Monday, October 8, 2012

قهر الفقر وغياب التنمية الشاملة وشيوع الفساد في مصر

 
لم تكن المعاناة الاقتصادية في صدارة دوافع طليعة الثوار من الشباب الذين خرجوا في مظاهرات يوم 25 يناير، إلا أنها كانت على رأس المظالم التي دفعت أغلب طوائف الشعب المصري لمباركة الثورة ومناصرتها حتى سقط النظام يوم 11 فبراير 2011. وقد أظهرت سلسة من استطلاعات الرأي التي أجريت بعد نجاح الثورة الأهمية التي يوليها الأغلبية الكاسحة من المصريين لتحسين الحالة الاقتصادية في البلاد، حيث جاء هدف تحقيق طفرة اقتصادية على رأس أولويات 82% من المصريين في أحد هذه الاستطلاعات، فيما أظهر استقصاء آخر أن نفس الأغلبية – أي 82% – سيؤيدون الحزب السياسي الذي يعد بتحقيق معدلات أعلى من التشغيل من خلال الإصلاح الاقتصادي وجذب الاستثمارات الخارجية وتعزيز التجارة الخارجية.
ومن ثم فإنه لا ريب من أن التحدي الأهم الذي سيواجه أي حكومة تأتي إلى سدة الحكم في المرحلة المقبلة في مصر سيتمثل في إيجاد فرص عمل ودعم الصادرات واجتذاب استثمارات أجنبية تمكن الاقتصاد المصري من تحقيق معدلات نمو مرتفعة تضمن تحسن مستوى المعيشة للمصريين، وهي كلها أمور لم يحقق النظام السابق النجاح المنشود فيها. ولن نسرد هنا التاريخ الاقتصادي لمصر على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، ذلك أن هذا ليس الغرض من هذا الفصل، وإنما سنسعى لرسم الملامح العامة للمعاناة الاقتصادية للمصريين وكيف ساهمت في تأجيج مشاعر الغضب والحنق تجاه النظام.
وفي رأيينا، فإن ظواهر كتفشي الفقر وتدني الأجور وانتشار البطالة تعد عوارض لعوار أعمق أصاب هيكل الاقتصاد المصري. فهناك دول كثيرة ومجتمعات عديدة – كالهند والبرازيل مثلاًيعاني أهلها من الفقر وتدني الأجور، إلا أنها لا تشهد ثورات ولا يسود الإحباط في أوساط شبابها كما ساده في مصر، التي وضح فيها أن الأمل كان قد قتل في نفوس المصريين وأنهم لم يعد لديهم ثقة في المستقبل بسبب ما نراه انه سوء تطبيق النظام لسياسات التحرر الاقتصادي والتحول من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر. فمع اعترافنا بصعوبة الوضع الاقتصادي لمصر عند تولي الرئيس السابق حسني مبارك مقاليد الحكم في أكتوبر 1981 لأسباب متعددة منها الحروب التي خاضتها مصر، والديون التي تراكمت عليها، وسياسات الحقبة الناصرية الاشتراكية التي قضت على القطاع الخاص، والآثار السلبية التي تركتها تجربة الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات، إلا أن النتيجة تظل انه بعد ثلاثين عاماً من الإصلاحات الاقتصادية وبعدما أعفت الدول الغربية مصر من نسبة كبيرة من ديونها الخارجية بعد حرب الخليج الثانية في عام 1991، فشلت الدولة في تحقيق نقلة نوعية في مستويات معيشة المصريين، وهو ما نجحت فيه دول أخرى واجهت ظروف مشابهة لمصر، مثل كوريا الجنوبية واندونيسيا وماليزيا وفيتنام، وفي هذا الصدد لا يجوز التذرع بالزيادة السكنية المطردة، أو بندرة الموارد، فجميعها ظروف عانت منها المجتمعات النامية التي حققت طفرات اقتصادية كبرى.
ومن مفارقات القدر أن تحسن الأداء الاقتصادي كان من أهم ما يسوّقه النظام السابق لشرعنة بقائه واستمراره في الحكم. وما من شك أن العديد من الخطوات الإيجابية تحققت في السنوات الأخيرة في عدة مجالات، كمعالجة بعض التشوهات الاقتصادية الكلية، وتحقيق معدلات نمو معقولة، وتحسين البيئة الاستثمارية، وتوفير خدمات تكنولوجيا المعلومات لمجتمع الأعمال، وبناء مشاريع للبنية التحتية. إلا أن الإشكالية الرئيسية التي واجهت الاقتصاد المصري، ولاسيما خلال العقد الأول من القرن الحالي، هو عدم ترجمة هذه الخطوات الإيجابية والتحسن الذي طرأ على بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي إلى تحسن ملموس في مستوى معيشة المواطن المصري العادي. ويرى العديد من خبراء الاقتصاد والتنمية أن السبب الرئيسي لفشل السياسات الاقتصادية للحكومة المصرية منذ مطلع التسعينات هو أنها لم تحقق التنمية بمفهومها الواسع والذي يمتد لما هو أبعد من مؤشرات الاقتصاد الكلي ليشمل التنمية البشرية الشاملة، وهو ما عبر عنه بعض المعلقين بالقول أن "المؤشرات الاقتصادية لا تسمن ولا تغني من جوع." وقد تجلت إخفاقات النظام السابق في احتلال مصر – بعد ثلاثين عاماً من برامج الإصلاح الاقتصاديالمرتبة 101 من أصل 169 دولة قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بحصر حالة التنمية البشرية فيها عام 2010، وفي المركز 14 بين الدول العربية. ويعد تردي النظام التعليمي في مصر أهم الشواهد على تراجع التنمية البشرية، حيث مازال حوالي 40% من المصريين يعاونون من الأمية، فيما حققت دول عربية غير نفطية أخرى نجاحات كبيرة في مجال محو الأمية، فقد وصلت نسبة المتعلمين في كل من الأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة إلى 99%، وإلى 94% في تونس، وإلى 92،5% في سوريا، و90% في الجزائر.
وقد أدت عدة عوامل مجتمعة – وفي مقدمتها ضعف النظام التعليمي – إلى انتشار البطالة في أوساط الشباب، فقد أظهرت الإحصاءات أن 92% ممن يعانون من البطالة هم من المتعلمين ممن هم دون سن الثلاثين وأن 50% من هؤلاء العاطلين عن العمل في المرحلة العمرية من 20-25 سنة، وذلك لأن التعليم المصري كان يخرج أجيالاً من الشباب غير المؤهلين للمنافسة بكفاءة في سوق العمل وغير القادرين على توفير الأيادي العاملة المدربة القادرة على دفع عجلة الإنتاج. ويتجسد ذلك في الإحصاءات التي توضح أن أعداد العاطلين من المتعلمين والحاصلين على الشهادات العليا أعلى بكثير مما هي عليها بالنسبة لحاملي الشهادات دون المتوسطة وغير المتعلمين، والذين يعانون بدورهم من ضعف شديد في دخولهم.
وقد أدى ذلك كله إلى انتشار الفقر وتحوله إلى ظاهرة وقفت الدولة مكتوفة الأيدي أمامها، فقد كشفت الإحصاءات الدولية عن أن حوالي 44% من المصريين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم وأن 20% محرومون من الخدمات الأساسية اللازمة للاستمتاع بمستوى ملائم للمعيشة.
ومن ثم، فإن النتيجة التي نخلص إليها هي أن الاقتصاد المصري كان يعاني من حلقة مفرغة من الجهل والفقر، حيث يساهم تردي التعليم وضعف مستوى الخريجين في ارتفاع معدلات البطالة وضعف النمو الاقتصادي مما يقلل من معدلات الادخار ويحد من مستويات الاستثمار المحلي ويجعل المستثمر الأجنبي يتردد في الدخول إلى السوق المصري لأنه لا يجد الأيادي العاملة المدربة، وهو ما يعود ويؤجج مشكلة البطالة ويفضي إلى زيادة وانتشار الفقر في المجتمع.
كما ترتب على سوء تطبيق سياسات التحرر الاقتصادي وإهمال التنمية البشرية الشاملة حدوث خلل جسيم في هيكل الدخل في المجتمع المصري، فاتسعت الفجوة بين الطبقات وازداد الأغنياء غناءً والفقراء فقراً، وشعرت الطبقة الوسطى – والتي يفترض أنها عماد المجتمع – بضغط شديد نتيجة الارتفاع المضطرد في الأسعار وزيادة تكاليف الحياة دون أن يقترن ذلك بزيادة مماثلة في الدخل. وعبرت الوثائق والدراسات الدولية عن هذه الظاهرة بجلاء، حيث تظهر الإحصاءات أن الشريحة الأغنى من المجتمع المصري – والتي تمثل 30% من الشعب – استحوذت على 73% من الدخل القومي، فيما لم تحظ شريحة الـ 30% الأكثر فقراً سوى على 12% من الدخل. أما الطبقة الوسطى التي تمثل الـ 40% الواقعة بين هاتين الشريحتين، فكان نصيبها من الدخل القومي حوالي 15% فقط، وهو أبلغ دليل على اختلال التوازن والعدل في توزيع الثروة في البلاد وإخفاق الدولة في تحقيق الحد الأدنى من العدالة لاجتماعية.
ومن هنا، فإنه يصبح منطقياً أن يؤدي فشل النظام في تحقيق التنمية الشاملة في المجتمع المصري وما أنتجه ذلك من ضعف في الأداء الاقتصادي إلى إفقاد النظام أحد أهم ركائز شرعيته. فقد كان العقد الاجتماعي الضمني المبرم بين الشعب المصري وحكّامه يقضي بأن يوفر النظام حياة كريمة للمصرين في مقابل بقائه في السلطة، وهو العقد الذي أخل به النظام بفشله في ضمان حد أدنى من الرفاهية والرخاء للمصريين. كما أن إخفاق الدولة في تحقيق تقدم اقتصادي كبير في مصر أثبت عدم صحة النظرية التي كان يتبناها النظام والقائلة بأنه يتعين التمهل في القيام بإصلاحات سياسية جذرية إلى حين تحقيق نجاحات في المجال الاقتصادي. وبالتالي، تضافرت هذه الظروف مع غيرها من المعطيات السياسية والاجتماعية لتأجج شعور المصريين بضياع الأمل ولتفقدهم الثقة في قدرة النظام على توفير مستقبل أفضل لهم ولأسرهم ولتشعل غضب المصريين، الذي لم ينطفئ بعد. ولا شك أن شيوع الفساد قد ساهم بدوره في تعزيز الفقر وإجهاض كل محاولات إسقاط ثمار التنمية على القطاع الأوسع من الشعب.
لم يكن يخفى على المصريين، قبل ثورة 25 يناير، أن بلدهم تعاني من الفساد بمختلف أنواعه وعلى اختلاف مستوياته ومجالاته، إلى الحد الذي دفع ما نسبته 13% ممن شملهم استقصاء للرأي أجري في عام 2009 للمطالبة بضرورة وضع مكافحة الفساد على قمة أولويات الحكومة. إلا أن التحقيقات التي أجريت في الأيام والأسابيع التي تلت تنحي الرئيس السابق عن سدة الحكم وسقوط رموز نظامه كشفت عن اتهامات بالفساد تفوق حجماً ونوعاً توقعات المهتمين بملف الفساد في مصر. لقد انتشر الفساد في الكثير من القطاعات الحكومية وأخذ أشكالاً وأنماط متعددة. لم يقتصر الفساد على صغار الموظفين الإداريين من المعدومين الذين يحاولون زيادة دخلهم المتواضع، بل امتد إلى كبار موظفي الدولة وقيادات بعض من أجهزتها الإدارية الذي وجهت لهم الاتهامات باستغلال مناصبهم إما للتربح أو لمساعدة المقربين منهم بشكل غير مشروع. وكما فعلنا في المباحث السابقة، فلن نتناول تفاصيل صور وأنماط الفساد الذي عانت منه مصر، فهذا أمر متشعب الأبعاد ومتعدد الجوانب منها القانوني والاقتصادي والاجتماعي، كما أن تحقيقات الأجهزة القضائية والرقابية في العديد من القضايا والدعاوى مازالت جارية حتى كتابة هذه السطور، وإنما سنحاول فقط أن نتلمس ملامح شيوع الفساد وتوغله في المجتمع المصري، ومدى تأثير ذلك على خروج الشعب المصري غاضباً وثائراً.
لقد تعددت أوجه وأشكال الفساد في مصر، وعايش كل مواطن مظاهره في تعاملاته اليومية مع العديد من الأجهزة والدواوين الحكومية، كما تناولته وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والعديد من الأعمال الفنية على مدار الأعوام فكشفت عن الكثير من فضائحه وسلطت الضوء على ممارساته المعيبة التي ارتكبها بعض من المسئولين الحكوميين أثناء تأدية وظائفهم، كما تناولته العديد من التقارير والبحوث الأكاديمية. وامتد الفساد من الأعمال الإدارية البسيطة لأجهزة في الدولة إلى قرارات هامة مرتبطة باستغلال وتوظيف المال العام، ومن ظاهرة المحسوبية و"الواسطة" في التوظيف إلى الفساد السياسي والتزاوج بين المال والسلطة.
وقد حددت تقارير مؤسسة الشفافية الدولية، وهي من أبرز المنظمات العاملة في مجال مكافحة الفساد، أهم الأنشطة الحكومية التي شهدت مخالفات إدارية، والتي جاء في مقدمتها المشتريات الحكومية، وإساءة استغلال وتبديد المال العام وممتلكات الدولة، واتخاذ قرارات إدارية لتحقيق منفعة لأشخاص أو جهات بعينها، ودفع رشاوى للحصول على استثناءات من اللوائح أو لإنهاء إجراءات إدارية، وللتعيين في الوظائف الحكومية. ولم تسلم السياسية هي الأخرى من الفساد، فشاع ما يعرف بـ "شراء الأصوات " خلال الانتخابات، وانتشرت معلومات حول قيام الدولة بـ "تفصيل القوانين" لخدمة مصالح أفراد بعينهم، كما تردد أن مسئولين حكوميين سهلوا لأشخاص مقربين من السلطة الاستيلاء على المال العام والاستحواذ على مؤسسات وأراضي مملوكة للدولة بأثمان بخسة. ولهذا كله تكرر قبوع مصر في مراكز متأخرة في تصنيفات المؤسسة لمعدلات الفساد العالمية، فاحتلت مصر المرتبة 70 من أصل 163 دولة تم دراسة حجم الفساد فيها في عام 2006، ثم تأخر ترتيب مصر في العامين التاليين اللذين شهدا دراسة حالة 180 دولة، حيث جاءت مصر في المركز 105 في عام 2007، ثم تراجعت إلى رقم 115 في عام 2008. وجدير بالذكر أن هذه التقارير الدولية – والتي تتمتع بقدر كبير من المصداقية – لم تكتف برصد انتشار الفساد في مصر، بل سجلت تناميه واستفحاله في الأعوام الأخيرة.
وبلا شك فإن الفساد الإداري ظاهرة لا تنفرد بها مصر، وإنما هو واقع تعايشه وتعاني منه جميع دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة والديمقراطية. لكن أكثر ما ميز الفساد في المجتمع المصري، وجعله أكثر خطورة وتأثيراً على حياة المواطن، هو استشرائه رغم وجود إطار قانوني متكامل يجرم الفساد وأجهزة رقابية مكلفة بإنفاذ هذه القوانين وملاحقة المفسدين. وبمعنى آخر، فقد كان لدى مصر – وبشهادة المنظمات الدولية – إطار قانوني معقول ومجموعة جيدة من الآليات والأجهزة الرقابية المخصصة لمكافحة الفساد ومحاسبة المفسدين، إلا أن هذه الآليات عانت من التهميش والتقويض والتكبيل. وليس أدل على ذلك من عدد وحجم الأجهزة الرقابية المتعددة القائمة في مصر والتي شملت تخصصاتها مكافحة كافة أوجه وأنماط الفساد. فهناك هيئة الرقابة الإدارية، والنيابة الإدارية، ومباحث الأموال العامة، والجهاز المركزي للمحاسبات، وجهاز الكسب غير المشروع، ووحدة مكافحة غسل الأموال، بالإضافة إلى أجهزة تنظيمية ورقابية كالبنك المركزي الذي ينظم ويراقب أداء القطاع المالي المصرفي، والهيئة العامة للرقابة المالية التي تتولى التنظيم والرقابة لقطاعات التأمين وسوق رأس المال والتمويل العقاري وغيرها من النشاطات المالية غير المصرفية، وجهاز حماية المنافسة ومنع الاحتكار وجهاز حماية المستهلك، وأخيراً النيابة العامة صاحبة الاختصاص الأصيل بتحريك الدعوى الجنائية، والوحيد بمباشرتها.
ومن هنا تأتي المفارقة ويثور التساؤل عن مصدر هذا الفساد الذي استشرى بمختلف أشكاله وأنواعه والذي امتد من القطاع العام وأجهزته إلى القطاع الخاص وكياناته؟ وكيف سُمح للفساد أن يتحول إلى منظومة كلفت مصر – وفق دراسات دولية – ما يقرب من ستة مليار دولار سنوياً بين عامي 2000 و2008؟ وتتطلب الإجابة الشافية والوافية على هذا السؤال أكثر بكثير مما هو مخصص هنا لمسألة الفساد.
وفي جميع الأحوال، فإنه من المؤكد أن غياب إستراتيجية وطنية واضحة لمنع وقوع الفساد من خلال إصلاح مواطن الخلل القانوني والإداري والاقتصادي التي تسمح للمفسدين بأن يمارسوا نشاطهم يمثل واحداً من أهم الأسباب التي أدت إلى استفحال الفساد في مصر، حيث لا يمكن لجهود الملاحقة الجنائية للمفسدين وحدها أن تقف في وجه منظومة الفساد.
لقد ساهم تدخل السلطة التنفيذية في عمل الأجهزة الرقابية ومنعها من تأدية مهامها وغض البصر عن التقارير التي كانت ترفعها بشأن بعض وقائع الفساد في المساعدة على انتشارها، فلم تكن هذه الجهات الرقابية تتمتع بالقدر الواجب من الحرية والاستقلال القانوني والمالي والإداري، كما لم يكن عملها في بعض الحالات على القدر الواجب من الكفاءة المهنية، حيث قيدت اللوائح والنظم الإدارية التقليدية من قدرتها على استقطاب الكفاءات، وكانت تصدر في بعض الأحيان توجيهات سياسية بتوقف أعمال الرقابة عند مستوى معين من الوظائف أو بتجاهل تقارير هذه الأجهزة. وقد اقترنت هذه الممارسات مع ما سبق تناولنه حول الزواج المشئوم بين المال والسلطة الذي أدى إلى اعتلال السياسة في مصر، وساهم في تفاقم حالات تضارب المصالح، مما هيأ المناخ لكثيرين ممن كانوا في السلطة لتحقيق مكاسب طائلة أو على الأقل خلق البيئة المناسبة في الاعتقاد في ذلك. ويجب ألا ننسى في هذا الصدد أن الإحساس بوجود فساد لا يقل خطورة عن وجود الفساد بشكل حقيقي.
وكان للفساد بكافة أشكاله، والذي أصاب الحياة الاقتصادية بقدر ما شاع في العمل السياسي، نصيب كبير في تأجيج مشاعر الغضب لدى المصريين وفي ترسخ قناعتهم باستحالة إصلاح النظام، فدفعهم للثورة على النظام والمطالبة بإسقاطه يوم 25 يناير 2011، ومن ثم الدعوة لتطهير البلاد من المفسدين، وهي الدعوة التي لباها المصريون في المظاهرة المليونية المعروفة بجمعة التطهير يوم 11 إبريل 2011، والتي صدر في أعقابها قرارات حبس الرئيس السابق وأبنائه على ذمة التحقيق في بلاغات تتضمن التربح وسوء استغلال السلطة والفساد، وهي البلاغات التي قضي فيها فيما بعد بانقضاء الدعوى الجنائية في شق منها وبالبراءة في شق أخر.
 -----------------------------------------
*عن كتاب الجمهورية الثانية في مصر من تأليف :الأستاذ الدكتور محمود شريف بسيوني
أستاذ القانون والرئيس الفخري لمعهد القانون الدولي لحقوق الإنسان
بكلية الحقوق جامعة دي بول في شيكاجو بالولايات المتحدة
ورئيس المعهد العالي للدراسات العليا في العلوم الجنائية بسيراكوزا بإيطاليا
والرئيس الفخري للجمعية الدولية للقانون الجنائي في باريس
والأستاذ محمد هلال
باحث ومحاضر بجامعة هارفارد بالولايات المتحدة



Monday, April 30, 2012

علم السياسة أو علم العلوم والحاجة الى تأسيسه على قواعد جديدة


علم السياسة..أو علم العلوم..والحاجة الى تأسيسه على قواعد جديدة

السياسة ليست هي النظام السياسي واﻻننخابات والبرلمان وإنما هذه كلها آليات لممارسة السياسة، وليست السياسة ذاتها. السياسة هي العلم الذي يبحث في كيفية أدارة معاش الناس ومصالحهم وأمنهم وتحقيق السلام والوفاق اﻻجتماعي داخل مجتمعهم. وهو اﻷمر الذي ﻻ تحققه المزايدات والخطب الحماسية.علم يحتاج إلى العقول وليس الحناجر.
 علم السياسة
 هذا العلم ، الذي يتم الحديث عنه هناوالذي سبق تعريفه بإدارة معاش الناس ،وله تعريف مشابه لذلك استخدمة الكواكبي بأنه :إدارة الشئون المشتركة بمقتضي الحكمة ،يعتمد ، في تصوري ، على ثلاثة أركان أو عوامل تؤثر فيه وتحدده.
 أولها : اﻻنسان الذي استخلفه الله في اﻷرض لتعميرها باعتباره محور اهتمام العلم ، وكل ما توصل اليه من علم ومعارف ويحكمه من قيم أخلاقية ودينية،
 وثانيها المكان: أي خصائص اﻷرض والموقع وكيفية التعامل مع ثرواتها الظاهرة والباطنة، أو بكلمة أخرى الجغرافيا،
 وثالثها الزمان : أي التاريخ والحاضر وما تتطلبه ظروف العصر. ومن ﻻ يحيط علما بتلك اﻷركان أو العوامل الثلاثة، وتأثيرتها على السياسة ، ﻻ يعرف شيئا عن حقيقة السياسة ومتطلباتها. الحاجة الى علم جديد للسياسة إن معظم من عالجوا موضوع السياسة كانوا يعملون في خدمة الحكام أو الدول أو يتقدمون إليهم بالنصح، ولذا تركزت اهتماماتهم وأبحاثهم حول الدولة وكيفية تنظيمها وتسييرهالصالح حكامهاودوام حكمهم ، وليس على السياسات التي على الدولة اتباعها لخدمة مواطنيها، والتي هي أساسا السبب أو مدعاة أقامة وإنشاء الدولة، ومؤسساتها، والدور الذي يجب أن تلعبه كل مؤسسة منها ، سواء كانت مؤسسة تشريعية أو تنفيذية أو قضائية.وصار لذلك الفقه الدستوري هو أهم مافي علم السياسة حسب تلك اﻻهتمامات التي انصبت على الدولة.وفي أحسن الحالات صارت أبحاثهم تتركز الي حد كبير على كيف يسوس الحكام حكامهم لكي ينالوا رضاهم؟أي كيفية تحقيق مصالح الحاكمين لكي تتواصل سيطرة الحكام عليهم، وكيف يقيمون العلاقات مع الدول الخارجية؟ أو ما شابه ذلك.ثم انقسم العلم ضمن هذا التوجهالذي حصره في الدولة الى علوم مثل : علم اﻻقتصاد السياسي ، وعلم اﻻجتماع السياسي وعلم النفس السياسي، والعلاقات الدبلوماسية وغيرها مما أطلق عليه : العلوم السياسية. وإذ يحتاج علم السياسة الى كل هذه العلوم ،فإنه في الواقع يمكن أن نطلق عليه : علم العلوم . وهو ما يعني أن السياسي عليه أن يعرف وظيفة كل علم في تخطيط سياسته ، سواء تلك العلوم التي وصفت بالعلوم السياسية أو غيرها من العلوم.وفي نفس الوقت يجب أن تتغير الفلسفة التي يقوم عليها علم السياسة أو علومها الحالية لكي تبني على فلسفة جديدة يكون فيها الحاكمون هم المحكومين أنفسهم. ولقد استفادت الرأسمالية اﻷوربية في أوربا من الفلسفة الماركسية التي أظهرت لها عيوبها وتنبأت بزوالها، فقامت بالحد من تلك العيوب لكي تستمر في الهيمنة على الشعوب وﻻيتم استبدال ديكتاتوريتها بديكتاتورية البروليتاريا كما أنذتها الماركسية.
 الكثيرون يعتبرون أن أول كتاب في علم السياسة الحالي هو كتاب اﻷمير لمكيافيللي والذي كان بمثابة توجيهات للحاكم معتبرا أن القوى المحركة للتاريخ هي "المصلحة المادية" و"السلطة.وكتبه كموظف في حكومة جمهورية فلورنسافقد وظيفته ودخل السجن وتعرض للتعذيب بعد عودة الملكيةواتهامه بالتآمر عليها ، وراح بعد خروجه منه يحاول استخلاص الدروس السياسية مما حدث ومعالجة أخطاء الحكم التي تسببت في سقوطه وفقده وظيفته فيه.ونشر كتابه بعد وفاته. ولكن أيضا يمكن اعتبار كتاب كليلة ودمنة ﻻبن المقفع كتابا له علاقة بعلم السياسة وإن كان عبارة عن حكايات حول الحيوانات ، فكان يستهدف به انتقاد حكم الخلقاء العباسيين الذي كان يخفي معارضته لهم ،وفي نفس الوقت تقديم النصح للحكام.كما يمكن النظر الى كتاب : "الأحكام السلطانية والولايات الدينية:للماوردي المتوفي عام 450هـ بأنه يندرج ضمن هذا النوع من الفكر السياسي الموجه للحكام ، ولو أنها ﻻ تؤسس علما قائما بذاته.
 يحتاج اﻷمر في هذه الحالة الى إعادة صياغة العلوم السياسية لكي تتخذ اﻻنتاج وتحقيق رفاهية المجتمع وعدالة التوزيع فيه مركز الاهتمام لها، وليس الدولة وإدارتهاوأحزابها ومؤسساتها على النحو الذي ساد خلال القرنين الماضيين.بل قد تفضي هذه الفلسقة الجديدة المنشأة لعلم السياسة كما يجب أن يكون عليه إلى أشكال جديدة لنظام الحكم غير تلك النظم التقليدية التي عرفتها الدول حتى اﻵن. خاصة إذا ما أخذ في اﻻعتبار أن أشكال أو نظم الحكم التي يتم العمل بها في العالم حاليا هي من مفرزات الثورة الصناعية في أوروبا والتاريخ اﻷوروبي وأنه تظلنا اﻵن ثورة معلوماتية تعطي أمكانات أفضل لمشاركة الشعوب في تقرير مصيرها ومستقبلها والمشاركة اﻹوسع في الحكم لم تكن تتيحها ظروف الثورة الصناعية، وقد بدأ الحديث بالفعل على نطاق واسع في العالم الغربي عن احلال الديموقراطية الشاركية أو التشاورية محل الديموقراطية البرلمانية التقليدية الحالية. ويقترب من هذا الفهم الدكتور عبدالله الفقيه الدي وجدته يقول في مدونية حول علاقة علم السياسة والذي يطلق عليه : علم القوة، وهو محق في ذلك،بالعلوم الأخرى بأن العلوم الطبيعية تدرس. البيئة التي يعيش فيها الإنسان، وتدرس العلوم الإنسانية سلوك الإنسان. ومن الطبيعي ان تتقاطع العلوم المختلفة وخصوصا الإنسانية مع علم السياسة. وتركز الدراسات الإنسانية المعاصرة ومنها الدراسات السياسية على الاقتراب من الظاهرة التي يجري دراستها بتوظيف معطيات أكثر من حقل من حقول المعرفة وذلك لأن السلوك الإنساني يتصل ببعضه البعض. فلا يمكن مثلا الفصل بين سلوك الإنسان في السوق موضوع علم الاقتصاد) وسلوكه في المؤسسات السياسية (موضوع علم السياسة) وتاريخ ذلك السلوك (موضوع علم التاريخ) والقوانين المنظمة لذلك السلوك (موضوع علم القانون). ثم يضع جدوﻻ يذكر فيه العديد من العلوم التي لها علاقة بعلم السياسة والتي ﻻ تقتصر على العلوم اﻻنسانيةوحدها ، والتي يمكن تلخيصها في العلوم التي تدرس كل ما له علاقة باﻻنسان والمكان والزمان ، باعبارها محددات معرفة وثقافة ووجود ومصالح اﻻنسان والمجتمع الذي يعيش فيه..
 وسواء كان اﻷمر يتعلق بعلم السياسة الحالي الذي ينظم شؤون الدولة والحكم بما يتيح استمرارية القوى النافذة في المجتمع ومصالحها بعد توفيقها مع مصلحة الشعب أو كان متعلقا بعلم السياسة الذي تتم الدعوة اليه هنا والمبني على أساس فلسفي مغاير، يتلخص في أن مهمته تدبير شؤون الناس وليس المحافظة على مصالح الحكام، والذي يقود مباشرة الى تحقيق التنمية اﻻنسانية العادلة بأوجهها اﻻنسانية واﻻقتصادية والثقافية واﻻجتماعية والحضارية، فإن إقامة مشروع إنتاجي وفق علم السياسة كما هو عليه أو كما تتم الدعوة الى تغييره هنا،يحتاج الى استخدام العديد من العلوم مثل التخطيط واﻻحصاء والتنظيم واﻻدارة والطاقة وعلوم الهندسة أنواعها من مدنية ومعمارية وكهربائية وميكانيكية واﻻتصالات وإنتاج وتعدين والزراعة والتقنية والتسويق والتمويل...وماإلى ذلك. وليس مطلوبا من السياسي أن يتخصص في تلك العلوم أو أن يكون ملما بتفاصيلها وإنما يحتاج الى أن يعرف ما هي العلوم التي يحتاج المشروع الى اﻻستعانة بمتخصصين فيها، ودور كل علم في تحقيق المنتج القادر على المنافسة في اﻷسواق المحلية والخارجية أو في تحقيق مزايا نسبية تزيد من قدرته التنافسية، وهو ما يعرف بدراسة الجدوى اﻻقتصادية للمشروع والتي يفترض أن تتم بعد إنجاز الدراسات الفنية له. ومن هنا يأتي الفرق بين السياسي المنشغل بالسلطة والصراع عليها والسياسي الذي يبحث فيما يجب توظيف السلطة فيه بعد الحصول عليها. وفيما يلي بيان للغوامل الثلاثة المحددة للسياسة السابق ذكره ، وهي : اﻻنسان والمكان والزمان ،يظهر أهميتها وتأثيرها أيضا على علم السياسة وعلى تحديد أهداف السياسات اﻻنمائية، أيا كان نوعها، التي تستهدف صالح المجتمع بكل مكوناتها ، وليس تسخير أعلبية المكونات لمكون واحد أو أكثر في المجتمع دون بقية المكونات.
 أوﻻ : إﻻنسان :
 يحتاج اﻷمر لمعرفة ماهو اﻹنسان والفطرة التي خلق عليها والحاجات البيولوجية له وهو ما يدخل في اختصاص علم النفس والذي يسترشد فيه بالنسبة للمجتمع المسلم بما ورد بالقرآن الكريم عن اﻹنسان ودوره في اﻷرض ، على أساس أن الخالق هو اﻷعلم بمن خلقه، ولم خلقه؟. واﻹنسان كائن اجتماعي ، ﻻيمكنه أن يعيش اﻻ في مجتمع يحتضنه، وهنا تأتي الحاجة الى علم الاجتماع. وحاجة اﻻنسان الى الغذاء، وتلبية كافة احتياجاته، وإلى تبادل المنفعة مع الخير، وهو يدخل في اهتمام علم اﻻجتماع. ولكونه كائن اجتماعي فإن له عادات وتقاليد ومعارف وثقافة وهو مايبحثه علم اﻷنبروبولجيا. ويحتاج أن يعيش في تجمعات عمرانية تتوفر على خدمات التعليم والصحة والماء والطاقة والنقل وهو ما يختص به علم العمران والعلوم الهندسية المتنوعة من مدنية ومعمارية وكهربائية وميكانيكية واليكبرونية وغيرها. والسياسة التي تتمحور حول سد احتياجات اﻹنسان لن تكون في غني عن أي علم من العلوم التي حقق فيها اﻻنسان على مستوى العالم تقدما.وتعتبر أهم وظيفة لعلم السياسة هو كيفية توظيف كل تلك العلوم في خدمة اﻹنسان وتغزيز وجوده الحضاري وامتلاكه القوة الكافية لحماية مصالحها وأهم مضدر لتك القوة هو قوة المعرفة، أو ماسماه بول كيندي بقوة المعنى. علم السياسةإذن هو علم يتميز بطبيعته الأبيستمولوجية، إذ يتداخل مع العديد من العلوم الإنسانية والعلوم . وليست السياسة كما يفهمها العديد من السياسيين والعسكريين والأمنيين والإعلاميين وكافة المتدخلين فيها في عالمنا ضربا من الفهلوة لا يحتاج إلا إلى التمتع بقدر من الذكاء والدهاء. فالسياسة غير منفصلة عن التاريخ والجغرافيا (خاصة الاقتصادية) منها والاقتصاد والنفس والاجتماع وليست معزولة عن الثقافة السائدة في المجتمع (بما فيها الأيديولوجيات والدين) أو عن دراسة القانون (خاصة الشق الدولي والبحري والدستوري منه).
وقد خرجت من هذه العلوم علوم مستقلة عنها تعد حلقة وسطى بينها وبين السياسة، فظهر علم النفس السياسي وعلم الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع السياسي ....الخ. حيث تخضع عملية صنع القرار السياسي لمؤثرات عديدة. وطالما القرار السياسي يخضع عند كل من صناعه إلى مؤثرات متباينة أو متعددة، فيصعب الحديث عن سياسة رشيدة أو مثالية، وإنما يمكن وصف السياسة بأنها طبيعية أو براغماتيكية أو عقلانية أو مجدية...الخ، عندما نرغب في الإشادة بها أو التدليل على صلاحيتها، طالما تتوافق مع تاريخ وثقافة المجتمع وتحقق المصالح الحيوية التي استهدفها من يصنعون قراراتها.

 ثانيا : المكان:
تلعب خصائص المكان دورا هاما في تحديد السياسة والتي هي مضطرة للتعامل مع تلك الخصائص والمزايا أو العيوب التي تشوب المكان. ومن أهم خصائص المكان بالنسبة للدولة هو موقعها الجغرافي .وهو اﻷمر الذي أوﻻه اهتماما كبيرا العالم المصري الراحل جمال حمدان فيما بحثه عن فلسفة الموقع المصري. ولم يكن نابليون بونابرت مبالغا كثيرا عندما قال حسب ما ينقل عنه بأن من يستولي على مصر يحكم أو يسود العالم.وقد تكون مقولته تلك ذات مصدافية كبيرة في زمانه ولكن ﻻ يعني هذا أنها تحتفظ بنفس القيمة في كافة اﻷزمنة، وإنما أيضا ﻻتفقد قيمتها كلية.وإذا كان ﻷهمية الموقع مزايا فإن تلك المزايا تشكل أيضا مصدرا للمخاطر طالما أنها ستغري الغير للهيمنة عليه واستغلاله لمصالحهم ، وهو ما يعد سبب كل الغزوات التي تعرضت لها مصر في تاريخها القديم والجديث معا.وودود لمصر سواحل طويلة على البحر اﻷبيض المتوسط وعلى البحر اﻷحمر، يفرض على سياستها أن تعني بتلك السواحل وأن تعمرها وتكفل أيضا حمايتها من أي عدوان أجنبي عليها من الطامعين في السيطرة على الموقع المصري.ونفس الشيئ يمكن قوله على موقع المملكة المغربية التي لهاأيضا سواحل طويلة على البحر المتوسط والمحيط اﻷطلسي. بينما نجد دولة مثل السودان محاطة بتسع دول ، تتوسطها مثلما تتوسط جوهرة في عقد ، ومنها دول ليس لها منافذ على البحر ، وتحتاج للسودان.وهو ما يشكل ميزة للسودان ومصدرا أيضا للمخاطر عليه كدولة.وعندما نجد أن سبع دول منها تعد دوﻻ زنجية، ودولة واحدة هي مصر ذات أصول زنجية ولكنها لم تعد محسوبة ضمن المحيط الزنجي للسودان، فإن السياسة السودانية يفترض فيهاأن تولي أهمية للدول السبع اﻷخرة أكثر من مصر وليبيا. ولذا يعد القول بهوية السودان العربية اﻹسلامية، رغم صحة ذلك من حيث اللغة والدين، هو قول ليس في صالح السودان وقد أثبتت اﻷحداث اﻷخيرة ذلك ، سواء الصراع مع قبائل الجنوب التي انتهت بانفصال الجنوب أو الصراع في دارفور أو في الشرق مع قبائل البجة أو تململ النوبة وهي وضعية تهدد السودان بمزيد من اﻻنقسامات والتدخلات اﻷجنبية ولن تنفعة لحماية نفسه تلك الهوية العربية اﻻسلامية التي جعلها أغبياء فيه من المقدسات. إنني كمصري أحب السودان وأدرك العلاقات التاريخية به من أيام الفراعنة وأعرف أن ﻻحياة لمصر بدون السودان ولكن اﻷمانة الفكرية والعلمية كانت تقتضي مني دائما اعتبار إن اهتمام السودان بمحيطه الزنجي واﻻندماج فيه هو ما تقتضيه مصلحته ويصب في نهاية اﻷمر في صالح اﻹنسان المصري على المدي البعيد. بل يزيد من أهمية السودان للشعب المصري والدولة المصرية وزيادة اندماجها في النسيج اﻹنساني اﻷفريقي مما يزيد من تحصيلها المنافع. ويأتي ضمن ما يفرضه المكان على السياسة ما يختزنه المكان من ثروات أو فرص وكيفية استثمارها لصالح الشعب. ومن ذلك فإن كل ما يتعلق بتعمير واستقلال أراض في الصحراء الغربية المصرية أو سيناء أو السواحل المصرية الطويلة في الزراعة والصناعة وإعادة توزيع السكان على اﻷرض بعد مد المياه اليها ، تعد كلها مشروعات ذات أهمية بالغة يجب أن تتصدر اهتمامات أي سياسة مصرية طلبا للقوة وضمان أمن السكان. ونفس الشيئ يمكن قوله بالنسبة للصحراء الشرقيةوالغربية وساحل البحر اﻷحمر في السودان والتي تعد امتدادا لمثلها في مصر ، وهو ما يتطلب سياسة موحدة في هذا الشأن في كل من مصر والسودان معاومشاريع تستهدف التنمية المشتركة لكل من البلدين وتعود بالنفع على شعبيهما، بل وعلى الشعوب اﻷخرى المحيطة بالسودان والتي يفرض عليه موقعه الوسطي بينها والمركزي في نفس الوقت الى التعامل معها بروح اﻷخوة والمساواة والتخلي عن أي شوائب عنصرية أو عرقية. ويتحكم المكان أيضا في تلك السياسات حيث يكون لطبيعة التربة إذا كانت رملية أو طينية أو حمراء أو من اللتريت في أساليب التعامل معها، وأيضا تتحكم طبوغرافية اﻷرض كأرض سهلية أو جبلية واتجاه الميل فيها وإتجاه الرياح وكل ما يتناوله عادة علم الجغرافيا والهندسة المدنية وعلوم الزراعة والتعدين أو الجيوليوجيا.
 ثانيا : الزمان :
 ﻻ يعني الزمان هنا مجرد دراسة التاريخ واستخلاص الدروس منه وإنما يعني أيضا التخلص مما تراكم عبره من مفاسد ومن أوضاع معيقة للتغير والتقدم ، وأيضااﻻستفادة مماشهده العصر من تقدم في شتي العلوم والمعارف وبحيث تواكب السياسة مستجدات العصر ومتطلباته. لقد كنا نستورد من أوروبا ليس فقط التقنيات وإنما أيضا النظريات والفلسفات ونظم الحكم وغيرها التي ﻻ تدخل في نطاق الماديات ، وعلى الرغم أنها صيغت تحت ضغط متطلبات التحولاتالكبري التي شهدها تاريخها والتي لم تمر مجتمعاتنا بها. ومع ذلك فإننا لم ننتبه بعد بأن ما ينشغل به مثقفونا من مفرزات الحداثة الغربية كان ناتجا عن الثورة الصناعية بأوروبا وأن العالم اﻵن يشهد ثورة في المعلوميات تتطلب أخذها في اﻻعتبار وهذه الثورة من شأنها أن تقلب كل ميراث الثورة الصناعية ظهرا على عقب. وهو اﻷمر الذي اهتم بالتبشير له في مصر الدكتور راجي عنايت ، ولم يجد إذنا صاغية لما يدعو اليه. ولقد عملت النظم اﻻستبدادية الحاكمة في دول شمال أفريقيا على تحصين وجودها واستمراريتها بخلق أوضاع وأجهزة وطبقة منتفعة من حكمها، ونشر قيم فاسدة في مجتمعاتها ،تكفل لها استمرارية الحكم ونهب الثروات وحماية مصالحها.
 وعندما قامت ثورة 25 يناير الشعبية في مصر كتبت كثيرا بأن أي ثورة تروم تغيير اﻷوضاع لن تنجح في تحقيق أهدافها مالم يكن لها بنية تنظيمية موحدة لها ومغايرة لبنية النظام الحاكم وثقافة سياسية أيضا تكون على النقيض من ثقافة النظام الحاكم. ولعدم توفر قوى الثورة على تلك البنية التنظيمية وﻻ على تلك الثقافة ، فما أن ترك حسني مبارك مكانه تحت ضغط الشارع حتي حل محله أعوانه من العسكريين واﻷمنيين الذين كان يعتمد عليهم اﻻيتمرار حكمه وعملوا على إجهاض الثورة والحيلولة دون تحقيق أهدافها.بل إن المليارات التي هربتها أسرة مبارك والضالعين معه في حكم البلاد إلى الخارج لم يتم العمل على استرجاعها ، ﻷن استرجاعها سيتطلب بالضرورة إن تتم مصادرة واسترجاع كل اﻷموال التي هربها الشركاء في الحكم من العسكريين والمدنيين ورجال اﻷعمال وكشف ما هربوه وفضحهم ، وﻻ يمكن أن يطلب من الدول اﻷجنبية أن تصادر أموال البعض وترك أموال آخرين دون مصادرة طالما الأمر يتعلق بمن شاركوا مبارك وعائلته حكمهم وفسادهم ونهيبهم لثروات البلاد.
 وﻻيقف اﻷمر عند حد إرث النظام السياسي الذي قامت عليه الثورة وإنما يتطلب مواجهة ما أفرزته قرون من التخلف التي عرفتها شعوبنا بعد أن انتقلت الحضارة التي عرفتها المجتمعات المسلمة في القرون الوسطي الى أوربا في بداية العصر الحديث وعاش شعوب منطقتنا في ظلمات متراكمة من الجهل والتخلف أفسدت القيم المجتمعية والعقل الجمعي والفردي على حد سواء.وهي أمور مازالت تعاني منها مجتمعاتنا حتى اﻵن، ومنها على سبيل المثال ﻻ الحصر الظاهرةالسلفية وظاهرة الطرق الصوفية السابقة لها، وتشمل أيضا معتنقي المذاهب المنحرفة عن دين اﻷمةوالمعادية له ، والذين يريدون المحافظة على اﻷوضاع ومقاومة التغيير يعتبرون الكثير من موروثات الماضي الفاسدة من خصائص شعوبهم، ومن مقومات هويتهاوأصالتها المزعومة. دراسة التاريخ في هذه الحالة ﻻتقف عند الهزائم واﻻنتصارات وإنمافهم الواقع وتأثره بتاريخه ،
 وعلى سبيل المثال فإن القيم اﻷخلاقية الواردة في كتاب الموتى الفرعوني تعد هي القيم اﻷصيلة للمجتمع المصري وليست تلك القيم الصائدة في زماننا هذافيه. ونفس الشيئ قإن الشريعة اﻹسلامية ليس شعائر أو مناسك دينية أو حدود للجرائم فقد وإنما هي منهج حياة متكامل يكفل الحرية والكرامة والعدالة والمساواة للموطنين، وكافة حقوق اﻻنسان الوارد معظمها في المواثيق الدولية، ومحاولة حصر الشريعة في نظاق ضيق، أو الحد من حقوق اﻹنسان أو حرية الفكر واﻷخذ بالعلوم الجديثة وتطبيقاتها هو ضد الشريعة وأحكامها والقيم التي وردت بها والمقاصد التي استهدفتها. أمثلة من التاريخ المعاصر عن تأثير العوامل الثلاثةعلى السياسات الدولية كتبت في أول يناير 2008 مقالا بعنوان :"علم السياسة وتعدد مصادر التأثير على صناع القرار "يوجد في اﻻنترنيت بموقع صحيفة "التجديد "على الرابط التالي: http://www.attajdid.ma/affdetail.asp?codelangue=6&info=38171 :وكذلك في موقع "مغرس "على الرابط التالي :http://www.maghress.com/attajdid/38171 ويوضح أهمية التاريح في فهم سياسة الدول ،قلت فيه : . ولقد أشعلت الجغرافيا الحرب العالمية الثانية بعد أن ضاقت حدود ألمانيا باقتصادها المزدهر وتسببت طبيعة أرضها المجافية للإنتاج الزراعي في نشوء الحاجة إلى أراض خصبة في أوكرانيا شرقا تزرع القمح. واحتاجت الصناعة في ألمانيا أيضا إلى الخامات المعدنية في الإلزاس واللورين وبولندا كما احتاج الإنتاج الصناعي إلى أسواق عالمية لتصريفه ، تسيطر عليها الدول الاستعمارية الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا وأسبانيا والبرتغال، فضلا عن تحكمها في الموارد الطبيعية للمستعمرات بينما لا يتبع ألمانيا الأكثر تقدما سوي مستعمرة ناميبيا وبضعة جيوب صغيرة في أفريقيا وهي الأكثر تقدما وحاجة إلى المواد الأولية. ورغم بروز هذا التطلع الذي يمكن تفهمه، والذي كان يمكن تحقيقه بدون التوسع في الحرب بعد الانتشاء بنشوة الانتصارات السريعة التي تحققت لألمانيا في بدايتها والذي انتهي بخسارة الحرب. فقد شاب قرار الحرب من بدايته عامل نفسي عبارة عن طلب ثأر قديم للألمان عند الممسكين بسلطة الحكم في الاتحاد السوفييتي، وليس عند شعوب الاتحاد ذاتها. أججه خسارة ألمانيا للحرب العالمية الأولى، وهو أمر يتجاهله معظم المؤرخين. فالثابت تاريخيا أن كل من فلاديمير اليتش لينين وتروتوسكي كانا يهوديين ألمانيين أرسلتهم ألمانيا إلى الاتحاد السوفييتي لإثارة الفوضى في أطرافه وإثارة النزعات القومية لدى الشعوب التي ضمتها الإمبراطورية الروسية قسرا إليها. فأرسلت ألمانيا لينين إلى أسيا الوسطى والذي كان بالفعل يثير شعوبها ويعدها بأنها لو ساعدت حزبه الشيوعي وانضمت إليه ستنال استقلالها التام وكانت كتاباته قبل ثورة 1917 تدور حول حقوق القوميات وحريتها واستقلالها ثم ارتد عن ذلك كله بعدما فشلت البورجوازية الروسية التي أنجزت ثورة 1917 في إدارة شؤون الدولة واضطرت بعد حوالي عامين تقريبا من إمساكها زمام السلطة للتنازل عنها للينين والذي وضع المرابون اليهود أموالهم وديعة في خزينة الدولة لكي تستثمرها لحسابهم وحساب ورثتهم من بعدهم مقابل فائدة سنوية تدفع في حساباتهم البنكية وعلي أن يتولوا هم إدارة الاستثمار. وبناء عليه، تحولت الإمبراطورية الروسية السابقة إلى شركة سوفييتيه يهودية مساهمة واحدة كبرى، وتحولت شعوب الإمبراطورية إلى بروليتاريا في خدمة تلك الشركة، مستغلة أسوء من الاستغلال في الدول الرأسمالية في انتاج فائض القيمة وليس لها الحق في تكوين نقابات تدافع عن حقوقها. وتم التنكر لحقوق القوميات وإن منح بعضها نظام حكم ذاتي شكلي يسيطر عليه الحزب الشيوعي. وهذا يفسر لم كان 99في المائة من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي من اليهود .ويفسر أيضا لم انهار اقتصاد الاتحاد السوفييتي السابق بمجرد أن قام عدد من اليهود بسحب مليارات الدولارات من خزينة الدولة وتهريبها الي اسرائيل والولايات المتحدة وسويسرا ودول أوروبا الغربية. ويفسر أيضا لما كان جميع رؤساء حكومات بوريس يلتسن من اليهود والذين أطلقت عليهم تسمية : الاصلاحيين ولم يكن أمامه سوى ذلك لكي يستعيدوا أموالهم المهربة والتى اعادوها ليشتروا بها جميع مؤسسات الدولة الإنتاجية الكبرى بأبخس الأثمان باسم الخوصصة والإصلاح الاقتصادي ، ومن هؤلاء المليونيرات العائدين تتكون مايطلق عليه حاليا بالأوليغارشيا في روسيا الاتحادية، والمسيطرة إلى حد كبير على الاقتصاد الروسي وبالتالي على السياسة الروسية الداخلية والخارجية، إلى جانب عصابات المافيا التابعة لها. لنفس الغاية أرسلت ألمانيا تروتسكي إلى فنلندا في شمال شرق روسيا إلا أنه بعد أن استولى رفيقه لينين على الحكم في موسكو انقلب من عميل ألماني إلى متطرف روسي. وانتهى أمره بعد أن هاجر إلى الأرجنتين بعدما خسر معركته على الزعامة مع لينين باغتياله هناك في ظروف غامضة. وقد اعتبرت ألمانيا آنذاك تصرف كل من لينين وتروتوسكي ومن لحق بهم من اليهود الروس بمثابة خيانة يهودية لهم دفع ثمنها بعد ذلك يهود ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية حيث تم حشرهم في المعتقلات باعتبارهم عناصر غير مأمونة الجانب على مصالح الدولة وهي في حالة حرب كإجراء احترازي تلجأ اليه كل الدول تقريبا في حالة الحرب . وقد اتبعته الولايات المتحدة بعد أن قصف اليابانيون من الجو أسطولها البحري في بيرل هاربر فقامت باعتقال جميع مواطنيها من أصول أسيوية طوال الحرب العالمية الثانية. لم تكن مصيبة اليهود الألمان نتيجة عنصرية النظام النازي فقط وإنما نتيجة ما ترسب في العقل الألماني من استحالة الثقة في اليهود. ولم يكن حرص الألمان على مد حربهم إلى الاتحاد السوفييتي خلال الحربين العالميتين الأولي والثانية نتيجة دوافع اقتصادية وإنما تحت تأثير عوامل نفسية لدي القادة الألمان سواء الإمبراطور غليوم في الأولى، أو هتلر في الثانية والرغبة في الثأر من القيادة اليهودية السوفييتية. وكان خلط الدوافع الاقتصادية أو الاستراتيجية بدوافع نفسية هو السبب الرئيس في خسارة الحربين. وسنلاحظ هنا أيضا بأنه نشأ في السياسة الألمانية في أوائل القرن العشرين ثقافة استراتيجية تتلخص في عبارة: الاتجاه شرقا وتعنى أن مصالح ألمانيا توجد في الشرق وليس في الغرب المنافس لها ورغم أن الألمان يرغبون في نسيان كل ما يمت بصلة إلى الحربين المدمرتين اللتين خاضوا غمارهما، سنجد أن سياسة الاتجاه شرقا مازالت تحرك الاهتمامات الاستراتيجية الألمانية خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ، وأن معظم اهتمامات المانيا السياسية تتركز حاليا في دول شرق أوروبا ولا يستثني من تلك الاهتمامات روسيا الاتحادية أيضا. لا يمكن فهم السياسة الأمريكية أيضا مع إهمال ثقافتها السياسية والإستراتيجية الأنجلوسكسونية والموروثة عن الإمبراطورية البريطانية التي لفظت أنفاسها مع انتهاء الحرب العالمية الثانية لكنها سلمت رايتها للولايات المتحدة الأمريكية. ويتجلى ذلك فيما يعرف بالسياسة البحرية التي تتطلب نشر الأساطيل الأمريكية فيما وراء البحار ، والسيطرة على المضايق البحرية وخطوط النقل البحري عبر العالم . وعلى نحو ما كانت عليه البحرية البريطانية في سالف الأزمان،والتي كانت سببا في اعتبار بريطانيا سيدة البحار آنذاك. وأيضا نشر قواعد عسكرية في مناطق مختلفة من العالم وانتهاج أساليب الاستعمار البريطاني القديمة في شن الحروب واحتلال البلدان التي تشكل أهمية اقتصادية أو يشكل موقعها أهمية ستراتيجية وفق المفاهيم الجيوسياسية. بالإضافة إلى مصالح القوى السياسية المسيطرة المتعلقة بالسلطة أو المال ومصالح مجموعات (لوبيات) الضغط السياسية والاقتصادية والعسكرية المحلية والتى تعد أقوي المؤثرات علي توجيه السياسات وصناعة القرارات السياسية بما فيها قرارات الحرب باعتبارها وسيلة لتحقيق أهداف للسياسة،
 المؤثرات الخارجية
توجد أيضا مؤثرات ثقافية خارجية لمؤسسات دولية رسمية وعلنية أو غير رسمية وسرية تتدخل أيضا في توجيه سياسات الدول عن طريق صناع القرارات فيها مباشرة. مثال لذلك الوكالة اليهودية والمحفل الماسوني وأندية الروتاري والليونز التي تعد من روافده وكذلك على المستوى القاري نجد مجلس الكنائس العالمي الذي يتخذ من كينيا مقرا له يقف خلف معظم التوترات في القارة الأفريقية. وبينما يتحدث الغرب عن العلمانية كثيرا ، نجده يستخدم الكنائس التابعة له في الدول الأخرى والمنظمات التبشيرية أو ما يسمي بالمنظمات الإنسانية غير الحكومية لتحقيق أهداف سياسية أو استخباراتية محضة . ويظهرذلك أكثر في الدول التي توجد بها أقليات مسيحية مثل مصر والتي أرسلت لها الولايات المتحدة جماعات شهود يهوا وكنائس الأدفنشت وكنائس الله البروتوستانتية، والتي أهملت أنشطتها الحكومة المصرية على مدى قرن كامل ،باعتبارها شأن مسيحي لا يجب عليها التدخل فيه. ومع ذلك يمكن رصد تداعيات أنشطتها غير المباشرة على السياسة الداخلية. إذ أن تضرر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الوطنية من أنشطة هذه الكنائس الأجنبية جعلها تدخل في تحالف مع نظام الحكم لتبادل المنافع وكان من نتائج هذا التحالف توجيه أصوات كافة الناخبين الأقباط لصالح الرئيس في الانتخابات الرئاسية التي قاطعتها أحزاب المعارضة وباقي الشعب المصري فحقق الأغلبية بفضل أصواتهم. بينما يشتبه في أن يكون لتلك المؤسسات الدينية الأجنبية دور في إثارة ما يعرف بالفتن الطائفية من حين لآخر في مصر. ويمكن اعتبار تلك المؤثرات الخارجية مرتبطة أيضا بنفس العوامل الثلاثة السابق ذكرها على نحو أو آخر.  الخلاص
ة بسبب طبيعة علم السياسة المعقدة، اهتمت الدول المتقدمة بانشاء مراكر أبحاث سياسية، تقوم بتحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية داخل الدولة، وفي نطاقها الجغرافي ،وفي العالم الخارجي بأكملة واستخلاص الموجهات والمؤشرات التي يحتاج العقل السياسي إدراكها عند التخطيط لسياسات قصيرة أو متوسطة أوبعيدة المدي، أو عند اتخاذ القرارات السياسية . في المقابل نجد السياسة في الدول المتخلفة ليست أكثر من ردود فعل متشنجة أو انفعالية لفعل فوجئت به صدر من دولة أخرى أو حدث مفاجئ داخلي أو نحو ذلك. وهو مايتطلب اﻻهتمام بعلم السياسة ، وصياغة كافة السياسات وفق متطلباته والحاجة اليه لتحقيق أذارة مثلى للشأن العام.
 فوزي منصور

Monday, April 9, 2012

ما أمر الله به، وما نهى عنه في آية واحدة

يقول الله تعالي في سورة النحل:" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" ( 90 ) " فيأمر في هذه الآية الكريمة بثلاث أمور وينهي عن نقائضها الثلاثة. ولو أن اﻷمر بالشيء يحمل ضمنا في طياته نفي نقيضه. وإنما جاء النهي عن النقيض تأكيدا لما تم الأمر به ، ولتقبيح ما تم النهي عنه.

و ليس صحيحا ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الله يأمر في تلك الآية بثلاثة أمور وينهي عن ثلاثة أمور أخرى. إذ لو أنه سبحانه أراد ذلك لزاد على ما أمر به أوامر أخرى تكون بمثابة نقائض لما نهي عنه.

وهذه الأوامر الثلاثة قد رتبت ترتيبا حكيما ودقيقا يبين تداخلها معا، فقد بدأت بالعدل، وبه تستقيم كل الأمور، ثم جاء من بعده الإحسان وفي فعله عدل مع خالقك الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة شاء ركبك، وما خلق الجنس والجن إلا ليعبدوه والإحسان يضم أفضل العبادات إلى الله، وتأتي ثالث الأوامر الأمر بإيتاء ذي القربى، وفي ذلك عدل معهم وإحسان لهم. ثم جاءت المنهي عنه ثلاث مذمومات هي نقيض الفعال المأمور بها ولذا اتخذت نفس الترتيب.

وتجمل هذه الآية كل ما أمر الله به وما نهي عنه، وتأتي الآيات في كتاب الله عن ما أحل وحرم بمثابة تفصيل لما جاء بها. ويروى جرير عن ابن مسعود قوله :"إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.... ". وفي رواية أخرى عنه:" هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل وشر يجتنب".

واستيعاب هذه الآية الكريمة ، وفهم ما جاء بها حق الفهم، يتطلب تعقب كل ما ورد بكتاب الله من آيات بها ذكر للعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وعن الفحشاء والمنكر والبغي.

وعندما ألقيت هذه الآية وحدها على سمع أكثم بن صيفي كانت كافية لأن يطلب من قبيلته التعجيل بالدخول في الإسلام قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من قبائل العرب.وكانت تلك الآية أيضا سبب إسلام عثمان بن مظعون عندما حضر نزول الوحي بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجلس بجواره.

وكلمة يعظكم تعني : ينصحكم ، وينبهكم ويوصيكم ، ولعلكم تذكرون تعني لعلكم تتذكرون ما أمركم به دائما ونهاكم عنه بواسطة اﻷنبياء والمرسلين منذ عهد آدم فتلتزمون به ولا تتعدوا حدوده.وﻻتغفلون عنه.ويشمل ما نهى عنه دوافعه من فجور النفس ، فداء اﻹثرة واﻷنانية يعد الدافع إلى الظلم والبغي والعدوان ، أي الفحشاء والمنكر والبغي وقطع صلات اﻷرحام، كما ينطوي الظلم أيضا على العنف المادي والرمزي، ويدخل كل ذلك فيما هو منهي عنه وهو أيضا نقيض للتقوى.فمن فضل مصلحة اﻷنا عن مصالح المجموع فقد أتي فجورا، ومن دمج مصلحته في مصلحة المجموع ، كان ذلك دليل على تقواه..

أ - الثلاثة المأمور بها:
العــــدل
والعدل هو الإنصاف والقسط، والحكم بالعدل: أن يعطى من حكم بين اثنين الحق لصاحبه، ويمنع منه الباغي عليه، أي من ظلمه في حقه واستولى عليه أو نازعه فيه. والإحسان في العدل يعود إلى من يرد ما عليه من حق لصاحبه ، وأريحيته وكرمه . فهو أما أن يزيد صاحب الحق على حقه إن كان مدينا له ، وهكذا كان يفعل رسول الله، أو تنازل الدائن لمدينه عن بعض أو كل حقه عليه طواعية لما يعرفه من عسره وحاجته أو تقديرا لظروفه أو حفظا على مودته، ومن ذلك قَوْله تعالى ” وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْره عَلَى اللَّه ” وَقَوله” وَالْجُرُوح قِصَاص فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ ”...وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن..". و العدل بين الأولاد هو المساواة لهم في العطاء والاهتمام بهم دون تمييز أحدهم عن الآخر. وأن تكون عادلا مع نفسك ولا تظلمها هي أن تؤمن بالله وتعبده وترجى رحمته وتشكره على نعمائه ولا تشرك معه في عبادته أحدا. و كذا العدل بين زوجاتك إن كان لك أكثر من زوجة في كل شيء. والعدل في الشهادة يقتضي الصدق فيها وعدم تحريفها مجاملة لأحد أو خوفا من غضبه، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " (الأنعام \ 135 ] ) وقوله تعالى في نفس السورة:" وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(الأنعام::152).

الإحسان
الإحسان في اللغة مصدر، تقول أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا إذا اتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع. والإحسان: ضدُّ الإساءة. إحسانًا، أي: يَعلَمه ويُتقِنه. والحُسن: ضدُّ القبح، وحَسَّن الشيء تحسينًا زيَّنه. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125). ويقول:"وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". و"إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون".و "إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".
.وفال صلي الله عليه وسلم :"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، أي أوجب على المؤمنين الإحسان في كل شيء.

ويكتمل بالإحسان مثلث العقيدة المكون من الإسلام والإيمان والإحسان . ويعد الإحسان الجانب العملي المتمم للإيمان باعتبار أن الإيمان هو الأساس النظري أو الثقافي للعقيدة. فالإحسان هو الترجمة العملية للعلم اليقيني الثابت بالتجربة والبرهان، أو الذي توصل إليه بفطرته الوجدان، أو وجد دليلا عليه في القرآن، فتتحول المعرفة إلى عمل منظور، وواقع معاش وتقوى ظاهرة للعيان. وهو بذلك جماع أفعال وجهود تبذل في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته أو صدوعا لأمره وتوجيهاته .وجميعها يعد من قبيل العبادات حتى لو كانت يسيرة كإزالة حجر أو إماطة أذي عن الطريق للتيسير علي السالكين أو كلمة طيبة ، أو نشر علم نافع للأنام ، أو كانت تعود بالنفع علي صاحبها أو على غيره ،مثل زرع نبتة أو غرس فسيلة ، أو عمل أحله الله أقبل عليه بدافع من الغريزة أو الشهوة مثل وصال زوجته . فجميع هذه التصرفات وما يشبهها، مع تنوعها وتفاوتها في الأهمية ، اعتبرتها العقيدة من الإحسان الذي يدفع إليه التقوى ،ومن العبادات التي يثاب عليها فاعلها ويجزيه الله عنها خيرا ، باعتبارها فعال حسنة تحسن الحياة أو تزيد من حسنها. والحياة الدنيا في العقيدة موصولة بالآخرة، إذ هي الطريق الموصلة إليها. فان فعل في الدنيا حسنا وجد في الآخرة ما هو أحسن منه ثوابا حيث" لا يضيع الله أجر من أحسن عمل"، "والله يحب المحسنين."

ويقول القرطبي في شرح قول الله تعالى: "مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التوبة- 91): "هذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن.

ويقول الله تعالي:" واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا ، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب"ويقول صلي الله عليه وسلم "إن الله كتب الإحسان في كل شيء" ولذا فان الإحسان مطلوب في جميع مناحي الحياة وفي جميع العلاقات الإنسانية. ويدخل ضمن الإحسان القول الطيب والعمل الصالح وإسداء النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتقان العمل وحسن العشرة بالمعروف وحسن معاملة الوالدين والزوجة والأولاد والجيران والخدم وعتق الرقاب وتحريرها وإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف وكذلك التسامح والمبادرة إلي الخيرات وجبر العثرات ودرء المفاسد وجلب المصالح، والسماح في الحق تفضلا وكرما.

وكلمة الإحسان مشتقة من الحسن وهو الجمال ، والله يحب الجمال ويكره القبح والسوء والخبائث من القول والأعمال. ولذا يجزي علي العمل الحسن اذا جاء به المحسن إيمانا به وحبا فيه "ومن يعمل صالحا وهو مؤمن فلا يخاف ظلما و لا هضما"(طه112).

والمقصود به في آية سورة النحل إلى جانب تلك المعاني، هو التفضل على الغير بما يزيد عن حقهم ، أو بما لا يلزمونك به، ولا هو مفروض عليكـ منهم ، وسواء كان الغير أنسانا أو حيوانا فتحسن إليهم من تلقاء نفسك طاعة لربك ، وإتباعا لأمره لك بالإحسان إليهم وطلبا لمرضاته . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكم في كل ذي كبد رطبة أجرا"، أي أذا أحسنتم إليه.

إيتاء ذي القربى
وإيتاء ذي القربى : يعن وصلهم والتواد معهم . و"ذي القربى" لفظ يطلق على الأقرباء لك في النسب أو الرحم أو المكان. فأصولك وفروعك من أقربائك في النسب أو العصب وباقي أقربائك هم من ذوى الأرحام ، والجار هو قريب لك في المكان والجار الأقرب لك أولى من الجار الجنب ، وكلاهما أوصى الله به ، وقال صلى الله عليه وسلم : "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". وهناك أيضا الأقرباء لك في دينك وفي وطنك ، وتعبير:" ذي القربى" يعني في أضيق حلقة لتطبيقه : اﻷهل واﻷصهار ولكن تتسع الحلقات بعد ذلك لتشمل اﻹنسانية كلها باعتبار : "كلكم من آدم".
.كل ذوى القربى هؤلاء بأمرك الله إيتائهم بالمعروف، وسد حاجتهم لو كان في مقدورك سدها، من العفو، أي ما يزيد عن حاجتك. ويعد إهمالك لإيتائهم كما أمرك الله : بغي منك عليهم نهاك عنه الله..

ب – الثلاثة المنهي عنها

الفحشـــاء وهي من الظلم
فالعدل إذا كان نقيضه في اللغة: الظلم والجور، فقد عبر عن الظلم هنا بالفحشاء. ويطلق لفظ الفحشاء على كل عمل أو قول قبيح، أو خصلة قبيحة مذمومة.
و وصف الظلم بالفحشاء هنا ليس للتنفير منه فقط، وإنما لبيان أن كل ما يندرج ضمن مفهوم الفحشاء يعد ظلما. والزنا، وهو أسوء أعمال الفاحشة ، ومن كبائر الإثم، فيه ظلم مزدوج ، حيث يظلم فيه كل طرف نفسه ويظلم كذلك شريكه في الإثم . وإذا كان أحدهما متزوج فهو يدفع شريكه إلى الخيانة، ويعرضه لسوء السمعة. ويقول تعالى في معرض قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز :" و راودته التي هو في بيتها عن نفسه، و غلقت الأبواب و قالت هيت لك (أي هيئت نفسي لك) قال معاذ الله إنه ربي (يقصد زوجها الذي رباه) أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون". فاعتبر خيانته لزوجها ظلم له.
وإذا كان شريكا الزنا بمرض معد نقله إلى شريكه، وفي كل ذلك مظالم يلحقها به.

ويقول تعالي: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب "(البقرة:268 و269 ) .
ويشمل النهي هنا أيضا كل من الظلم أو الفحش البين والظلم أو الفحش الخفي، قال تعالى:" قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " (الأعراف :33 ).وسنلاحظ هنا أنه ألحق بتحريم الفحشاء تحريم الإثم والبغي معها.

والشرك بالله هو أكبر ظلم يوقعه الإنسان بنفسه ، قال تعالى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون " (الأنعام:151 (وكل ما ورد في هذه الآية من المحرمات يعد من الظلم، ظلم الإنسان لنفسه أو لغيره أو جوره عليه. والله "يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به."

المنكر: وهو كل إثم وما يعد من السوء
وإذا كان ما يقابل اﻹحسان في اللغة هو: الإساءة ، وهي إثم عبر عنه بالمنكر ، والمنكر: اسم مفعول من أنكر الشيء ينكره، إذا لم يعرفه أو لم يعترف به ، بسبب كراهية الناس له .
وهو هنا : كل ما أنكره الشرع أو ينكره الناس لفساده وضرره من كل الأقوال والأفعال.وقد تعارف الناس على أن كل عمل سيئ هو منكر ومكروه منهم ، ويستنكرون أن ينسب إليهم فعله.

البغي: وفيه قطع للأرحام وظلم لذوي القربى
وإذا كان ما يقابل إيتاء ذي القربى هو قطع اﻷرحام ، فقد عبر عن ذلك بالبغي، لبيان شدة فساد ما نهي عنه.والبغي غير الظلم،ولو أنهما صنوان. فالظلم هو سلب حق الغير وأنت تعلم أنه من حقه، أي أنك ﻻ تنكر عليه الحق، أما البغي فهو منع إعطاء الغير حقه، إنكارا منك لحقه عليك. ولذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا - مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة - من البغي وقطيعة الرحم " وقطيعة الرحم من البغي، ويعد هنا قد قدم العام على الخاص. والبغي أيضا هو الكبر والاستعلاء والطغيان والاستبداد بالناس وإلحاق بهم الأذى وكل ما يعد ضمن الظلم والعدوان.

الصحة النفسية وطاعة الله
إن طاعة الله بإتباع أوامره واجتناب ما نهى عنه تتطلب أن يكون المرء متمتعا بكامل الصحة النفسية والعقلية التي يزيدها ويرقى بها الإيمان والإحسان ، وبما يمكنه من تغليب العقل على الهوى ونزعات النفس والحفاظ على الاستقامة.
ولذا فإن الصحة النفسية هي حالة من السواء النفسي في العقل والوجدان والحركة تمكن الإنسان من التوافق مع العالم الداخلي ومع العالم الخارجي. ; الإحساس بالاطمئنان والأمان والرضا عن الذات والقدرة على التكيف مع المجتمع وظروفه ومعايشة الناس في سلام معهم وتواصل وتفاعل بناء .
وإذا كانت طاعة الله على أفضل وجه تتطلب التمتع بالصحة النفسية فإن الإيمان والعمل الصالح المرافق له، أي الإحسان، يمنحان المؤمن مناعة ضد الأمراض النفسية. حيث يمكنه الإيمان من امتلاك رؤية واضحة عن الكون والنفس. ويمكنه العمل الصالح من الرضا عن النفس. ويمكنانه ، الإيمان والعمل الصالح، أيضا من الفهم الصحيح لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله، حيث يتغلب عقله على هواه وأوهامه وأية عصبية لديه ، فلا ينحرف في الفهم إرضاء لنوازعه النفسية التي تتحكم فيه وفي تفكيره وسلوكه على نحو لا أرادي.
وقد وصف الله النفس القلقة بالنفس اللوامة والنفس المستقرة بالنفس الطيبة التي تغلب تقواها على فجورها، فزكاها. وكلما اقترب العبد من ربه كلما أنزل الله سكينته على قلبه وكلما ذكر الله كلما امتلأت نفسه نورا واطمئنانا وسلاما ومحبة.

قال تعالى:" "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" وقال:"فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ .وقال:"
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ".

ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الهامة لحفظ التوازن النفسي ، ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس فقال له :"يا غلام إني أعلمك كلمات: إحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله، وإن استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله علك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. وفي رواية أخرى، أحفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع الصبر يسرا".

العبرة بما يقبله العقل وليس بأقوال السلف
وﻻيحتج على غير ذلك الفهم بأقوال السلف طالما يتفق مع العقل ومع اللغة القرآنية ومع السياق ومع ماجاء في نفس موضوع الآية من آيات أخرى في كتاب الله أخذا في الاعتبار للوحدة البنيوية للقرآن وأن آياته تفسر بعضها بعضا ، وبما يتفق أيضا مع ما ورد في السنة النبوية . فإن تم الفهم وفق ذلك و كان في أقوال بعضهم ما يخالفه،وجب تجاوز الأقوال المخالفة له، ﻷن الله لم ينعم علينا بالعقل لكي تفكر بعقول الموتى أو اﻷحياء ، وإنما تتفكر في آيات الله ونفهم بعمق ما أمر به ونهي عنه وكل أحكامه، واﻻ كنا مثل من قالوا:هذا ما وجدنا عليه آباءنا عليه وإنا لهم لمتبعون، أو كنا كأﻹمعه ،إن أحسن الناص أحسنا وإن أساءوا أسأنا ، بينما أمرنا رسول الله إن أحسنوا أن نحسن وإن أساءوا أن نتجنب أساءتهم . وﻻ يجب أن نتبعهم في كل شيء بدعوى أنهم أعلم منا بأمور ديننا، ونلزم نفسنا بالسمع والطاعة لهم ، بينما أمرنا الله أن نطيع الله ورسوله قبل طاعة أولي اﻷمر منا(أي أهل العلم)، فإن لم نجد في كتاب الله ورسوله ما ننشده، أطعنا أولى الأمر ، أي أهل العلم، فيما تقبله عقولنا وضمائرنا ويتفق مع تقوانا، و إﻻ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق الذي أمرنا باﻹحسان والتقوى هي تعبير عن اﻹحسان الذي يتطلب أن تتقي الله حيثما كنت ﻷنه يراك ، وإن لم تكن تراه.

الفرق بين المعلم والعالم:
إن معلم الفيزياء ليس بعالم ,وإنما حامل علم، ولو أن اينشتاين اقتصر علمه على ما قال به نيوتن ما احتسب عالما، ولكنه تجاوزه وأعلن عن النسبية ، وماري كوري لو لم تكتشف "البولونيوم" المشع ما احتسبت عالمة.
إن العالم هو من يضيف الى العلم ويبدع فيه، وﻻ يتأتي له ذلك إن لم يستعمل عقله في مراجعة ما قال به اﻷولون و اﻹضافة إليه بما يمليه عليه عقله وما يلهمه يه موﻻه.

الحاجة الى تطوير المعرفة بأمور الدين والدنيا
الإتيان بالجديد هو ما يدفع إليه الفضول المعرفي المرتبط بالتفكير والتأمل العميق. ولوﻻ هذا الفضول المعرفي ما تقدم العالم وما ينطبق على المعرفة بأمور الدنيا يرتبط بأمور الدين،وهذا يندرج في " فينومينولوجيا" الإدراك "التي تقود الى فينومينولوجيا الوعي ،واكتساب المعرفة والخبرة، والتي يمكن بالتفكر في كتاب الله توسيع نطاق آفاقها بما يتم به تجاوز هرسل وموريس ميرلو بونتي ، بالعودة للأمور ذاتها السابق بحثها لتحقيق فهم أفضل لها، من حيث اللغة والمعني.وكما يقول ميرلو بونتي: "إن العالم ليس بمثابة الموضوع الذي يمثل أمام الذات الواعية، فهذه الذات ليس لها القدرة على تملكه. وإنما العالم هو الوسط الطبيعي أو المجال الأولي الذي تتحقق فيه إدراكاتنا الحسية لعالم و وتتكون فيه أفكارنا". وإذا اكتفينا أن تعيش على هامش العالم دون اﻹسهام فيه بفكرنا ، فسننتقل من التخلف إلى ما هو أسوء منه وأدني.
وقد اهتم الكثيرون بالعدل واﻹحسان ولم يهتموا بنفس القدر بمعني إيتاء ذي القربى في نطاقه الإنساني الواسع، فيدعون إليه، وﻻ بمعني البغي الذي يعتبر النقيض له، فيوضحون مفاسده ومضاره .
فوزي منصور

Sunday, April 1, 2012

.إنحرافات في فكر الإخوان والسلفيين المصريين، تجعل أولوياتهم خلاف ما يحتاجه الشعب منهم.

ما سيتم تناوله هنا هو مدى ملائمة فكر الإخوان والسلفيين لإدارة الشأن العام في مصر، بعد أن شكلوا أغلبية في مجلسي الشعب والشورى ويتطلعون إلى تشكيل حكومة منهم ، وسيطروا على لجنة وضع الدستور، ورشحوا واحدا منهم لتولي الرئاسة ، وبالتالي ، صاروا على وشك أن يهيمنوا على السلطات التشريعية والتنفيذية في مصر، إذا استمرت الظروف تعمل لصالحهم.

فكر الإخوان المسلمين
يستمد الإخوان فكرهم حتى الآن بصفة أساسية من فكر المؤسس الأستاذ حسن البنا المتمثل في خطاباته ، دون أن يعني هذا أنهم يجسدونه في تفكيرهم وسلوكياتهم ، وإنما يؤولونه بما يتفق مع توجهاتهم والظروف السياسية المتغيرة.

نشأ الأستاذ حسن البنا في بيئة دينية حيث كان والدها متصوفا، وعندما ذهب إلى القاهرة للدراسة في كلية دار العلوم ، اهتم بالجمعيات ذات الاهتمام بالتربية الدينية والأخلاقية ، ومن تلك الجمعيات جماعة الشبان المسلمين التي كانت تهتم بالتربية البدنية وبالأعمال الكشفية والثقافة الدينية وجمعية مكارم الأخلاق التي كانت تهتم بالقيم الأخلاقية الدينية وجماعة أنصار السنة المحمدية ذات الفكر السلفي التي كانت تهتم بالدعوة الدينية، وقد أراد أن ينشئ جمعية تجمع كل تلك النشاطات معا والتي تعتبر متكاملة، فكان أن أسس جمعية خيرية باسم جمعية الإخوان المسلمين في الإسماعيلية عام 1928حيث كان يعمل مدرسا للغة العربية والدين في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية. ولم يكن له في ذلك الوقت اهتماما بالسياسة إلا أن قامت ثورة 1936 في فلسطين على الانتداب البريطاني والاستيطان الصهيوني وأجهضها الانجليز وأعدموا قادتها وكان منهم علماء دين، ثم نشبت الحرب الفلسطينية وقررت الجماعة نصرة الفلسطينيين وإرسال متطوعين للمشاركة في الحرب ، وبدأ الاحتكاك بالسياسة والتطلع لبناء دولة تدافع عن الإسلام والمسلمين.
فوجئ الأستاذ حسن البنا بعد ذلك باغتيال محمود فهمي النقراشي واتهام أحد أعضاء الجماعة بقتله وأن ذلك تم بدون علمه ، وصدور قرار بحل الجماعة ، وأيقن وقتها بأن الجماعة قد انحرفت عن رسالتها الدعوية والتربوية السلمية ، وقرر اعتزالها، والانضمام إلى جمعية الشبان المسلمين كعضو عادي فيها . وعندما ذهب لتنفيذ ما عزم عليه أطلقت عليه عدة رصاصات من الخلف من أشخاص يركبون سيارة وهو على عتبة الجمعية، ، فأردوه قتيلا. و اتضح فيما بعد بأن السيارة مدير أمن القاهرة، والذي اعتبر الجناة المجهولون حصلوا على السيارة واستعملوها بدون علم منه لإلصاق التهمة بالجهاز الأمني للدولة، وإبعاد الشبهات عنهم.

ما يهمنا هنا بأن الجماعة بعد التخلص من مؤسسها، قادها أفراد حكمتهم التطلعات السياسية، وليس العمل التربوي والدعوى . وانخرطوا في العمل السياسي السري والعلني طلبا للسلطة حتى يومنا هذا.وبسبب تعرض علاقتها بالسلطة إلى مد يشهد تصالحا لفترة قصيرة، وجزر يطول أمده أحيانا، ويشمل القمع والاعتقالات والتعذيب غالبا، فإن الإخوان لم يطوروا فكرهم السياسي خاصة أنهم لم يكن لديهم أمل في إمكانية الاستيلاء على سلطة يمسك عليها بقوة نظام استبدادي قمعي ووحشي في أمد منظور .مما دفعهم إلى عدم الاهتمام بالشؤون السياسية والاقتصادية والتنظيمية للدولة،التي يتطلبها إدارة الشأن العام ، في حالة استلامهم الحكم. وعندما وجدوا السلطة قد جاءتهم على طبق من ذهب دون مجهود بذلوه للحصول عليها، بعد ثورة 25 يناير، أصابهم الارتباك والتخبط. وصاروا كلما وعدوا بشيء نقضوه بعد فترة، وتراجعوا عنه.
كما أن الفكر الديني الذي ساد لديهم ، بسبب سيطرة ما هو سياسي على ما هو دعوي فيه، ابتعد عن الروحانيات. ولم تعد سلوكياتهم وممارساتهم ، التي تغلبت عليها البراغماتيكية(النفعية) ، تظهر التزامهم بالقيم الأخلاقية الدينية. وحل محل القيم نزعة طاغية لامتلاك السلطة والاستئثار بها ،واختفي عنصر التصوف الذي كان مدمجا في فكر المؤسس. بل سنجد بعض من انسحبوا من الجماعة يبررون تركهم لها بخيانتها فكر المؤسس، أو الانحراف عنه. وآخر من أعلن استقالته من الجماعة احتجاجا على سياستها، التي اعتبرتها خيانة للثورة الشعبية،كان الدكتور كمال الهلباوي أحد قياديها المقيم في بريطانيا ، وعضو سابق في مجلس إرشاد الجماعة، يوم أمس 31مارس2012.

الشيوعيون والإخوان
يوجد قاسم مشترك بين الشيوعيين واﻹخوان ، فكلاهما يدعي أنه يملك فكرا كليانيا أو شموليا مثاليا ﻻيقبل النقد أو المراجعة أو النقاش ، ويلزم فرضه على المجتمع وأن يخضع وينصاع المجتمع له طواعية أم كرها ، وحظر أي فكر معارض له حتى لو استدعى ذلك استعمال القوة والعنف.و كلاهما بالتالي أضفى قداسة على أطروحته، قداسة مادية عند الشيوعيين وقداسة روحية عند اﻹخوان. ومثلما قمعت اﻷنظمة الشيوعية حرية الفكر واﻷبداع عندما ملكت السلطة، فلا يوجد ما يمنع اﻹخوان من إتباع سبيلهم.وهذا سبب خوف منافسيهم السياسيين منهم وعدم ثقتهم فيهم، خاصة وأن كل تصرفاتهم وتحالفاتهم واستغلالهم ما يسمونه الفرصة التاريخية المتاحة لتمكينهم للسيطرة المنفردة على المجتمع، وتحديد مصيره ، تزيد من هذه المخاوف وﻻ تحد منها، بل تعززها.

الفكر السلفي
السلفيون جماعات متعددة ولكل منها ظروفها ومنهجها وفكرها، وكانت كلها قبل ثورة يناير المصرية تبتعد عن الشأن السياسي، وتحاول أن تكون على علاقة يمكن وصفها بالمسالمة أو المهادنة،مع الأجهزة الأمنية المصرية تجنبا لأذاها وقمعها .ويتهمها البعض بأنها كانت تعمل في خدمة تلك الأجهزة الأمنية لاتقاء شرها.
واختلف الأمر بعد الثورة حين أوحى إليهم المجلس العسكري، الذي حل محل الرئيس المخلوع في مباشرة سلطته، بإمكانهم تأسيس أحزاب سياسية . ، فأسسوا لأول مرة في تاريخهم أحزابا سياسية كان أبرزها حزب النور السلفي الذي يتشكل أساسا من سلفيي الإسكندرية، الذين كانوا في السبعينيات طلبة في جامعة الإسكندرية، ويعتبرون بسبب تعليمهم الجامعي، على قدر من الثقافة الدينية وأيضا المعرفة المهنية وفق تخصصاتهم العلمية، ولكن انضم إليهم في نفس الوقت سلفيون من مستويات تعليمية أدني من ذلك.

وقد ظهر من السلفيين أشخاص اكتسبوا شهرة واسعة كدعاة، نتيجة سعي قنوات فضائية لاستقطابهم استثمارا لشهرتهم واجتذابا لجمهورهم وأتباعهم لزيادة رقم المشاهدة ، وأغدقت عليهم بالأموال، فتحول الكثير منهم إلى أثرياء. وبحيازة الشهرة والثراء معا استطاعوا أن يتصدروا الجماعات والأحزاب السلفية، والدخول إلى الانتخابات باسمها، ودخول البرلمان بعد ذلك عن طريقها، والاشتغال بالسياسة وهجر الدعوة. وهؤلاء لا يملكون ثقافة ولا خبرة لهم ولا دراية بالسياسة. كما أن فكرهم الديني كدعاة معظمه فكر سقيم متخلف عن العصر، ولا يصلح لتربية دينية رشيدة. وحرص كل هؤلاء على أطالة اللحى ولبس الجلباب باعتبار أن ذلك من متطلبات الالتزام بالسنة أي اهتموا في الدين بما هو شكلي أكثر مما هو موضوعي ، أو بالمظهر الخارجي الخاص المميز لهم أكثر من جوهر الدين.

ويمكن القول إن رجل الدين اﻷزهري المغمور حليق اللحية ، الذي يحفظ كتاب الله ، و ليس له" كاسيتات" أو" سيديهات" تباع في اﻷسواق الشعبية وﻻ يظهر على شاشة الفضائيات،وينحصر دخله في راتبه الشهري من عمله في التدريس أو الوعظ في مساجد اﻷوقاف، هو اﻷكثر علما بالعلوم الشرعية وبمذاهب أهل السنة والجماعة وأكثر إتباعا لها ممن يطلق عليهم دعاة السلفيين الذين تقبل عليهم الفضائيات التجارية لما اكتسبوه من شهرة لدى اﻷميين وأنصاف المتعلمين ممن يجهلون دينهم، وﻻصبر لهم على قراءة المراجع الدينية لكي يعلمون أنفسهم الدين من مصادره، وليس من أفواه دعاة التلفزة..هؤﻻء الدعاة المشهورون ﻻ يجرؤ أي منهم على مناظرة أزهري واحد، رغم ما يدعونه من امتلاك العلوم الشرعية وأنهم من أهل السنة والجماعة وأتباع السلف الصالح،.

كما ﻻيستطيع أي منهم أن يصمد أمام مثقف يحسن معرفة دينه وأتيح له أن يحفظ كتاب الله. أو ما يحتاج إلى الاستشهاد به من آياته لدعم رأيه.
وقد ناظر حمدي قنديل أحد شيوخ السلفية فأفحمه وأحرجه، وأراد شيخ آخر أن يطيب خاطر زميله ، فلم يتعرض لحجج قنديل ويفندها ، وإنما قال لزميله إن هؤلاء لا يعرفون شيئا من العلوم الشرعية ، وأقسم بالله أنه لو سؤل أحدهم عن فرائض الوضوء وسننه والواجب فيه والمندوب والمستحسن والمكروه ما أستطاع أن يجيب على السؤال.

وفي نفس الوقت يخشى المثقفون ، اﻷكثر علما وفهما لدينهم منهم، ولكن لم يقدر لهم حفظ كتاب الله مثلهم، التعرض لهم، إذ يشعرون بسبب عدم حفظهم القرآن، بالنقص إزائهم، فهو ﻻ يستطيعون الاستشهاد على صحة كلامهم بأية من القرآن وهو يقرؤون القرآن ويتعبدون بالتفكر فيه ، وفهم معانيه، ولكنهم ﻻ يستطيعون حفظه. و ما يحفظونه من آيات يخشون إن احتاجوها للاستشهاد بما فيها، أن تخونهم ذاكرتهم أو يخطئون فيها وينسون منها لفظا.

و الكثير من هؤﻻء الدعاة السلفيين بعد أن حفظوا القرآن الكريم في الكتاب (المسيد كما يعرف في المغرب أو الخلوة كما يعرف في السودان ) لم يلتحق بأي مدرسة ، ووعظه بالعامية ليس لكي يفهمه الشعب، وإنما لجهله العربية الفصحى. ولا ينتظر ممن يجهل لغة القرآن العربية أن يتمكن من فهم معاني ألفاظ القرآن ودلالاتها اللغوية أو الفقهية.
.
. والقليل منهم التحق بالمدارس بعد الكتاب ، وواصل التعليم حتى تخرج من الجامعة، ولكنه لم يجد عملا أو وجد المهنة التي تعلمها ﻻتحقق طموحاته المادية مثل ما يتحقق للدعاة الذين لم يتعلموا مثله، فأطلق لحيته ،وسار على نهجهم دربهم وصار داعيا. وبعد قيام الثورة كانوا ممن امتطوا صهوتها، ووجد فيها فرصة تمكنه من أن يجمع بين السلطة ومغانمها المادية والرمزية والمعنوية، وبين الثروة، ويزداد بذلك ثراء وعلوا في اﻷرض..

ما الحل إذن، ﻻ بالنسبة للحاضر، وإنما بالنسبة للمستقبل؟..أﻻ يجب علينا جميعا اﻻهتمام بتحفيظ أطفالنا ، ذكورا وإناثا، القرآن الكريم إلى جانب تأمين تعليم ديني صحيح وعلمي راق لهم؟.

إن شعوبنا شعوب متدينة، والدين جزء ﻻ يتجزأ من هويتها. وهو اﻷمر الذي على الجميع استيعابه وعدم تجاهله. والعلم الصحيح بالدين ﻻ يتناقض مع تحصيل كافة العلوم الإنسانية والتطبيقية . فقد كان علماء المسلمين زمن ازدهار الحضارة اﻻسلامية علماء موسوعيون، يجمعون إلى جانب الفقه دراسة الفلك والرياضيات والطب والفيزياء إلى بداية العصر الحديث الذي انهارت فيه حضارة المسلمين، وانتقلت علومهم إلى أوروبا ،وغرقت بلدانهم في الظلمات.

كما أن ترك أولادنا يتعلمون الدين من هؤلاء الدعاة المحترفين الذين لا يتوفرون على تكوين علمي سليم، سيشوه عقيدتهم ويزيد المجتمع تخلفا على ما هو عليه.

السلفيون والمرأة
أكثر ما يلفت النظر في اهتمامات السلفيين هو تركيزهم على كل ما له علاقة بالنساء وأمورهن، ويغفلون حاجة المجتمع للتخلص من الفقر والبطالة والتخلف الحضاري ؟..ﻻتوجد أدني علاقة للدين أو التقوى والورع كما يدعون بحصرهم اهتمامهم بأمور النساء وكان حجب المرأة أو الإقلال من قيمتها أو تقييد حريتها، أو نوع ما ترتديه من ملابس ، ومالا تخفيه من جسمها ،هو سبب ما ابتلي به المجتمع من رزايا ومصائب ، أو كان خلف اﻻستبداد والفساد والمظالم والموبقات التي يعانيها.

الدافع الوحيد لدى هؤﻻء ليس التقوى وإنما إصابتهم لسبب ما بالقصور ألشبقي الناتج عن إصابات خلال فترة المراهقة بالبلهارسيا قبل هجرتهم إلى المدن، أو بسبب إدمانهم العادة السرية في شبابهم، أو البدانة المفرطة الناتجة عن النهم في الطعام، أو نقص إفراز هرمون التستيرون أو زيادة هرمون البرولاكتين أو الإصابة بالسكري وضغط الدم وترسب الكلوستيرول على جدران الأوعية الدموية أو الشيخوخة أو بتليف الكبد والتهابه وتشمعه أو تليف في عضو التناسل بسبب الإصابة بمرض البيرونيس يتسبب في اعوجاجه،أو في الجهاز العصبي المركزي أو نتيجة تعاطي المخدرات والإفراط التدخين و في تناول الخمور أو تسلط أوهام عن مقومات الرجولة والأنوثة عليه قد تشعره بنقص وهمي أي يكون السبب نفسي وليس عضوي.. أو غير ذلك من اﻷسباب التي تسببت في القصور الشبقي لدى المصاب به والتي المتمثل غالبا في ضعف الانتصاب أو سرعة القذف.

و اﻷحساس بالنقص في هذا الجانب يزيد من اﻻهتمام بكل ما يتعلق بالشبق وبالنساء إلى حد الهوس. في محاولة يائسة لتعويضه . كما يتسبب عنه أيضا كراهية النساء اللاتي تذكره رؤيتهم بقصوره وتزيد إحساسه بينما بتمتع بهن غيره، ويأمل بذلك أن يتم تغييبهن واختفائهن خلف الجدران أو خلف نقاب لا يظهر منهن شيئا، وهو يلوى ألفاظ القرآن لكي تتفق مع رؤيته وتساندها ويصر على تأويلها بما يتفق مع تلك الرؤية المريضة.

خلال زيارة لي لبلجيكا وجدت في شارع رئيس ببروكسل في منتصف الثمانينيات ،طابورا على الرصيف المقابل أمام باب محل، لم أستطع قراءة ﻻفته عن بعد بسبب ضعف نظري، فعبرت الشارع فإذا به محل لعروض" السترابتيز" يقف على بابه حارسان زنجيان شدادا. وكل من اصطفوا في الطابور رجال فوق سن السبعين. دفعهم الحرمان من الشبق كنتيجة للقصور فيه بسبب التقدم في العمر إلى تعويضه ب رؤية النساء يتجردن من ملابسهن قطعة تلو أخرى، وربما تخيلهن في أوضاع شبقية معهم وهن عاريات، تعوض في الخيال ما يعجزون عن تحقيقه في الواقع.

وفي أحدي برقيات السفارة البريطانية بالقاهرة لوزارة الخارجية البريطانية ذكرت أن سبب طلاق الملك فاروق من الملكة فريدة ومطاردته للنساء يرجع إلى ما بلغها من بعض المقربين إليه في القصر من أنه يعاني من قصور شبقي ﻻ يمنع الحمل ولكنه يحول دون التمتع بالمعاشرة الشبقية.

.بالطبع ليس كلهم ينطبق عليهم ذلك ، وإنما هناك أيضا ظاهرة اﻻتباع أو اﻹمعية ، حيث يتشبع أتباعهم بما يقولونه ويتبعونهم فيه باعتباره من مقتضيات الحفاظ على الدين واﻷمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع ضحالة ثقافتهم العامة والدينية.
وﻷن أحاديث شيوخهم ﻻ تخرج عن نطاق الحديث عن الغسل والطهارة من الطمث والنفاس وآداب الجماع وحجاب النساء ونقصهم في العقل والدين ، ووجوب اتقاء فتنتهن، ومنعهن من العمل والتعليم ومن الخروج من بيوتهن وكل ما يتحقق منه اختلاطهن بالرجال. وعموما، كل ما يتعلق بأمور النساء. ولذا تراهم لا ينفكون يكررون ما تعلموه من مشايخهم من النساء، حتى يخيل إليك أنهم علمهم بالدين، لا يتعدى ذلك.

وفي نفس الوقت يتضح أنهم ﻻ يفقهون شيئا في السياسة أو الاقتصاد وبالتالي لا يمكنهم التحدث عن كيفية مكافحة الفقر أو إيجاد حل للبطالة أو أي من الموضوعات اﻷكثر أهمية للمجتمع.وقد ترى الرجل منهم الذي يحتج على نشر صورة لامرأة جميلة ، حتى لو كانت ترتدي ملابس محتشمة، ويفتي بأن التصوير حرام الا للضرورة وفي جميع الحالات مكروه، ينتشي كالطاووس عندما يرى صوره تملا الصحف والمجلات أو معلقة على الحيطان..

لذا لم يكن غريبا عليهم أن ينحصر اهتمامهم في مجلس الشعب في العمل على وضع مشروع يحل محل قانون الأحوال الشخصية الذي يرون أنه وضع بضغط من زوجة الرئيس المخلوع بما يخالف الشريعة. وقد يكون في القانون عيوبا تسبب في مشاكل اجتماعية بعد صدوره، ولكن ثمة ما هو أكثر أهمية منه في المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد.

القيم والحقوق وحكم الله في الشريعة
يتوافق الإخوان المسلمون المصريون والسلفيون على تطبيق الشريعة، والمتتبع لخطاباتهم يجد أن فهمهم لتطبيق الشريعة لا يكاد يتعدى تطبيق الحدود في العقوبات إلا قليلا. وبمقارنتهم بحزب العدالة والتنمية التركي أو العدالة والتنمية المغربي، أو حزب النهضة التونسي، سنجد لدى الأحزاب الثلاثة الأخيرة مفهوما أوسع نطاقا للشريعة يتضمن كل القيم والحقوق والأحكام الواردة في القرآن والسنة وأحل الله فيها كل شيء واستثني مما أحل أمور حرمها على المسلمين.

ومن القيم إذا وصفتها بأنها من قيم الشريعة اﻹسلامية أصبت. وإن وصفتها بأنها قيم إنسانية عامة تقرها كل مجتمعات العالم على اختلاف دياناتها وأعراقها صدقت.ومما قد ﻻ تنتبه إليه أنها حزمة قيم مترابطة ﻻيمكن التخلي عن قيمة منها.

وقد يختلط عليك اﻷمر فترى أن بعضها فيم وردت في المواثيق الدولية وبعضها ينتمي إلى مكارم اﻷخلاق، ولكنك لو تمعنت فيما تعتبره من اﻷخلاق ستجده يندرج ضمن الحقوق أيضا. فاغتصاب امرأة هو اعتداء على حقها في العفة وفي الكرامة وفي العدالة وفي اﻹحسان وفي الحرية..الخ.وقد يكون مطلوبا أن تطالب الذكور و اﻹناث بالتزام العفة ولكن من حقهم في العفة أيضا أن تيسر لهم الزواج المبكر ، أو ما يعبر عنه في الدين بالتحصين، لكي يتمكنون من الحفاظ على تلك العفة واﻻ كان ما تطلبه منهم يشق عليهم و مضاد للطبيعة والفطرة..

و الإحسان حق في اﻹسلام لذوي القربى واليتامى والمساكين والفقراء وابن السبيل والغارمين..وكما تحسن إليهم من حقك عليهم أﻻ يسيئوا إليك ،فهي حقوق متبادلة.

ونفس الشيء بالنسبة للتراحم. فكما أنت مطالب بصلة الرحم فإن أرحامك أيضا مطالبون بوصلك.
وتلك القيم / الحقوق إذا انتقصت من أي قيمة منها أيضا أصيب باقي القيم بنقص فيها. وهو ما يعني أنها ﻻ تقبل الحلول الوسط أو التوافق على أقل منها أو على بعضها وإهمال الباقي . فإما أن تأخذ كلها أو تفقد قيمتها.ولذا ﻻ أستسيغ مفهوم : سلم القيم الشائع في علم الاجتماع اﻻ أذا كان يعبر عن نتيجة بحث إحصائي يوضح ترتيب اﻻهتمام في المجتمع بالقيم.

ويدخل ضمن الحقوق التي شرعها اﻻسلام والمواثيق الدولية الحق في حفظ الحياة وحفظ الدين وفي التدين، أي حرية الاعتقاد، وفي حفظ العقل وفي التملك وفي حفظ العرض والنسل.. وهي ما يعبر عنه الأصوليون بمقاصد الشريعة..

والذي يطالب بتطبيق الشريعة أو الحكم بما أنزل الله، إن لم يكن يعي بأن تطبيق الشريعة وإعمال حكم الله، يعني إرساء هذه القيم والحقوق في المجتمع كان بمثابة الجاهل بما يطلبه. وفاقد الشيء ﻻ يعطيه، وﻻ يؤمل أن يأتي فيه بخير، أو يعول عليه فيه. وعندما يقول الله:" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ..."يكون هذا بمثابة إجمال لما يتطلبه إعمال حكم الله وتطبيق الشريعة، وباقي ما ورد في القرآن من أحكام هي تفصيل لذلك. و. عندما يقول الله: "إن الحكم اﻻ لله ، أمر أﻻ تعبدوا اﻻإياه، ذلك الدين القيم.." ،فإنه يعني بذلك الالتزام بالعدل و اﻹحسان الذين يأمر بهما الله ، والتوحيد يعني التزام العدل في عبادة الله حيث من أشرك به فقد ظلم نفسه.

وهذه المعاني نجدها في كتابات واجتهادات علماء دين معاصرين، ولكننا لا نجدها تؤسس لمشروع مجتمعي لدى الإخوان والسلفيين ، ولا نجدهم أيضا يلتزمون بتلك القيم وأمثالها مثل: الوفاء بالعهد و الصدق والأمانة في التعامل مع الآخرين.

بالطبع، لا يجوز تعميم حالة فردية، قد تكون شاذة وغير متكررة،على جماعة ينتمي إليها هذا الفرد، مثل حالة البلكيمي، النائب السلفي الذي يصف نفسه بأنه داعية، والذي أجرى عملية تجميل لأنفه، وخرج من المستشفي ليقدم بلاغا يدعي فيه بأن الضمادات التي على أنفه هي ناتجة عن تعرض عصابة له اعتدت عليه، وسلبت منه مائة ألف جنيه، حتى يخفي حقيقة أنه أجرى عملية تجميل، ثم اتضح كذب ما ادعاه، ووجهت له النيابة العامة تهمة البلاغ الكاذب. كما اتهمته راقصة أيضا بأنه تزوج بها عرفيا و أنها تطالبه بالطلاق ، وأنه هددها بتشويه وجهها لو أصرت على طلب الطلاق ، أو أعلنت زواجها السري منه، وأنكر هو الزواج منها، بينما أكدته..وجود هذه الحالة عند السلفيين ، حتى لو كانت حالة فردية غير متكررة لديهم، توضح مدى الانفصال القائم لدى بعضهم بين الدين والأخلاق. وبالتالي وجود خلل في ثقافتهم الدينية.

أما عن العلاقة الملتبسة بين العسكر والإخوان حاليا، فحديثها يحتاج إلى مبحث خاص يتناولها.

فوزي منصور
http://www.fawzymansour.com