم اقتصاد إسلامي ، كما لاتوجد أي نطرية أو علم سياسة إسلامي ، ولا يمكن أيضا في الاقتصاد والسياسة ،إن تمكن مفكر أو عدد من المفكرين في وضع نظريات فيهما ، أن يوصف ما أنتجوه من نطريات بأنهـا إسلامية ، وكل ما يمكن وصفها به أنها تتفق مع المبادئ والقيم الإسلامية ، وأنها صالحة لمتطلبات السياسة والاقتصاد في المكان والزمان المرتبطان بتطبيق النظريات فيهما. وبالتالي فإن ما يتوفر في كتاب الله وسنة رسوله هو مجمـوعة كبيـرة من المبادئ والقيم والأحكام التي يجب أن يخضع لها كل من السياسة والاقتصاد وأن لا تخرج عنها أية نظريات يضعها مسلمون فيهما. وبمراجعة تاريخ التنظير للإقتصاد في أوروبا سنجد أنه بدأ في القرن الثامن عشر مع آدم سميث، ثم تعاقبت اجتهادات المفكرين الاقتصاديين ، جيلا من بعد جيل معدلة ومغيرة ومقومة للنظرية ، وتناسلت من النظرية الأولي نظريات شتي ، كل منها فرضته متغيرات الزمان وتطور الاقتصاد الذي لازمه تطور في النظريات المنظرة له. وأي نظرية اقتصـادية يضعها مسلم أو مسلمون تتفق مع أحكام ومبادئ وقيم الإسلام الثابتة ستكون عرضة للتغيير والتطور هي الأخرى مع الزمـن . أي أنها لن تتصف بالثبات ، لأنها تتناول أمر غير ثابت وإنما يتحرك بمرور الوقت. وقد تصلح النظرية التي يتم التوصل أليها في دولة من دول المسلمين ،التي توزعت الأمة المسلمة عليها ولاتصلـح فـي دولـة أخرى ذات ظروف مغـايرة . دون أن يمنع ذلك إمكانية الاسترشاد بالنظرية وتوفيق أوضاعها بمرور الوقت لكي تتواءم معها.ونحن لانـعرف على وجه التحديد كيـف كـان يتم إدارة وتنظيم إقتصاد الدولة أو الدول المسلمة في زمن ازدهار الحضارة لدي المسلمين. وذلك لأن اهتمـام المؤرخـين انصـب علـى تاريخ الممالك والملوك والفتوحـات والوقـائع وأهملـوا الجوانب الاجتماعية والاقتصادية . وكان الباحث الاجتماعي ربما أسعد حظا من الباحث الاقتصادي إذ وجد ما يعرف بفقه النوازل أو الفتاوى التي مثلت لديه مؤشرات ، ولو تقريبية ،تمكنه من وضع تصورات للأحوال الاجتماعية ، قد تكون مطابقة للواقع نسبيـا ،وقد لا تكون. أما الباحث الاقتصادي فلا يجد سوى بعض المبادئ في كتب الفقه والسيرة وأغلبها عن المعاملات في الشراكة والبيوع والتأجير . وقد اعتمد عليها البعض مؤخرا وأصدروا بناء عليها كتبا تحمل إسم : الاقتصاد الإسلامي . والذي لم ينتبه لهم هؤلاء الاقتصاديين أن تلك المعاملات عرفتها المجتمعات الإنسانية قبل الإسلام ، وكانت موجودة أيضا لدى الشعوب الأخرى غير المسلمة المجـاورة لعـالم المسلمين أو مـا أطلق عليه :دار الإسلام. ولا يوجد لتلك المعاملات أصل مـن الكتاب والسنة ، وإن قـام هؤلاء الكتاب بالاستشهاد ببعض الآيات القرآنية فـي كتابتهـم . والكثيـر منهـم بسبب اعتماد دراسته للاقتصاد على نظريات الاقتصاد الغربي حاول أن يؤسلم معرفته الاقتصادية على أي نحو ، ما وسعه ذلك. ولكن أحدا لم يقدم نظرية محكمة مختلفة يمكن أن يعتمد عليها المسلمون في بناء إقتصادهم وتتفق مع ما حرم عليهم دينهم مثل تحريم التعامل بالربا,. وما كتب عن الشؤون المالية في اقتصاد المسلمين لم يتجاوز بيان تمويل بيت مال المسلمين ، وهي مستقاة من تلك المصادر السابق توضيحها ، ولا تتضمن كتاباتهم تصورا لمـا يجب أن يكون عليه التمويل في العصر الحديث. كما أن مصادر التمويل القديمة للدول المسلمة كان فيها ما أخذ عن الشعوب الأخرى ،ولا سند له في الكتاب أو السنة ، مثل :الضريبة على التجارة الخارجية ، أي العشور، والتي أخذت عن دولة النوبة المسيحية جنوب مصر وغيرها من دول الجوار لدولة المسلمين.

ولم تتضمن الرسائل العلمية التي قدمت حول إقتصاد المسلمين تصورا لنظام مالي واقتصادي عملي وبيان آلياته المحركة له أو الضابطة له ، وتم التركيز على موضوع الاستخلاف ووطيفة المال في الإسلام ، ومصادر تمويل الدولة في دول المسلمين من زكاة وخراج وجزية وعشور ومالى ذلك .ولم تخرج بالتالي عما سبق ذكره. أما كيف حصلوا على الدرجات العلمية وهم لم يقدموا جديدا ، فهو سؤال أفضل عدم الإجابة عليه.

بل لقد خرجت كتابات في منتصـف القرن العشرين من رجال دين لا علاقة لهم بالاقتصـاد يحرمون التعامل بشركات الأموال الحديثة مثل الشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم والشركات ذات المسؤولية المحدودة لآن المسلمين في تاريخهم لم يعرفوا سوى شركات الأفراد .علما بأن أوروبا أيضا لم تعرف الشركات المساهمة إلا في العصر الحديث ونتيجة لمتطلبات اقتصادهم النامي.

ولو كان ثمة نظرية لاقتصاد المسلمين في الماضي ،فإنها بالتأكيد ستكون قد فقدت قيمتها وصلاحيتها عمليا للآخذ بها في القرن الواحد والعشرين. ولكانت أهميتها قد انحـصرت في جانبها التاريخي فقط. والحمد لله أنها لم توجد أو يثبت وجودها قط وإلا شكلت أحد العوائق لوضع نطرية جديدة .

ولا يوجد عذر لعلماء الاقتصـاد المسلمين في عدم وضع أطار نظرى حديث لاقتصاد المسلمين يتفق مع قيمهم الدينية والأخلاقية سوى الكسل عن التفكير والتأمل والابداع والذي يرجع إلى نظم التعليم التـي تكبـح العقل ولا تطلقه حرا خلاقا. وهناك سبب أخروهو أن علم الاقتصـاد ونظرياته يتبعان ويتابعان ما يطرأ على النظام الاقتصادي القائم .في الواقع والنظر في معوقاته والبحث عن حلول لها ، ومعالجة ما يتعرض له من أزمات وبيان كيفية التعامل معها وتقويم انحرافاته . ودول المسلمين تبنت في سياساتها الاقتصادية وفي تعليمـها للآقتصــاد مـا هو موجود أو وجـد في أوروبا والغرب بصفة عامة . ولذا اقتصر دور علماء الاقتصاد المسلمين على استنساخ النظم الاقتصادية النظريات الرأسمالية أو الاشتراكية الغربية . دون البحث عن بديل لها تحكمه القيم الأسلامية.

و علم الاقتصاد في حقيقة أمره علم تقريرى يتعامل مع هو كائن ، ويستفيد من التجربة والخطأ ، ومطالبة عالم أو مفكر واجد بإنشاء علم نفترض فيه أنه مناقض لما هو موجود ومتبع ويصلح لكل مكان وزمان ، يعـدعلـى نحـو مـا بمثأبة تعجيز له. ولـكن كل ما بمقدوره هو بيان كيفية تحريك أقتصاد راكد وتنميته وتعزيزه مع عدم مخالفة القيم والأحكام الإسلامية.وياحبذا لو تم ذلك باجتماع عدد من الخبراء من ذوى الاختصاصات المختلفة يقومون بدراسة الوضعية القائمة وأيجاد حلول لها، ووضع تصور لكيفية تحرك المجتمع والدولة نحو تطبيق المبادئ والقيم الإسلامية عمليا فى الاقتصاد والتوصل من ذلك لوضع نظرية حول اقتصاد مجتمع المسلمين. و لن يمنع مع ذلك من الوقوع في أخطاء عند التنفيـذ يمـكن الاستفـادة منها في تقويم النظام الاقتصادى للمسلمين وتطويره وتحسينه باستمرار. وإن حسنت النوايا فإنه يمكن تطبيق المبادئ والقيم الإسلامية دون انتظار وضع نطرية كاملة قد يتم وضعها وفق نتائج يسفر عنها التطبيق وذلك بالاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى,. وخاصة الشعوب الأسيوية وتجربة ألمانيا النازية بين الحربين العالمية الآولي والثانية والتي تمت وأتت بنتاءج باهرة مع عدم التعامل بالربا فيها.وفي هذا الصدد يمكن أن يتم تحديد مسبق لشكل النظام الاقتصادي المرغوب فيه ومرتكزاته النظرية والعملية بصفة عامة .

إن الإسلام هو دين الفطرة ، وهذه الفطرة يشترك فيها المسلمون وغير المسلمين . وما توصل إليه الأوربيون من نظريات غير منفصل عن الفطرة وإن كان فيها أيضا ما يخالفها. ومطلب أن يكون للمسلمين نظرية أو نظريات في الاقتصاد لا يدعو إليه الرغبة أن يكونوا مختلفين عن غير المسلمين . فما توصل إليه غير المسلمين هو علم ومعرفـة ملك للإنســانية كلها مهما اختلفت أديانها وأعراقها. وقد بني المسلمون علومهـم وقت ازدهار حضارتهم علـى مـا وجدوه من تراث غير المسلمين وما يتبعـونه من نظـم . واستفاد الأوربيـون ممـا ترجموه من تراث المسلمين إلى لغـاتهم وأقاموا عليه نهضتهم العلمية فى القرن السادس عشر الميلادي ، وإن أنكروا ذلك وتنكروا لفضل علوم المسلمين عليهم بعد ذلك. المشكلة في الاقتصاد الغربي بأن فيه فعلا ما يتفق مع المبادئ الإسلامية وفيه ما يخالفها . والحاجة الى نظام اقتصادي للمسلمين ونظرية اقتصادية تتفق مع عقيدتهم هو الذي يجب أن يحول دون تطبيق النظريات الاقتصادية الغربية على ماهي عليه . والسبب الثاني أن تلك النطريات التـي خرجت مـن أوروبـا كانت تنظر لواقع الاقتصاد الغربي وتطـوره من المركتلية إلى الثورة الزراعية فالصناعية ثم أخيرا الثـورة الأليكترونيـة أوالمعرفيـة والتي انتهت إلى ما يعرف حاليا بالعولمة. بينما المجتمعات المسلمة المتخلفة لم تعرف اقتصادياتها بعد هذه الصيرورةا التاريخية ومازالت في واقع الأمر أقتصاديات مشوهة ومتعثرة ومتخلفة وتعتمد على الريع وليبس الإنتاج في معظمها.
.
إن نظام الفائدة الربوية يعتبر آلية هامة في ضبط أسواق رأس المال ومعالجة ظاهرة التضخم بكفاءة بينما الربا محرم في تعاملات المسلمين ، ويمحق الله الربا ويربي الصـدقات. ولقد استطاع هتلر أن يقيم طفرة اقتصـادية هائلة لبلاده في سنوات معدودة في نظام اقتصادي لا يعتمد على الربا. ولم يهتم علمـاء الاقتـصاد المسلمين كيف حقق أدولف هتلز تلك المعجـزة الاقتصادية خلال سنوات معدودة قبيل الحرب العالمية الثانية التي شنها على أوروبا. ولايمنع الأخذ بتلك التجربة سوء سمعة ألمانيا النازية . كما تتعدد أنظمة الملكية في الاقتساد الإسرائيلي ولم يمنع ذلك من تحقيق النجاعة والازدهار له.

ويدحض السّيّـد محمّـد باقر الصّدر إالتبريرات التي يقدمهـا عادة الذين يقبلون التعامل بالربا في كتـابه "اقتصادنا"، فيقول:
1 ـ إنّ عنصر المخاطرة خطأ من الأساس في نظر الإسلام، لأنّه لا يعتبر المخاطرة أساساً مشروعاً للكسب, إنّما يربط الكسب بالعمل المباشر أو المختزن.
2 ـ أمّا أنّ الفائدة تعويض عن حرمان المرابي من الإنتفاع بماله, فالإسلام لا يعترف بالكسب تحت اسم الأجر أو المكافأة, ولكن على أساس العمل المباشر أو المختزن.
3 ـ الإسلام قد أقرّ بحقّ الرّأسمالي في شيء من الأرباح الّتي جناها المقترض نتيجة استخدامه لمال المقرض, ولكن على أساس اشتراك صاحب المال والعامل في الأرباح، وربط حقّ الرّأسمالي بنتائج العمليّة الإقتصاديّة.
4 ـ وبشأن قولهم أنّ الفائدة هي فرق السّعر بين الماضي والحاضر، فالإسلام لا يقرّ كسباً لا يبرره إنفاق عمل مباشر أو مختزن. والفائدة هنا هي نتيجة عامل الزّمن وحده دون عمل، لذلك منع الإسلام الرّأسمالي من استغلال الزّمن في الحصول على كسب ربوي.
5 ـ لمـاذا أجاز الإسلام لمـالك العقار أو الأداةأن يأخذ كسباً أو أجراً مضموناً دون عناء, ولم يجز للرّأسمالي أن يأخذ أجر إقراضه للمال؟, الجواب: العقار أو أداة الإنتاج هي عبارة عن مختزن لعمل سابق، وللمالك الحقّ في استهلاك قسط منه خلال استخدامه للأداة أو في عمليّة الإنتاج الّتي يباشرها. فالأجرة هي عبارة عن أجرة لعمل سابق، وبالتّالي هي كسب مضمون، يقوم على أساس عمل منفق, أمّا الفائدة فهي كسب غير مشروع, لأنّ من يقترض كميّة من المال, سوف يعيد هذه الكميّة كما هي لا تنقص شيئاً ـ بل العكس ـ تزيد بمقدار الرّبا، وبالتّالي تكون هذه الزّيادة غير مشروعة، لأنّها لم تكن عن عمل مباشر أو مختزن.

وهناك سبب ثان يكشف عنه وضع دول المسلين حاليا يثبت عجزها عن تطبيق التكافل الإسلامي .ومتطلباته وتأمين موارده المالية . وتزداد عجزا يوما بعد يوم عن تقديم الخدمات الضرورية للسكان من تعليم وصحة وتشغيل للكفاءات والقوى العاملة المعطلة ، وهي تحصل على ضرائب دخل تزيد عن 35في المائة بالإضافة إلى الضرائب غير المباشرة العديدة ، فكيف ستحل المشكلة ومأزقها في الاقتصاد لو افترضنا بأنها اتبعت السبيل الإسلامي واعتمدت على زكاة تتراوح قيمتها بين 2.5 و 10 في المائة هذا لو وثق فيها المسلمون من رعاياها وأئتمنوها عليها. النظام الرأسمالي الذي تتبعه إذن ، إذا كانت ما تتبعه نظاما أصلا ، ونظرياته في الاقتصاد التي تتبعها لن يمكنها من تحقيق أي تقـدم .. وعليها إذن البحث عن بديل له.تطبق فيه حزمة القيم الإسلامية الاقتصادية المترابطة كاملة. ولا يعني هذا عدم الاستفادة من تطبيقات الفكر الأوروبي في الاقتصـاد بشقيه الرأسمالي والاشتراكي بعد أن أصبحا من تراث الفكر الإنساني. ولا يمكن تجاهلهـا في ظل قانون تفاعل الحضارات. ولكن لايوجد ما يلزم بتطبيقها حرفيا في واقع حال يختلف عن واقع المسلمين حاليا ومع ارتباط المسلمين أيضا بقيم دينية لا تلتزم بها أوربوبا. فتطبيق القيم الإسلامية في اقتصاد المسلمين ، والتوصل إلى نظرية أو مبادئ نظرية تتفق مع المبادئ الإسلامية يعد السبيل الأمثل الملتزم بالعقيدة والمقبـول من الشعب المسلم للتنمية وتحقق العدالة الاجتماعية .ولم يتم تجربته بعد ، أو السير فيه .

إن زيادة ثروة الفقراء دون إنقاص ثروة الأعنياء ممكن نظريا وغمليا كما يقول بذلك عالم الاقتصاد باريتو. ومن وجهة نظر الإسلام فإن اقتطاع 2.5 في المائة من أرباح الأغنياء وردها إلى الفقراء على هيئة زكاة سيزيد من ثروة الأغنياء . وتفسير ذلك إقتصاديا وليس دينيا فقط ، هو أنه سيزيد من عدد المستهلكين لانتاج الأغنياء فتزداد استثماراتهم وإنتاجهم وأرباحهم . وقد يدفع هذا بعضهم لا ستهلاك معظم أرباحهم خلال السنة في استثمارات جديدة تزيد من تراكم ثروتهم مما يقلل الزكاة عما تبقي من ربح، وذلك لن يؤثر على حظوظ الفقراء لأنه سيفتح فرص لتشعيلهم وزيادة مواردهم المالية من العمل فلا يحتاجون لمال الزكاة.

عندما قامت دول بتصفية الإقطاع بوسائل مباشرة أو غير مباشرة ، وقامت بإعادة توزيع الأراضي الزراعية على صغار الفلاحين بما يعرف بالإصلاح الزراعي لم تتبع هذا السبيل بدافع من قيم دينية أو أخلاقية ،وإنما لاعتبارات اقتصادية محضة . ولم تنقص ثروات كبار ملاك الأراضي وإنما زادت . حيث وجهوا ما حصلوا عليه من تعويضات أو من بيع أراضيهم للاستثمار في الصناعة والتجارة والخدمات وهي قطاعات عادت عليهم بأرباح أكبر مما كانوا يحصلون عليه من إقطاعياتهم السابقة. ومن سلالتهم المليونيرات والملياردات في الدول الرأسماية حاليا. وحصلوا مع زيـادة ثرواتهم شيئ أخر لا يقاس بالمال وهو الأمان. إن أكثر ما يدفع الأعنياء في دول المسلمين لتهريب أموالهم خارج بلادهم هو الخوف على ثرواتهـم من يوم يثور فيه الجياع عليهم ، ويستولون عليها.

عندمـا تتحقق عدالة في التوزيع ، وينتقل الفقراء من الفقر إلي الغني ستحقق مع هذا التحول الأمان للأثرياء في المجتمع ، ولن يهربوا أموالهم وإنما سيستثمرونها في بلادهم لأنها الأكثر أمانا . فهي أيضا معرضة للتآكل بسبب تقلبات أسعار العملة الخارجية أو لجوء الدول التي يحتفظون فيها بأموالهم إلى مصـادرتها بصفتها أموال جمعت بطرق غير مشروعة.

ولسد الدريعة على من يتعلل بالقول بأنه طالما لا يوجد نظام اقتصادي إسلامي يتضمن ألياته الحاكمة والضابطة والمحركـة له ، ويعتمد على نظرية علمية مكتمـلة واضحة المعـالم ، فإنه لايمكن تنفيذ المبادئ والقيم الإسلامية، فإنني سأضطر أن أتجرأ على تقديم مشروع نطرية ونظام عملي متضمنا ألياته المتفقـة مـع العقـيدة والشرع والمستلهمة منهما ، وبحيث تكون النطرية والنظام التابع لها أو الملحـق بها قابلان للآضافة والتعديل والتصويب والتطويـر من أولي العلم، إن صدقت وخلصـت نواياهم في خدمة أمتهم . ولكي لايكون لهم أو لسواهم بعد ذلك عذرا . وهذه النظرية تعتمد على مفهوم وفلسفة العائلة الممتدة ومبدأ الإخلال الإيحابي بالتوازنات . ولا أدعي بذلك سبق علم أو حكمة ، ولكن أجتهد في حدود قدراتي الفكرية والعلمية المتواضعة ،فاتحا بذلك الباب لمن زادهم الله بسطة في العلم والحكمة ،لإكمال ما بدأت أو تقديم بديل أفضل منه وأقرب رشدا. والعبرة أولا وأخيرا للتطبيق العملي وما يسفر عنه من نتائج إيجابية بإذن الله والتي أدع الله أن تكون خيرا.

أعادة بناء الاقتصاد في معزل عن الدولة:
يمكـن أيضـا لمجتمع المسلميـن أن يعيد بناء الاقتصــاد دون الاعتماد على الدولة ودون المساس بثروات الأعنياء فيهـا وبصـرف النظر عن مصـادر ثرواتـهم ومشروعيتها. فالإحسان ، والعمل الاقتصـادي قوامه ومجاله ، تبلغ خصـة الدولة منه 20 في المائة فقط على النحو السابق الإشارة إليه. وهي نسبة يمكن الاستغناء عنها. وجموع الشعب عندما تقيم اقتصـادها فإنها ستستفيد أيضا من بقاء ثرواات الأغنياء في أيديهم ، ليس فقط لضمان عدم تعويقهم لمخططاات المجتمع المسلم ، وإنما لأنهم لن يكونوا مستثنيين من المشاركة مع باقي المجتمع ، ومن إحساسهم بالأمان في بلدهم ، سيدعمون قدر استطـاعتهم الجهود المجتمعية في التنمية الشاملة ، بكل ما لديهم من أموال ، ليس حبا في الشعب ، وإنما لأن ذلك سيزيد من ثرواتهم ، ويعزز مكانتهم في المجتمع. وحرصهم على الإمساك بالسلطة السياسية لحماية ممتلكاتهم ، وبالتالي إفسادها سيكون أقل . وهذا سيتيح تطبيق الديموفراطية السياسية . ولقد اضطر العسـكر الوطنيون الذين أقاموا الاقتصاد الكوري أن يتخلوا عن سيطرتهم على نظام الحكـم في بلادهم ويطبقـون فيها الديموقراطيـة . لم تجبرهم قوة خارجية ولا ثورة شعبية . وإنما أجبـرهم عـلى ذلـك تطور النظام الاقتصادي الذي استوجب تطورا سياسيا مماثلا حتي يكتب له الاستمرار. ومن قبل ذلك إضطر الجنزال فرانكـو فـي آخـر حيـاته ألى وضع نهاية لنظامه الفاشي ويهيء البلاد لحكم ديموقراطي من بعده. فالإصلاح لسياسي يتبع دائما الإصلاح الاقتصادي وليس العكـس . وهذا مالم تفهمه الأحزاب السياسية في البلدان المسلمة ،ولم تستوعبه الأحزاب الدينية منها أيضا. فوضعوا العربة أمـام الحصان ، أي السياسة قبل الاقتصاد ، فما حققوا أهدافهم السياسية ولا أهدافهم الاقتصادية ،والتي ظلت في الواقع مجرد عبارات إنشائية في أدبياتهم .

ولذا -لا يجب أن يرتهن الإصلاح الاقتصادي على إنجاز إصلاح سياسي يختار فيه الشعب بكامل حريته ووعيه بمصالحه من يمثله لتولي مهـام الإدارة والتشريع والمراقبة والمحاسبة وضمان العدل وحقـوق الإنسان مـن المهام والسلطات التي تعبرعن إرادته الحرة وتحمي حقوقه وتحقق مصالح جموعه. رعم الأهمية الكبيرة لذلك . فمن بيدهم السلطة ونهبوا الدولة في ظلها وإرتكبوا جرائم ضد الإنسانية في بلادهم لن يتخلوا عن السلطة لكي يأتي من بعدهم من يحاكمهم أو يصادر أموالهم. والانقلابات العسكرية بالتجربة لم يأت من ورائها خير،. كما لا يولد العنف سوى العنف والتجرية الجزائرية أو ما يعرف فيها بالعشرية الدموية التي قتل فيها قرابة المائتي ألف جزائري أو يزيد شاهدة على ذلك . فلا يوجد إذن سوى الحلول السلمية .ومن هذه الحلول تنمية اقتصادية يتم فيها تعبئة الشعب كله ضمن مؤسسات اقتصادية مملوكة له وتعود بالنفع الشخصي والعام عليه , وهذه التنمية الاقتصادية هي التي ستقود حتما للإصلاح السياسي والانتقال السلمي والسلس للسلطة.

ولم يفلح الحالمون بتحقيق الإصلاح السياسي لا من داخل الدولة ولا من خارجها ولم يجنوا سواء من قبول المشاركة في الحكم أو في معارضته سوى أهدار الوقت والجهد والمال عبثا. ويجب أن تشمل جهود الإصلاح الاقتصادي النهوض بأوضاع التعليم والإعلام ونشر المعرفة والتقنيات وتغيير القيم والسلوكيات الرديئة التي لايقلها الدين ، وأن يتحمل المجتمع مسؤوليته في هذه المجالات أيضـا، وأن تتم المشاركة فيها من قبل المجتمع جميع أفراد المجتمع ، ذكورا وإناثا ، من الميسوري الحال ومن هم دون ذلك ، ولا يستثني من ذلك أحد مستعد أن يشارك في الجهد الجماعي لتحقيق نهضه ونقله نوعية للمجتمع.

أهمية القيم الدينية في تحفيز الاقتصاد:
إن استلهام المبادئ والقيم الدينية في تصميم وتحريك الاقتصاد وإعطائه شخصية مميـزة له ضمن الرأسمـالية العالمية سبقت أليه اليابـان، واعتمـدت أيضـا فيـه على فلسفة العائلة في تنظيم الانتاج الجماعي ، وعندما نلجأ لمعتقدنا الديني نستلهم منه هو الآخر ذلك فاننا لا نبتدع ولا نأتي بجديد في الواقع ، وأنما ننبه إلى مـا كنا عنه من قبل غافلين . وقد أقر فوكويامـا مؤخرا في كتابه الأخيرقبل وفاته “ الفضائل الاجتماعية في خلق الرخاء”، 'فيما نقله عنه محمد صبحي الحديدي في مقال له، "بدور البوذية اليابانية في بلورة شخصية خاصة للاقتصاد الياباني، وتحليل أخلاقيات التنافس الحرّ على نحو لا يختلف جوهرياً عن دور الطهوريين (البيوريتانيين) الأوروبيين في تأمين الغطاء الديني العقائدي للتجارة والاستثمار والأرباح..وأن الإزدهار الاقتصادي الياباني نهض أساساً على ميل عقيدة “الـزن” إلى تحقيق الكمال في كل شـيء، من الفروسية وقتال السيف والرماية إلى النجارة والحدادة والحياكة. ويحيلنا فوكويـاما إلى فيلم “أكيرا كيروساوا “'الساموراي السبعة' ومشهد الظفر الذي يحققه محارب الـ “'زن'”حـين يعـاجل خصمه بضربة خاطفة قاضية بعـد نوبة تأمل روحي، ويقول: 'هذا الهـوس بالكمال،والـذي كـان حاسمـاً في توطيد الصناعة اليابانية،يعـود إلى جذوردينية وليس اقتصادية'.

أكثر من ذلك، يختم فوكوياما كتابه بفصـل يحمل العنوان التالي:”رَوْحنة الحياة الاقتصادية”، يشير فيه إلـى أن الدولة الليبرالية هي دولـة محـدودة بالضرورة لأنها تنهض على حرية الأفراد. ولكن السوق يمكن أن يتحوّل إلى ميدان أولّ للتعاضد الاجتماعي، وإلى منتج أكبر لرأس المال الاجتماعي، بحيث يردّ قيمه وأخلاقياته إلى الدولة بدل أن تفرض هذه مركزيتها وشرائعها وقوانينها. وفي وسع السوق أن يقتدي بضربة الساموراي، شريطة أن يمتلك قدرة هذا الأخير على التأمّل والغوص في قرار الروح. »ويختم فوكوياما كتابه بفصـل يحمل العنوان التالي: “رَوْحنة الحياة الاقتصادية'، يشير فيه إلى أن الدولة الليبرالية هي دولة محدودة بالضرورة لأنها تنهض على حرية الأفراد. ولكن السوق يمكن أن يتحوّل إلى ميدان أولّ للتعاضد الاجتماعي، وإلى منتج أكبر لرأس المال الاجتماعي، بحيث يردّ قيمه وأخلاقياته إلى الدولة بدل أن تفرض هذه مركزيتها وشرائعها وقوانينها. وفي وسع السوق أن يقتدي بضربة الساموراي، شريطة أن يمتلك قدرة هذا الأخير على التأمّل والغوص في قرار الروح." ويقول ايضا في كتابه: لا يغرنّكم هذا الاقتصاد، لأنه يضرب بجذوره عميقاً في الحياة الاجتماعية، ولا يمكن فهمه على نحو منفصل عن مسائل تنظيم ـ أو سوء تنظيم ـ المجتمعات الحديثة لنفسها. ههنا الحلبة الحقيقية للصراع، واليد العليا في صناعة المجتمع الاقتصادي هي يد الثقافة الاجتماعية (أو الاجتماع الثقافي) التي يمكن أن تطلق أو تكبّل الأيادي الأخرى مهما بلغ جبروتها العملي أو الحسابي أو التقني.

مفهوم التعاضد الاجتماعي مركزي في هذا المعمار النظري، وفوكوياما يقسمه إلى ثلاثة سُبُل: العائلة والقرابة، والترابط الطوعي خارج مختلف أنماط القرابات (أواصر الدم والحزب والمنظمة والمعمل والمؤسسة)، والدولة. هنالك، بعدئذ، ثلاثة أشكال من التنظيم الاقتصادي تتلاءم مع كل سبيل: الاقتصاد العائلي، الشركة المحترفة، والمؤسسة المملوكة من الدولة. السبيلان الأول والثالث مقترنان إلى حدّ كبير، وهما ينتجان ثقافة عائلية ـ قرابية تتعثّر كثيراً في صناعة الرخاء، وتتطلع موضوعياً إلى الدولة، وترتهن بها وبإدارتها المركزية. وأما السبيل الثاني فهو الذي ينتج ثقافة الإشتراك التلقائي والحرّ الذي يستغني عن الدولة، ويصنع الرخاء في سياق استقلاليته وحريته.

كتب الإقتصـادي الياباني يوشيهارا كيونيو "إن أحد أسباب تطور اليابان هو أنها تملك ثقافة مناسبة لذلك. فلقد علق اليابانيون أهمية على (1) المسـاعي المادية؛ (2) العمل الجاد؛ (3) الادخار للمستقبل؛ (4) الاستثمار في التعليم؛ و(5) قيم المجتمع."

وكان للكالفينية البروتوستانتيه عند ماكس فيبر دورا ذا تأثير فوي على الرأسمالية الغربية لأنها تحـولت إلـى دوافـع نفسية قوية حركـت حملـة هذه العقيـدة باتجـاه سلـوك اجتماعي (حضاري) معين.توكانت بمثابة مدونة للسلوكيات والقواعد لعامة لأخلاقيات، العمل الشاق ، والانضباط ، ، والفردانيه.وأيده في ذلك المؤرخ ريتشارد تاوني. في وجود علاقة وثيقة بين البروتستانتية واخلاقيات صعود الراسماليه.والكالڤينيّة مذهب مسيحي بروتستانتي أسسه رجل الدين الفرنسـي جون كالفن، وكان هذا الأخير قد وضع بين عامي 1536م و 1559م مـؤلفه (مبادئ الإيمان المسيحي) والذي يعتبره الكثيرين من أهم ما كتب في الحركة البروتستانتية.وانتشرت الكالفينية في القرن السابع عـشر في جميع أنحاء أوربا، و بين المستوطنين البيض في أمريكا الشمالية، خرج من المذهب الكالفيني مذاهب وكنائس عدة من أبرزها المذهب الطهوري ، والذي أسسه الإنكليز الخارجين عن الكنيسـة الأنغليكانية والذين استوطنوا في القارة الأمريكية.ووفقا لرأي ماكس فيبر فقد لعبت الكالفينية دورا هاماً في ظهور العقلية الرأسمالية في أوربا، وذلك لقولها بأن النجاح على الصعيد المادي هو دلالة على نعمة إلهية واختيار مسبق للخلاص.

ويقول لورانس إي . هاريسون :"وبشكل أعم، فإن تحليل الأديان يشير إلى أن أداء المجتمعات التي تعتنـق الديـانات البروتستـانتية واليهـودية والكونفشيوسية أفضـل مـن أداء المجتمعات الكاثوليكية والمسيحية الأورثوذكسية لأنها تشترك في أنماط القيم الخاصة بالسلوك الإقتصادي الذي يميل إلى التقدم، في حين أن الأديان المتباطئة تميل نحو القيم المقاومة للتقدم. ويرمز التناقض المستمر للكنيسة الكاثوليكية نحو اقتصاد السوق إلى هذا الإنقسام، وهي قضية تم تأكيدها من قبل مايكل نوفاك في كتابه: الأخلاق الكاثوليكية وروح الرأسمالية. ولكن الدين ليس هو المصدر الوحيد للسلوك الاقتصادي الذي يميل إلى التقدم: فأهل الباسك شديدو التمسك بالكاثوليكية وناجحـون في الأعمال التجارية الريادية؛ وكذلـك الأمـر بالنسبة إلى تشيلي التي تتفاخر بأن لديها أنجح أداء إقتصادي مستدام في أمريكا اللاتينية، فهـي شديدة التمسك بالكاثوليكية وهي الدولة التي بها أكبر نسبة من السكان الذين ينحدرون عن الباسك في أمريكا اللاتينية.(...) تشترك الدول "الكونفشيوسية" (وبشكل أكثر دقة، الدول التي تأثرت بشكل كبير بالثقافة الصينية،التى تشمل بالإضافة إلى الكونفيوشية كلا من التاوية والبوذية وعبادات الأسلاف القديمة) جوهريا في الثقافة العالمية للتقدم: فالتعليم والإنجاز وأخلاقيات العمل والجدارة والتدبير كلها موضع تقدير واحترام في مجتمعات شرق آسيا. (...) بقياس العشرة مؤشرات من مؤشرات التنمية السياسية والإقتصادية والإجتماعية، بدءا من مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية إلى القيم العالمية لمسح البيانات حول الثقة، يتبين أن دول الشمال هي بطلة التقدم. إن جميع دول الشمال الخمسة، فنلندا والسويد والنرويج والدنمارك وآيسلندا، ذات خلفية لوثرية، وإن كان القلة، في يومنا هذا، هم من الملتزمين بالذهاب إلى الكنيسة.

إن اللوثرية هـي مصـدر الكثير من المنظومة القيمية لدول الشمال والتي أنتجت مستويات تعليمية عالية وبرامج رعاية شاملة ومنتشرة وجودة أعمال مرتفعة متمثلة في نوكيا الفنلندية وفولفو وساب وآيكيا السويدية. ويبدو التوافق بين الكفاءة الإقتصادية والإنفاق الإجتماعي في سياق دول الشمال من خلال تقديرات عام 2006 للمنتدى الإقتصادي العالمي ولقد دونت مجلة الإيكونوميست مؤخرا، "إن ارتفاع الضرائب وشبكات الأمان السخية للرعاية لا تُقوض الاقتصادات المنافسة... إن الاقتصادات الإسكندنافية تقع في مرتبات عليا..." (احتلت السويد المرتبة الثانية في العالم).يُشير النجاح الإقتصادي لمجتمعات دول الشمال، والمجتمعات البروتستانتية بشكل عام، بقوة إلى أن تركيز ويبر على "التوتر" الكالفيني كان ضيقا جدا (لأنه أنكر تأثير الثقافة ألأـسـيوية)وأن المزايا البروتستانتية حول التعليم والإنجاز وأخلاقيات العمل والجدارة والتدبير والأمانة―ثقافة تقدم عالمية―هي القوة الحقيقية وراء روح الرأسمالية. (...)الثقافة أمر هام في التنمية الإقتصادية، ويتوجب على الحكومــات ومؤسسات العون الإنمائية ومجامع الفكر والجامعات مواجهة الثقافة والتغير الثقافي. إن دمج التحليــــل الثقافي والتغـــير الثقافي في مزيج عوامل تصمــيم السياســــات والمشاريع قد يؤدي إلى تسريع وتيرة التنمية الإقتصادية"
ودييننا الإسلامي والحمد لله لديه ما يماثل ما في تلك الثقافات الكونفوشيوسية والبروتوستانتية وفيه أيضا ما هو أفضل منها ، وكل ما نحتاجه هو ثقافة دينية حديثة ومستنيرة وتأصيل للقيم والعمل بتلك الثقافة.

ديمومة التكافل:
التكـافل لـيس نظـام مرحلي انتقالي ينتهي بتحقيق هدفه بتأمين حد الكفاية للفقراء. وإنما هو نظام اقتصـادي دائـم ومستمر. إذ أن التكافل لايقف عند حدود تلك المرحلة الأولي ،وإنما يعني تضامن المجتمع في عمله الجماعي للإنتقال مـن الكفـاف إلـى الكفـاية ومنها إلى سد الحاجيات ومنها إلى التحسينيات ثم إلى الطيبات وحتى الوصول بالمجتمع إلى مرحلة الرفاه وهي شيئ غير الترف الفاسد والمفـسد.والرفاة لاحدود له . ومع التزايد السكاني ستكون الحاجة ماسة للتنمية الأفقية بتوسيع نطاق الأراضـي الزراعية لإطعام الوافدين الجدد ومواصلة تحقيق الأمن الغذائي للمجتمع. وهذا الطريق الطويل يجعله دائما. وحتي لو تم الوصول بكافة المجمع إلى تلك المرحلة الأخيرة ،فإن الاحتفاظ بها هو عمل للتكافل قـد يكون أشق مـن تحصيلها. والتكافل لا ينحصر في الزكـاة وحتي لوكـان كذلك فمصارف الزكاة لا تتوقف عند مساعدة الفقراء والمسـاكين ، وانما تتعدد مصارفها لتشمل العاملين عليها والمؤلفة قلـوبهم وهـو مصرف يمكـن إنفـاق أموال الزكاة فيه على أبناء الدول الإسلامية والأقليات الإسلامية التي تتعرض لضغوط مؤسسات التبشير المسيحية لتنصيرهم بما يعينـهم على الثبات على دينهم ، ومصرف تحرير الرقاب يمكن أن يصرف على تحرير الفقراء من الفقر والذي لا تقل مرارته عن العبودية حتي وإن كانوا غير مسلمين. وهناك مصرف في سبيل الله وهو لا حدود لمـداه ،ويمكن إنفاقه على متطلبات الدفاع والدعوة الإسلامية ومساعدة الدول الأخرى على التنمية وفتـح أسـواقها وأسواقنا لتبادل تجـاري نشطاوتعاونـا اقتصاديا يعـود بالنفع على الجانبين., وهناك مصرف إبن السبيل والذى يمكن إنفاقه على المهاجرين والفارين من الاضطهاد والاستبداد والظلم . وما يترفرمن مصرف يمكن إنفاقه على المصرف الذي يليه . وما يفيض عن مجتمعاتنا المسلمة يمكن إنفاقه في نقس مصرفه على المحتاجين للعون من أقرب جيران الأمة المسلمة ،حتي ولولم يكونوا من المسلمين . أي أنه عندما يحقق التكافل أهدافه محليا يمكن توسيع نطاقة لكي يصير عالميا. ولا يعني عطاء التكافل الامتناع عن العمل والتكاسل عنه، وبالتالي تراجع الانتاج أو جمود التنمية . إذا أن العطاء ليس كله نقديا .وإنما هو رؤوس أموال عينية لزيادة الامكانيات والقدرات الإنتاجية ، ويختلف التكافل في ذلك عن أنظمة التضامن الاجتماعـي , وقد يأخذ التكافل شكل إفامة مصنع يعمل فيه الفقراء فإن توقفوا عـن العمـل عادوا إلى الفقر ولم يجـدوا من يهتم بأمرهم. وما يحصلون عليه من أجور وأرباح من شأنها أن تحفزهم على زيادة الإنتاج ،وليس التقصير فيه. فالتكافل لا يتم بذي مرة، أي ذي قوة ،يأبي العمل حتي لو مات جوعا. وكل نفس بما كسبت رهينة ، وإنما يهتم بمن يريد إعانته على العمل والإنتاج.

والحـد الأقصـي للرفـاهية الذي لايجـوز تجـاوزه هو حد الترف المفسد لللأفـراد والمجتمعـات . والمترفون مثلهم مثل السفاء وقال تعالي: “ولاتؤتوا السفهاء أموالكم”. والترف يخرج الإنسان من الإيمان والتقوى ومخافة الله إلى الفسوق والعصيان والتسلط والطغيان. والرفاهية في الإسلام وليس الترف وإنما هي التمتع بزينة الحياة الدنيا ، هذه الزينة التي جعلها الله للمتقين في الدنيا والاخرة. وقد يشاركهم فيها غير المتقين في الدنيا ،ولكنهم في الآخرة منها من المحرومين. وفي هذا المعني يقال إن أميـر المؤمنيـن علـى بـن أبـي طالب أرسل لواليه على مصر موعظة طلب منه أن يقرأها على المصريين يقول فيها:« إن المتقين حازوا عـاجل الخير وآجله،شاركـوا أهل الدنيـا في دنيـاهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم .أتاح الله لهم في الدنيا ما كفاهم به وأغناهم . قال الله عزوجل :« قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟.قل هي للدين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ، كذلك نفصل الآيات لقـوم يعلمـون “. سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت ، وأكلوها بأفضل بأفضل ما أكلت ، وشربوا من طيبات ما يشربون ،ولبسوا من أفضل ما يلبسون، وسكنوا من أقضل ما يسكنون. وركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا ،وهم غدا جيران الله.إن تقوى الله تعالي دواء قلوبكم ، وشفاء مرض أجسادكم ، وصلاح فساد صدوركم ، وطهور دنس نفوسكم . ومن أخذ بالتقوى غربت عنه الشدائد بعد دنوها. وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها.».

الزكاة على أموال الدولة:
وتجب الزكاة على أموال الدولة ،ولو أن الفقهاء قالوا بأن لازكاة على الدولة .لأن الدولة هي التي تأخذ الزكاة فكيف تدفعها ولمن؟. وهذا القول غير صحيح إلا إذا كان المقصـود منه إخراج الزكاة على ما يتجمع لديها من أموال الزكاة.. أمـا إذا كان المقصود منه سداد الزكاة على ممتلكات واستثمارات الدولـة فـإن عليهـا أن تخرج الزكـاة عليها مثل الأفـراد الطبيعيين المكلفين بها . وأن تنفقها على مصارفـها المـحددة له شرعا. ومال الزكـاة إن كانت هي الجامعه له ليس مالها ولامال المجتمع في عمومه ، لكي تنفقه على ما شاءت من أغراض. وإن كانت تأخذ الزكاة فيه، ليست حرة في التصرف فيه وإنما هي مقيدة بصرفه في مسارفه المحددة شرعا..وهو أمانة لديهـا استخلفت عليها ووجب عليها أن تؤديها لأصحاب الحق فيها. لأن استثماراتها لو كانت بيد القطاع الخاص لزادت من أموال الزكاة. والدولة الآن لم تعد هي الجـامعة لها ولو قام المجتمع بانتخاب هيئة من العلماء الأتقياء منه يكلفها بجمعها وأنفاقها في مصارفها تحت رقابته في كل منظقة ، وجب على الدولة أن تدفع الزكاة لتلك الهيئة على ممتلكاتها.. وبناء عليه ، فإن الدولة(وتعني الحكومة هنا ، منتخبة أو غير منتخبة) ملزمة أن تدفـع لصـندوق الزكـاة :خمس ايراداتها مما تستخرجه من ثروات من باطن الأرض من بتـرول وغـاز ومعادن وخمس ما تستخرجه لحسابها من البحار و2٫5في المائة من صافي أرباح استثماراتهـا ممـا لم يتم إنفاقه واستثماره خلال العام ، أي فائض الميزانية أو رصيد النقد الأجنبي لديها.أو الرصيد من المسبوكات الذهبية إن وجدت. وأي عقد تعقده مع شخص طبيعي أو معنوى ، محلى أو أجنبي للتعدين والصيد البحرى يفوت على صندوق الزكاة حقوقه يعد باطلا. فلآزكاة على زكاةولكن الزكاة على الاستثمارات والممتلكات والأموال غير أموال الزكاة واجبه على كل حائر لها.ووجوبها على القطاع العام مثل وجوبها على القطاع الخاص لكي تتحقق المنافسة العادلة بينهما في الأسواق. وإن امتنعت الدولة عن دفع الزكاة وتخصيصها للمضارف المحددة لها فيه آثمة .

فائض القيمة وتكوين الثروة :
يمثل فائض القيمة هو مازاد في قيمة السلعة المنتجة من الأرض ، يابسها وبحارها، نتيجة العمل في انتاجها أو استخراجها أو تجهيزها ، وقد تنبه ابن خلدون لهذا الأمر ولكن لم يشر إليه سوى ببضعة كلمـات فـي مقدمته بينما كتب فيه كارل ماركس كتابا ضخما بعنوان : رأس المال كان سبب شهرته.وتزداد القيمة المضافة للمادة الأولية بعد تصنيعها أو الآتجار فيها ، ومن فائض القيمة تتكون ثروات الأمم . ولما كان المال مصدر من قوة الأمم وهيبتها بين الأمم ، وقال تعالي : ォ  وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم “ وهو أيضا ما يكفل تحقيق الرخاء للمجتمع والأمان من الفقر والحاجة ، ويساعد على بناء وسائل القوة الرادعة لأعداء الأمة ، فإن العمل على تكوين الثروات يعد مطلبا شرعيا بالنسبة للأمة المسلمة ، وهو ما حقق تقدم الأمم غير المسلمة فيما يعرف بالدول المتقدمة حاليا. وفي عالمنا المعاصر ، نجد دولتين حظر عليهما صنع الأسلحة وتكوين الجيوش وهما اليابان وألمانيا ، ومع ذلك استطاعتا أن تحتل كل منهما مكانة عظمي في منظقتها الجغرافية وعلى مستوى العالم بما تمكنا من تكوينه من ثروات وما أحرزاه من تقدم علمي واقتصادي واجتماعي..


القيم الإسلامية الحاكمة لاقتصاد المسلمين:

الوحدة والعدل :
القيم الإسلامية حزمة مترابطة ومتشابكة بحيث يتعذر تقسيمها أو تفرقتها وإلا كان ذلك بمثابة تعسف في التعامل معها وسيتضح ذلك من دراسة قيمتين أساسيتين هما الوحدة والعدل. ولقد شبه الرسول صلي الله عليه وسلم مجتمع المؤمنين كالجـسد الواحد في وحدته وحيويته ، وسبق أن أشرت إلى كيف يربط الإسلام ذائما بين الإنسان وفكره وسلوكه بالطبيعة ، والتي هي عنوان الفطرة، والإسلام هو دين الفطرة. وأنطلاقا من تشبيه المسلمين لمجتمع المؤمنين ، فإن نظام اجتماعهم سياسيا أو اقتصاديا يجب أن يكون موحدا مثل جسم الكائن الحي . وأقصر الحديث هنا عن الاجتماع الاقتصادي للمؤمنين ووحدة عضويته باعتبارها قيمه ما دية تلحق بالفيم الروحية التي يمثلها الإيمان وتكمله. ومن القيم الإيمانية التي أمر بها الله تعالي تبرز ، خاصة في عالم الاقتصـاد المتفق مع تعاليم الإسلام ، قيمة العدل. قال تعالي :«إن الله يأمركم بالعدل والاحسـان وإيتاء ذي الفربي وينهاكم عن الفحشاء والمنكروالبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون” .

ووفقا لمفهوم الوحدة العضوية في النظام الاقتصـادي يفترض أن تكون شائعة في النظام كله مثل انتشار الروح والنفس والدم في الجسد الحي. وبذلك يتم الجمع بين المادة والروح .
ومع سريان العدل في أوصال الجـسد الاقتصادى كقيمة روحية ، توجد أيضا قيمة مادية لها نفس الخاصية هي المال. والذي أميل في شأنه إلى تشبيه الطبيب الفرنسي كيسناء من فيزيوقراط القرن التاسع عشر له بالدم ، وشبه دورته فى الاقتصاد بالدورة الدموية التي يصل فيها الدم إلى جميع خلايا الجسم دون استثناء ، معبرة في وقت واحد عن وحدة الجـسم ومن عدالة التوزيع ، وتخزن في الكبد ، وأجزاء أخرى من الجسم ، فائض الموارد أو المدخرات لحين الحاجة إليها في الاستثمار أو الاستهلاك أو إعادة التوزيع ، وهو الدور المركزي الذي تقوم به وزارة المالية أو البنك المركزي أو الخزانة العامة أو بيت المال.

والعلاقة بين التوحيد والعدل علاقة جدلية . فالإنسان لا يوحد الله إلا إذا كان عادلا مع الله ، فلا بد أن يوحده ولا يتخذ له شريكا في الملك ، أو يجعل من غير الله وليا أو نصيرا . فلا توحيد إذن بلا عدل ولا عدل بدون توحيـد، وفي المقولة الشائعة :« العدل أساس الملك” والتي تعني أن الملك لا يقوم بدو العدل .أو لا يكتسب قيمته ومشروعيته ودوامه وسلامته وأمنه بدون العدل ، فإن العدل في ذات الوقت الذي يحفظ الملك ، يحفظ دولة تعبر في المفهوم الإسلامي وحدة الشعب والحكومة الممثلة له والتي اختارها بإرادته الحرة . فإن كانت مفروضة عليـه ولا حيلة له في قيامها وعزلها ، كان ذلك مناقضا للعدل وضرورته . فالحكومة القائمة على الشورى أو الديمقراطية والتي يختارها الشعب لتسيير أموره ورعاية مصالحه الموحدة أو العامة أو الجماعية ، تعبر عن وحدة المصالح وبالتالي عن توحدها مع الشعب.

والوحدة لا يحفظها ويبقي عليها سوى قدرتها على تحقيق وصيانة المصالح المادية الجماعية التي كانت سببا في اللجوء اليها ، وهي أيضـا سبب التمسـك بها. قإن لم تتحقق منها منافع مادية عامة تعود على المجتمع كله بالخير لم يكن ثمة داع لقيامها. وهذه المصـالح لا يمكن تحقيقها بغير معرفة وعلم بما هو نـافع وعــادل والعدل يصـونه يقيمه ويصونه ويحميه التقوى . ولذا فإن الوجدة والعلم ، والتقوى والعدل كلاهما وجهان لعملة واجدة هي الاقتصاد العادل.
ولذا قال أبي يرحمه الله :
يسـعد الكون بالهـداة ويشـقي * بدعاة الضلال والظغيـــان
وحياة المصلحين فيه شباب * للمعــألي وعزة للأمــــاني
إنما تعمر البــــلاد بملك * فيـه للعلم والتقي جانبـــــــان
والرزايا وإن كـثرن ففيها * لأخي العقل والتقي مخرجان
فلا يكفي القول بأن الانسان اجتماعي بفطرته ، وأنه الوحدة مطلب غريزى . أو حتي التدليل على الحاجة إليها لكي تقوم لها قائمة ، مالم تنبع الحاجة إليها من المعرفة الصحيحة بها ، أي بالعلم ، الذي يؤسس الإيمان ، وأن يتبع الايمان العمل الصـالح أو الايمان ، ومن أولويات هذا العمل هو إزالة معوقات الوحدة . ظلت الشعوب العربية والمغاربية والأفريقية تتحدث عن الوحدة لعدة عقود سبقت وتلت استقلالها ، ومع ذلك لم تحقق أي مجموعة منها الوحدة . بل ازدادت القطرية والانقسامية تحذرا . لم تفلح الناصرية في تحقيق الوحدة العربية ولم ينجح قوامي نكروما في تحقيق الوحدة ولو على مستوى أفريقيا الغربية ولم تفلح الثورة الجزائرية في إقامة الوحدة المغاربية.
ومع امتناع الوحدة امتنع العدل أيضا في كل دول تلك المجموعات القومية أو الإقليمية.
فالذين دعوا للوحدة لم يدركوا بأنه من المستحيل تحققها بشعوب تعاني من الجهل والظلم . وأنه بدون إشاعة المعرفة في الشعوب المظلوب وحدتها وإشاعة العدل أيضا في حكمها لا يمكن لها أن تتحقق. ولا يقيم الوحدة تكرار الحديث عن وحدة اللغة والدين والجغرافيا والتاريخ والمصالح والمصير.ولو كان لدي هؤلاء الدعاة ما يكفي من العلم والتقوى لقادهم العلم والتقوى إلى العدل ، ولقدم العلم والعدل دفعة قوية نحو التوحد. أو لقادهم العلم إلى التقوى والتقوى إلى العدل والعدل إلى الوحدة .
ولذا على النخبة المؤمنة بضرورة الوحدة لكي يخرجونها من دائرة المستحيل إلى دائرة الممكن ، عليهم أن يكفوا عن مطالبة النخب السياسية االحاكمة عنها ، أو عقد الآمال على استجابتها لها . وإنما عليهم بحث سبل لم تطرق من قبل . وهذه السبل هي الاعتماد على الشعوب بعد تزويدها بالعلم والمعرفة ، ولن تتمكن هذه الشعوب من تحصيل العلوم والصبر عليه مالم تزدهر أوضاعها المعيشية ، وأن يمنحها العلم والمال قوة معنوية تمكنهم من إقامة حكومات عادلة . وعدل هذه الحكومات هو الذي يمكنها من قيادة الشعوب نحو تحقيق الوحدة الإقليمية . والتي لا يدفع إليها عوامل عاطفية ، أو وحدة اللغة أو الدين أو ما شابه ذلك وإنما القناعة بأنها ضرورية لتحقيق أقتصاد قوي وظروف معيشة أفضل للشعوب ومنافع مباشرة عليهم وتحقيق بالتالي عزتهم القومية.

الوحـدة في الاقتصــاد :
إن التكافل يحمل في لفظه ومعناه بين التزام الكافل ومنفعة المكفول ، وتعبر عنه الآية الكريمة : «ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم “(آل عمران :44) ومعني الكفالة هو ضم المكفول إلى الكافل ، والضم هو جمع الشيئ الى بعضه , وليست الوحدة سوى ذلك . إذ هي ضم الأجزاء المتماثلة في كيان واحد يجمعها .وقوة المجموع أكبر من قوة الأجزاء المكونة له ومن حاصل جمعها الحـسابي، لو كانت منفردة وهي متحدة . وقوة الزوجين المتحدين بالزواج أقوى من قوة كل منهما على انفراد. لأن التراكمات الكمية تتحول إلى تراكمات كيفية ، على نحو ما قال به هيجل وماركس من بعده.
وأعظم وأسمي ما يعزز مبدأ الوحـدة هـو قولـه تعالـى :« إن هـذه أمتـكم أمـة واحـدة وأنا ربكم فاعبدون”(الأنبياء :92) والاستشهـاد بتلك الآية الكريـمة يكفي من حيث المبدأ لمن رسخ ايمانهم ، والتزموا بما أراده لهم ربهم . ولكن ذلك الإيمان يدعوهم في ذات الوقت إلى التأمل العقلي في حكمة المبدأ . وكل مبدأ أو قيمة غززهما نص ديني يمكن أيضا الدفاع عنه بالعلم والعقل والمنطق الصورى أو التحليلي أو الجدلي. حيث لايوجد تعارص بين النص الديني الوارد في القرآن .
ووحدة النظام الاقتسادي تتظلب ترابط وتماسك وتداخل حلقاته وكفاءة وتكامل وظائفها. بما يوفر له قوته وحيويته ، ويعينه على الاستمرار في تحقيق غايته ، ونمو كفاءته ،فكفاءة الأجزاء يحقق تراكمها الكيفي كفاءة النظام ذاته ، وتعظيم إمكاناته. وهو ما يعني أن وحدة النظام تنتج تراكما كميا وكيفيا في آن واحد. أي على تراكم مادي وتراكم روحي أو معنوي. ومثال لذلك من الطبيعة أن أعضاء الطير لا يمكن لأي منها وحده أن يمكن الطير من الطيران , ولكن الطير بكامل أعضائه ووحدتها وتنسيق الجهد بينها يستظيع الطيران. لأن الوحدة العضوية تشكل من الخصائص ما يفتقر إليه كل عضو على حدة . والطير بعد طيرانه لا يستطيع مواصلة الطيران بقوة ومرونة مالم تتوفر الكفاءة الحيوية لكافة أعضائه معا.
ولذا يتطلب في النظام الاقتصادي أن تكون جميع عناصره متمتعة بالكفاءة لكي يكون الإنتاج كفئا ووفيرا ويفيض عن حاجة الاستهلاك. وفي نفس الوقت يتمتع في مجملة بالعدالة والاعتدال.وإن يكون الاستهلاك فيه قواما ، أي بما يلبى احتياجات المستهلكين دون إسراف أو تبذير حتي يتحقق منه إدخار يمكن توجيهه للمزيد من الاستثمار وبالتالي تحقيق المزيد من الانتاج والثروة.وتتحقق أيضا كفاءة في الاستثمار تجعله رشيدا في استخدام الموارد وقادرا على تحقيق الأرباح. فتحقيق الأرباح هو المعيار الذي يمكن به قياس مدي نجاح المشروع الاستثمارى سواء في نظام إقتصادي رأسمالي أو نظام إقتصادي ملتزم بالقيم الإسلامية.
وبذلك تكون وحدة المنتجين والمستهلكين والمستثمرين هي في ذات الوقت عبارة عن وحدة صفاتهم والقيم الإسلامية الحاكمة لسلوكياتهم في الآنتاج والتجارة والخذمات. أي أن وحدة المنتجين ليست وحدة في العمل وحده وأنما تشمل أيضا وحدة القيم التي يلتزمون بها.
ومن هذه القيم التي تجمعها كلمة الكفاءة أو الاتقان هي الصدق والاخلاص والأمانة والايثار والعفة والسخاء في البذل والعظاء والاجتهاد والمثابرة ...الخ. وأهمها جميعا إلتزام التقوى التي تجمع بين العلم والعمل به بإحسان أو الإيمان أو الإيمان والعدل والإحسان .

العدالة في الاقتصــاد:

تـم تعـريف العـدل فـي اللـغة أن الــعدل : ضد الجور. ومـا قـام في النفوس أنه مستقيم كالعدالة والعدولة.وعادله وزنه وفي المحل ركب معه.والعدل المثل والنظير كالعدل والعديل. أو كيف وكل ما تناسب فقد اعتدل. والعديل المثل والنظير وعدل الشخص الحمل وازنه بما يساويه.وعدل عنه مال وانصرف وعدل إليه مال نحوه وعاد إليه.
وقال الفراء العدل بالفتح ما عادل الشيء من غير جنسه والعدل بالكسر المثل. نقول : عندي عدل غلامك وعدل شاتك. إذا كان غلاماً يعدل غلاماً وشاة تعدل شاه. وعادلت بين الشيئين وعدلت فلاناً بفلان إذا سويت بينهما. وتعديل الشيء تقويمه. يقال : عدَّلته فاعتدل، أي قومته فاستقام.و مصطلح العدل يرمي إلى المساواة في إعطاء الحقوق و الإلتزام بالواجبات دون تفرقة لأي سبب من الأسباب سواء كان دين أو جنس أو لون .
وهكذا يحمل لفظ العدل في طياته معاني الاستقامة والمساواة والاعتدال .ويستخدم القرآن مرادفا للعدل هو"القسط"".
ومن ذلك"إعطاء كل ذي حق حقه" وجاء ذكر العدل في العديد من أيات القرآن الكريم ومنها :
-"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون" (المائدة 8)
-"وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" (النساء 3).
-"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً"(النساء :
-"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعم ما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً"(النساء :58)
-"وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" (الأنعام 152)
-"وإن حكمت بينهم فأحكم بينهم بالقسط. إن الله يحب المقسطين" (المائدة 42)
-"وأوفوا الكيل والميزان بالقسط" (الأنعام 52)
-"فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون" (يونس 47)
-پhوأقيموا الوزن بالقسط. ولا تخسروا الميزانپh (الرحمن 9)
-پhوأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيمپh (الشعراء 1)
"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم" (آل عمران :18)
"ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا. وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حسابين" (الأنبياء 47)
وفـي أيـات أخرى يندد الله سبحانه وتعالي بالظلم في التعامل مع الناس وفي الحكم بينهم بغير مقتضيات العذل والحق ، وفي استغلالهم و أكل أموالهم بالباطل . ويجعله صنو الشرك به وأسوء منه
ويبين القرآن في معظم آياته عن الظلم أن الظلم هو ما يؤدي إلى فساد المجتمعات والأمم ويتسبب في هلاكها في الحياة الدنيا وابها في ا الآخرة. وذكرلقرآن الكريم كيف يقود الظلم إلي السقوط والهلاك بانتقام الله سبحانه وتعالى من الظالمين. ومن ذلك قوله:"وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا" (الكهف: 59) ويقول تعالي " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين" (الأنبياء:11 ).ويقول أيضا:
-" فقطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" (الأنعام :45)
-"فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئس بما كانوا يفسقون" (الأعراف: 165)
-"واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين" (هود: 116)
-"وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا" (الكهف: 59)
-"وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين" (الأنبياء 11)
-"ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين" (العنكبوت: 31)
_"وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود" (هود: 94 – 95)

ويقول جمال البنا أنه يتبين من "استخدامات القرآن لكل من كلمتي "العدل" و"الحق" أن هناك تفاعلاً قوياً بينهما. أو أن هناك علاقة "عضوية" تربطهما. وهو ما نستنتج منه أن القرآن الكريم يرى أن العدل هو الحق مطبقاً. وأن الحق هو العدل مجرداً. فهما من أصل واحد فكل من العدل والحق اسم من الأسماء الحسنى لله تعالى.. ويستخدم القرآن كل كلمة منهما مكان الأخرى. ولكنهما يختلفان في أن إحداهما تأخذ الصفة العلمية التطبيقية وأن الثانية يأخذ الصفة النظرية المجردة. وقد يكون الحق أوسع نطاقاً وأشمل لأنه يضم ما يخرج عن إطار التطبيق (كالإيمان مثلاً) في حين أن العدل محكوم بإطار التطبيق وتظل علاقة العدل بالحق علاقة الجزء من الكل أو أن العدل يستمد وجوده من الحـق. والحق يأخذ شكله بالعدل، وإن لم ينف هذا أن العدل يؤثر على الحق تأثير الخاص على العام كما هو الحال في نظرية إساءة استخدام الحق. أو بمعنى آخر ضرورة ملاحظة العمل عند ممارسة الحق لأن العدل كما قلنا هو تطبيق الحق ولأن كل الحقوق في الإسلام مضبوطة بحسن التطبيق، وليس في الإسلام بالنسبة للفرد ما يمكن أن يعد حقاً مطلقاً. فحقه في التصرف في حياته، وبعد مماته في أمواله كلها يجب أن تتم في إطار القواعد التي وضعها الإسلام لتحقيق العدل ولو كانت في خاصة أمره فليس له أن يؤثر بالنفقة أو الهبة ابناً على ابن أو يحرم البنات من ميراثهن الذي حدده القرآن... الخ فالعدل في التطبيق حاكم على الحق. وهذا يعود إلى أن الحق الذي "يستحق" هذا التعبير تماماً هو ما ينبع من الله تعالى، فالملكية التي تعد أبرز تجسيد للحق هي "وظيفة" لا حق أو هي ملكية استخلاف نخضع لولاية الاستخلاف وليس للإرادة المطلقة لصاحبها لأن المالك الحقيقي هو الله فهو الذي خلق الأرض بكل ثرواتها.. والإنسان أيضاً...
وفي الوقت نفسه فالعدل في حد ذاته لا يمكن أن يتصور مجردا. ودون أصل ولابد أن يكون له أصل موضوعي يحقق له طبيعته وقد ألهمت الفطرة الإنسان فكرة "الميزان" رمزاً للعدل حتى قبل ظهور الأديان السماوية. ولكن الميزان بقدر ما يوحي بالعدل إلا أنه بدون (السنجة) لا يمكن أن يعمل. والسنجة التي تزن الأعمال والأحكام والتصرفات هي الحق وبدون الحق يمكن أن لا يصبح الميزان أداة عدالة.. ولكن تقريراً وتقنيناً للظلم وهذا هو ما كان يحدث في المحاكم الرومانية التي كان قضاتها يصدرون أحاكمهم مؤمنين أنهم يحكمون بالعدل في الوقت الذي كانوا يحكمون فيه بقانون "روما" الذي يستهدف في جوهره سيادة روما على العالمين. وهذا – مرة أخرى – ما يقتضي ليس فحسب وجود الحق ولكن أن ينبع الحق مصدقاً وحقاً من الله تعالى وأن يكون شعاعاً من شمس الحق الألهية وبهذا تنتفي منه "النسبية" التي هي أفة الحق عندما يطبقه البشر بوحي فكرهم وحده...
ويغلب أن يأتي النقص عند تطبيق الحق لا من "نسبية" هذا الحق ولكن من نسبية فهمه ويتوقف ذلك على مستوى الثقافة والفكر وغلبة الضعف البشري والأغراض الذاتي وهذه كلها مما لا يكون للعدل أو الحق مسئولية عنها لأنها الطبيعة البشرية ولأن إغواء الشيطان للإنسان يأخذ كما يذكر لنا القرآن فنوناً وصنوفاً قلما يصمد أمامها إلا المؤمنون حقاً. ومع هذا فإن الإسلام قد وضع المبادئ والضوابط وحدد التصرفات في حالات عديدة بعينها من مجال النسبية وتدفع الضعف “ وأنذرهم يوم الآزفة. إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين. ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع" (غافر: 18) "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار" (غافر:52 ) “.

ولاتقف العدالة في نظام اقتصادى تحكمه القيم الإسلامية على عدالة التوزيع أي العدالة في اقتسام الثروة فقط والتي تقتضي أعادة توزيع الدخل في نطاق الزكاة وغيرها من الوسائل المحققة للتكافل الاجتماعي ، وإنما تشمل أيضا العدالة في استخدام الموارد الطبيعية الغير متجددة والقابلة للنضوب بالمحافظة على حقوق الأجيال القادمة فيها ، وعدم تبديدها, وفي التعامل مع البيئة للمحافظة على الموارد الطبيعية القابلة لأن تكون متجددة. والعدالة في الانفاق والاستخلاك. ويجب أن تكون العدالة حاضرة أيضا في أصدار النقد والتعامل في الأسواق وفي كل التعاملات بين المسلمين وفي الولاية أو سياسة الحكم . كل ذلك يجب أن ينضبط على مقاييس ومعايير العدل ليكون متفقا مع أحكام الإسلام وشرعه.
والعدالة في النظام وإن بدت كوسيلة لتحقيق الخير في مفهومه الشامل ، هي أيضا غاية في حد ذاتها لأنها جزء من قيم الخير المستهدف من قيام النظام الاقتصادي وفي النظرية المنضبط عليها أو المنفذ لها.ومع كونه وسيلة وعاية هو أيضا في مقام ثالث آلية لضمان سلامة النظام وأمنه واستقراره وهي أمور لاتتحقق مالم يأمن الناس على حقوقهم وممتلكاتهم وجدوى جهودهم وعودتها بالنفع عليهم وعلى ذريتهم من بعدهم . وهذا الأمان والاحساس به لا يتحقق في غياب العدل ، ولا يتواصل إلا في ظلال العدالة.والعدل أيضا معيار يقاس به الحق والباطل فيما عداه من قيم . فهو حاكم عليها وليس محكوما بها. وكل قيمة عادلة هي حق وكل قيمة غير عادلة هي باطل وفساد . وعلى أساس الحق والباطل تكون المشروعية إيجابا وسلبا. وغياب الحق والعدل في حكم قضائي لايفقده الحجية والمشروعية فقط وإنما يفترض في حكم للمسلمين أن يتم عزل القاضي عن عمله ومحاكمته لو كان قد لجأ إلى الظلم عن علم وعمد أو عن جهل بالقانون والشرع. وأي قانون أو تشريع أو قرار يفتقر إلى العدل أو يترتب على تنفيذه إلحاق ظلم يلزم نقضه وأيقاف العمل به وإصلاح الضرر الناتج عن تنفيذه.

فالإسلام عندما حرم الربا وأكل أموال الناس بالباطل والـسرقة والغل(الاختلاس) والرشوة والغش والغرر(النصب والاحتيال) والتطفيف في الكيل والميزان والاحتكار واكتناز الذهب والفضة والأموال والإسراف والتبديد والترف... وكلها من مفاسد التعاملات في الاقتصاد والحكم والمرتبطة بهما ارتباطا مباشرا ، جعل كل هذه المحرمات العديدة لإقامة العدل والذي به يمكن فقط حماية وتفعيل النظام الاقتصادي وتحقيق الأمان فيه وعدم تعريضة لأية أزمات مدمرة ، والتي يتعرض لها النظام الرأسمالي حاليا ومن حين لآخر لأنه فصل بين الممارسات الاقتصـادية والقيم الروحية و الأخلاقية الدينية وجعل من تحقيق المنفعة المادية بأية وسيلة كانت ، أو مهما تسببت في إضرار للغير هو هدف النظام الأسمي.

والعدل قيمة أساسية يجب أن تحكم سلوك المسلمين ومجتمعهم ودولتهم ، ويتفرع منه قيم الصدق والاخلاص والحرية والمسـاواة والكرامة والعزة والشورى (الذيمقراطية) وتحقيق مقاصد الشرع ، وكافة القيم الأخلاقية والإنسانية التي يدعو لها الإسلام ،وتقوم على أساسها أمة موحدة عادلة شاهدة على غيرها من الأمم . فالشاهد ما لم يكن صادقا وأمينا وعادلا لاتقبل شهادته. حيث لامشروعية لما قام على باطل أو استند إلى باطل.

والعدالة هي إذن رأس القيم الإخلاقية مثلما هي قيمة دينية أساسية ومركزية, وهي لا تستمد حجيتها والحاجة إليها من الدين وحده ،وإنما تستمدها أيضا من القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي ويفرضها توافق المجتمع عليها وحاجته إليها لضمان حقوقه وتحقيق مصالحه.
:"و قد ضرب الخلفاء عمر بن الخطاب و عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما أروع الأمثلة التي أوضحت كيف أن الحاكم الصالح قادر أن يحقق العدل و الرخاء لأمته من خلال الأمانة و العدالة الفائقة في توزيع أموال الأمة. فلقد قال الخليفة عمر بن الخطاب في عام الرمادة و هو عام المجاعة, "و الله الذي لا إله إلا هو، ما أحد إلا و له في هذا المال حق أعطيه أو أمنعه، و ما أحد أحق به من أحد، و ما أنا فيه إلا كأحدكم ... و الله لئن بقيت، ليأتين الراعي بجبل صنعاء حظه من المال و هو يرعى مكانه". أما في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز، فلقد محي الفقر و حل محله الغنى في جميع أنحاء الأمة، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. فعن سهيل بن أبي صالح، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن و هو بالعراق أن أخرج إليهم أعطياتهم فكتب إليه عبد الحميد: أني قد أخرجت للناس أعطياتهم و قد بقى في بيت المال مال. فكتب إليه: أنظر من أدان في غير سفه و لا سرف فاقض عنه، فكتب إليه: أني قد قضيت عنهم و بقى في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أنظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه و أصدق عنه، فكتب إليه: أني قد زوجت كل من وجدت و قد بقى في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه بعد مخرج هذا: أتظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام أو لعامين".
ولقـد أكـد الإسـلام علـى ضـرورة مراعاة الحاكم لرعاياه بتحري الحق و العدل و تحقيق العدالة الاجتماعية و التكافل الاجتماعي. عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه و سلم قال, "ما من أمير عشيرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولا لا يفكه إلا العدل". كما قال عليه الصلاة و السلام، "ما من عبد يسترعيه الله عز و جل رعية، يموت يوم يموت و هو غاش رعيته إلا حرم الله عليه الجنة".

و من هنا، يجب على كل مسلم و مسلمة أن يعلمـوا أن الأمـة كلها أفرادا كانت أم حكومات عليها مسـؤولية كبيـرة للخـروج مـن أزمـة الفقروالفسـاد وعـدم المسـاواة التي يعاني منها الملايين من المسلمين في جميع أنحاء العـالم الإسلامي. و علينا أن نبدأ بأنفسنا بأن نعمل و نشجع بعضنا البعض لتحقيق التكافل بين المجتمع كي نبرأ أنفسنا أمام الله تعالى يوم القيامة بأن أعطينا و عدلنا قدرما استطعنا ..."

ويقول محمد ظفرالله خان في القيم الاقتصادية والاجتماعية في الإسلام :" تقوم السياسة الاقتصادية في الإسلام على أساس ضمان المستوى اللائق لمعيشة كل فرد، وأنه متى توافر لكل فرد في المجتمع الإسلامي حاجاته الضرورية بقدر الكفاية لا الكفاف باعتبار ذلك قوام الحياة الكريمة، فإن الإسلام يسمح بالثروة والغنى لكل حسب جهده وعمله باعتبار ذلك زينة الحياة الدنيا.
وضمان حد الكفاية لكل فرد في المجتمع الإسلامي هو حق مقدس تكفله الدولة الإسلامية لكل مواطن فيـها بغـض النظـر عـن ديـانته أوجنسيته بحيث لا يسمح الإسلام بالثروة والغنى مع وجود الفقر والحاجة، وإنما يبدأ الغني والتفاوت فيه بعد كفالة حد الكفاية لا الكفاف لكل مواطن.
كما أن الاسلام لا يقر الإسراف والتبذير (إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفوراً) ولا يسمح بحال من الأحوال بالترف (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين). فعدت الآية الترف ظلما وإجراما.

وإقرار الإسلام للتفاوت في الثروة والدخول لا يعني كما تصور البعض أن الاسلام يقر وجود طبقات إجتماعية متميزة بسبب المال ذلك أن الاسلام لا يعرف ولا يقر الطبقية فضلاً عن أن الناس جميعاً لديه سواسية والعامل الوحيد المميز بين الناس هو عـامل التقوى بمفهوم الإيمان والعمل لا عامل المـال.لذلك يتطلب الإسلام تدخل الدولة لتحقيق التوازن الاقتصادي بين أفراد المجتمع وإذابة الفوارق بينهم.على خلاف سائر السياسات والفلسفات الروحية يدعو الإسلام إلى الرخاء الاقتصادي بل يعتبر الإسلام الغنى واليسر المادي هو أساس التقدم والسمو الروحي فصحة الأبدان في الاسلام مقدمة على صحة الأديان، وأنه لا يمكن أن تتوقع من محروم أو جائع مشرد سوى الرذيلة والانحراف.
وأنه بقدر ما ندد الإسلام بالفقر وأنه كاد أن يكون كفراً بل الفقر والكفر في نظره متساويان نجده يدعو إلـى الثـروة والغنى بل يعتبر السعي على الرزق من أفضل ضروب العبادة. ويعان المرء من مال الزكاة لاستكمال حاجته الضرورية ولا يعان من مال الزكاة للانقطاع للعبادة. (يقرر الفقهاء في أحكاما لزكاة بأنه يعطي منها للمتفرغ للعلم على حين يحرم منها المتفرغ للعبادة ذلك أن عبادة المتعبد لنفسه أما علم المتعلم فله ولسائر الناس).
وأسـاس الثروة والغنى في الاسلام هو العمـل "والله فضل بعضكم على بعض في الرزق".”ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون".فتفاوت الناس في أرزاقهم ومعيشتهم ورفع بعضهم فوق بعض درجات وتفضيل بعضهم على بعض درجات ليس اعتباطاً وإنما هو بقدر ما يبذلونه من جهد وعمل صالح وصدق الله العظيم " يقول تعالى :"وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى "( النجم 39 - 41 ). فلا ينفع الإنسان إلا عمله وكده وما كسبه منهما .وأجر سعيه وجهده، وجزاء عمله وتحصيله، ولا ينفع أحداً عملُ أحد؛ فالآية بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غيره، مهما كان هذا الغير. وقد جاءت هذه الآية إثر آية بينت عدم مؤاخذة الإنسان بذنب غيره، وهي قوله تعالى: “ ألا تزر وازرة وزر أخرى “ (النجم:38) أي: لا يفيد الإنسان إلا سعيه وعمله، ولا يحاسب الإنسان بعمل غيره. فهذا المعنى الإجمالي للآيتين الكريمتين .
إلا أنه جاءت آيات أُخر، تدل على أن الإنسان ربما انتفع بعمل غيره؛ من ذلك قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء " (الطور:21).وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية، قال: إن الله تبارك وتعالى يرفع للمؤمن ذريته، وإن كانوا دونه في العمل؛ ليقر الله بهم عينه؛ وفي رواية أخرى عنه: قال: إن الله تبارك وتعالى ليرفع ذرية المؤمن في درجته، وإن كانوا دونه في العمل؛ ليقر بهم عينه .وينتفع المؤمن بما ليس من سعيه في بعض الأعمال والطاعات؛ كالدعاء له والاستغفار، كما في قوله تعالى: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا " (غافر:7) وأيضًا دعاء النبيين والمؤمنين واستغفارهم، كما في قوله تعالى: " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم "(التوبة) وقوله سبحانه: " واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات " (محمد:19) .وجاء في يأحاديث للرسول صلى الله عليه ونسلم أن ما يُعمل للميت من أعمال البر، كالصدقة ونحوها، فإن هذا ينتفع به؛ فيروى أنه صلى الله عليه وسلم، قال: " من مات وعليه صيام، صام عنه وليه "وثبت مثل ذلك في صوم النذر، والحج .وقال أيضا :" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ) رواه النسائي و الترمذي ؛ فالحديث صريح في ثبوت ما ذكرنا. والأدلة في هذا المعنى كثيرة .ويدخل هذا في عداد التكافل ليس مع الأحياء فقط في الحياة الدنيا وأنما مع الموتي في الحياة الآخرة أيضا.

إلا أن الإسـلام في نفس الوقت لا يسمح بالتفاوت الكبير في الثروة والدخول إذ أن أكبر بواعث السخط والاضطراب في المجتمعات وأشد ما يخلق الصراع بينها هو التفاوت الفاحش وتركز الثروة في يد فئة قليلة، والمشكلة الاقتصادية ليست مشكلة الفقر في ذاته وإنما هي مشكلة التفاوت الشديد في الثروة والدخول سواء بين الأفراد على مستوى المجتمع المحلي أو بين الدول على مستوى المجتمع العالمي.
وقد نهـى الإسـلام عن التفاوت الشديد في الثروة والدخول بقوله تعالى: "كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم".ومن ثم فإنه من المقرر أن يتدخل الشارع الإسلامي لإعادة التوازن الاقتصادي عند افتقاده.والإسلام اهتم بحماية المال وصيانة حق المسلم فيه وحرم الاعتداء عليه أو أخذه بالباطل"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"
وقد وضع الله تعالى الحدود صيانة "للمال وحفاظاً على حقوق الناس ودرءاً للعابثين السارقين" قال الله تعالى: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا".بل إن رعاية المال وصيانته ضمن تلك المطالب التي أكد الإسلام حمايتها من العبث أو تلاعب أولئك المعتدين بها أو تعرضها لطيش الباغين وعدوان الظالمين فحرم الإسلام الاعتداء على دماء الناس أو أعراضهم أو أموالهم.

ونفر الإسلام وحذر من الكسب الخبيث وتوعد مَن يكسب ماله من غير الطرق المشروعة بالعذاب الأليم.فقال تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنمـا يأكـلون في بطـونهم ناراً وسيصلون سعيراً”. وقال تعالى: “يمحق الله الربا ويربي الصدقات" إن كسب المال واستثماره لا بد أن يأخذ طرقه المشروعة ولا بد أن يخرج من موارده الطيبة، أما إن حاد الإنسان في أخذ المال أو استثماره عن غير طريقة الحلال فإن ذلك يضره أكثر مما ينفعه.
ـ والإسلام حين صان الأموال وجعل لها حريتها ووضح سبل التعامل بها في الطرق المشروعة أمرنا أن نعمل على تزكية أموالنا وتطهيرها وتنميتها وليس ذلك بالكنز الدائم أو الادخار المستمر وإنما بدفع ما فيها من حقوق يستحقها الفقير والمسكين وذوو الحاجات "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها".
وفي ذلك تطهير للمال بل إن في ذلك تطهراً لنفس المزكي والمتصدق الذي يدفع الحق المعلوم للسائل والمحـروم فتتطـهر نفسه وتتزكى من غائلة الشح ومن دنس البخل وتتسـم بروح الكـرم والسخاء والمودة والوفاء فيترعرع فيها كل فضيلة من فضائل الإسلام زكية وارفة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
كما أن في ذلك أيضاً تطهراً لنفس الفقير الذي تدفع إليه الأموال وتمتد له الأيدي الكريمة فيشعر بأخوة الإسلام الصادقة فيفيض قلبه مودة ورحمة وحناناً وحباً وتجيش عاطفته بالولاء.
وهنا يستشعر الفقير مودة الغني ويستشعر الغني حب الفقير فتقتلع من النفوس كل رذيلة أو بغضاء وتنمو بها الألفة والصـفاء ويشرق المجتمع متحاباً بروح الله. هكذا يضع لنا ديننا سمات المجتمع الصالح:

الإسلام ونظرته إلى العمل:
دعا الإسلام الناس إلى العمل وحظر عليهم القعود والكسل وأبان لهم أن مناط أرزاقهم إنما هو السعي في الأرض فقال تعالى: "فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور".وحذرت السنة المطهرة من القعود عن طلب الرزق والركون إلى سؤال الناس، فقال صلى الله عليه وسلم : "لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".
دعا القرآن في الآية إلى شدة السعي في جوانب الأرض وبين أن ذلك هو سبيل الرزق وأن الرزق لا يأتي الإنسان إلا إذا أخذ في العمل له بجد ونشاط وتكلف في ذلك مشقة السعي بكل وجهها كما بين في الحديث أن أي عمل يعمله الانسان ولو كان هو الاحتطاب وجمع أغصان الشجر المتساقطة في الصحراء أفضل وأشرف من أن يقعد الإنسان ساكناً ينتظر المعونات والصدقات ذلك أن الإسلام يمجد العمل سواء أكان عملاً عظيماً أم كان عملاً متواضعاً.
وفي ذلك يقول الله تبارك وتعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون" ثم أن القرآن عمد ـ بعد الإشادة بمجد العمل وتأكيد المطالبة به ـ إلى زيادة هذه المعاني تثبيتاً وخطورة فربط مصير الإنسان بالعمل في أمور الدنيا وأمور الآخرة جميعاً يقول الحق تبارك وتعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" وكذلك يمجد الإسلام العمل ويؤكد المطالبة به بصورة لن توجد في أي نظام ولا أي فلسفة أخرى أفضل وأنفع منها.

العدالة الاجتمـــــاعية
أمسـت جميع المؤسسات الحكومية والأحزاب السياسيـة من مختلف ألوان الطيف السياسي والنشأة والفكر والانتماء ترفع دون أدنى حرج شعار : “تحقيق العدالة الاجتمـاعية”. فـي استغلال سياسي لمعظمها لمعاناة الجماهير المطحونة أكثر منه بحثا عن حلول عملية ومخططات ترفع المعاناة عن الجماهير الشعبية ، وتحقق لها وفو قدر محدود من العدالة المفتقدة.
ولايعني رواج شعــار العدالــة الاجتمــاعية مؤخرا في خطاب أقصي اليميـــن واليســـار والوسط والحكومات ، بعد أن كان ذكرها من المحرمات لدى بعض أنظمة الحكم العربية ، إن في ذلك اهتداء بعد ضلال ، أو أنه ناتج عن بدايات لتحول ديموفراطي واتساع هامش التعبير . بقدر ما يعني أن الدولة العربية باتت تتخبط في أزمة ظاحنة ، لا تجد منها مخرجا ، بعد أن أفلست وباعت ممتلكاتها سدادا لديونها ، وباعت معها حريتها واستقلاليتها وكرامتها في مواجهة العالم الخارجي ، وفقدت الثقة فيها محليا بعد أن ازداد عجزها عن تقديم ما كانت تقدمه من قبل من خدمات اجتماعية لمواطنيها . بعد أن لم تعد ميزانياتها تتحملها.
ولذا فإن الدعوة أو المطالبة بالعدالة الاجتماعية لا تأتي من منطلق أخلاقي ، أو ديني ، أوإديولوجي، على النحو الذي كانت عليه عندما كان مجرد ذكرها لا تؤمن عواقبه. بقدر ما تأتي تعبيرا عن أزمة تبدو مستعصية على الحـل من ناحية ، ومخن ناحية أخرى استرضاء الجماهير المتضررة من الأزمة وتخديرها لأطول وقت ممكن بأماني كاذبة ، تحول دون تضررها إلى غضب ، وغضبها إلى انفجار محتمل ، حقيقة أو توهما ، قد يزلزل البنيان المتداعي . والذي يجب أن يظل متماسكا ، انتظارا لحل قد يأتي وقد لا يأتي. بعد أن أصبح الأمر يبدو خارجا عن نطاق الإرادة ، وداخلا في إطار عالم العيب والقضاء والقدر المجهول مداه.
ولذا – نجـد أن الذين تسببوا في الأزمة ، والذين يتجرعون وحدهم مرارتها، يتفقان معا ، ولأول مرة ، على الحاجة الماسة لتحقيق العدالة الإجتماعية وكل ما يحرص عليه الأولون هو ألا تتم هذه العدالة الإجتماعية على حسابهم . أو تؤثر على مكتسباتهم، أو ماراكموه من ثروات مشروعة أو غير مشروعة في معظمها. خـلال العقـود الماضية. وهـذا هو في الواقع جوهر التـوافق بين السلطة والأحزاب. والذي يتوقف نفعه أو ضررة على الشروط الغير معلنة المصاحبة له. فقد يكون نافعا إذا إذا ما كان بداية لتغيير حقيقي يحقق الجد الأدني من العدالة الاجتماعية . ويكون ضارا عندما يكون مانعا للتغيير ، ومجمدا له. والتغيير المطلوب هنا هو تغيير حالة الخصاص الاجتماعي إلى ثراء اجتماعي ، والظلم الاجتماعي إلى عدالة اجتماعية . ليست بالضرورة مثـالية أو مطلقة ، ولكنها تحقق قدرا معقولا من أشباع الحاجات ، والتمتع بحقوق المواطنة ، وتوزيع الثروات أو أعـادة توزيعها. ولا يمنع ذلك التغيير من أن يظل الأثرياء أثرياء أو يزدادون ثراء . ولكنه يحول دون أن يظل الفقراء على فقرهم. فالمشكلة التي نواجهها لا تكمن في اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء ، كما يتردد في أغلب الأدبيات السياسية والاقتصادية المدعومة بالاحصائيات والأرقام .وإنما في وجود الفقر ذاته واتسـاع نطاقه. بقدر يهدد اقتصاد الدولة ، وأمنها الداخلي والخارجي، واستقلاليتها، بل ووجودها ذاته.

والضرر البـالغ الذي يمكن أن نلحقه بحسـن نية ، بالعدالة الاجتماعية ، هو النظر إليها في بعدها الأخلاقي أو الانـساني أو الديني فقط. فتتصـور أنه يمكن أن تتحقق بواسطة الجمعيات الخيرية أو المؤسسات ذات الطابع الخيري. التي تجمع المعونات أو الصدقات وتعيد توزيعها على الفقراء على هيئة وجبات غذائية ، أو هبات عينية أو مادية ، أو عن طريق التضامن الاجتماعي الذي دعا إليه طوني بلير ، وتبنته الاشتراكية الدولية وهو في مستوى أرقي من ذلك المتبع لدينا. وإنما بالنظر إلى العدالة الاجتماعية كضرورة تملفيها الحاجة إلى بناء إقتصاد الدولة وتقدم الدولة وتحديثها والرفع من شأنها في كافة المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وفي التنميـة الشاملة ضمن مشروع قومي ن بإمكانه التعامل بايجابية مع التحديات المحلية والإقليمية والدولية. فبدون هذه النظرة الشاملة ، والوعي العميق بالأزمة ، لن تتحقق العدالة الاجتماعية المنشودة على أي نحو كان. بل ستزداد وضعية اقتصاد الدول المأزومة سوءا وتدهورا وتعقيدا.

والتضامن لوحيد الذي تحتاجه شعوب شمال افريقيا ، إذا ما قصرنا الجهد عليها، وكلها ذات أنظمة سياسية واقتصادية مأزومة. هو أن يتحد جميع المواطنين ، ذكورا وإناثا، أغنياء وفقراء، يدا بيد، لإعادة بناء أوطانهم ، وإنهاضها من كبوتها، وبعث حضارتها. بمحبة وأخاء وإخلاص، وبدون تعال واستقواء من البعض . أوخضوع واستخزاء من البعض الأخر ، أو أحقاد وخلافات وصراعات قبلية وهمية ، أو انشعال بقضايا ثانوية ، أو زائفــة ، عن القضايا الجوهرية أو الحفيقية.

باختصـار ، لا نحتاج إلى الجدل بقدر الحاجة إلى العمل معا متضامنين. كتلة وطنية تاريخية صلبة ، متراصة الصفوف حددت هدفها ووسائل تحققه. أخذين في اعتبارنا ما قاله عبد الاله بلقزيزفي ندوة بفاس من أن السياسة “ ليست فن إهدار الفرص باسم المبادئ . أو اهدار الممكن بإسم الواجب . بقدر ما هي علم تحقيق التاريخ ، كما تأتي بـه مقـاديره التي يصنعها البشر”. وأن تحقيق المشروع “ يخضع لآحكام الواقع ، وظروفه الموضوعية “ وليس بما تغرى به الآيديولوجيات أو تقرره.

لم تشهد الدول في شمال أفريقيـا تطـورا تاريخيـا ،وإنما مرت مجتمعاتها بتقلبات تاريخية ، أشبه بالتقلبات المنـاخية، لـم تصل بعد إلى حـالة الاستقرار. الذي يمكن أن يكون مدخلا أو بداية لتطور تاريخي . ولم تفرض هذه التقلبات قوة خارجية قاهرة،وإنما هي إنتاج محلي بحت. وإن حظي برضي وامتنا القوى الخارجية لأنه يصب في صالحها. وإذا كان اليوم يتم تبريرالحكومات ما أصابها من العجز بالاكراهات ، فإن السياسة التي اتبعت وأفرزت هذا العجز، لم يتم اختيارها وتنفيذها تحت أي ضعط أو إكراه ، لم يتم اختيارها وتنفيذها تحت أي ضغط أو إكراه. وإنما أملتها حسابات خاظئة ، ووعي مشوه ، وأنانية مفرضة ، وجنون عظمة ، وسادية عمياء ، وجشع وشره للمالوالترف لاحدود له . تملكت العديد ممن أمسكوا بالسلطة في تلك البلدان. متفردين ومتسلطين بها. وبدعم من منتفعين ومنافقين وكلاب حراسة من الجاهلين. لهم من نفس الصفات نصيب. لا يشعرون بقيمتهم ، ولا يتحقق إحساسـهم بوجـودهم ، في غير بيئة ومناخ مفعمين بالفساد. تهدر فيهما كل الحقوق فيما عـدا ما يعتبرونه حقا لهم.

إن ما أعنية هنا بالعدالة الاجتماعية ليس تضييق الهوة بين الأغنياء والفقراء والفوارق الاجتماعية ، وإنما في البعد الاقتصادي لها ، الذي يأمن فيه كل مواطن ألا يجوع ولا يعرى ، أو لايجد المأوي، أو الدواء إن مرض ، أو الكفن إن مات. ويجد الأولاد تعليما مناسبا يدمجهم في الانتاج ويساعدهم على بناء مستقبلهم وزواجهم والحياة الكريمة.

لقد اتخذت تلك الدول بعد الاستقلال مسالك مختلفة ولكنها انتهت جميعها إلى نتيجة واحدة ، أو نتائج متشابهة فيما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية ولو في حدها الأدني.الذي هو حد الكفاية وليس حد الكفاف. ولو أنه لايعد الوصول إلى حد الكفاية هو غاية القصد، وإنما الضمان لإنهاء حالة الاحتقان الاجتماعي ، والتي من شأن استمرارها إصابة المجتمع كله بالشلل. وعقب الوصول إلى هذا الحد الأدني ، يمكن التطلع ‘لى مستويات للعدالة الاجتماعية تعلوه خطوة بعد خطوة. أو درجة فدرجة . فكلـما ارتفـع مسـتوى العدالة الاجتماعية في الدولة كلما كان ذلك مؤشرا على تقدمها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ودليلا على جودة ما تتبعه من سياسات.

ولـم تتحـول مجتمعـات هذه الدول إلى مجتمعات رأسمـالية حتي يمكن التعلل بأن رأسماليتها أو ليبراليتها هي التي أوصلتها إلى الأزمة . وإنما جاءت الأزمة لأن المجتمع ظل يسير في نفس الطريق الذي رسمه له الاستعمار الأجنبي ولم يسلك طريقا وطنيا جديدا . بل سنجد أن الكثير من هذه الدول لم تضف الكثير إلى البنية التحتية التي تركها الاستعمـار. مثـل السكك الحديدية،وربمـا لـولم يقم الاستعمار بتمديد خطوطها لظلت تلك الدول محرومة منها. وإضافة إلى ذلك ، هيمنت على مقدرات تلك الدول أوليغارشية لا يهمها سوى مصالحها والسلب والنهب ، وسخرت الدولة لخدمتها ، وعندما تفاقمت الأزمة ، وأصبـحت مصــالحها مهددة في الداخل والخارج. ولـم تعد أساليبها السابقة ذات جدوى، أو غير مضمون الاستمرار فيها ، ولو أنها لم تقلع عنها بعد إلا قليلا. مثل القمع والأحزاب المصطنعة،والانتخابات المزورة والتسلل إلى الأحزاب واختراقها والسيطرة على قياداتها والانحراب بتوجهاتها ، أو إجداث انشقاقات فيها لإضعافها ، أو إعادة جمع بعض ما تشتت منها ، إو غير ذلك من أساليب ووسائل لم تعد خافية على أحد. وفي بحثها عن مستقبل لها أكثر أمنا ، بعد أن تداعي الوضع في تقلب تاريخي جديد يجعل إمكانية عودة الاستعمار الذي رحل قبل خمسة عقود،لكي يحل محل الأوليعارشية المحلية على هيئة شركات متعددة الجنسيات ، وحسب خطاب العولمة ، التي بدت لهم وكأنها قدر محتوم لا مفر من خضوعهم لها . ومع ما يمكن تسميته بالتقلبات التاريخية خارح البلاد ، والتي أصبح من المحتمل فيها مصادرة أموالهم المهربة ، ومحاكمتهم بتهم الفساد وانتهاك حقوق الإنسان ، أو إنهاء حكمهم كما تم إنهاء حكم صدام حسين أو بوسائل أخرى . كل هذه التقلبات دعتهم إلى البحث عن تغيير غير محدد المعالم بالنسبة لهم ، ينقذهم مما باتوا يرهبونه ويخشونه ، ولعدم ثقتهم فيما قد يقودهم إليه ، راحوا كلما تقدموا خطوة على طريقة تراجعوا خطوتين.
إن أزمة الأوليغارشية الحالية وحيرتها، في حقيقة الأمر، لاتقل عن الأزمة الاجتماعية لضحاياها من غالبية الشعب وعن وحيرتهم أيضا. وهاتان الأزمتان يحتاجان إلى توافق بين الطرفين على أحداث تغيير حقيقي جذري تتحقق في ظله العدالة الاجتماعية كاملة ، وليس مجرد حقوق سياسية شكلية للمواطنين . فتدهورالاقتصاد وفساد الادارة والقضاء وانحسار الخدمات التعليمية والصحية ، وارتفاع تكاليف المعيشة ، وزيادة الفقر والبطالة . كل هذه الأدواء تحتاج إلى تغيير شامل جذرى .في الثقافة والاقتصـاد والأولويات والسياسات المحلية والخـارجية، بحـيث تتضـافر وتتكامل تلك التغيييرات جميعها لتحقيق نهضه منشودة . ويمكن أن يتم هذا كله على قاعدة : لاضرر ولا ضرار ، أي لا مساس بثروة الأوليغارشيا على أن تتحول إلى رأسمالية وطنية يهمها مصـالح المجتمع مثلما تهمها مصالحها، ولا تضار مصالح غالبية الشعب من قبلها ، أو تواصل سلبه لحقوقه المشروعة ، بموجب عقيدته والمواثيق الدولية. ولعل هذا ما قصده بلقزيز من قوله بأن السياسة “ ليست فن إهدار الفرص باسم المبادئ . أو اهدار الممكن بإسم الواجب . بقدر ما هي علم تحقيق التاريخ ، كما تأتي به مقاديره التي يصنعها البشر”.
ولنضب مثلا : إذا كان الخروج من الأزمة يقتضي إصلاحا زراعيا فما الذي يمنع الأوليغارشيا من أن تعيد ما بحوزتها من ملكيات زراعية كبيرة إلى الدولة مقابل تعويض عادل عنها ، ولو أضطرت الدولة لسداده باصدار نقد على المكشوف بشرط أن توجه الأوليغارشيا قيمة التعويضات لإستثمارها في مشروعات صناعية ذات جدوى اقتصـادية عالية . وتقوم الحكومة بتوزيع هذه الأراضي على صغار الفلاحين وخريجي المذارس الزراعية العليا وخريجي الجامعات العاطلين الذين بإمكانهم إقامة مشروعات فلاحية عليها على أن يقوموا بـسداد قيمة الأرض بأقساط سنوية وعلى أجال طويلة بدون فوائد. فيتم بذلك خلق نهضة اقتصادية ، والحد من البظالة والفقر ، والتقدم خطوات على درب العدالة الاجتماعية وتحقيق الرخاء للجميع. لا مانع إذن من أن تزداد الأوليغارشيا ثراء على الرغم من أن ثرواتها جمعت بوسائل غير مشروعة من قبل ويستوجب العدل ، إن طبق، مصادرتها وإعادتها للشعب ، ولكن حرصا على وحدة الأمة وتحقيق مصالحها، فإنه يمكن التنازل عن عدل لن يقدم كثيرا أو يؤخر لتحقيق عدل أوسع نطاقا وأكثر رسوخا واستقرارا وأمانا وجدوى.فليخافظوا على ثرواتهم وليزدادوا غني ولكن يجب ألا يقفوا عقبة أمام الفقراء لكي يتخلصوا من فقرهم، بحدهم وكدهم ، وليس بما تحسن به عليهم الأوليغارشية في المناسبات من فتات موائدها.

لقد احتكرت الأوليغـارشيا ليس فقط الثروة القومية االتي بددتها، وإنما تسيير الشأن العام بشكل مباشر أومن خلف الستار بما يشار إليها في الأدبيات السياسية بالحزب السري المتغلغل في جميع الأحزاب. فأفسدت الحياة العامة والاقتصاد الوطني ، وقادت البلاد إلى الخراب والإفلاس ، وتسببت في أزمة اجتماعية واقتصادية طاحنـة ما زالت تتخبط في البحث عن مخرج منها . ولا يمكن إصلاح ما أفسدته مالم ترخ قضتها على السلطة وأن تسمح لعناصر جديدة من الرجال والنساء أن تقوم بعملية التغيير ، بموجب خطة متوافق عليها ، ومحددة الأهداف. تكون بمثابة ميثاق شرف ، أو إطار قانوني لا يجوز لأي طرف الخروج عليه. وبدون إلحاق أي ضرر أو سوء بمصالحها ومكتسباتها وممتلكاتها المادية . أو بحث شرعيتها وحقها فيها ، أو محاسبتها على ما ضيها. وإنما كل ما هو مطلوب منها أن ترفع يدها على المستقبل.

والحل الثاني أن يترك لها السياسة والحكم تفعل فيهما وبهما ما شاءت وتترك الناس تهتم بالاقتصاد الذي يغير من أوضاعهم المعيشية إلى الأحسن. ويرى الدكتور جلال أمين في نفس ندوة فاس في مايو 2001 بأن “الدولة التي كانت ضرورية لدعم مصالح الرأسمالية ، كانت هي مناط الآمال من جانب الطبقات المقهورة ، إذ بدا أن النهوض بأحوال هذه الطبقات منوط باسترداد جهاز الدولة من يد الرأسماليين. ولكننا نعيش الآن - فيما يظـهر- عصرا أصبحت فيه الدولة القومية أعجز من أن تحقق إنصافا لأي من الطرفين : الطرف الذي يمارس القهر، والطرف الذي يعاني منه ، على السواء. وكما أن ممارسي القهر قد حصلوا على أساليب جديدة لتحقيق مصالحهم (غير وسائل القمع التقليدية عن طريق سلطة الدولة) فإن على المقهورين أيضا أن يبحثوا لأنفسهم عن أساليب جديدة لوضع حد لهذا القهر.(غير استيلائهم على سلطة الدولة / أي يتركون للدولة سلطتها) ، ولكنه في الواقع لم يقترح أساليب جديدة وإنما كان مما اقترحه الحركة التعاونية ومذكرا بأن الحركة التعاونية نجحت في أوائل القرن الماضي من إنشاء أول جامعة مصرية مولتها تبرعات أهلية ، وعدد كبير من الدارس والمستشفيات والملاجئ التب مولت بنفس الطريقة ، معتبرا ذلك درسا من التاريخ يجب الإفادة منه. والحقيقة أنه لا يوجد في التاريخ أن جمعيات تعاونية أو خيرية استطاعت بجمع تبرعات إقامة أقتصاد وطني يحقق رفاهية المجتمع والعدالة الاجتماعية. ولا يوجد في التاريخ أيضا إقتصاد ازدهر في معزل عن الدولة رغم أن الرأسمالية اعتمدت على مبدأ الحرية الاقتصادية وعدم تدخل الدولة في الاقتصاد . فعدم التدخل كان يقتـصر على فرض قرارات اقتصادية على أصحاب الأعمال ومع ذلك كان يتم ما يقترب من ذلك. إن بناء اقتصاد وطني في معزل عن الدولة ، وإن لم يكن ثمة سابقة في التاريخ يسترشا بها هو أمر ممكن وغير متعذر تحقيقه وإن بدا للعديد من النخبة المثقفة خياليا أو طوبائيا أو يدخل ضمن اليوتوبيا المثالية غير قابلة التحقق في غير الأحلام.
كما يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن غالبية الحكومات في المنطقة قد قاومت جهود بعض مؤسسات المجتمع المدني في هذا الشأن ، إما خوقا على فقدان هيبتها بعدما يتأكد من مقارنتها بتلك المؤسسات عدم جدوى الدولة اجتماعيا ، وهي وإن كانت تحتضر لا ترغب في أن يفلت الزمام من يدها ، وإما لأن من تصدى لهذه المهمة جماعات دينية تعتبر الحكومات أن تصاعد شعبيتها فيه خطر على بقاء هذه الحكومات في السلطة على المدي البعيد . بل إن بعض الدول قد تصدت لجهود صغيرة لتحسين أوضاع قرية واحدة من بين أربعة آلاف قرية لديها بالدبابات والرصاص الحي.
والكثير مما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني هي في حقيقة أمرها شبه رسمية وكانت الحكومات خلف تأسيسها لكي تزرع عليها الاعانات الأجنبية في مجال اختصاصها ، وتحذر القوانين على الجمعيات ذات النفع العام والأحزاب أن يكون لها أية نشاطات استثمارية \م والاقتصاد يقوم على استثمار رؤوس الأموال وليس التبرعات. ويستخدف من الاسثثمار تحقيق أرباح .وهو ما يخرج عن نطاق التعاون وأنشطة الجمعيات والأحزاب السياسية.

ولكن هذه الجمعيات والأحزاب يمكن أن تتفق معا على دعم حركة شعبية جامعة لكل فئات الشعب لتحقيق إقتصاد وطني له كل مواصفات الاقتصاد المتعارف عليها وخصائصه ، وكل المشاركين فيه يساهمون فيه برؤوس أموال ويجنون من مساهماتهم فيه أرباح.

و خطب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الناس في وجود الولاة ليعرفوا حقوقهم و واجباتهم عندما ولي الخلافة فقال:إني لم أستعمل عليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، و يشتموا أعراضكم، و يأخذوا أموالكم و لكن استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم و سنة نبيكم عليه الصلاة و السلام، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له على يرفعها إلى حتى أقص منه. فقال عمرو بن العاص: ياأمير المؤمنين أرأيت إن أدب أمير رجلا من رعيته أتقصه منه؟ فقال عمر: و مالي لا أقصه منه و قد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقص من نفسه .

تعد العدالة الاجتماعية من أهم مكونات و أساسيات العدل في الإسلام. و لقد أوضح الاستاذ سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام أن هناك ثلاثة ركائز تقوم عليها العدالة الاجتماعية في الإسلام. هذه الركائز هي التحرر الوجداني المطلق و المساواة الإنسانية الكاملة و التكافل الاجتماعي الوثيق حيث أن كل عنصر مبني على الآخر. و يعني بالتحرر الوجداني هو التحرر النفسي من الخضوع و عبادة غير الله لأن الله وحده هو القادر على نفع أو ضرر الإنسان. فهو وحده الذي يحييه و يرزقه و يميته دون وجود وسيط أو شفيع حتى لو كان نبي من الأنبياء. فلقد قال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: "قل إني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا" (سورة الجن، آية 21) كما قال: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" (سورة آل عمران، 64). و الهدف من التحرر النفسي من الخضوع لغير الله هو التخلص من الخوف و التذلل لغير الله لنيل رزق أو مكانة أو أي نوع من أنواع النفع عن يقين أن الله وحده هو الرزاق. و لكنه قد ينجح الإنسان نسبيا في أن يتحرر من عبودية كل ما هو سوى الله تعالى في حين أن هناك احتياجات طبيعية بشرية خلقها الله في الإنسان أهمها المأكل تعوق التحرر الكامل و الحقيقي. و من أجل أن يحقق الإسلام هذا التحرر الوجداني بصورة فاعلية و واقعية، فلقد وضع الله من القوانين و التشريعات ما يضمن للإنسان احتياجاته الأساسية و بالتالي يساعده على تحقيق التحرر الوجداني الكامل. و من أهم هذه القوانيين هو وضع مبدأ المساواة كمبدأ أساسي من مباديء الإسلام. فبعكس كل من إدعى أنه من نسل الآلهة و كل من تصور أن دمه دما أزرقا نبيلا أرقى من بقية الشعب، جاء الإسلام ليساوي بين جميع البشر في المنشأ و المصير. فلقد قال الله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء" (سورة النساء، آية 1) و قال: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" (سورةالحجرات، آية 13). كما قال: "و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" (سورة الإسراء، آية 70). فالكرامة مكفولة لكل إنسان و الفرق بين الناس عند الله هي درجة تقواهم و ليس جنسهم أو لونهم.