Monday, October 8, 2012

قهر الفقر وغياب التنمية الشاملة وشيوع الفساد في مصر

 
لم تكن المعاناة الاقتصادية في صدارة دوافع طليعة الثوار من الشباب الذين خرجوا في مظاهرات يوم 25 يناير، إلا أنها كانت على رأس المظالم التي دفعت أغلب طوائف الشعب المصري لمباركة الثورة ومناصرتها حتى سقط النظام يوم 11 فبراير 2011. وقد أظهرت سلسة من استطلاعات الرأي التي أجريت بعد نجاح الثورة الأهمية التي يوليها الأغلبية الكاسحة من المصريين لتحسين الحالة الاقتصادية في البلاد، حيث جاء هدف تحقيق طفرة اقتصادية على رأس أولويات 82% من المصريين في أحد هذه الاستطلاعات، فيما أظهر استقصاء آخر أن نفس الأغلبية – أي 82% – سيؤيدون الحزب السياسي الذي يعد بتحقيق معدلات أعلى من التشغيل من خلال الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية وتعزيز التجارة الخارجية.
ومن ثم فإنه لا ريب من أن التحدي الأهم الذي سيواجه أي حكومة تأتي إلى سدة الحكم في المرحلة المقبلة في مصر سيتمثل في إيجاد فرص عمل ودعم الصادرات واجتذاب استثمارات أجنبية تمكن الاقتصاد المصري من تحقيق معدلات نمو مرتفعة تضمن تحسن مستوى المعيشة للمصريين، وهي كلها أمور لم يحقق النظام السابق النجاح المنشود فيها. ولن نسرد هنا التاريخ الاقتصادي لمصر على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك أن هذا ليس الغرض من هذا الفصل، وإنما سنسعى لرسم الملامح العامة للمعاناة الاقتصادية للمصريين وكيف ساهمت في تأجيج مشاعر الغضب والحنق تجاه النظام.
وفي رأيينا، فإن ظواهر كتفشي الفقر وتدني الأجور وانتشار البطالة تعد عوارض لعوار أعمق أصاب هيكل الاقتصاد المصري. فهناك دول كثيرة ومجتمعات عديدة – كالهند والبرازيل مثلاًيعاني أهلها من الفقر وتدني الأجور، إلا أنها لا تشهد ثورات ولا يسود الإحباط في أوساط شبابها كما ساده في مصر، التي وضح فيها أن الأمل كان قد قتل في نفوس المصريين وأنهم لم يعد لديهم ثقة في المستقبل بسبب ما نراه انه سوء تطبيق النظام لسياسات التحرر الاقتصادي والتحول من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر. فمع اعترافنا بصعوبة الوضع الاقتصادي لمصر عند تولي الرئيس السابق حسني مبارك مقاليد الحكم في أكتوبر 1981 لأسباب متعددة منها الحروب التي خاضتها مصر، والديون التي تراكمت عليها، وسياسات الحقبة الناصرية الاشتراكية التي قضت على القطاع الخاص، والآثار السلبية التي تركتها تجربة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، إلا أن النتيجة تظل انه بعد ثلاثين عاماً من الإصلاحات الاقتصادية وبعدما أعفت الدول الغربية مصر من نسبة كبيرة من ديونها الخارجية بعد حرب الخليج الثانية في عام 1991، فشلت الدولة في تحقيق نقلة نوعية في مستويات معيشة المصريين، وهو ما نجحت فيه دول أخرى واجهت ظروف مشابهة لمصر، مثل كوريا الجنوبية واندونيسيا وماليزيا وفيتنام، وفي هذا الصدد لا يجوز التذرع بالزيادة السكنية المطردة، أو بندرة الموارد، فجميعها ظروف عانت منها المجتمعات النامية التي حققت طفرات اقتصادية كبرى.
ومن مفارقات القدر أن تحسن الأداء الاقتصادي كان من أهم ما يسوّقه النظام السابق لشرعنة بقائه واستمراره في الحكم. وما من شك أن العديد من الخطوات الإيجابية تحققت في السنوات الأخيرة في عدة مجالات، كمعالجة بعض التشوهات الاقتصادية الكلية، وتحقيق معدلات نمو معقولة، وتحسين البيئة الاستثمارية، وتوفير خدمات تكنولوجيا المعلومات لمجتمع الأعمال، وبناء مشاريع للبنية التحتية. إلا أن الإشكالية الرئيسية التي واجهت الاقتصاد المصري، ولاسيما خلال العقد الأول من القرن الحالي، هو عدم ترجمة هذه الخطوات الإيجابية والتحسن الذي طرأ على بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي إلى تحسن ملموس في مستوى معيشة المواطن المصري العادي. ويرى العديد من خبراء الاقتصاد والتنمية أن السبب الرئيسي لفشل السياسات الاقتصادية للحكومة المصرية منذ مطلع التسعينات هو أنها لم تحقق التنمية بمفهومها الواسع والذي يمتد لما هو أبعد من مؤشرات الاقتصاد الكلي ليشمل التنمية البشرية الشاملة، وهو ما عبر عنه بعض المعلقين بالقول أن "المؤشرات الاقتصادية لا تسمن ولا تغني من جوع." وقد تجلت إخفاقات النظام السابق في احتلال مصر – بعد ثلاثين عاماً من برامج الإصلاح الاقتصاديالمرتبة 101 من أصل 169 دولة قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بحصر حالة التنمية البشرية فيها عام 2010، وفي المركز 14 بين الدول العربية. ويعد تردي النظام التعليمي في مصر أهم الشواهد على تراجع التنمية البشرية، حيث مازال حوالي 40% من المصريين يعاونون من الأمية، فيما حققت دول عربية غير نفطية أخرى نجاحات كبيرة في مجال محو الأمية، فقد وصلت نسبة المتعلمين في كل من الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة إلى 99%، وإلى 94% في تونس، وإلى 92،5% في سوريا، و90% في الجزائر.
وقد أدت عدة عوامل مجتمعة – وفي مقدمتها ضعف النظام التعليمي – إلى انتشار البطالة في أوساط الشباب، فقد أظهرت الإحصاءات أن 92% ممن يعانون من البطالة هم من المتعلمين ممن هم دون سن الثلاثين وأن 50% من هؤلاء العاطلين عن العمل في المرحلة العمرية من 20-25 سنة، وذلك لأن التعليم المصري كان يخرج أجيالاً من الشباب غير المؤهلين للمنافسة بكفاءة في سوق العمل وغير القادرين على توفير الأيادي العاملة المدربة القادرة على دفع عجلة الإنتاج. ويتجسد ذلك في الإحصاءات التي توضح أن أعداد العاطلين من المتعلمين والحاصلين على الشهادات العليا أعلى بكثير مما هي عليها بالنسبة لحاملي الشهادات دون المتوسطة وغير المتعلمين، والذين يعانون بدورهم من ضعف شديد في دخولهم.
وقد أدى ذلك كله إلى انتشار الفقر وتحوله إلى ظاهرة وقفت الدولة مكتوفة الأيدي أمامها، فقد كشفت الإحصاءات الدولية عن أن حوالي 44% من المصريين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم وأن 20% محرومون من الخدمات الأساسية اللازمة للاستمتاع بمستوى ملائم للمعيشة.
ومن ثم، فإن النتيجة التي نخلص إليها هي أن الاقتصاد المصري كان يعاني من حلقة مفرغة من الجهل والفقر، حيث يساهم تردي التعليم وضعف مستوى الخريجين في ارتفاع معدلات البطالة وضعف النمو الاقتصادي مما يقلل من معدلات الادخار ويحد من مستويات الاستثمار المحلي ويجعل المستثمر الأجنبي يتردد في الدخول إلى السوق المصري لأنه لا يجد الأيادي العاملة المدربة، وهو ما يعود ويؤجج مشكلة البطالة ويفضي إلى زيادة وانتشار الفقر في المجتمع.
كما ترتب على سوء تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي وإهمال التنمية البشرية الشاملة حدوث خلل جسيم في هيكل الدخل في المجتمع المصري، فاتسعت الفجوة بين الطبقات وازداد الأغنياء غناءً والفقراء فقراً، وشعرت الطبقة الوسطى – والتي يفترض أنها عماد المجتمع – بضغط شديد نتيجة الارتفاع المضطرد في الأسعار وزيادة تكاليف الحياة دون أن يقترن ذلك بزيادة مماثلة في الدخل. وعبرت الوثائق والدراسات الدولية عن هذه الظاهرة بجلاء، حيث تظهر الإحصاءات أن الشريحة الأغنى من المجتمع المصري – والتي تمثل 30% من الشعب – استحوذت على 73% من الدخل القومي، فيما لم تحظ شريحة الـ 30% الأكثر فقراً سوى على 12% من الدخل. أما الطبقة الوسطى التي تمثل الـ 40% الواقعة بين هاتين الشريحتين، فكان نصيبها من الدخل القومي حوالي 15% فقط، وهو أبلغ دليل على اختلال التوازن والعدل في توزيع الثروة في البلاد وإخفاق الدولة في تحقيق الحد الأدنى من العدالة لاجتماعية.
ومن هنا، فإنه يصبح منطقياً أن يؤدي فشل النظام في تحقيق التنمية الشاملة في المجتمع المصري وما أنتجه ذلك من ضعف في الأداء الاقتصادي إلى إفقاد النظام أحد أهم ركائز شرعيته. فقد كان العقد الاجتماعي الضمني المبرم بين الشعب المصري وحكّامه يقضي بأن يوفر النظام حياة كريمة للمصرين في مقابل بقائه في السلطة، وهو العقد الذي أخل به النظام بفشله في ضمان حد أدنى من الرفاهية والرخاء للمصريين. كما أن إخفاق الدولة في تحقيق تقدم اقتصادي كبير في مصر أثبت عدم صحة النظرية التي كان يتبناها النظام والقائلة بأنه يتعين التمهل في القيام بإصلاحات سياسية جذرية إلى حين تحقيق نجاحات في المجال الاقتصادي. وبالتالي، تضافرت هذه الظروف مع غيرها من المعطيات السياسية والاجتماعية لتأجج شعور المصريين بضياع الأمل ولتفقدهم الثقة في قدرة النظام على توفير مستقبل أفضل لهم ولأسرهم ولتشعل غضب المصريين، الذي لم ينطفئ بعد. ولا شك أن شيوع الفساد قد ساهم بدوره في تعزيز الفقر وإجهاض كل محاولات إسقاط ثمار التنمية على القطاع الأوسع من الشعب.
لم يكن يخفى على المصريين، قبل ثورة 25 يناير، أن بلدهم تعاني من الفساد بمختلف أنواعه وعلى اختلاف مستوياته ومجالاته، إلى الحد الذي دفع ما نسبته 13% ممن شملهم استقصاء للرأي أجري في عام 2009 للمطالبة بضرورة وضع مكافحة الفساد على قمة أولويات الحكومة. إلا أن التحقيقات التي أجريت في الأيام والأسابيع التي تلت تنحي الرئيس السابق عن سدة الحكم وسقوط رموز نظامه كشفت عن اتهامات بالفساد تفوق حجماً ونوعاً توقعات المهتمين بملف الفساد في مصر. لقد انتشر الفساد في الكثير من القطاعات الحكومية وأخذ أشكالاً وأنماط متعددة. لم يقتصر الفساد على صغار الموظفين الإداريين من المعدومين الذين يحاولون زيادة دخلهم المتواضع، بل امتد إلى كبار موظفي الدولة وقيادات بعض من أجهزتها الإدارية الذي وجهت لهم الاتهامات باستغلال مناصبهم إما للتربح أو لمساعدة المقربين منهم بشكل غير مشروع. وكما فعلنا في المباحث السابقة، فلن نتناول تفاصيل صور وأنماط الفساد الذي عانت منه مصر، فهذا أمر متشعب الأبعاد ومتعدد الجوانب منها القانوني والاقتصادي والاجتماعي، كما أن تحقيقات الأجهزة القضائية والرقابية في العديد من القضايا والدعاوى مازالت جارية حتى كتابة هذه السطور، وإنما سنحاول فقط أن نتلمس ملامح شيوع الفساد وتوغله في المجتمع المصري، ومدى تأثير ذلك على خروج الشعب المصري غاضباً وثائراً.
لقد تعددت أوجه وأشكال الفساد في مصر، وعايش كل مواطن مظاهره في تعاملاته اليومية مع العديد من الأجهزة والدواوين الحكومية، كما تناولته وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والعديد من الأعمال الفنية على مدار الأعوام فكشفت عن الكثير من فضائحه وسلطت الضوء على ممارساته المعيبة التي ارتكبها بعض من المسئولين الحكوميين أثناء تأدية وظائفهم، كما تناولته العديد من التقارير والبحوث الأكاديمية. وامتد الفساد من الأعمال الإدارية البسيطة لأجهزة في الدولة إلى قرارات هامة مرتبطة باستغلال وتوظيف المال العام، ومن ظاهرة المحسوبية و"الواسطة" في التوظيف إلى الفساد السياسي والتزاوج بين المال والسلطة.
وقد حددت تقارير مؤسسة الشفافية الدولية، وهي من أبرز المنظمات العاملة في مجال مكافحة الفساد، أهم الأنشطة الحكومية التي شهدت مخالفات إدارية، والتي جاء في مقدمتها المشتريات الحكومية، وإساءة استغلال وتبديد المال العام وممتلكات الدولة، واتخاذ قرارات إدارية لتحقيق منفعة لأشخاص أو جهات بعينها، ودفع رشاوى للحصول على استثناءات من اللوائح أو لإنهاء إجراءات إدارية، وللتعيين في الوظائف الحكومية. ولم تسلم السياسية هي الأخرى من الفساد، فشاع ما يعرف بـ "شراء الأصوات " خلال الانتخابات، وانتشرت معلومات حول قيام الدولة بـ "تفصيل القوانين" لخدمة مصالح أفراد بعينهم، كما تردد أن مسئولين حكوميين سهلوا لأشخاص مقربين من السلطة الاستيلاء على المال العام والاستحواذ على مؤسسات وأراضي مملوكة للدولة بأثمان بخسة. ولهذا كله تكرر قبوع مصر في مراكز متأخرة في تصنيفات المؤسسة لمعدلات الفساد العالمية، فاحتلت مصر المرتبة 70 من أصل 163 دولة تم دراسة حجم الفساد فيها في عام 2006، ثم تأخر ترتيب مصر في العامين التاليين اللذين شهدا دراسة حالة 180 دولة، حيث جاءت مصر في المركز 105 في عام 2007، ثم تراجعت إلى رقم 115 في عام 2008. وجدير بالذكر أن هذه التقارير الدولية – والتي تتمتع بقدر كبير من المصداقية – لم تكتف برصد انتشار الفساد في مصر، بل سجلت تناميه واستفحاله في الأعوام الأخيرة.
وبلا شك فإن الفساد الإداري ظاهرة لا تنفرد بها مصر، وإنما هو واقع تعايشه وتعاني منه جميع دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة والديمقراطية. لكن أكثر ما ميز الفساد في المجتمع المصري، وجعله أكثر خطورة وتأثيراً على حياة المواطن، هو استشرائه رغم وجود إطار قانوني متكامل يجرم الفساد وأجهزة رقابية مكلفة بإنفاذ هذه القوانين وملاحقة المفسدين. وبمعنى آخر، فقد كان لدى مصر – وبشهادة المنظمات الدولية – إطار قانوني معقول ومجموعة جيدة من الآليات والأجهزة الرقابية المخصصة لمكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، إلا أن هذه الآليات عانت من التهميش والتقويض والتكبيل. وليس أدل على ذلك من عدد وحجم الأجهزة الرقابية المتعددة القائمة في مصر والتي شملت تخصصاتها مكافحة كافة أوجه وأنماط الفساد. فهناك هيئة الرقابة الإدارية، والنيابة الإدارية، ومباحث الأموال العامة، والجهاز المركزي للمحاسبات، وجهاز الكسب غير المشروع، ووحدة مكافحة غسل الأموال، بالإضافة إلى أجهزة تنظيمية ورقابية كالبنك المركزي الذي ينظم ويراقب أداء القطاع المالي المصرفي، والهيئة العامة للرقابة المالية التي تتولى التنظيم والرقابة لقطاعات التأمين وسوق رأس المال والتمويل العقاري وغيرها من النشاطات المالية غير المصرفية، وجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار وجهاز حماية المستهلك، وأخيراً النيابة العامة صاحبة الاختصاص الأصيل بتحريك الدعوى الجنائية، والوحيد بمباشرتها.
ومن هنا تأتي المفارقة ويثور التساؤل عن مصدر هذا الفساد الذي استشرى بمختلف أشكاله وأنواعه والذي امتد من القطاع العام وأجهزته إلى القطاع الخاص وكياناته؟ وكيف سُمح للفساد أن يتحول إلى منظومة كلفت مصر – وفق دراسات دولية – ما يقرب من ستة مليار دولار سنوياً بين عامي 2000 و2008؟ وتتطلب الإجابة الشافية والوافية على هذا السؤال أكثر بكثير مما هو مخصص هنا لمسألة الفساد.
وفي جميع الأحوال، فإنه من المؤكد أن غياب إستراتيجية وطنية واضحة لمنع وقوع الفساد من خلال إصلاح مواطن الخلل القانوني والإداري والاقتصادي التي تسمح للمفسدين بأن يمارسوا نشاطهم يمثل واحداً من أهم الأسباب التي أدت إلى استفحال الفساد في مصر، حيث لا يمكن لجهود الملاحقة الجنائية للمفسدين وحدها أن تقف في وجه منظومة الفساد.
لقد ساهم تدخل السلطة التنفيذية في عمل الأجهزة الرقابية ومنعها من تأدية مهامها وغض البصر عن التقارير التي كانت ترفعها بشأن بعض وقائع الفساد في المساعدة على انتشارها، فلم تكن هذه الجهات الرقابية تتمتع بالقدر الواجب من الحرية والاستقلال القانوني والمالي والإداري، كما لم يكن عملها في بعض الحالات على القدر الواجب من الكفاءة المهنية، حيث قيدت اللوائح والنظم الإدارية التقليدية من قدرتها على استقطاب الكفاءات، وكانت تصدر في بعض الأحيان توجيهات سياسية بتوقف أعمال الرقابة عند مستوى معين من الوظائف أو بتجاهل تقارير هذه الأجهزة. وقد اقترنت هذه الممارسات مع ما سبق تناولنه حول الزواج المشئوم بين المال والسلطة الذي أدى إلى اعتلال السياسة في مصر، وساهم في تفاقم حالات تضارب المصالح، مما هيأ المناخ لكثيرين ممن كانوا في السلطة لتحقيق مكاسب طائلة أو على الأقل خلق البيئة المناسبة في الاعتقاد في ذلك. ويجب ألا ننسى في هذا الصدد أن الإحساس بوجود فساد لا يقل خطورة عن وجود الفساد بشكل حقيقي.
وكان للفساد بكافة أشكاله، والذي أصاب الحياة الاقتصادية بقدر ما شاع في العمل السياسي، نصيب كبير في تأجيج مشاعر الغضب لدى المصريين وفي ترسخ قناعتهم باستحالة إصلاح النظام، فدفعهم للثورة على النظام والمطالبة بإسقاطه يوم 25 يناير 2011، ومن ثم الدعوة لتطهير البلاد من المفسدين، وهي الدعوة التي لباها المصريون في المظاهرة المليونية المعروفة بجمعة التطهير يوم 11 إبريل 2011، والتي صدر في أعقابها قرارات حبس الرئيس السابق وأبنائه على ذمة التحقيق في بلاغات تتضمن التربح وسوء استغلال السلطة والفساد، وهي البلاغات التي قضي فيها فيما بعد بانقضاء الدعوى الجنائية في شق منها وبالبراءة في شق أخر.
 -----------------------------------------
*عن كتاب الجمهورية الثانية في مصر من تأليف :الأستاذ الدكتور محمود شريف بسيوني
أستاذ القانون والرئيس الفخري لمعهد القانون الدولي لحقوق الإنسان
بكلية الحقوق جامعة دي بول في شيكاجو بالولايات المتحدة
ورئيس المعهد العالي للدراسات العليا في العلوم الجنائية بسيراكوزا بإيطاليا
والرئيس الفخري للجمعية الدولية للقانون الجنائي في باريس
والأستاذ محمد هلال
باحث ومحاضر بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة