Saturday, February 21, 2009

عقيدة التوحيد : المبني والمعني-الحلقة17: النقد والنظام المالي.

نشأة النقد وتطوره:
اعتمد الإنسان في بداية الأمر على أسلوب المقايضة ،أي تبادل سلعة بسلعة لزمن طويل . ولازال هذا الأسلوب متبعا في بعض المجتمعات الهامشية الفقيرة والتي لا تتوفر على نقد متداول بينها. ولجأ الى هذا الأسلوب الكثير من الحكومات حاليا فيما يعرف بالصفقات المتكافئة . ويجرى تقييم السلع التي يتم تبادلها بموجب هذه الصفقات بين دولتين بإحدى العملات الدولية كمعيار لتحديد قيمة السلعة دون استعمال النقود كوسيط للتبادل . ثم انتقل الإنسان إلى مرحلة استخدم فيها الذهب والفضة كسلعة وسيطة للتبادل . وفي مرحلة تالية تم تحديد وزن ثابت على قطع من الذهب والفضة لتيسير التعامل بها . ولضمان سلامة هذه القطع من الغش انفردت الحكومات بصياغتها وتحديد وزنها بواسطتها وظهرت بذلك النقود الذهبية والفضية أيام الرومان. واستمر العمل بها قرونا طويلة وحتي الربع الثاني من القرن العشرين. وبدأ صك النقود الذهبية والفضية بواسطة الدولة المسلمة في عهد هشام بن عبذالملك بن مروان وكان المسلمون يستعلمون قبلها النقود الرومانية وغيرها مما كانت تتداوله الشعوب الأخرى. واختير الذهب والفضة لما يتميزان به من ندرة نسبية تحقق لهما ثبات القيمة ، ولسهولة استعمالهما وحفظهما ومقاومتهما للتآكل والتلف . وأصبح لهذه النقود المعدنية ثلاثة وظائف هي :
1 – وسيلة للتبادل والوفاء بالحقوق وإبراء الذمم.
2 – معيار تقاس به قيم السلع.
3 – مخزن للفيم ، وقد حرم الإسلام كنز الذهب والفضة وهو ما يعد تجريدا لها من هذه الوظيفة .ومنع تحلي الرجال بالذهب ، وكان أكثر ندرة من الفضة ، وتم إجازة التحلي به للنساء فقط لحاجتهن إلى الزينة ولكي يزددن بهاء في نظر أزواجهن ، وكان الهدف من ذلك هو توفير النقد الكافي لعمليات التبادل التجاري.
واستمر التعامل بالنقد الذهب والفضي وحده إلى أن ازدهرت التجارة في مدينة البندقية (فينيسيا) بايطاليا ، وظهر فيها صيارفة يحوزون على ثقة الناس . فكان التاجر يفضل إيداع ما لديه من ذهب وفضة لدى الصيارفة خوفا عليه من السرقة ويحصل منهم على شهادة بأنه قد أودع لديهم كمية من النقد ويتعهد الصراف في الشهادة بأن يدفع لدائني التاجر كل التزام قانوني صحيح في حدود قيمة الوديعة.وبهذه الوثيقة يستطيع التاجر أن يشترى سلعة مقابل أن يتنازل عنها للبائع الذي يتسلم القيمة بدوره متى شاء من الصراف . وكان ذلك مقدمة لظهور النقود الورقية الغطاة قيمتها بما يقابل قيمتها من ذهب وظهور البنوك بعد ذلك وأصدارها سندات إذنية تتعهد بموجبها أن تدفع لحاملها ما يعادل قيمتها الثابتة ذهبا . وصار لهذه السندات حجيتها وقوة الإلزام بقوة القانون عندما تم قصر إصدارها على البنك المركزي للدولة مثلما حدث في انجلترا عام 1833 مقابل احتفاظ البنك بما يقابلها ذهبا . واستمر التزام البنك بسداد ما يعادل قيمة الورقة النقدية الصادرة منه ذهبا حتي نشبت الحرب العالمية الأولي فتوقف بعدها هذا الالتزام خشية أن يتحول الذهب إلى الأعداء. ولكن استمرت البنوك المركزية في المحافظة على الأرصدة الذهبية كغطاء للنقد المصدر ، وإن لم تلتزم بأن يكون الغطاء الذهبي معادلا ما تصدره من أوراق مالية وإنما أصبح مخهزونها من السبائك الذهبية بمثابة قيمة منقولة تمثل جزءا من أصولها وليس كلها.
وبذلك لم يعد النقد صدر مرتبطا بالذهب وإنما يصدر وقق توازن بين الأرصدة الدائنة والمدينة . أي مقابل الديون المستحقة للبنك . .ويكفي أن تزيد ديون الغير للبنك لكي يزيد من الإصدار النقدي وطرحه للتعامل به في الأسواق . وعندما يتدخل البنك لضبط السيولة النقدية إذا ما ترتب على زيادتها في الأسواق ارتفاع اسعار السلع وضعف القوة الشرائية للنقد، فإنه يتدخل لصيانة استثماراته ودائنيته للغير , ويستخدم في هذا التدخل آلية سعر الفائدة علة الأموال المعروضة كفروض لضبط النظام المالي والنقدي. وبذلك اعتمد النظام النقدى والسياسة المالية اعتمادا كليا على نظام الفائدة الربوية . وبدونها يختل النظام اختلالا سلبيا يهدده بالانهيار.زلم يعد النقد الورقي يكتسب قيمته من رصيده الذهبي وإنما من الثقة التي يضعها فيه المتعاملون به . كما لم يعد يمثل في الواقع سوى نسبة من المعاملات التجارية التي أصبحت تعتمد على سداد المديونيات على الشيكات والكمبيالات وخطابات الضمان الصادرة من البنوك المالية والتجارية أو المضمونة منها . أي أن الائتمان صار يقوم مقام النقد الحقيقي. ولم تعد توجد قيمةمادية حقيقية في غير العملات المعدنية الصغيرة من النحاس والنيكل والفضة التي لاتزال متداولة ، والتي تشمتمل علة قيمة مادية تمثل قيمة المعدن المصبوبة منه وقيمة معنوية أو ضمنية وهمية تمثل الفرق بين قيمة تداولها وقيمة ما بها من معدن.
ولاتحتفظ البنوك التجارية بأرصدة نقدية تقابل قيمة ما هي دائنة به ومدينة به ، أي القيمة الإجمالية للمديونيات لديها ، وإنما تحتفظ باحتياطي نقدي يعادل حوالي 3 في المائة من قيمة الودائع ذات المدة المحدودة والتي لا يمكن سحب شيكات عليها قبل انتهاء مدتها ، وحوالي 10 في المائة من قيمة الودائع الأخرى ، بحيث يظل هناك تناسب ثابت بين قيمة الاحتياط النقدي والقيمة الفعلية للودائع ويحكمه في نفس الوقت توازن بين الأصول والخصوم لديها. وتحقق البنوك التدارية أرباحها من فرق سعر الفائدة على مالديها من ودائغ وما تدفعه قروضا أو تسهيلات إئتمانية . وبالتالي يعد التعامل بالربا أساسيا في نشاطاتها.
وتعتمد الحكومات ، إلى جانب تحديد سعر الفائدة والتحكم في الإصدار النقدي، على التحكم في أسعار السوق لمنع تقلبات كبيرة للقوة الشرائية للبنقود، وخاصة بالنسبة للسلع الأساسية، وذلك بالاسترشاذ برقم قياسي للآسعار على أساس رصد تقلباتها خلال فترة زمنية سابقة ، فإذا ارتفع السعر عن الرقم القياسي 100 قامت بالتدخل لإعادة الثمن إلى ما كان عليه أو بالمحافظة على توازن مستمر بين الأجور وأسعار السلع . ولايتم ذلك غالبا بالتدخل المباشر في السوق لتقييد الأسعار وإنما بزيادة عرض السلع . وأحيانا ما تخفق مواردها أو سياستها في ذلك ، فتقوم ضمن سياسة التقويم الهيكلي ، والتي تتطلب بأن لايزيد التضخم عن 3 في المائة بتجميد الأجور الحكومية لكبح التضخم، وقد لايفلح هذا الإجراء فتواصل الأسعار ارتفاعها , وهو ما يحدث ذائما في الدول التي تخضع سياساتها المالية والاقتصادية لتعليمات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ولايعني ما سبق أن نظام الغطاء النقذي بالذهب قد اختفي تماما ،أو فقد أهميته . فقد اعتمدت الأنظمة المالية لدول البلطيق التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي السابق:استونيا ولتوانيا وليتوفيا (انفصلت عنه قبل انهياره وتفككه)على أرسدة من السبائك الذهبية لضمان حد أدني لقوة النقد لديها لعدم توفرها على أصول أخرى كبيرة متوفرة .
إلا أن إقامة نظام مالي يعتمد على الرصيد الذهبي تعترضه صعوبات كثيرة أهمها الحصول على الذهب الكافي الذي يغطي الاصدار فضلا عما يعترى أسعار الذهب حاليا من تقلبات كثيرة وسريعة.

التحول عن الرصيـد الذهبي:
في عام 1944م فاجتمع فيما مابين 1 -22 يوليو ، ممثلوا (44) دولة بالمنتجع الصيفي " بريتون وودز "بمقاطعة نيو هامبشاير بالولايات المتحدة والتي تم من خلالها ابرام تفاقية بريتون وودز Bretton Woods Agreement Forex Markets والتي تهدف الى ايجاد نوع من الثبات في السياسات النقدية وأسعار الصرف بين دول العام من خلال وضع أسس انتقال رؤوس الاموال بين الدول كأساس لتسهيل التجاره الدولية وذلك عن طريق ربط سعر العملات العالمية بالدولار الامريكي مع هامش بسيط للارتفاع والانخافض لايزيد عن 10% من السعر الأساسي ، بالاضافة الى انشاء بنك التنمية والتعمير الدولي وصندوق النقد الدولي .
واستمر العمل بهذه الاتفاقيه حتى منتصف الخمسينات بسبب التوسعات والتطورات العالمية التي حدثت في التجاره الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبما واكبها ممن تحركات كبيرة ا لرؤوس الاموال احدثت خلخله في قواعد وأسس الصرف.
يمكن تلخيص هذه القصة فيما يلي: في 5 يونيو 1947 أعلن الجنرال جورج مارشال رئيس هيئة أركان الجيش الأميركي سابقاً في خطاب أمام جامعة هارفارد، المشروع الذي عرف باسم مشروع مارشال فيما بعد لإعادة تعمير أوروبا بقروض أمريكية وتم بناء على ذلك تأسيس منظمة التعاون والاقتصادي الأوروبي"وإنفاق 17 مليار دولار أميركي على إعادة إعمار وتشغيل الاقتصاد والمصانع الأوروبية.وحصلت الولايات المتحدة مقابل دولاراتها ذهبا كان متوفراً لدى البنوك المركزية الأوروبية.وتعاملت الدول الأوروبية بالدولار باعتباره عملة مغطاة بشكل كامل بالذهب من قبل بنك الاحتياط الفيدرالي الأمريكي كما اتخذته العملات الأوروبية غطاء لعملاتها.وعندما انتعشت الصادرات الأوروبية للولايات المتحدة ورحبت باتفاقية بريتون وودز,إلا أن الشكوك ساورت هذه الدول في أن يكون فعلا كل الدولارات التي تطبعها الولايات المتحدة وتغرق بها تلك الدول مغطاة فعلا بالذهب على ما يبدو وبدأت تطالب باستبدال الدولارات بما يوازي قيمتها ذهبا على اساس 35 دولار لكل أونصة وفقا لما هو معلن .ووجد البنك الفدرالي الأمريكي نفسه عاجزاً عن تلبية تلك الطلبات . أعلن الرئيس الأمريكي نكسون بتاريخ 15 أغسطس1971فك ارتباط الدولار بالذهب. وانتهاء العمل باتفاقية بريتون وودز من جانب واحد.وقال إن قيمة الدولار تحددها "قوة" الاقتصاد الأمريكي نفسه.
وتوقف صرف الذهب بالدولار نتيجة الأزمة التي خلقها الارتباط بين الدولار والذهب لأميركا،ولم تهتم ، وقد خرجت سليمة ومستأسدة بعد الحرب العالمية الثانية بما قد يسببه قرارها من مشاكل للدول الأخرى وللاقتصاد العالمي. وعندما توافد رؤساء وقادة واقتصاديو العالم (خصوصاً من أوروبا) على أميركا محتجين على إلغاء الاتفاق من جانب واحد، فرد وزير الخزانة الأميركي آنذاك جون كونولي بالقول الشهير ان «الدولار هو عملتنا، ولكنه مشكلتكم». ويوجد في الأسواق العالمية اليوم خمسة تريوليون (خمسة ألاف مليار) دولار أمريكي تعتبركلها دين على الخزانة الأمريكية وتعد الصين واليابان ودول جنوب شرق آسيا من أكبر الدائنين للولايات المتحدة .
وفي عام 1973 حذت الدول الصناعية الكبرى حذو الولايات المتحدة وصار العرض والطلب هما ما يحددان فيمة عملاتها ، وهو ما أتاح أيضا الفرصة للمضاربة على العملات في الأسواق المالية وتذبذب قيمتها من يوم لآخر.
وبعد الأزمة المالية العالمية الأخيرة ، دعا رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون يوم 13 أكتوبر 2008 زعماء العالم الى التكاتف من أجل اعادة صياغة اتفاق بريتون وودز الذي يقوم عليه النظام المالي العالمي بما يتفق مع اتجاه العولمة السائد في القرن الحادي والعشرين. وقال براون في كلمة ألقاها في مقر وكالة طومسون رويترز في لندن «أحيانا يستلزم الامر أزمة لكي يتفق الناس على أن ما هو واضح وكان يجب أن يتم منذ سنوات لم يعد يحتمل التأجيل. لكن علينا الان أن نقيم البناء المالي الجديد السليم للعصر العالمي». وأضاف أنه سيحث على تنفيذ خطته بعقد اجتماع لزعماء الاتحاد الاوروبي يوم 15 أكتوبر2008.ولم يوضح براون ان كان الدولار سيستمر كـ «احتياط العالم» أم لا، لأن هناك مطالبة اخرى بالتحول الى العملة الاوربية اليوروـ والمعروف أن بريظانيا مازالت تتعامل بالجنية الاسترليني وليس باليورو ولها ارتباطات قوية بألاسواق المالية الأمريكية عن طريق بنوك الاستثمار 'الاوف شور” فيها.
وساهم الاتفاق الذي تمخض عنه مؤتمر بريتون وودز عام 1944 في وضع أسس النظام المالي العالمي بعد الحرب وأسفر عن تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.وكان الرئيس الالماني هورست كويهلر، الرئيس السابق لصندوق النقد الدولي، دعا بدوره الى مؤتمر دولي مشابه لمؤتمر «بريتون وودز». ومن جهته عبر الرئيس الفرنسي ساركوزي عن مطالب اخرى في اتجاه نظام مالي عالمي جديد.واقترح أيضا المدير العام لمنظمة التجارة العالمية باسكال لامي عقد قمة اقتصادية للدول الكبرى على غرار "بريتون وودز"وذلك لبحث سبل مواجهة الأزمة المالية العالمية.

دور بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في خلق الأزمات:
ورد في مقال منشور في القدس العربي بتاريخ 20أكتوبر 2008 مايلي: بداية العشرينيات من القرن الماضي قامت الحكومة الأمريكية بإغلاق عدد من المصارف بشبهة الإحتيال والتلاعب القانوني، آنذاك سنحت الفرصة لأربعة من حيتان المال وهم روكفلرـ مورغن ـ روتشيلد ـ فابورغ للضغط من أجل إنشاء بنك مركزي لعموم البلاد سُمي فيما بعد البنك الإحتياطي الفيدراليRFB. وقد تم التمهيد لهذه الفكرة الجهنمية، بمحاولة ناجحة قام بها مورغن عام 1907 عندما أشاع أخبارا عن إفلاس أحد البنوك الكبرى مما أدى إلى فوضى عارمة وفزع وهلع شديدين دفع المُودعين إلى التزاحم لسحب إيداعاتهم المالية، وخلال عملية مباغتة تهاوت مؤسسات مالية وبنوك كبرى وفق مبدأ سقوط أحجار الدومينو.
وهكذا بدأت خيوط لعبة إنشاء بنك مركزي، ودخلت حيّز التنفيذ عندما جُنّد عضو الكونغرس آنذاك نيلسون اولدريك (صهر أسرة روكفلر، وحليف الكارتل المالي) لإنجاز المهمة بدعوى ضبط الفوضى المالية. عام 1910 إلتقى في جايكل آيلاند (مقابل ولاية جورجيا) عشرة أشخاص في إجتماع أحيط بسرية تامة ( حتى أن الأشخاص العشرة سافروا بإسماء مزوّرة) وهؤلاء هم من وضع مسودة قانون البنك الإحتياطي الفيدرالي، رغم أنهم رجال مصارف ولا شأن لهم بالقانون. وبعدها تم تسليم تلك المسودّة إلى اولدريك ليضعها أمام الكونغرس.

وفي عام 1913 قام الرئيس الرئيس وود روغلر بتوقيعها لقاء وعد بدعم حملته الإنتخابية، وتم ذلك قبل يومين من عيد الميلاد وأثناء غياب معظم أعضاء الكونغرس وبهذا أصبحت تلك المسودّة قانونا رسميا تم تصديقه لاحقا في ولاية الرئيس ودرو ويلسون (1913 ـ 1921)، ليصبح ساري المفعول. ويلسون كتب فيما بعد آسفا:
'بلادنا الصناعية العظيمة أصبحت في أيدي نظام مصرفي يخدم الخاصة، وأصبح النمو والإزدهار رهينة بأيدي قلة قليلة من الرجال، الذين يحددون ويسيطرون على الحرية الإقتصادية. لقد أصبحنا أسوأ بلاد المدنية المحكومة والمسيطر عليها. نحن لا نملك حكومة حرة أو حكومة للقرار الجماعي بل حكومة تمثل قليلا من الرجال المهيمنين'( إنتهى).
عضو الكونغرس لويس ماك فادن وهو من معاصري الحدث قال: هنا أقيم نظام مصرفي لمجموعة من الأغنياء الذي يديرون دولة عظمى ويعملون معا من أجل حكم العالم وإستعباده وفق مزاجهم (إنتهى).

خلال الفترة بين عامي 1914و 1919 قام RFB بمضاعفة السيولة النقدية مما أتاح للبنوك الصغيرة والعامة مزيدا من فرص الإقتراض وتداول النقد، عام 1920 قام RFB بتقليص السيولة المالية إلى سابق عهدها وهذا دفع البنوك إلى إلغاء كثير من القروض وإلى أزمة في السيولة سببت إفلاس 5000 بنك وتدمير إقتصادي مروّع وهلع. آنذاك قال ليندبرغ عضو الكونغرس: من خلال البنك الإحتياطي الفيدرالي يمكن خلق أزمة وهمية هذا يمكن حسابه بواسطة الرياضيات( إنتهى).
بين عامي 1921و 1929 عاود RFB وضخ كميات من السيولة المالية وسمح بمنح قروض كثيرة. آنذاك إستطاع المستثمر مورغن لون Morgen Loan من طرح أسهم للإستثمار يدفع المشتري 10% من قيمتها وتقوم البنوك بتغطية 90% من قيمتها، هذا يعني أنك تدفع 100دولار مقابل ملكية أسهم بقيمة 1000دولار، في تلك الفترة كان العصر الذهبي للبورصة الأمريكية، إذ تصور الناس أن البورصة عملية مربحة فقط، لكن البنوك وضعت شروطا مخبأة تتيح لها إنذار الزبون لدفع قيمة ديون الأسهم خلال 24 ساعة وإرتبط ذلك بما سُميّ مورغن كول Morgen call . وهكذا قام روكفلر بالإنسحاب من البورصة وباع أسهمه ثم لحقه مروجو إستثمارات مورغن لون نفسها، مما سبب تدافعا للبيع الجماعي للأسهم كانت حصيلته إنهيار 16000مصرف، وكانت هذه الحادثة من أكبر عمليات السطو في تاريخ الولايات المتحدة.
ماك فادن عضو الكونغرس حاول إعداد وثيقة لإلغاء البنك الإحتياطي الفيدرالي، لكنه قُتل مسموما بعد محاولتي قتل فاشلة.
عام 1933 ومن أجل رفع غطاء الذهب عن الدولار، سُن قانون يتيح مصادرة الذهب من البنوك والأفراد تحت طائلة السجن عشر سنوات للمخالفين، وهكذا تم سحبه من التداول وإعتماد ورقة الدولار كقيمة لذاتها. قبل عام 1933 كان يُكتب على ورقة الدولار العبارة التالية: هذه الورقة تُصرف مقابل قيمتها من الذهب. بعد ذلك أصبح يُكتب عليها: ورقة قانونية للدفع. وهي في الحقيقة ورقة لا قيمة لها.
إن RFB البنك الإحتياطي الفيدرالي بنك خاص مفروض على الحكومة والأمة وهو أكبر عملية نصب وإحتيال تعرضت لها أمريكا.»
وجاء في كتاب "أسرار الاحتياط الفيدرالي" عام 1983، " إن فحص المساهمين الرئيسيين لـ"نيويورك سيتي بنك" يري بوضوح أن قليلا من العائلات ذات النسب بالدم بالزواج أو بمصالح العمل ما تزال تسيطر على مصارف مدينة نيويورك التي بدورها تمتلك السندات المسيطرة لبنك الاحتياط الفيدرالي لمدينة نيويورك،.. ومن أبرز هؤلاء الأعضاء عائلة روتشيلد مورجان روكفلر واربربرج وآخرون.. وهذا البنك يسيطر بشكل كامل على الفروع الـ 11 الأخرى من خلال ملكية الأسهم ، تلك السيطرة أهلته للحصول على مقعد التصويت الدائم الوحيد على لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية ."
ولذا فإن الرابح دائما من الأزمات المالية هي تلك العائلات الثرية القديمة والتي يشهد تاريخها بأدوار لعبتها في أوروبا والولايات المتحدة تندرج أخلاقيا ضمن أعمال النصب والاحتيال.
وقد عبرت الادارة الامريكية ومجلس الاحتياط الفيدرالي عن ارتياحهما لصفقة استحواذ مجموعة "سيتي جروب" المالية الأمريكية على بنك "واكوفيا" بعد شرائها أسهم في البنك بقيمة ملياري دولار.
وأبدت المؤسسة الفيدرالية لتأمين الودائع استعدادها لتحمل جانب من خسائر البنك لا سيما بعد أن ذكرت "سيتي جروب" أن الصفقة ستدفعها إلى امتصاص نحو 42 مليار دولار من الخسائر في البنك فضلا عن ضمان نحو 12 مليار دولار في صورة أسهم مختارة وضمانات.
وأوردت وكالة الأنباء الكويتية أن المؤسسة أكدت أن بنك "واكوفيا" لم يفشل في عملياته, كما أن جميع الودائع الموجودة لديه آمنة ومحمية على نحو لن يكلف صندوق تأمين الودائع الفدرالي أي نفقات لاعادتها إلى أصحابها.
ومن ناحيته, عبر رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي بن بيرنانكي عن دعمه لاجراءات المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع حيال الصفقة, معتبرا أن تلك الاجراءات تظهر "التزام الحكومة الراسخ بتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي".
وأشاد وزير الخزانة هنري بولسون بالصفقة مؤكدا أنها ستحد من أي أثار سلبية محتملة في الأسواق حيث أن فشل "واكوفيا" كان من شأنه أن يشكل مخاطرة كبيرة للنظام المالي الأمريكي.
يذكر أن تلك الصفقة ستعزز من مكانة "سيتي جروب" ضمن أكبر المؤسسات المصرفية في الولايات المتحدة مع "بنك اوف امريكا" و "جي بي مورجان تشيس".
وكان بنك "واكوفيا" قد مني بخسائر متنامية في قطاع العقارات عقب استحواذه عام 2006 على مؤسسة "جولدن وست" المالية المتخصصة في الاقراض العقاري.
في الخامس عشر من سبتمبر 2008 انهار رابع أكبر البنوك الأمريكية الاستثمارية وهو "بنك ليمان براذرز Leman Brothers" وإعلان إشهار إفلاسه رسميًّا، وألقي أحد مسؤولي البنك باللائمة على بنك الاحتياطي الأمريكي الذي قام بتجميد 12مليار دولار لبنك ليمان ورفض دفعها له مما تسبب في إقلاس البنك خلال 24 ساعة . وتردد في وسائل الاعلام أيضا بأن مسؤولون كبار في بنك ليمان قاموا بتهريب مليارات الدولارات الى حسابات في اسرائيل لما تأكدوا من أن البنك موشك على الإفلاس.
وفى الوقت الذي وقف فيه مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي (المركزي الأمريكي) موقف المتفرج إزاء تعرض البنك للإفلاس إذا به يهب مسرعًا لإنقاذ أكبر شركة تأمين في العالم من الانهيار وهي المجموعة الأمريكية الدولية American International Group (AIG) بعد 24 ساعة فقط من تقدم المجموعة بطلب المساعدة. فقد وضعت السلطات المالية الأمريكية خطة طوارئ تمتد إلى عامين بقيمة إجمالية 85 مليار دولار لإنقاذ شركة التأمين العملاقة من إشهار إفلاسها مقابل الحصول على 79.9% من رأسمال الشركة. ويذكر أن شركة AIG قد أصدرت بيانًا تؤكد فيه أن الشركات التابعة لها في منطقة آسيا والشرق الأوسط غير معنية بالأزمة المالية التي تمر بها المجموعة وأنها ذات استقلال مالي وإداري .

وفي كتابه "ذكريات" يذكر دافيد روكفيلير ما يلي في الفصل 27:أن "البعض يعتقد بأننا جزء من مجموعة سرية تعمل ضد المصلحة الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية ، ويصفونني وعائلتي بأننا عولميون Internationalists” " وأننا نتآمر مع آخرين حول العالم لبناء كيان كوني إقتصادي أكثر تكاملا، دولة العالم إن شئت.إذا كانت هذه هي التهمة، فأنا أعترف بأني مذنب، وأنا فخور بذلك ."
ويقول أيضا :"نحن على حافة تغير كوني. كل ما نحتاجه هو المشكلة الرئيسية الصحيحة وبعدها سوف تتقبل الشعوب النظام العالمي الجديد"
والمصارف العشرة التي تعهدت بضخ 70 مليار دولار في إطار صندوق مالي للطوارئ كخطة لتأمين ذاتي هم بنك "أوف أمريكا" و"باركليز" و"سيتي جروب" و"كريدي سويس" و"دويتش بانك" و"جولدمان ساش" و"جي بي مورجان شيز" و "ميرل لينش" و"مورجان ستانلي" و"يو بي إس". ويمكن القول بأنها المصارف المستفيدة من الأزمة والتي لم تتأثر بها أو يصيبها شرر نارها وجميعها مملوك لعائلات يهودية.

مضار التعامل بالربا على النظام الاقتصادي


حرمة الربا وتصوير حالة المرابين في الإسلام
يقوم النظام المالي في العالم الرأسمالي على التعامل بالربا والمضاربات على الأوراق المالية وتتحول فيه الأموال إلى سلع تباع وتشترى عوض السلع المادية المنتجة من الزراعة أو الصناعة ، وبذلك تغيرت وظيفة المال من أداة للتبادل إلى سلعة مثل أية سلعة أخرى . وييستعمل النظام الرأسمالي أسعار الفائدة كألية لضبط النظام والتحكم في التضخم المالي . ولعل هذا هو سبب الأزمات المالية التي يتعرض لها النظام المالي الرأسمالي بصفة دورية ، والتي كان أشدها عام 1929 وسبتمبر عام 2008 بالإضافة الى الأزمة الآسيوية في نهاية عام 1997 . والتعامل بالربا محرم في الإسلام تحريما قطعيا وبالتالي في إن النظام المالي والاقتصادي في مجتمع المسلمين يجب أن يستبعد التعامل به .
لم يبتل النظام الرأسمالي المعاصر بداء الربا وحده وإنما أيضا بالمضاربة على أسواق النقد والمال والائتمان وحذث انفصام بين الاقتصاد العيني المتمثل في تدفقات السلع والخدمات والاقتصاد المالي المتمثل في تدفقات النقود والائتمان ، وتضخمت المضاربات في الأسواق المالية الثانوية على أوراق مالية لا وجود لها في واقع الحال وتحول الاقتصاد من اقتصاد انتاجي إلى اقتصاد ريعي وطفيلى ، وكان ذلك سبب انهيار بورصة وول ستريت والتى تداعت لانهيارها الأسواق المالية علر العالم . وانهيار الأسواق المالية لايعني سوى إقلاس شركات وإعلاق مصانع وتعرض الملايين من الناس للبطالة ومعاناتهم في نفس الوقت من التضخم وضياع مدخرات صغار وكبار المستثمرين على السواء. وبذلك اقترن الربا بما هو في حكم الميسر وبيع الغرر وكلها محرمة في الإسلام. قال تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِيـنَ آمَنُـواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَـابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّـنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (المائدة: 90).وقال الله تعالى : "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُـونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ "(البقرة : 219),
لقد كانت الأزمة المالية في سبتمبر 2008 فرصة لكل من يكره الولايات المتحدة لجرائمها في حق العرب والمسلمين من الصحافيين والمعلقين أن يبدوا شماتتهم فيها ، ويبشروا بسقوط القطبية الواحدة ، ولكن لم يحاول أحد أن يستخلص الدرس مما حدث لها ، ولم ينتبه إلى أن بلاده العربية أو المسلمة تتبع خطي الولايات المتحدة في نهج اقتصادها وما ليتها ، وتندفع خلفها اندفاعا أعمي . وفي حين اضطرت الولايات المتحدة وبريطانيا شراء البنوك المفلسة للآبقاء عليها ، أي أعادت دور القطاع العام للآقتصاد ، ولو مرغمه ، راحت دول مسلمة تعلن عن بيع ما تبقي لديها من مؤسسات القطاع العام ، بما فيها ما كانت تعتبره مؤسسات استراتيجية تتجلي في سيادة الدولة وتتحقق بها مصالح للمجتمع، لايمكن ائتمان القطاع الخاص الأجنبي عليها.

يقول الأستاذ سيد فطب عن الربا :وهو يشرح فوله تعالى في سورة البقرة: “الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم “إنها الحملة المفزعة والتصوير المرعب لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة صورة الممسوس المصروع وهي صورة معروفة معهودة للناس فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس لاستجاشة مشاعر المرابين وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي ; ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة هو القيام يوم البعث ولكن هذه الصورة فيما نرى واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضا ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية ; وتصورات أهل الجاهلية عنها إن الربا الذي كان معروفا في الجاهلية والذي نزلت هذه الآيات وغيرها لإبطاله ابتداء كانت له صورتان رئيسيتان ربا النسيئة وربا الفضل فأما ربا النسيئة فقد قال عنه قتادة إن ربا أهل الجاهلية يبيع الرجل البيع إلى أجل مسمى فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء زاده وأخر عنه وقال مجاهد كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدين فيقول لك كذا وكذا وتؤخر عني فيؤخر عنه وقال أبو بكر الجصاص إنه معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضا مؤجلا بزيادة مشروطة فكانت الزيادة بدلا من الأجل فأبطله الله تعالى وقال الإمام الرازي في تفسيره إن ربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باق بحاله فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل وقد ورد في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي ص قال < لا ربا إلا في النسيئة > أما ربا الفضل فهو أن يبيع الرجل الشيء بالشيء من نوعه مع زيادة كبيع الذهب بالذهب والدراهم بالدراهم والقمح بالقمح والشعير بالشعير وهكذا وقد ألحق هذا النوع بالربا لما فيه من شبه به ; ولما يصاحبه من مشاعر مشابهة للمشاعر المصاحبة لعملية الربا وهذه النقطة شديدة الأهمية لنا في الكلام عن العمليات الحاضرة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ص < الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطي فيه سواء “.
وعن أبي سعيد الخدري أيضا قال جاء بلال إلى النبي ص بتمر برني فقال له النبي ص من أين هذا ؟ قال كان عندنا تمر رديء فبعت منه صاعين بصاع فقال : أوه عين الربا عين الربا لا تفعل ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتر به > فأما النوع الأول فالربا ظاهر فيه لا يحتاج إلى بيان إذ تتوافر فيه العناصر الأساسية لكل عملية ربوية وهي الزيادة على أصل المال والأجل الذي من أجله تؤدى هذه الزيادة وكون هذه الفائدة شرطا مضمونا في التعاقد أي ولادة المال للمال بسبب المدة ليس إلا وأما النوع الثاني فما لا شك فيه أن هناك فروقا أساسية في الشيئين المتماثلين هي التي تقتضي الزيادة وذلك واضح في حادثة بلال حين أعطى صاعين من تمره الرديء وأخذ صاعا من التمر الجيد ولكن لأن تماثل النوعين في الجنس يخلق شبهة أن هناك عملية ربوية إذ يلد التمر التمر فقد وصفه ص بالربا ونهى عنه وأمر ببيع الصنف المراد استبداله بالنقد ثم شراء الصنف المطلوب بالنقد أيضا إبعادا لشبح الربا من العملية تماما وكذلك شرط القبض يدا بيد كي لا يكون التأجيل في بيع المثل بالمثل ولو من غير زيادة فيه شبح من الربا وعنصر من عناصره إلى هذا الحد بلغت حساسية الرسول ص بشبح الربا في أية عملية وبلغت كذلك حكمته في علاج عقلية الربا التي كانت سائدة في الجاهلية فأما اليوم فيريد بعض المهزومين أمام التصورات الرأسمالية الغربية والنظم الرأسمالية الغربية أن يقصروا التحريم على صورة واحدة من صور الربا ربا النسيئة بالاستناد إلى حديث أسامة وإلى وصف السلف للعمليات الربوية في الجاهلية وأن يحلوا دينيا وباسم الإسلام الصور الأخرى المستحدثة التي لا تنطبق في حرفية منها على ربا الجاهلية ولكن هذه المحاولة لا تزيد على أن تكون ظاهرة من ظواهر الهزيمة الروحية والعقلية فالإسلام ليس نظام شكليات إنما هو نظام يقوم على تصور أصيل فهو حين حرم الربا لم يكن يحرم صورة منه دون صورة إنما كان يناهض تصورا يخالف تصوره ; ويحارب عقلية لا تتمشى مع عقليته وكان شديد الحساسية في هذا إلى حد تحريم ربا الفضل إبعادا لشبح العقلية الربوية والمشاعر الربوية من بعيد جدا ومن ثم فإن كل عملية ربوية حرام سواء جاءت في الصور التي عرفتها الجاهلية أم استحدثت لها أشكال جديدة ما دامت تتضمن العناصر الأساسية للعملية الربوية أو تتسم بسمة العقلية الربوية وهي عقلية الأثرة والجشع والفردية والمقامرة وما دام يتلبس بها ذلك الشعور الخبيث شعور الحصول على الربح بأية وسيلة فينبغي أن نعرف هذه الحقيقة جيدا ونستيقن من الحرب المعلنة من الله ورسوله على المجتمع الربوي الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس والذين يأكلون الربا ليسوا هم الذين يأخذون الفائدة الربوية وحدهم وإن كانوا هم أول المهددين بهذا النص الرعيب إنما هم أهل المجتمع الربوي كلهم .

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال لعن رسول الله ص آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه وقال :« هم سواء “ وكان هذا في العمليات الربوية الفردية فأما في المجتمع الذي يقوم كله على الأساس الربوي فأهله كلهم ملعونون معرضون لحرب الله مطرودون من رحمته بلا جدال إنهم لا يقومون في الحياة ولا يتحركون إلا حركة الممسوس المضطرب القلق المتخبط الذي لا ينال استقرارا ولا طمأنينة ولا راحة وإذا كان هناك شك في الماضي أيام نشأة النظام الرأسمالي الحديث في القرون الأربعة الماضية فإن تجربة هذه القرون لا تبقي مجالا للشك أبدا إن العالم الذي نعيش فيه اليوم في أنحاء الأرض هو عالم القلق والاضطراب والخوف ; والأمراض العصبية والنفسية باعتراف عقلاء أهله ومفكريه وعلمائه ودارسيه وبمشاهدات المراقبين والزائرين العابرين لأقطار الحضارة الغربية وذلك على الرغم من كل ما بلغته الحضارة المادية والإنتاج الصناعي في مجموعه من الضخامة في هذه الأقطار وعلى الرغم من كل مظاهر الرخاء المادي التي تأخذ بالأبصار ثم هو عالم الحروب الشاملة والتهديد الدائم بالحروب المبيدة وحرب الأعصاب والاضطرابات التي لا تنقطع هنا وهناك إنها الشقوة البائسة المنكودة التي لا تزيلها الحضارة المادية ولا الرخاء المادي ولا يسر الحياة المادية وخفضها ولينها في بقاع كثيرة وما قيمة هذا كله إذا لم ينشىء في النفوس السعادة والرضى والاستقرار والطمأنينة إنها حقيقة تواجه من يريد أن يرى ; ولا يضع على عينيه غشاوة من صنع نفسه كي لا يرى حقيقة أن الناس في أكثر بلاد الأرض رخاء عاما في أمريكا وفي السويد وفي غيرهما من الأقطار التي تفيض رخاء ماديا إن الناس ليسوا سعداء أنهم قلقون يطل القلق من عيونهم وهم أغنياء وأن الملل يأكل حياتهم وهم مستغرقون في الإنتاج وأنهم يغرقون هذا الملل في العربدة والصخب تارة وفي التقاليع الغريبة الشاذة تارة وفي الشذوذ الجنسي والنفسي تارة ثم يحسون بالحاجة إلى الهرب الهرب من أنفسهم ومن الخواء الذي يعشش فيها ومن الشقاء الذي ليس له سبب ظاهر من مرافق الحياة وجريانها فيهربون بالانتحار ويهربون بالجنون ويهربون بالشذوذ ثم يطاردهم شبح القلق والخواء والفراغ ولا يدعهم يستريحون أبدا لماذا السبب الرئيسي طبعا هو خواء هذه الأرواح البشرية الهائمة المعذبة الضالة المنكودة على كل ما لديها من الرخاء المادي من زاد الروح من الإيمان من الاطمئنان إلى الله وخواؤها من الأهداف الإنسانية الكبيرة التي ينشئها ويرسمها الإيمان بالله وخلافة الأرض وفق عهده وشرطه ويتفرع من ذلك السبب الرئيسي الكبير بلاء الربا بلاء الاقتصاد الذي ينمو ولكنه لا ينمو سويا معتدلا بحيث تتوزع خيرات نموه وبركاتها على البشرية كلها إنما ينمو مائلا جانحا إلى حفنة الممولين المرابين القابعين وراء المكاتب الضخمة في المصارف يقرضون الصناعة والتجارة بالفائدة المحددة المضمونة ; ويجبرون الصناعة والتجارة على أن تسير في طريق معين ليس هدفه الأول سد مصالح البشر وحاجاتهم التي يسعد بها الجميع ; والتي تكفل عملا منتظما ورزقا مضمونا للجميع ; والتي تهيء طمأنينة نفسية وضمانات اجتماعية للجميع ولكن هدفه هو انتاج ما يحقق أعلى قدر من الربح ولو حطم الملايين وحرم الملايين وأفسد حياة الملايين وزرع الشك والقلق والخوف في حياة البشرية جميعا وصدق الله العظيم الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وها نحن أولاء نرى مصداق هذه الحقيقة في واقعنا العالمي اليوم ولقد اعترض المرابون في عهد رسول الله ص على تحريم الربا اعترضوا بأنه ليس هناك مبرر لتحريم العمليات الربوية وتحليل العمليات التجارية ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وكانت الشبهة التي ركنوا إليها هي أن البيع يحقق فائدة وربحا كما أن الربا يحقق فائدة وربحا وهي شبهة واهية فالعمليات التجارية قابلة للربح وللخسارة والمهارة الشخصية والجهد الشخصي والظروف الطبيعية الجارية في الحياة هي التي تتحكم في الربح والخسارة أما العمليات الربوية فهي محددة الربح في كل حالة وهذا هو الفارق الرئيسي وهذا هو مناط التحريم والتحليل إن كل عملية يضمن فيها الربح على أي وضع هي عملية ربوية محرمة بسبب ضمان الربح وتحديده ولا مجال للمماحلة في هذا ولا للمداورة وأحل الله البيع وحرم الربا لانتفاء هذا العنصر من البيع ; ولأسباب أخرى كثيرة تجعل عمليات التجارة في أصلها نافعة للحياة البشرية ; وعمليات الربا في أصلها مفسدة للحياة البشرية وقد عالج الإسلام الأوضاع التي كانت حاضرة في ذلك الزمان معالجة واقعية ; دون أن يحدث هزة اقتصادية واجتماعية فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله لقد جعل سريان نظامه منذ ابتداء تشريعه فمن سمع موعظة ربه فانتهى فلا يسترد منه ما سلف أن أخذه من الربا وأمره فيه إلى الله يحكم فيه بما يراه وهذا التعبير يوحي للقلب بأن النجاة من سالف هذا الإثم مرهونة بإرادة الله ورحمته ; فيظل يتوجس من الأمر ; حتى يقول لنفسه كفاني هذا الرصيد من العمل السيىء ولعل الله أن يعفيني من جرائره إذا أنا انتهيت وتبت فلا أضف إليه جديدا بعد وهكذا يعالج القرآن مشاعر القلوب بهذا المنهج الفريد ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون وهذا التهديد بحقيقة العذاب في الآخرة يقوي ملامح المنهج التربوي الذي أشرنا إليه ويعمقه في القلوب ; ولكن لعل كثيرين يغريهم طول الأمد وجهل الموعد فيبعدون من حسابهم حساب الآخرة هذا فها هو ذا القرآن ينذرهم كذلك بالمحق في الدنيا والآخرة جميعا ويقرر أن الصدقات لا الربا هي التي تربو وتزكو ; ثم يصم الذين لا يستجيبون بالكفر والإثم ويلوح لهم بكره الله للكفرة الآثمين

يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم وصدق وعيد الله ووعده فها نحن أولاء نرى أنه ما من مجتمع يتعامل بالربا ثم تبقى فيه بركة أو رخاء أو سعادة أو أمن أو طمأنينة إن الله يمحق الربا فلا يفيض على المجتمع الذي يوجد فيه هذا الدنس إلا القحط والشقاء وقد ترى العين في ظاهر الأمر رخاء وإنتاجا وموارد موفورة ولكن البركة ليست بضخامة الموارد بقدر ما هي في الاستمتاع الطيب الآمن بهذه الموارد وقد أشرنا من قبل إلى الشقوة النكدة التي ترين على قلوب الناس في الدول الغنية الغزيرة الموارد ; وإلى القلق النفسي الذي لا يدفعه الثراء بل يزيده ومن هذه الدول يفيض القلق والذعر والاضطراب على العالم كله اليوم حيث تعيش البشرية في تهديد دائم بالحرب المبيدة ; كما تصحو وتنام في هم الحرب الباردة وتثقل الحياة على أعصاب الناس يوما بعد يوم سواء شعروا بهذا أم لم يشعروا ولا يبارك لهم في مال ولا في عمر ولا في صحة ولا في طمأنينة بال وما من مجتمع قام على التكافل والتعاون الممثلين في الصدقات المفروض منها والمتروك للتطوع وسادته روح المودة والحب والرضى والسماحة والتطلع دائما إلى فضل الله وثوابه والاطمئنان دائما إلى عونه وإخلافه للصدقة بأضعافها ما من مجتمع قام على هذا الأساس إلا بارك الله لأهله أفرادا وجماعات في ما لهم ورزقهم وفي صحتهم وقوتهم وفي طمأنينة قلوبهم وراحة بالهم والذين لا يرون هذه الحقيقة في واقع البشرية هم الذين لا يريدون أن يروا لأن لهم هوى في عدم الرؤية أو الذين رانت على أعينهم غشاوة الأضاليل المبثوثة عمدا وقصدا من أصحاب المصلحة في قيام النظام الربوي المقيت ; فضغطوا عن رؤية الحقيقة والله لا يحب كل كفار أثيم وهذا التعقيب هنا قاطع في اعتبار من يصرون على التعامل الربوي بعد تحريمه من الكفار الآثمين الذين لا يحبهم الله وما من شك أن الذين يحلون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة لا إله إلا الله محمد رسول الله فالإسلام ليس كلمة باللسان ; إنما هو نظام حياة ومنهج عمل ; وإنكار جزء منه كإنكار الكل وليس في حرمة الربا شبهة ; وليس في اعتباره حلالا وإقامة الحياة على أساسه إلا الكفر والإثم .

ترك الربا أو تلقي الحرب من الله
وفي ظل هذا الرخاء الآمن الذي يعد الله به الجماعة المسلمة التي تنبذ الربا من حياتها فتنبذ الكفر والإثم وتقيم هذه الحياة على الإيمان والعمل الصالح والعبادة والزكاة في ظل هذا الرخاء الأمن يهتف بالذين آمنوا الهتاف الأخير ليحولوا حياتهم عن النظام الربوي الدنس المقيت ; وإلا فهي الحرب المعلنة من الله ورسوله بلا هوادة ولا إمهال ولا تأخير يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وأن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون إن النص يعلق إيمان الذين آمنوا على ترك ما بقي من الربا فهم ليسوا بمؤمنين إلا أن يتقوا الله ويذروا ما بقي من الربا ليسوا بمؤمنين ولو اعلنوا أنهم مؤمنون فإنه لا إيمان بغير طاعة وانقياد واتباع لما أمر الله به والنص القرآني لا يدعهم في شبهة من الأمر ولا يدع إنسانا يتستر وراء كلمة الإيمان بينما هو لا يطيع ولا يرتضي ما شرع الله ولا ينفذه في حياته ولا يحكمه في معاملاته فالذين يفرقون في الدين بين الاعتقاد والمعاملات ليسوا بمؤمنين مهما ادعوا الإيمان وأعلنوا بلسانهم أو حتى بشعائر العبادة الأخرى أنهم مؤمنون يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين لقد ترك لهم ما سلف من الربا لم يقرر استرداده منهم ولا مصادرة أموالهم كلها أو جزء منها بسبب أن الربا كان داخلا فيها إذ لا تحريم بغير نص ولا حكم بغير تشريع والتشريع ينفذ وينشىء آثاره بعد صدوره فأما الذي سلف فأمره إلى الله لا إلى أحكام القانون وبذلك تجنب الإسلام أحداث هزة اقتصادية واجتماعية ضخمة لو جعل لتشريعه أثرا رجعيا وهو المبدأ الذي أخذ به التشريع الحديث حديثا ذلك أن التشريع الإسلامي موضوع ليواجه حياة البشر الواقعية ويسيرها ويطهرها ويطلقها تنمو وترتفع معا وفي الوقت ذاته علق اعتبارهم مؤمنين على قبولهم لهذا التشريع وإنفاذه في حياتهم منذ نزوله وعلمهم به واستجاش في قلوبهم مع هذا شعور التقوى لله وهو الشعور الذي ينوط به الإسلام تنفيذ شرائعه ويجعله الضمان الكامن في ذات الأنفس فوق الضمانات المكفولة بالتشريع ذاته فيكون له من ضمانات التنفيذ ما ليس للشرائع الوضعية التي لا تستند إلا للرقابة الخارجية وما أيسر الاحتيال على الرقابة الخارجية حين لا يقوم من الضمير حارس له من تقوى الله سلطان فهذه صفحة الترغيب وإلى جوارها صفحة الترهيب الترهيب الذي يزلزل القلوب فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله يا للهول حرب من الله ورسوله حرب تواجهها النفس البشرية حرب رهيبة معروفة المصير مقررة العاقبة فأين الإنسان الضعيف الفاني من تلك القوة الجبارة الساحقة الماحقة ولقد أمر رسول الله ص عامله على مكة بعد نزول هذه الآيات التي نزلت متأخرة أن يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي وقد أمر ص في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية وأوله ربا عمه العباس عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة حتى نضج المجتمع المسلم واستقرت قواعده وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة وقال ص في هذه الخطبة < وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا العباس > ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية فالإمام مكلف حين يقوم المجتمع الإسلامي أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي ويعتون عن أمر الله ولو اعلنوا أنهم مسلمون كما حارب أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامتهم للصلاة فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله ولا ينفذها في واقع الحياة على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام فهذه الحرب معلنة كما قال أصدق القائلين على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة وهي حرب على الأعصاب والقلوب وحرب على البركة والرخاء وحرب على السعادة والطمأنينة حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض حرب المطاردة والمشاكسة حرب الغبن والظلم حرب القلق والخوف وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات ثم تقع فيها الشعوب والحكومات ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب وأيسر ما يقع إن لم يقع هذا كله هو خراب النفوس وانهيار الأخلاق وانطلاق سعار الشهوات وتحطم الكيان البشري من أساسه وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة إنها الحرب المشبوبة دائما وقد اعلنها الله على المتعاملين بالربا وهي مسعرة الآن ; تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة ; وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر ; ولكنها وهي تخرج من منبع الربا الملوث لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية ويسحقها سحقا ; في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء وأن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون فهي التوبة عن خطيئة إنها خطيئة الجاهلية الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان ولا نظام دون نظام إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان خطيئة تنشىء آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة وتنشىء آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة وتنشىء آثارها في الحياة .
يحارب آل المغيرة هناك إذا لم يكفوا عن التعامل الربوي وقد أمر صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة بوضع كل ربا في الجاهلية وأوله ربا عمه العباس عن كاهل المدينين الذي ظلوا يحملونه إلى ما بعد الإسلام بفترة طويلة حتى نضج المجتمع المسلم واستقرت قواعده وحان أن ينتقل نظامه الاقتصادي كله من قاعدة الربا الوبيئة وقال ص في هذه الخطبة “ وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدمي هاتين وأول ربا أضع ربا العباس “ ولم يأمرهم برد الزيادات التي سبق لهم أخذها في حالة الجاهلية فالإمام مكلف حين يقوم المجتمع الإسلامي أن يحارب الذين يصرون على قاعدة النظام الربوي ويعتون عن أمر الله ولو اعلنوا أنهم مسلمون كما حارب أبو بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة مع شهادتهم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقامتهم للصلاة فليس مسلما من يأبى طاعة شريعة الله ولا ينفذها في واقع الحياة على أن الإيذان بالحرب من الله ورسوله أعم من القتال بالسيف والمدفع من الإمام فهذه الحرب معلنة كما قال أصدق القائلين على كل مجتمع يجعل الربا قاعدة نظامه الاقتصادي والاجتماعي هذه الحرب معلنة في صورتها الشاملة الداهمة الغامرة وهي حرب على الأعصاب والقلوب وحرب على البركة والرخاء وحرب على السعادة والطمأنينة حرب يسلط الله فيها بعض العصاة لنظامه ومنهجه على بعض حرب المطاردة والمشاكسة حرب الغبن والظلم حرب القلق والخوف وأخيرا حرب السلاح بين الأمم والجيوش والدول الحرب الساحقة الماحقة التي تقوم وتنشأ من جراء النظام الربوي المقيت فالمرابون أصحاب رؤوس الأموال العالمية هم الذين يوقدون هذه الحروب مباشرة أو عن طريق غير مباشر وهم يلقون شباكهم فتقع فيها الشركات والصناعات ثم تقع فيها الشعوب والحكومات ثم يتزاحمون على الفرائس فتقوم الحرب أو يزحفون وراء أموالهم بقوة حكوماتهم وجيوشها فتقوم الحرب أو يثقل عبء الضرائب والتكاليف لسداد فوائد ديونهم فيعم الفقر والسخط بين الكادحين والمنتجين فيفتحون قلوبهم للدعوات الهدامة فتقوم الحرب وأيسر ما يقع إن لم يقع هذا كله هو خراب النفوس وانهيار الأخلاق وانطلاق سعار الشهوات وتحطم الكيان البشري من أساسه وتدميره بما لا تبلغه أفظع الحروب الذرية الرعيبة إنها الحرب المشبوبة دائما وقد اعلنها الله على المتعاملين بالربا وهي مسعرة الآن ; تأكل الأخضر واليابس في حياة البشرية الضالة ; وهي غافلة تحسب أنها تكسب وتتقدم كلما رأت تلال الإنتاج المادي الذي تخرجه المصانع وكانت هذه التلال حرية بأن تسعد البشر لو أنها نشأت من منبت زكي طاهر ; ولكنها وهي تخرج من منبع الربا الملوث لا تمثل سوى ركام يخنق أنفاس البشرية ويسحقها سحقا ; في حين تجلس فوقه شرذمة المرابين العالميين لا تحس آلام البشرية المسحوقة تحت هذا الركام الملعون لقد دعا الإسلام الجماعة المسلمة الأولى ولا يزال يدعو البشرية كلها إلى المشرع الطاهر النظيف وإلى التوبة من الإثم والخطيئة والمنهج الوبيء وأن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون فهي التوبة عن خطيئة إنها خطيئة الجاهلية التي لا تتعلق بزمان دون زمان ولا نظام دون نظام إنما هي الانحراف عن شريعة الله ومنهجه متى كان وحيث كان خطيئة تنشىء آثارها في مشاعر الأفراد وفي أخلاقهم وفي تصورهم للحياة وتنشىء آثارها في حياة الجماعة وارتباطاتها العامة وتنشىء آثارها في الحياة البشرية كلها وفي نموها الاقتصادي ذاته ولو حسب المخدوعون بدعاية المرابين إنها وحدها الأساس الصالح للنمو الاقتصادي واسترداد رأس المال مجردا عدالة لا يظلم فيها دائن ولا مدين فأما تنمية المال فلها وسائلها الأخرى البريئة النظيفة لها وسيلة الجهد الفردي ووسيلة المشاركة على طريقة المضاربة وهي إعطاء المال لمن يعمل فيه ومقاسمته الربح والخسارة ووسيلة الشركات التي تطرح أسهمها مباشرة في السوق بدون سندات تأسيس تستأثر بمعظم الربح وتناول الأرباح الحلال من هذا الوجه ووسيلة إيداعها في المصارف بدون فائدة على أن تساهم بها المصارف في الشركات والصناعات والأعمال التجارية مباشرة أو غير مباشرة ولا تعطيها بالفائدة الثابتة ثم مقاسمة المودعين الربح على نظام معين أو الخسارة إذا فرض ووقعت وللمصارف أن تتناول قدرا معينا من الأجر في نظير إدارتها لهذه الأموال ووسائل أخرى كثيرة ليس هنا مجال تفصيلها وهي ممكنة وميسرة حين تؤمن القلوب وتصح النيات على ورود المورد النظيف الطاهر وتجنب المورد العفن النتن الآسن .» .

ويمكن أيجاز مضار التعامل بالربا كما وردت في القرأن الكريم على النحو السابق تفصيله في الآتي:
1- إيقاع الظلم بالمدين: حرمت الأيات الزيادة على النقود مقابل الأجل حتى لا يظلم المرابي المدينين له بزيادة الفائدة على رأس ماله مقابل الأجل، وأن لا يُظلم هو إذا زاد المرابون الآخرون عليه في قيمة الفائدة، ويستفاد هذا من قوله تعالى: " لا تظلمون ولا تُظلمون ".
2- الرّبا فيه أكلٌ لأموال النّاس بالباطل: إن الله حرّم الرّبا على اليهود فأخذوه بأنواع الحيل، وأكلوا أموال النّاس بالباطل ودون وجهة حق، بالرّبا وما في حكمه ويستفاد هذا من قوله تعالى: " وأخذهم الربا وقد نُهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً ".وكذلك ما درج عليه العرب في الجاهلية بمضاعفة الفائدة إذا حل الأجل على المدين ولم يتمكن من سداد الدين وفوائده.وفي ذلك قال تعالي:
: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ". ولذا حرم الله الربا وحض المسلمين على القرض الحسن الذي اعتبره في حكم الزكاة التي يضاعفها الله للمزكي ، فقال تعالي:
" وما آتيتم من ربا ليربُوَا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون"وقوله تعالي أيضا:" يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحبّ كل كفّار أثيم "واعتبر الله في هذه الأية أنه لا يتعامل بالربا عير الكفار الأثيم. .
3- إن عقاب المرابي على الربا يكون يوم القيامة أيضا ، يقول تعالي:" الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ ذلك بأنهم قالوا إنّما البيع مثل الربا وأحلّ الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون "
4- إن التعامل بالربا بعد أن نهي الله عنه فيه معصية لله ولرسوله ، قال الله عز وجل: "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"( النور، : 63.). وقال تعالى:«وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ»( النساء، : 14). وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً»( الأحزاب،: 36.). وقال عز وجل:« وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَد»( الجن،: 23).

ولم يقف الإسلام عند حد تحريم الربا؛ بل أوصى ببارجاء المدين المعسر حتي يوسع الله عليه ويستطيع سداد الدين بل أوصى بما هو أكثر من ذلك: أن يتصدق الدائن برأس المال على المدين الذي لا يجد سبيلاً إلى السداد؛ فذلك قول الله تبارك وتعالى:"وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ * وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ " (البقرة :279و280)؛كما خصص الاسلام في الزكاة مصرف الغارمين لسداد دين المعسرين منه ، ومساعدة أيضا من فقدوا رؤوس أموالهم لكي يتمكنون من معاودة نشاطاتهم الاقتصادية دون حاجة للآقتراض بالربا واستغلالهم من قبل المرابين.

يترتب عن التعامل بالربا رفع أسعار المنتجات للمؤسسات التي اضطرت للاقتراض بالربا؛ لأن الربا يمثل تكلفة إضافية وبالتالي يسهم في زيادة تكلفة المعيشة للمواطنين وزيادة معدلات التضخم بما يضعف القوة الشرائية للعملة الوطنية إلى جانب مافيه من استغلال لحاجة الفقير المقترض بينما هو في أمس الحاجة الي من يعينه وليس من يستغله ,ويساعد الربا الأفراد من خلال التسهيلات البنكية وسهولة الحصول عليها على الإسراف والاستهلاك وعدم الادخار وتوجيه المدخرات نحو الاستثمار في الإنتاج مما يساعد على زيادة الثروة الوطنية. وإذ يتم توجيه موارده المالية المحدودة لسداد أقساط القروض وفوائدها فإنه في الواقع يكد ويسعى في حياته لصالح المرابين عوض العمل لصالح أسرته وضمان مستقبلها. أما بالنسبة للجوء المؤسسات الانتاجية الى الاقتراض من البنوك أو مؤسسات التمويل بالربا فقد لا يكفي فائض القيمة الذي يحققه نشاط المؤسسة فتعجز عن سداد أقساط القرض وفوائده ويكون القرض سببا في خرابها وتلاشيها وإلقاء عمالها الي البطالة بعد إقلاسها وأغلاقها. ومما يتسبب في البطالة أيضا إاحجام أصحاب الأموال عن استثمارها في مشاريع انتاجية صناعية أو زراعية أو مشاريع تجارية، وتفضيلهم عوض ذلك إقراض أموالهم بالربا مما يحد من فرص العمل، فتنتشر البطالة ولذا يتسم اقتصاد الدول المتخلفة بالاعتماد على الريع الناتج عن تأجير المال أو عن العقارات وليس على الأنشطة الانتاجية التي تهيئ فرص عمل للعاطلين ، فتكثر فيها البطالة.
و ينجم عن التعامل بالربا أيضا سوء توزيع الثّروة، وهدر الموارد الاقتصادية، وضعف التّنمية الاقتصاديّة والاستثمارو البطالة التعامل بالربا تركيز الثروة وزايدتها في يد قلة من المجتمع تتمثل في المرابين ووالمقترضين الأغنياءالقادرين على تقديم ضمانات تسديد قروضهم.مما يجعلهم متداولا بينهم دون الأكثرية في المجتمع ويتناقض مع العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة على جميع أقراد المجتمع كل بما يستحقه منها مقابل جهده في تحصيلها ، وبحيث يظل المال متداولا بين الجميع على النحو التي تستهدفه الأية في قوله تعالي:" ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولةً بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتّقوا الله إنّ الله شديد العقاب"(سورة الحشر، 7) .

ومما يعيق التنمية الاقتصادية ويضعف الاستثمار ما تفرضه السياسة النقدية للبنوك المركزية على البنوك التجارية الأخرى من ضرورة الاحتفاظ بنسبة معينة من إجمالي الودائع الخاصة بكل بنك كاحتياطي لدي البنك المركزي لحماية أموال المودعين ، وتحجيم دور البنوك في زيادة العرض النقدي، وهي سياسة مالية تفرضها طبيعة المصارف التي تعتمد على نظام الفائدة – تؤدي إلى تعطيل جزء من الأموال التي قدمها أصحابها لتلك المؤسسات بغرض استثمارها.ومع ذلك لم تفلح هذه السياسة في حماية أموال المودعين لدي عدد من البنوك الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا خلال الأزمة المالية العالمية الأخيرة والتي تعرضت تلك البنوك من جرائها الي خظر الإفلاس وتدخلت الحكومات لحماية حقوق صغار المودعين بينما ضاعت اموال كبارهم.

و يقول الدكتور شاخت الألماني(Hjalmar Schacht) الجنسيّة والمدير السّابق لبنك الرّايخ الألماني(Reichsbank): "إنّه بعمليّة غير متناهية يتّضح أن جميع مال الأرض صائر إلى عددٍ قليل جداً من المرابين، ذلك لأنّ المرابي يربح دائماً في كل عمليّة، بينما المدين معرّض للرّبح والخسارة، ومن ثمّ فإنّ المال كلّه في النّهاية لابدّ بالحساب الرّياضيّ أن يصير إلى الّذي يربح دائماً"
و يقول جوتفر أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفرد : " إن السبب الرئيسي للكساد الأعظم في العالم الرأسمالي عام 1929م يعود للبنوك الربوية" ويقول جون كينز : " إن المجتمع النامي بصورة مثالية سيصل إلى حالة تصبح فيها الفائدة صفراً " ويقول جون كينز أيضا : " إن معدل سعر الفائدة يعوق النمو الاقتصادي لأنه يعطل حركة الأموال نحو الاستثمار في حرية وانطلاق، فإن أمكن إزالة هذا العائق فإن رأس المال سيتحرّك وينمو بسرعة" ويقول روي هارود تلميذ جون كينز يقول :" إن النظام الحر لا يمكن له البقاء مع وجود النظام الربوي ، ولا بد من تحريم سعر الفائدة نهائياًً ، حتى يضطر الممولون إلى استثمار أموالهم بطرق إنتاجية مفيدة"
وربما كانت هذه الأقوال هي التي دفعت أدولف هتلر لجذر التعامل بالربا عندما أراد أن يعيد بناء الاقتصاد الألماني بين الحربين مما أوغر صدر اليهود عليه قحاولوا عرقلة مخططاته فاعتبرهم خونه وسعر الي استئصالهم من ألمانيا ، ولم يكن أضطهاده لهم بدافع عنصرى فقد كان اليهود الأشكيناز ينتمون مثل الألمان للعرق الأرى ولم يكن عداؤه لهم عداء للسامية فهم ما كانوا ساميون غرقا ولا لغة حيث لم تكن اللغة العبرية سوى لغة ميتة ولم يحييها سوى الحركة الصهيونية الدولية. ونجح هتلر بأن يقفز بالاقتصاد الألماني قفزة كبرى خلال بضعة سنوات بما يعد بمثابة معجزة اقتصادية تمت في اقتصاد رأسمالي خال من الربا . وهي تجربة تستحق أن تكون موضع الدرس منا وتطبيقها باعتبارها نمط رأسمالي يتفق مع قيم الدين الإسلامي وأيضا مع قيم الدين المسيحي حيث كانت الكنيسة المسيحية تحرم التعامل بالربا, والديانة اليهودية تحرم على اليهودي أيضا أن يقرض يهودي بالربا ولكن الحاخامات أحلوا لليهود التعامل مع الأغيار أو ما يسمونهم الغونيم بالربا لسلبهم أموالهم وبحكم نظرتهم لغير اليهود التي تجردهم من إنسانيتهم وتعتبرهم في حكم الحيوانات.

إقامة نظام مالي غير ربوي:
كيف يمكن لنا بناء نظام نقدي وسياسة نقدية لايعتمد على المعاملات الربوية ولا تتأثر قيمة النقد بالتقلبات والأزمات المالية الدولية ؟ .. إن هذا يعني أن يكون مختلفا عن الأنظمة السائدة في العالم . مع الأخذ في الاعتبار أيضا بأن موضوع النقد والبنوك يعد معقدا وليس بسيطا ولا يمكن عزل النظام المالي في أي دولة عن العالم الخارجي ومصارفه التجارية والمالية . ولعل أصدق وصف للنقود بأنها الشيء الذي خلقه الانسان وفقد السيطرة عليه . فإصدار النقد ليس مشكلة ولكن المشكلة في كيفية المحافظة على قيمته وقدرته الشرائية محليا ودوليا وضمان أدائه وظائفه التي أصدر من أجلها بكفائة .
ويقتضي إلغاء التعامل بالربا إعادة هيكلة البنوك القائمة وتغيير وظائفها ونشاطاتها وأساليب عملها على نحو لايؤثر في نفس الوقت على معامللاتها الخارجية الدولية على نحو سلبي . ولكن أيا كان حجم الصعوبات ، وما قد ينجم عنها من أضطراب محدود أو مؤقت أو أضرار في البداية فلا مقر لمن يلتزم بقيمة العدل وطاعة الله بإعمال حكمه وكذلك بضمان استقرار قيمة العملة والتي يتوقف عليها سلامة الاقتصاد الوطني ونجاح التنمية المحلية من الاقدام على هذه المغامرة وهذا التغييرفي النظام المالي المعمول به حاليا. فالتعامل بالربا يتناقض مع مبدأ العدالة وإن كثر المدافعون عنه أو المبررون له . وفي نفس الوقت : قإن اضطرابات النظم النقدية والمالية الحالية في ظل نشاطات المؤسسات المالية(البنوك وشركات التأمين) القائمة على التعامل بالربا تعد سببا كافيا لبناء نطام مالي جديد تتحول فيه البنوك إلى الاستثمار وتقديم خدمات مأجورة وتكون ملكية أسهمها اجتماعية مفتوحة وفي نفس الوقت غير معرضه للمضاربة الضارة بقيمتها ، فتتوسع قاعدة المساهمين باضطراد ، وتتحول شركات التأمين إلى شركات تأمين تكافلي . وفي نفس الوقت فإن المقدمة الضرورية لكل ذلك هو إصدار نقد جيد.

أصدار نقد جيــد:
ما أقصده بإصدار نقد جيد هو طرح نقد للتداول يتمتع باستقرار نسبي في قوته الشرائية لأبعد مدي ممكن ، ويحافظ على قوته في مواجهة العملات القوية الأجنبية , وهو يستمد قوة الإصدار من أسس الإصدار القوية التي يرتكز عليها ، ومن سياسة نقدية حكيمة. والإصدار هنا ليس إضافة على ما هو مبتادل وإنما استبدال له بنقد جديد على أساس قوته الفعلية . وقد يترتب على ذلك أن تأتي العملة الجديدة ، درهم كانت أم دينار أو جنيه ، مساوية للعملة القديمة أو أكثر منها .
ولكن على أي أساس سيتم أصدرالنقد الجديد وتحديد قيمته الفعلية؟ . لو كان لدينا كمية كافية من الذهب يمكنا من أصدار نقد مساو لقيمتها وعلى أساس سعر قياس للآونصة وليكن 400دولار للأوقية على سبيل المثال وبحيث تكفي الكمية المصدرة متطبات التعامل به لما كان ثمة مشكلة ،ولكن ذلك يبدو لي متعذرا. ولذا فإن علينا البحث عن غطاء ثابت القيمة يعوض الذهب وقد يكون أكثر ثباتا منه باعتبار ما تتعرض له أسعار الذهب لتذبذب مشهود في الأسواق حاليا وفق ظروف العرض والطلب والمضاربات عليه ، مع عدم استبعاد ما يمكن توفيره من الذهب وعملات أجنبية قوية قابلة للتحويل كغطاء إضافي إن تيسر ذلك.
من حيث تأصيل النقد تاريخيا ، سنجد أن النقد قد ظهر أول مرة في شكله المعدني لكي يكون مغيار لقياس قيمة سلع أغلبها محاصيل زراعية أساسية مثل الشغير والقمح ولكي يحل محل المقايضة ، والتي كانت تعتمد على اختيار غلة مثل كمية من القمح أو الشغير لقياس قيمة باقي السلع . وهو ما يعني أن الذهب والفضة تحولا إلى عملة متداولة ليقوم بدور تلك الغلة . وإذا امتنع حاليا التعامل بالذهب وحل محله عملة ورقية ، فإن هذه الورقة المطبوعة يجب أن تعبر قيمتها الحقيقية عن كمية محددة من الفمح أيضا.
ومن حيث تأصيل النقد دينيا وحضاريا ، فإن الحكومة في المجتمعات المسلمة هي جهاز لإدارة كل ما يتعلق بمعاش الناس وأمنهم يختاره المجتمع المسلم ، أو غير المسلم. وإذا كانت الحكومة تمثل إرادة المجتمع فإن المال مال الله استخلف عليه المجتمع المسلم ، وهو في حيازة المجتمع ، ويجب أن يصدر بضمانه وتحت مراقبته وأشرافه مباشرة . وفي استقلال عن الحكومة المنتخبة والتي ليس من مهامها ولايجب أن يكون من مهامها إصدار النقد . بمعني أن يكون البنك المركزي مستقلا عن الحكومة ، ويتبع مباشرة البرلمان في إدارته ومراقبته والتصديق على قراراته لتكون نافذة .بالإضافة ألي مراقبة الحكومة سلامة تصرفاته المالية إلى جانب البرلمان دون التدخل في شؤونه.ويراقب البنك المركزي التصرفات المالية للحكومة أيضا ويقدم تقارير عنها للبرلمان.
ويتم تعيين محافظ البنك المركزي بمرسوم من رئيس الدولة بناء على قرارمسبب من لجنة تتكون من رئيس مجلس القضاء ا|لآعلى والمركز الأعلي للحسبات وممثل للآغلبية البرلمانية وممثل للمعارضة وفق النظام الذي يحدده الدستور.وأن يكون خبيرا في الشؤون المالية والاقتصادية ولا ينتمي لأي حزب سياسي .ولا يجوز عزله بغير قرارمسبب من نفس اللجنة يوافق عليه البرلمان..
والمجتمع هو الذي سيقدم الأصول الثابتة الضامنة أو المغطية لما سيصدره البنك المركزي والمتمثلة في الأراضي الزراعية المستغلة والمنتجة والتي تتفاوت قيمتها حسب خصوبتها وإنتاجيتها واعتماد ريها على الأمطار أو على السقي الموسمي أو الدائم وبعدها وقربها من الأسواق وكذلك على ظروف العرض والطلب. ولذا سيتم حساب قيمة الأرض على أساس متوسط متوسط إنتاج الفدان أو الهيكتار من غلة واحدة قياسية أو معيارية من الغلات الأساسية مثل القمح أو الأذرة أو الأرز مضروبا في عشرين عاما ،حسب ظروف كل دولة. باعتبار أن الأرض الزراعية المنتجة هي الوحيدة التي تمثل أصل ثابت غير قابل للهلاك بينما باقي الممتلكات الثابتة عرضة للفناء والهلاك مهما كانت معمرة. وإذا افترضنا أن لدينا من ألأرض الزراعية المنتجة 10مليون فدان (الفدان 4200متر مربع والهيكتار 10000متر مربع) ومتوسط انتاج الفدان من القمح في السنة الواحدة 2000درهم حسب السعر في الأسواق العالمية ،فيكون مجموع قيمة الانتاج السنوى من القمح 10مليون فدان مضروبة في 2000 درهم مضروبة في 20 عاما = 400000 مليون درهم أي 400مليار درهم . يضاف الى هذا المبلغ ما قد يتوفر من سبائك ذهبية أو عملات أجنبية قوية . وبالنسبة لسعر الدرهم الجديد بالنسبة للقديم فقد افترضنا هنا أن الفدان ينتج 1000كيلوجرام من القمح ثمن الكيلوجرام درهمان من الدرهم الجديد فإذا كان الدرهم القديم يشترى نفس الكمية من القمح كان الجديد مساويا للقديم.وإن كانت قدرته الشرائية نصف الكمية كان الدرهم الجديد يساوى ضعف القديم ويتم أعادة تقييم بافي السلع والخدمات على هذا الأساس بما في ذلك الأجور وايجارات المساكن مع تثبيت الأسعار لمدة ثلاثة سنوات يتم خلالها دعم الصادرات بواسطة الحكومة وقصرالواردات على المواد الغذائية ومستلزمات الانتاج مع اللجوء الى عقد الصفقات المتكافئة التي يتم فيها تبادل السلع بدون دفع نقود وتنويع الأسواق الخارجية ويمكن بعد انتهاء فترة السنوات الثلاث تحرير السوق تدريجيا وبحذر شديد بحيث يتم تفادي التضخم والعجز التجارى,عمل السياسات النقدية في جميع الأنظمةالاقتصادية في الغرب والشرق مع تنوعها على تحقيق إستقرار في الأسعار والتحكم في التضخم والمحافظة على قوة العملة والتحكم في أسعارها بما يخدم الاقتصاد الوطني.وتقاس كفاءة النظام المالي بمدى تحقيقه لهذه الأهداف .ومن السمات ايضا التي تدل على كفاءة النظام الاقتصادي في مستواه المالي هو القدرة على تعبئة المدخرات وتوجيهها نحو الاستثمار وتحقيق التوظيف الكامل لكافة الموارد البشرية والطبيعية والمالية التي تتوفر عليها الدولة وتطوير المؤسسات الانتاجية تقنيا لضمان منتجات لها قدرة تنافسية عالية في الأسواق العالمية.
ويمكن تصوير ميزانية البنك المركزى على النحو التالي على سبيل المثال :

الأصــــــول الخصـــــــــوم
(مليار درهـــــم) (مليـار درهـــــم)
أراضي زراعية 400 نقد مصـدر 400
سبائك ذهبية وأسهم وسندات 100 ودائع للبنوك 100
نقد أجنبي 200 ودائع للافراد في البنوك 200
حقوق لدي الغير (قرض حسن) 100 حقوق للغير 100
خمس قيمة ممتلكات حكومية خمس قيمة ممتلكات أفراد
(منشآت وبنيات أساسية) 290 (مساكن ومؤسسات انتاجية) 290
___ ___
1000 1000
يتم التحكم في السيولة المالية الجديدة عن طريق سوق القيم المنقولة ببيع وشراء الذهب والأسهم والسندات المشاركة في الأرباح التي تصدرها المؤسسات الاقتصادية. وهو ما يعني الاعتماد على سوق مالية نشطة أصلية وتتمتع بشفافية كاملة وخالية من المضاربات وتأمين. ولا تعد الزكاة والضرائب التي تجمعها الحكومة على الخدمات والاستثمارات الحكومية في نفس الع سيولة المعلومات وسرعة تبادلها والاستفادة من التقدم الذي تم احرازه في التقنيات المعلوماتيةام ولا تعتبر هذه الأموال ضمن آليات التحكم في السيولة وانما يقتصر دورها على إعادة توزيع الدخل . كما يمكن للبنك المركزي للحد من السيولة التوسع في شراء الأراضي مقابل تعويضات تدفع على هيئة أقساط مؤجلة للملاك وإعادة توزيعها على الفلاحين الصغارمقابل سداد ثمنها على مدد طويلة . أو إعدام أوراق النقد المستهلكة أو التالقة دون إصدارها غيرها خلال فترة معينة . وفتح حساب ثانوي لها بحيث تعد دينا على البنك للجهات الواردة منها ، تحصل مقابلها على ضمانات أو تسهيلات ائتمانية ،أو تسدد لها بعد فترة معينة فضلا عما تتخذه الحكومة من أجراءات تيسر وفرة عرض السلع الضرورية في الأسواق لضبط الأسعار في مجال كبح التضخم. كما يعد فرض نسبة من أرباح الشركات والبنوك لتجنيبها كاحتياطات قانونية أو بغرض اعادة الاستثمار أو للآحلال والتجديد من ضمن هذه الآليات التي تحدد حجم السيولة وكذلك رفع نسبة ودائع البنوك التجارية لدي البنك المركزي .
ترى د. نعمت أن التضخم النقدي أحد الأمراض الاقتصاديّة التي تنهش جسد الاقتصاد القوميّ وتُحدث فيه اختلالات سيئة. وتؤكد أن التضخّم ينشأ نتيجة عدم التوازن بين الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار،
ونتيجة لضعف الطاقات الإنتاجية في الاقتصاد القوميّ، ويترتب على هذه الاختلالات ارتفاع متواصل ومتتالٍ في الأسعار.
فعندما يزيد النقد بصفة مستمرة أكثر وأسرع من زيادة السلع والخدمات المتوفرة تكون النتيجة الحتمية حالة تضخمية و إرتفاع مؤشر الأسعار.وعندما تزيد السلع والخدمات بصفة مستمرة اكثر وأسرع من زيادة النقد تكون النتيجة الحتمية حالة إنكماشية وإنخفاض مؤشر الأسعار. ويتحقق التوازن الصحي في حالة النمو المتوازن بين الكتلة النقدية وكمية السلع والخدمات المتوفرة في البلد.
وبذلك تكون العلاقة بين الكتلة النقدية والتضخم أو الإنكماش علاقة طردية وثيقة وتحليل المعروض النقدي مسالة غاية في الأهمية لمعرفة الإختلالات او التوازنات ليتم إستثمار النتائج المترتبة عنها وإختلال التوازن بين المعروض النقدي و مجموع السلع والخدمات يؤدي لحالة تضخم او إنكماش وكل ذالك يؤثر على مؤشر الأسعار تضخميا أو إنكماشيا. وبذلك يكون إستقرار أسعار السلع شرط أساسي لتحقيق الإستقرار في النظام الاقتصادي والمالي . والثروة الحقيقة الضامنة لسلامة النظام الاقتصادي هي في قدرة النظام على إنتاج السلع والخدمات وليس في قدرته على توفير النقد باصداره.وتتسبب زيادة النقود بصفة مستمرة اكثر من قيمة السلع والخدمات في اختلال التوازن وحالة تضخم قد تكون كارثية إذا كان التضخم جامحا غير قابل للسطرة عليه.
ويجع الاقتصاديون الكلاسيكيون التضخّمَ النقديّ أساسًا إلى ظاهرة نقديّة (تتعلق بالنقود)، تتمثل في ارتفاع معدل الطلب كنتيجة لزيادة كمية النقود في الاقتصاد.والبعض الآخر جعل للتوقعات أهمية خاصة في تحديد العلاقة بين الطلب والعرض. والتوقعات تعني العلاقة بين خطط الاستثمار والادخار. و بعض الاقتصاديّين يرون في التضخّم ظاهرة اقتصاديّة واجتماعية ترجع إلى الاختلالات الهيكليّة (تخلف الوضع الإنتاجي العام) الموجودة بصفة خاصة في الاقتصاديّات المنخلفة. بينما يكمن التضخم أساسا في نقص المعروض من السلع أكثر من زيادة العرض النقدي.
وتسهم الزكاة في مجتمع المسلمين في معالجة التضخّم في حالة زيادة الطلب عن العرض، حيث يكون حجم النقود المتاحة داخل المجتمع أكبر من قيمة السلع المعروضة؛ وهو ما يدفع الأسعار للزيادة، فترتفع الأجور لتلبية زيادة الأسعاروتتمكن الزكاة من كبح جماح التضخّم من خلال:
1. انتظام انسياب حصيلة الزكاة مع بداية كل سنة هجرية يوفر كميات النقد اللازمة للتداول دون الحاجة إلى لجوء السلطات النقديّة لعمليات الإصدار النقدي.
2. تطبيق تشريع الزكاة يضمن توفير حدّ الكفاية لجميع أفراد المجتمع، ويتجه المجتمع بصفة عامة للإقبال على السلع الأساسية، ويحول هذا دون ارتفاع مستويات الطلب على الاستهلاك الكماليّ.
3. لا يمكن اعتبار الحجة القائلة باحتمال إقبال المسلمين على إنفاق كل دخولهم وثرواتهم تفاديًا لإخراج الزكاة، فهي حجة لا يمكن أن تنطبق على السلع التجارية والصناعية والخدمية، حيث لا يُعقل أن يبدِّد مالكُها كل ربحه ورأسماله لمجرد تفادي دفع الزكاة.
4. إن هدف توزيع الزكاة هو تحقيق الإغناء لمصارفها، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق توفير الأدوات ورؤوس الأموال الإنتاجية الملائمة لهم، وهو ما يؤدي في المدى الطويل إلى زيادة الإنتاج فيقابل الطلب مهما زاد،
فلا يترتب على زيادة الطلب آنذاك حدوث تضخم.
5. كذلك فإن توزيع زكاة الزروع والثمار والماشية في صورتها العينية يسهم إلى درجة كبيرة في الاحتفاظ للنقود بقيمتها الشرائية دون تدهور.

مهام البنك المركزي :
ويقوم البنك المركزي بالوظائف وتقديم الخدمات التالية :
1- أصدار النقد .
2.الاستثمار نيابة عن الحكومة و المؤسسات التابعة لها كصندوق معاشات التقاعد و المؤسسة العام للتأمينات الاجتماعية.
3- منع التضخم و حفظ توازن الميزان التجاري في التجارة الخارجية
4- تمثيل الدولة في المحافل النقدية الدولية آو العالمية الأخرى.
5-الاحتفاظ باحتياطيات الدولة من الذهب والعملات الأجنبية.
6-تخطيط السياسة النقدية و تنفيذها.
7- إجراء المقاصة بين البنوك التجارية بعضها البعض.
8- الاحتفاظ باحتياطيات للبنوك التجارية لضمان حقوق المودعين لديها.
ويستطيع البنك المركزي توجيه القروض من قبل البنوك التجارية كأداة لتمويل المشروعات الانتاجية في الزراعة والصناعة اعن طريق شراء أسهم وسندات المؤسسات الاقتصادية مقابل الحصول على أرباحها عوض فرض فوائد عليها مقابل حوافز يقدمها البنك المركزي لتشجيعها .بينما تحجب هذه الحوافز عن القروض المقدمة لأغراض غير انتاجية.

أهداف السياسة المالية :
ويجب على السياسة المالية أن تركز على التنميـة الإقتصـادية والإرتقـاء بمستوى النشاط الإقتصـادي للمجتمع وأن يكون للدولة دور فاعل وأن تسخـر كل إمكانياتها لتوفير المـوارد المالية اللازمـة لتحقيق هذا الهدف.وفقا لخطة يتم تحديد أهدافها بدقـة تامة وإعـداد سلم تفضيـلي من الإستثمـارات التي تعطي الأولوية في خطة التنمية مع تتسطير البرامج التنفيذية والالتزام بانجاز الاهداف وفقا لتلك البرامج مع إعداد بدائل تمويل الخطة والموازنة بينها حسب ما يحقق الكفاءة ويحد من التكلفة وييسر اخراج الخطة إلى حيز التنفيـذ في المواعيد المحددة لها .مع خضوع كل ذلك لرقابة ومتابعة شعبية تضمن النزاهة والشفافية في جميع المراحل .
و من أهـم الأسس التي يجب أن تبنى عليـها الدولة سياستـها بصدد تمـويل برامـج التنمية هو تجنب الـوسائل التمويـلية التضخمـية بطبيعتـها والقروض الخارجية والإعتمـاد أساسـا على مدخـرات المجتمع الحقيقيةولتحقيق قدر كاف من المدخراتت العائلية التي يمكن توجيهها للآستثمارات النافعة والمتفقة مع برامج التنمية ومن أجل هذا يجب حث الأفـراد على عـدم الإفـراط في الإستهـلاك الكمالي وتنمية الوعي الإدخـاري وتدعيـم مؤسسات تجميع المدخرات ويعتمد استثمـار القطاع العام في تمويـله على مصـادر متعددة من ضمنها:
1- ايرادات الضرائب المباشرة والعمل على زيادتها بالتوسع في المشروعات الانتاجية المكونة للثروات .
2_ ضغـط النفقات العامة بترشيد الانفاق وقصره على ما يتعلق بالتنمية الانسانية وخاصة التعليم والصحة .
3- التموسل بالعجز لتمويل المشروعات الانتاجية في حدود نسبة معقولة من الدخل القومي .
4- فتح رأسمال المشروعات الانتاجية أمام مساهمات المواطنين عن طريق الاكتتابات العامة.
5- قيمة بيع أسهم مملوكة للقطاع العام في مؤسسات تم بيعها للقطاع الخاص.
6- الاستعانة بالإئتمـان المصرفي للمساهمة في تمويل برامج التنميةبالحصول على تسهيـلات إئتمانية من البنوك وحثها على إستثمـار جانب من إحتياطاتها في أسهم وسندات المؤسسات الانتاجية الجديدة مقابل الحصول
على الأرباح المخصصة لها .
7- العمل على زيادة الصادرات لإمكان توجيه حصيلتها من العملات الآجنبية لشراء إحتياجات المشروعات الجديدة من السلع الرأسمالية اللازمة للتنمية الإقتصادية
8_ تهيئة الظروف والبيئة الاقتصادية لجذب رؤوس الأموال الأجنبية الخاصة للإستثمـار في الدولة .
9- مدخرات القطاع العام: وهي تتمثل في صافي فائض المؤسسات الإقتصـادية التي يمتلكها القطاع العامالناتجة عن بذل الجهود لزيادة الإنتـاج وتحسين نوعـه وخفض تكلفتـه باستخدام التقنيات المناسبة.
والهدف النهائي للسياسات المالية والاقتصادية هو قيام مجتمع إنساني تذوب فيه الفوارق بين الطبقات وتتقارب فيه الدخول وترفرف عليه الرفاهيةو تحقيق العدالة الإجتماعية بين كافة المواطنين في توزيع الدخول
و التوزيع الأمثل للدخـل هو الذي يحقق لكل فرد درجة إشباع متساوية من السلع والخدمات التي تشتريها وحدات الدخـل الحدية. ويؤدي الحد من التفاوت في توزيع الدخول بين الأفراد إلى مضاعفة الإشباع
الجماعي . و دون المساس بالحوافز إبقاءا على مستوى المنتج الكلي، علما بأن سوء توزيع الدخل يؤدي إلى تضخم حجم المدخرات النقدية لبعض الأفراد لذوي الدخول الكبيرة وميلها إلى الزيادة عن الإدخار الحقيقي
للمجتمع، مما يترتب عليه هبوط مستوى الدخل القومي وهكذا حتى يصل المجتمع إلى حالة من الفقر يقل معها حجم الإدخار إلى المستوى الذي يجعله معادلا تماما لحجم الإستثمار.
وعموما فإن جميع الإعتبارات الإقتصادية الفنية والإجتماعية الأخلاقية تدعو إلى الحد من التفاوت في توزيع الدخول، ويتطلب الحد الإدني في تطبيق هذه السياسة وضع حد أدنى لدخل الأسرة لايجب أن يهبط دونه
ويراعى في وضع الحد الأدنى للدخول أن يكون كافيا لتوفير مستوى معيشي لائق لصاحبه بحيث يتسنى له الحصول على حاجياته الأساسية وزيادة قيمة ناتجة بالتالي،
و إذ تمثل دخول العمل (الأجور والمرتبات وما في حكمها) نسبة كبيرة من دخول الأفراد ذوي الدخول المنخفضةفأن ريع الأملاك العقارية تعتبر أهم مصدر للدخل بالنسبة للأفراد ذوي الدخول المرتفعة. من
أجل هذا فإن أي خطة تهدف إلى تضييق الهوة بين الدخول يجب أن تقوم أساسا على الحد من الدخول الناجمة عن ريع الملكيات العقارية ،والعمل على زيادة دخول العمل المكتسبة.
و الأدوات المالية التي يمكن إستخدامها لإعادة توزيع الدخل عديدة تتمثل في الآتي:
1- تفرض الضرائب التصاعدية على التركات والهبات وعقود بيع وتأجير العقارات وتجديد حد أقصي لملكية العقارات المنتجة للريع وهو ما يضطر أصحاب رؤوس الأموال لاستثمارها في منشآت انتاجية صناعية
تسهم في زيادة الثروة القومية والدخل القومي ورفع مستوى معيشة المواطنين بما توفره من فرص عمل ودخول جيده للعاملين وتمويل صناديق الضمان الاجتماعي ..
2- الرفع من أثمان السلع الكمالية بفرض ضرائب غير مباشرة مرتفعة عليها وفي نفس الوقت إعفاء السلع الأساسية من تلك الضرائب كلية أو العمل على خفض أسعارها بدعمها ا عن طريق منح إعانات لبعض فروع
النشاط الإنتاجي المتصلة بالإستهـلاك الشعبي. وهي سياسة تسهم في تضييق الهـوة بين الدخول إذ أنه يعمل على إنخفاض ذوي الدخول المرتفعة بقدر ما يعمل على زيادة الدخل الحقيقي لذوي الدخول المنخفضة.
3-. فرض ضرائب تصاعدية على الدخل الفردي مع إعفاء الدخول الصغيرة من أية ضرائب إوهو ما يقلل من مدى التفاوت في توزيع الدخول الصافية وتنقص من قدر تركز الثروات ولا تجعل المال دولة في يد أقلة دون باقي المواطنين .

العوامل التي تؤثر على القيمة الذاتية للنقود :
- عوامل اقتصادية اهمها : معدل التضخم الاقتصادي ، معدل الاداء الاقتصادي ومعدل النمو المتحقق في الناتج الاجمالي القومي ومستوى التوازن المتحقق - عوامل مالية اهمها: معدل الفائدة واسعار صرف العملة اتجاه العملات العالمية ، السياسة المالية والنقدية ومدى كفائتها ، نسبة الدين العام وحجم الاحتياطي الوطني من العملات العالمية وغيرها .عامل المضاربة : حيث يلعب عامل المضاربة دورا مهما في تحديد القيمة الذاتية للنقود ، وتتاثر القيمة الذاتية للنقود في المجتمعات الرأسمالية بالدورة الاقتصادية التي يمر بها البلد او الاقتصاد العالمي والتي لا يمكن فصلها عن تأثير المضاربات المالية والتعامل بالربا .

حساب الدخل القومي :
ويمكن حساب الدخل القومى على النحو التالي :
الدخل القومي= الإنفاق الإستهلاكي على السلع والخدمات+ مدخرات القطاع الخاص في البنوك واستثماراته المدفوعة خلال السنة(وتشمل الاستثماراات الإنفاق علـى الآلات والمعـدات الإنتاجية وكـذا المبانـي والمنشـآت الجديدة المعدة لأغـراض الإنتـاج )+إيرادات القطاع العام+مدخرات القطاع العام واستثماراته المدفوعة خلال العام + تمويل البنوك للآستثمارات +الضرائب التي تم تحصيلها .
اويستقر مستوى الاسعار عندما يكون Md (الطلب على النقود)=(عرض النقود) Ms
كما أن الدخل القومي GDP- ما يحتفظ به المواطنون لعمليات الشراء الجارية = الطلب على النقود Md
والناتج المحلي الخام - GDP يعبر عنه أيضا بأنه قيمة مجمل السلع والخدمات المنتجة في إقتصاد ما خلال فترة ما (سنة مالية),
وتحسب سرعة دوران النقود ( V ) :على أساس متوسط عدد المرات اللتي تنتقل فيها الوحدة النقدية الواحدة من يد لأخرى خلال فترة زمنية معينة عادةً ماتكون سنة. بحيث V = الدخل القومي في البلد / M

Friday, February 20, 2009

الحلقة 16 من عقيدة التوحيد: المبني والمعني- نقد النظام الرأسمالي

ليس لي كثير فضل في هذا الفصل إذ اقتصر دوري فيه الي حد كبير على نقل ما كتبه الاقتصاديون في نقد النظام الرأسمالي و أوافق عليه مع تدخل محدود مني.

ما يمكن استخلاصه من العرض التاريخي السابق حول تطور النظام الرأسمالي هو الأتي:
1- أن تطور الفكر الاقتصادي كانت له خاصية تراكمية أكثر منها إحلالية ، إذ كان يضيف المحدثون اليه على ما تركه السابقون مع إدخال تعديلات على ما سبق محدودة وقد لا تكون جوهرية ..ويرتبط الفكر الاقتصادي في تطوره بتطور وسائل وأساليب الانتاج وتطور العلوم والتقنيات والفلسفة أو الثقافة السائدة .
2- أن الفكر الرأسمالي الغربي هو وليد البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نشأ فيها ويعبر عنها ويسعى لحل مشاكلها. وهو وإن كان قد استبعد في ظاهرة القيم الدينية فهو في الواقع استثمر قيما مسيحية أو أثرت فيه ، علىنحو ما أثير عن دور الكاليقانية في تعزيز الرأسمالية.
3- أنه منذ ظهر وحتي اليوم ، وهو يفتقر الى الاتساق والاحكام وتتسبب تطبيقاته أزمات مدمرة للاقتصاديات الرأسمالية ،رغم كثرة المفكرين ومساهماتهم عبر التاريخ الأوروبي. وتطبيقاته أو الخيارات التي يقدمها في حل الأزمات مازالت مختلف عليها داخل مؤسسات صناعة القرار في المجتمعات الرأسمالية. بل أحيانا تضطر الدولة الي التصرف بغير السياسة الاقتصادية المتبعة لديها ،أو التي تروج لها في العالم الخارجي مثلما تدخلت الحكومة المركزية الأمريكية لانقاذ شركات التامين اليها من الإفلاس ،وتدبير تمويل من الخزينة يبلغ 700 مليار دولار لتعويمها ، بينما سياستها الرسمية تقضي بعدم تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية. وسبق لبيل كلينتون أن لجأ لتوصيات كينز لحل أزمة البطالة وإنعاش الاقتصاد خلال ولايته ، بعد أن تسببت سياسة سلفه ريجان المتمادية في ليبراليتها قي خلق متاعب اقتصادية للدولة.ولا يستطيع مفكر الإدعاء بأن بإمكانه تقديم نظرية كاملة وشاملة . إذا أن النظرية إن كانت تقرر واقعا وتنظره فإن الواقع يتطور بدوره ويتغير ، وبالتالي لن تكون ملاءمة له بعد تغييره . وإن كانت تعالجا وضعا مستقبليا متخيلا ، فهي إذن توظف خبرة معلومة في ظروف مجهولة مما يجعل نقصها مؤكدا واتساقها مختل . وإن جاءت تحمل سمات الاتقان بأقصي ماهو بالامكان فإن مسؤولية إكمالها ومعالجة خللها تقع على عاتق المنفدين لها.
4- لا يرتبط الفكر الرأسمالي الغربي أو الفكر الذي نشأ في طلها مثل الماركسية، ولو أني أعتبرها فكرا رأسماليا بدورها ، بأي قيم دينية أو أخلاقية أو حتي مادية تتمتع بخاصية الثبات والاستقرار. وإنما هو مؤسس على قيم مادية ،ونفعية أساسا ، قابلة للتغيير والتبديل والتعديل وفقا لتغير المصالح القومية لكل بلد غربي والتي يخدمها الفكر الرأسمالي . فالرأسمالية التجارية طلبت حماية الدولة لها لأنها في صالحها ، وفي طل التوسع الاستعمارى للدولة فيما وراء الحدود والبحار. وعندما تحولت إلى صناعة لا تحتاج إلى الدولة طالبت بحريتها ورفع يد الدولة عنها. وعندما وجدت الصناعة الناشئة في ألمانيا أنها في حاجة إلى الحماية طالب فريدريك ليست بتدخل الدولة لحمايتها ، وعندما اشتد سوقها عادت لتطلب امتناع الدولة عن التدخل . وإذ طالبت انجلترا في القرن التاسع عشر بالحرية التجارية ، ظهرت دعوة كينز فيها بضرورة تدخل الدولة وتمت الاستجابة لها. ثم عادة وتخلت عنها بعد أن طلب الفاعلون الاقتصاديون ذلك.
هذه الاميلة كلها تؤكد أن ممارسة الاقتصاد السياسي في الغرب هو بمثابة تنفيذ سياسات ظرفية وفق مقتضي الحال أكثر منها تطبيق صارم لعلم اقتصاد ثابت .
5- استنتاجا ايضا مما سبق ، فإنه كما بحث الرأسماليون في الغرب باستمرار عن نظام اقتصادي يحقق لهم أكبر قدر من المنفعة والمكاسب والمصالح الاقتصادية ، والتي تتغير بتغير الظروف لتتواءم معها ، فإن القوي الوطنية الحرة خارج العالم الغربي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، والتي فشلت منذ نيلها استقلالها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، مطالبة اليوم بتبني نظاما اقتصاديا بإمكانه تغيير ظروفها المأساوية الحالية ، ويتفق مع قيمها الدينية والأخلاقية والحضارية ز ويحقق الحرية والعدالة والاحسان والمساواة والكرامة التي تتوق شعوبها للتمتع بها من بعد طول معاناة للحرمان منها . لقد شقت اليابان طريقها ولحقت بها كوريا الجنوبية والصين وماليزيا ، وبدأت الهند تتحسس معالم نفس الطريق ، ونفس الشي ء بالنسبة لفيتنام التي ركبت القظار متأخرة عن جيرانها. الأوضاع في البرازيل والارجنتين وفنزويلا تتحسن أيضا رغم الصعوبات المحلية والخارجية. العالم يتحرك فيما عدا الدول والشعوب المسلمة ، وخاصة تلك الموجودة في شمال أفريقيا ، والتي تزداد انعماسا في التخلف والتبعية للغرب ولا تحاول الإمساك بحريتها لكي تتقدم بدورها مثل شعوب شرق أسيا وشعوب أمريكا اللآتينية.

تبرير الاقتصاد النيوكلاسيكي للرأسمالية:
يقول الأستاذ أشرف منصور:إن المشكلة الأساسية التي تعاملت معها الليبرالية الجديدة، والتي ورثتها من الاقتصاد النيوكلاسيكي، هي مشكلة القيمة الزائدة: كيف تبرر استحواذ الرأسمالي على تلك القيمة الزائدة التي تسميها ربحا؟ كيف تبرر أرباح الرأسمالية؟ إن تبرير حصول الرأسمالي على الربح من أهم القضايا الحساسة بالنسبة لأي أيديولوجيا مبررة للرأسمالية، وذلك نظرا لأن قضية القيمة الزائدة كانت محل نقد ماركس. أعلن ماركس منذ أربعينات القرن التاسع عشر أن القيمة الزائدة نتاج للعمل البشري وحده، لكن يستحوذ الرأسمالي عليها بفضل موقعه الحاكم والمسيطر في العملية الإنتاجية، وبفضل علاقة التراتب الطبقي بين رأس المال والعمل المأجور. وبالتالي نظر ماركس إلى القيمة الزائدة على أنها نتاج عمل غير مدفوع الأجر.
وفي مواجهة الهجوم الماركسي على البناء الطبقي للرأسمالية الذي يتيح لرأس المال الاستحواذ على القيمة الزائدة، إنشغل الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن الرأسمالية بتبرير حصول رأس المال على القيمة الزائدة المصدر الأساسي لربح الرأسمالي. وكان خطاب الليبرالية الجديدة وريث الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن حق الرأسمالي في القيمة الزائدة وتبرير ما يحصل عليه من ربح. وقد تمثل هذا التبرير في الحجج الآتية:
أ. حجة حق الملكية: وهي أكثر الحجج سذاجة وضعفا، إذ تقول أن الرأسمالي يملك رأس المال وأدوات الإنتاج، وبالتالي فما يأتي به هذا الرأسمال من ربح من حق مالكه. وتتحول هذه الحجة إلى الثناء على الرأسمالي لكرمه ومحبته لمجتمعه وللإنسانية لسماحه لما يملكه من أدوات إنتاج أن تعمل مشغلة بذلك أيدي عاملة ومنتجة لسلع يحتاج إليها المجتمع، وقد كان يستطيع أن يحجب رأسماله عن العمل، فهذا من حقه بناء على ملكيته الخاصة لرأسماله.
لكن من أين أتى الرأسمالي برأسماله وأدوات إنتاجه؟ من أرباح سابقة، فما يملكه من أدوات إنتاج ليس إلا نتيجة تراكم أرباح تحصل عليها في الماضي. ومن أين أتى بهذه الأرباح السابقة؟ من استحواذه على القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المادة الخام ليصنع منها سلعا وتحويل هذه القيمة الزائدة إلى تراكم رأسمالي. تتغافل هذه الحجة عن حقيقة أن ما يملكه الرأسمالي هو نتاج تراكم عمل سابق لأشخاص آخرين استحوذ عليه الرأسمالي بفضل وضعه الطبقي المسيطر في العملية الإنتاجية؛ كما ننغافل الحجة عن حقيقة أن قوى الإنتاج في المجتمع لا تصبح ملكية خاصة لأشخاص إلا في ظل نظام معين في تقسيم العمل والثروة على أساس طبقي.
إن الوضع الطبقي للرأسمالي باعتباره مسيطرا على العملية الإنتاجية هو الذي يمكنه من تحويل القيمة الزائدة إلى رأس مال جديد يكون من حقه وحده طبقا لحق الملكية الخاصة.
ب. حجة التوزيع العادل: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالية عادلة لأنها تعطي لكل طرف في العملية الإنتاجية ما يساوي قيمة عمله. بمعنى أن ربح الرأسمالي يكون مقابل عبقريته ومواهبه النادرة في إدارة المشروع ومبادرته ومخاطرته بأمواله..إلخ، وأجر العامل هو حقه الذي يتلقاه نظير بذل قوته. ترجع هذه الحجة إلى الاقتصادي الأمريكي جون بيتس كلارك الذي ذهب إلى التدليل على تلك الحجة بقوله أنه إذا انسحب عامل واحد من العمل فسوف تنخفض قيمة هذا العمل بمقدار أجر هذا العامل، وبذلك يصبح أجر العامل مبررا ومشروعا نظرا لأن هذا الأجر جزء أصيل داخل في صميم قيمة المنتج.
والحقيقة أن هذه الحجة تفترض أن أجور جميع العمال جميعهم تساوي قيمة المشروع ككل وهذا غير صحيح؛ هذا بالإضافة إلى أنه إذا انسحب عاملان أو ثلاثة من العمل لانخفضت قيمة العمل أكثر من مجموع أجورهم
وذلك نظرا للطبيعة العضوية لتقسيم العمل الصناعي، فإسهام العمل عضوي وكيفي وليس كميا كما يعتقد النيوكلاسيك. كما تنطوي حجة كلارك على مسلمة ضمنية بأن هناك تساويا تاما بين رأس المال والعمل المأجور بحيث يحصل كل طرف على مقابل إسهامه الإنتاجي، لكن ليس هناك في العالم الحقيقي أي تساو بينهما.
ج. حجة الإسهام في الإنتاج: تذهب هذه الحجة إلى أن ما يحصل عليه الرأسمالي من أرباح مشروع تماما نظرا لأنه يسهم في الإنتاج، والربح بذلك يعد مكافأة على إدارته للمشروع.
والحقيقة أن صاحب رأس المال ليس منتجا، إنه لا ينتج أي شئ؛ المنشعلون بالعملية الإنتاجية من عمال وفنيين ومهندسين هم المنتجون الحقيقيون. والرأسمالي لا يفعل شيئا إلا أن يسمح لرأس المال بأن يشتغل في الإنتاج. الرأسمالي إذن هو صاحب القرار الإنتاجي وليس القائم بالعملية الإنتاجية. إن رأس المال الصناعي في صورة البنية الأساسية والمواد الخام والآلات جاهز وموجود، كما أن القوة العاملة والقدرة التقنية والفنية موجودة وجاهزة قبل أن يوجد الرأسمالي، ولا يفعل الرأسمالي شيئا سوى أن يسمح لهذه العناصر بأن تعمل. ولا يُسمح للرأسمالي بأن يكون صاحب القرار الإنتاجي إلا في ظل نظام معين في توزيع الملكية والثروة يمكن أصحاب المال من الاستحواذ على القوى الإنتاجية للمجتمع ويديرونها لجني الربح الشخصي. إن سماح الرأسمالي لعناصر الإنتاج بالعمل مبني على سماح النظام الاجتماعي-الطبقي السائد بأن يصبح هذا الرأسمالي على رأس العملية الإنتاجية وصاحب القرار الإنتاجي؛ ويصبح الرأسمالي صاحب القرار الإنتاجي بفضل نظام قانوني معين يسمح له بذلك، نظام يعترف بحق الامتلاك الخاص لقوى المجتمع الإنتاجية. ولذلك فالرأسمالي لا يحتل موقعه المسيطر في العملية الإنتاجية بفضل عبقريته ومواهبه الشخصية، بل بفضل بناء اجتماعي-طبقي معين يسمح لأصحاب المال بالاستحواذ على قوى المجتمع الإنتاجية وإدارتها لصالحهم.
د. حجة المكافأة على التضحية والانتظار: بينما كانت الحجج السابقة تبرر حصول الرأسمالي على الربح، فإن هذه الحجة تبرر شيئا آخر مختلفا؛ إنها تبرر الفائدة على رأس المال نفسه، أي حق أصحاب رأس المال المالي من أصحاب رؤوس الأموال السائلة وحملة الأسهم والسندات في الأرباح والأنصبة التي يحصلون عليها عندما يودعون أموالهم في بنوك أو يستثمروها في مشاريع أو شركات مساهمة أو يضاربون بها في البورصة. تذهب هذه الحجة إلى أن الفائدة مشروعة لأنها المقابل الذي يتلقاه صاحب المال عن عدم استهلاك أمواله في الحاضر وتأجيل هذا الاستهلاك إلى المستقبل، والتضحية باستعمال حالي للمال في سبيل استعمال مؤجل. هذه التضحية وهذا التأجيل يجب أن يقابله مكافأة، وهي مكافأة مشروعة.
تخلط هذه الحجة بين مستويين من الاقتصاد: المستوى الشخصي أو العائلي والذي كان يسمى بالاقتصاد المنزلي، والمستوى الاجتماعي والقومي والسياسي للاقتصاد وهو المسمى بالاقتصاد السياسي. أي أنها تخلط بين ما يحدث على مستوى الأفراد من ادخار ومن تجنيب جزء من دخلهم في سبيل الفائدة، وبين ما يحدث على مستوى عالم الصناعة والاستثمار. والحقيقة أن الادخار الشخصي شئ والقيمة الزائدة التي تتحول إلى تراكم رأسمالي شئ آخر. تهدف هذه الحجة الإيحاء بأن النظام الرأسمالي وحده هو الذي يتيح للأفراد الحصول على فوائد مركبة على إيداعاتهم وعلى أنصبة متزايدة نتيجة ارتفاع أسعار الأسهم، رابطة بذلك شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى بعجلة الاقتصاد الرأسمالي ضامنة ولاءها وتأييدها. إن الفوائد التي تحصل عليها الطبقات الوسطى من ادخاراتها ليست إلا حماية لأموالها من الانخفاض المستمر في قيمة العملة على مر السنين ومن التضخم الذي لا ينتهي. هذه المدخرات تختلف تماما عن الكميات الضخمة من رأس المال المالي العامل في كل مجالات الاقتصاد بما فيها المضاربات.
هذا بالإضافة إلى أن الإيداعات المالية للشريحة العليا في المجتمع ليست مجرد مدخرات مثلما هو الحال مع الطبقة الوسطى، بل هي قيمة زائدة في صورة أرباح تعيد هذه الشريحة استثمارها مرة أخرى؛ إنها تراكم لرأس المال يجب أن يستثمر في مشاريع جديدة. وبالتالي فهذه الشريحة لا تدخر بل تستثمر، ولا تحمي أموالها من الإنفاق ومن انخفاض قيمة العملة بل تضارب بها في البورصات، ولا تضحي باستخدام حالي للمال في سبيل زيادة على هذا المال في المستقبل، ولا تقتطع جزءا من دخلها ولا تؤجل الإنفاق، بل تحول الأرباح السابقة إلى استثمارات جديدة.
هـ. حجة المخاطرة: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالي يخاطر بأمواله وبالتالي فهو يستحق مكافأة على هذه المخاطرة. لكن هل يخاطر الرأسمالي بالفعل؟ إنه في الحقيقة لا يخاطر بفقدان رأس المال نفسه، بل بهامش الربح الذي سيحققه، ولا يفقد الرأسمالي كامل رأسماله إلا في حالات نادرة، كأن يكون مضاربا في البورصة. والمضارب في البورصة يدخل في لعبة أشبه بالقمار، وهو يعلم جيدا إمكانية فقدان رأسماله قبل أن يبدأ اللعب. أما على مستوى المشروع الصناعي فإن المخاطرة هي الفشل في تحقيق الربح المنتظر، أما رأس المال نفسه باعتباره أدوات الإنتاج والأرض فليس هناك مخاطرة في فقدانها، إلا إذا كانت مشتراة بقروض من البنوك أو تم إصدار أسهم وسندات بإسمها مستحقة الأرباح والأنصبة، إي إلا إذا دخل المشروع الصناعي استثمار مالي. ليست المخاطرة إذن تكمن في عملية الإنتاج ذاتها، بل في عملية الاستثمار المالي؛ فالرأسمالي باعتباره رجل صناعة لا يخاطر، بل يخاطر باعتباره مستثمرا لأموال أناس آخرين.
و. حجة الكفاءة: تذهب هذه الحجة إلى تبرير النظام الرأسمالي من منطلق أنه النظام الأكفأ في تعبئة الموارد وتوظيفها، وفي إبداع التكنولوجيا الجديدة وتطبيقها في الإنتاج، وفي الإقلال من تكاليف الإنتاج والوصول إلى إنتاج كمي هائل.
تعتمد هذه الحجة على نظرية من نظريات الاقتصاد النيوكلاسيكي تذهب إلى أن السوق الحر يتمتع بكفاءة في إنتاج السلع الاستهلاكية نظرا لأنه يزيد من إنتاج السلع التي يجد عليها طلب. ومعنى هذا أن البيع الضخم لسلعة ما سوف يقلل من أسعارها، لكن الذي يحدث في العالم الواقعي أن سعر هذه السلعة يزيد ولا ينقص، لأن الطلب المتزايد عليها يدفع رؤوس الأموال لأن تتدافع على إنتاجها؛ وعند زيادة السعر يحدث انكماش في الطلب، وهذا الانكماش يؤدي إلى زيادة في السعر أيضا، نظرا لرغبة المنتجين في تعويض ما فقدوه من البيع الموسع. إن ترك الأسعار لآليات التنافس الاقتصادي لا يمنع من ارتفاعها ولا يمنع أيضا من ظهور الاحتكارات.

إن حجة الكفاءة التي يستخدمها النيوكلاسيك وورثتها عنهم الليبرالية الجديدة تركز على الكفاءة الإنتاجية والتقنية والربحية، لكنها تتناسى كفاءة أخرى أهم، ذلك لأن مقياس الكفاءة الحقيقي في اقتصاد ما ليس مجرد تحقيق الربح بل قدرته على توظيف العمالة وتأمين العاملين به. إن الأمن الاجتماعي للعمال والحد الأدنى للأجور أهم بكثير من قدرة المشروع على تحقيق الأرباح. فالذي يتناساه المدافعون عن الرأسمالية كفاءة في تعبئة الموارد البشرية وفي تأمينها، وكل ما يهمهم تعبئة الاستثمارات. لكن لم يعد علم الاقتصاد السائد يعير شأنا بالكفاءة في تعبئة العمل البشري وتأمينه. تثبت الرأسمالية كل يوم أنها الأسوأ في قضايا تأمين العمل والحد الأدنى للأجور والأمن الاجتماعي للقوة العاملة، ناهيك عن سجلها السئ في قضايا البيئة. ليست هناك أية كفاءة في النظام الذي يلوث البيئة ويقضي على الثروات الطبيعية ويقطع الغابات ويملأ الأرض بالنفايات الذرية
والكيماوية.
أما عن ما تقوله الحجة من أن الرأسمالية هي التي تتيح للتكنولوجيا أن تتقدم وتطبق في مجال الإنتاج، فإن هذه الحجة مردود عليها من جهتين: الأولى أن تقدم العلم والتكنولوجيا هو تقدم للبشرية ذاتها في معرفتها وأدواتها وليس مرتبطا بأسلوب معين في الإنتاج، والحجة بذلك تدعي أن ما حققته البشرية من تقدم علمي وتكنولوجي في القرون الأخيرة يرجع الفضل فيه إلى الرأسمالية، وهذا خطأ. والجهة الثانية للرد على هذه الحجة هي استعراض ما حققته الأنظمة الاشتراكية السابقة من تصنيع سريع لمجتمعاتها وتنمية بشرية رأسية في سنوات معدودة، خاصة في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية. إن نظرة سريعة على تاريخ النظام السوفييتي منذ نشأته يقدح في صحة هذه الحجة؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي نجح في عقوده الأولى الممتدة من ثورة 1917 وحتى الخمسينات في بناء هيكل صناعي ضخم وتحقيق كفاءة إنتاجية عالية من حيث الكم والكيف. لقد نجح النظام هناك في تصنيع روسيا التي كانت متخلفة صناعيا وتكنولوجيا عن أوروبا الغربية وأمريكا بمراحل، إذ نجح بالفعل في تصنيع بلد متخلف انحدر في أواخر عهد النظام القيصري إلى مستوى بلدان العالم الثالث؛ كما نجحت روسيا في تفادي أزمة الكساد الكبير الذي أصاب العالم الغربي في الثلاثينات. وليست الإنجازات الأخرى للاتحاد السوفييتي بخافية بل يتناساها المدافعون عن الرأسمالية، مثل تصنيع أكبر جيش بري في العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية والذي مكن روسيا من هزيمة الجيش الألماني وإخراجه من شرق أوروبا، واللحاق بالولايات المتحدة في تصنيع القنبلة الذرية سنة 1949، وإطلاق أول قمر صناعي (سبوتنيك سنة 1955) وإطلاق أول رائد فضاء خارج الغلاف الجوي سابقة الولايات المتحدة في ذلك، وتحقيق المركز الثاني في العالم في تصنيع الغواصات والجرارات الزراعية..إلخ إذا كان المدافعون عن الرأسمالية يتحججون بأنها الأكفأ تكنولوجيا وإنتاجيا، فإن هذه الحجة تنهار أمام ما أنجزه الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه. لكن الذي حدث ابتداء من منتصف الخمسينات أن بدأ النظام السوفييتي في الضعف وموجهة الأزمات الاقتصادية، وبالتالي واجه قلةالكفاءة الشهيرة عنه لدى الغرب، حتى واجه انهيارا داخليا في السبعينات والثمانينات انتهى بالسقوط في أوائل التسعينات.
إن حجة المدافعين عن الرأسمالية حول عدم كفاءة الإشتراكية لا تنطبق على الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه، ولا على التجارب الاشتراكية الأخرى في شرق أوروبا ويوغوسلافيا على وجه الخصوص، ولا على النظام الناصري في فترة حياته القصيرة الممتدة من منتصف الخمسينات وحتى منتصف الستينات. إن المرحلة الأولى الناجحة من النظم الاشتراكية تعطي دليلا واضحا على إمكانية تصنيع بلاد لم ينتشر بها النظام الرأسمالي، وباتباع طرق غير رأسمالية. لقد حققت الأنظمة الإشتراكية كفاءة عالية في بداياتها لكنها واجهت الأزمات بعد ذلك، ثم الانهيار. والمطلوب تفسيره هو النجاح الأول الذي تلاه إخفاق كبير؛ المطلوب هو معرفة أسباب إخفاق نظام كان ناجحا في بداياته.

نقد بودريار للمجتمع المعاصر:

تعد أعمال الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان بودريار B audrillard من أهم و أشهر الدراسات في حقل الإنسانيات و الثقافة في الوقت الحاضر ، و هو يحتل مقدمة المسرح الفكري في فرنسا و العالم منذ أواخر الستينات و حتى الآن . و يتناول جانب كبير من هذه الأعمال نقدا لمجتمع الاستهلاك . فإلى جانب كتابه الذي يحمل عنوان " مجتمع الاستهلاك " The Consumer Society ، هناك مجموعة أخرى من الدراسات المنتشرة عبر كتبه الأخرى و التي يتناول فيها نفس الموضوع مثل " مرآة الإنتاج " The Mirror of Production و " نحو نقد للاقتصاد السياسي للعلامة " A Critique of The Political Economy و "التبادل الرمزي و الموت " Symbolic Exchange And Death .
يمكن النظر إلى نقد بودريار لمجتمع الاستهلاك على أنه ينتمي إلى تراث فكري كبير ركز على نقديم المجتمع الغربي المعاصر ، و يشمل هذا التراث أعمال لوكاتش و فلاسفة مدرسة فرانكفورت و بعض البنيويين من أمثال رولان بارت و فوكو ، هذا بالإضافة إلى تراث طويل في القرن التاسع عشر يحتوي على أسماء ماركس و نيتشة و فيبلن . و الحقيقة أن دراسة بودريار لمجتمع الاستهلاك تدلنا على كيفية التحول من الليبرالية باعتبارها الصورة التي يرى عليها الغرب الرأسمالي نفسه إلى مجتمع الاستهلاك الذي هو الواقع الحالي و النهاية الأخيرة التي وصل إليها هذا الغرب . فعبر جميع دراسات بودريار يوضح لنا كيف تحولت القيم و المثل البورجوازية و الأيديولوجيا الليبرالية إلى قيم و معايير استهلاكية تتحكم بها المؤسسات الكبرى ووسائل الإعلام ، و إلى نسق من الرموز و العلامات التي لها منطقها الخاص و حياتها الخاصة التي تلغي الحياة الواقعية للبشر ، و كيف يصنع الإعلام و الاتصال عالما صناعيا يمثل واقعا مركزا Hyperreality أكثر واقعية من الواقع نفسه .

إن جميع قيم و مثل الليبرالية تجد تعبيرها الأكمل و الأخير و نهاياتها المنطقية في مجتمع الاستهلاك . فالحرية أصبحت حرية البيع و الشراء ، و التعددية أصبحت هي تنوع الموضوعات الاستهلاكية ، و العدالة أصبحت هي السعر المناسب The Fair Price . فهذا هو مصير الخطاب الليبرالي الذي تم استخدامه منذ بداياته الأولى كأيديولوجيا للرأسمالية و كدعم فكري لاقتصاد السوق . فقد تمت منذ القرن الثامن عشر ترجمة الليبرالية إلى مصطلحات الاقتصاد الرأسمالي ، و من المنطقي أن تترجم مرة ثانية في العصر الحاضر إلى قيم مجتمع الاستهلاك الذي هو التطور الطبيعي ، التاريخي و الاقتصادي ، للرأسمالية .
يغير مجتمع الاستهلاك التعريفات التقليدية لجميع القيم و المعايير الأساسية لليبرالية و ذلك لصالحه . فالفرد يصبح مشاركا في مجتمعه لا بالعمل الاجتماعي أو السياسي بل باستهلاكه لسلع و بضائع ينتجها هذا المجتمع ، فالمشاركة أصبحت مشاركة في نوع من الاستهلاك ، و الانتماء أصبح انتماء لشريحة استهلاكية معينة تكون علامة على المكانة أو المستوى الاجتماعي .

و لم تعد القيم الأخلاقية الغيرية التي تحكم سلوك الفرد مع غيره بقادرة على تحقيق التماسك و الاندماج الاجتماعي ، تلك القيم التي كان يرجع مصدرها إلى المسيحية و حركة الإصلاح الديني و على رأسها البيوريتانية . و لم يبق إلا القيم الفردية التي يحرص مجتمع الاستهلاك على إنتاج المزيد منها ، لأن هذه هي القيم القادرة الآن على تحقيق شئ من الاندماج الناتج عن الاشتراك في شئ واحد و هو الاستهلاك بالطبع . فقد غيرمجتمع الاستهلاك من معنى الفردية تماما . فلم يعد الفرد يسعى لأن يحقق ذاته بل أصبح يسعى لنيل موافقة الآخرين و كسب رضاهم و التماهي معهم . لم تعد الفردية قيمة مطلقة بل مجرد توافق وظيفي . و بدلا من السعي نحو إنجازات يغير بها المرء أوضاعه و يتجاوز بها حاله نحو حال آخر ، أصبح يسعى نحو مجرد نيل رضاء الناس .

يعتقد المستهلك أن سلوكه حر و ذلك بناء على أنه حر في اختياره بين كل ما يعرضه عليه مجتمع الاستهلاك، و يعتقد أنه يسعى نحو الاختلاف و التميز عن الآخرين ، و لا يجبره أحد على أن يكون كذلك ، فذلك نابع من داخله ، كما أنه لا يطيع قاعدة أو إلزاما معينا يجبره أن يكون مختلفا و متمايزا ، فهذه هي العلامة الأصيلة للتفرد . إلا أن حريته هذه وهمية و سعيه نحو الاختلاف زائف ، ذلك لأن تعددية موضوعات الاستهلاك و تعدديةالمواقف و الآراء و الأنماط الثقافية التي يختارها ليست إلا نتاج المجتمع الذي يحيط به و لاتكشف إلا عن منطق واحد و هو انسياق الفرد في الأسلوب الوحيد الذي يستطيع أن يعيش به في المجتمع و هو لمزيد من الاستهلاك . فالتعددية زائفة لأنها ليست إلا تنوع لموضوعات استهلاكية سواء كانت سلعا أو آراء أو أنماط ثقافية .
كما يغير مجتمع الاستهلاك من معنى الممارسة العملية و النشاط الاجتماعي للفرد . فهو يحول الممارسة الاجتماعية و السياسية Praxis إلى مجرد اهتمام بشئون الحياة اليومية Everydayness ، أي وجودا زائفا حسب فلسفة هايدجر . فالمجالات السياسية و الثقافية و الاجتماعية تختفي لتخلي المكان للحياة الخاصة و لكل ما هو خاص : العمل ، الأسرة ، وقت الفراغ ، التسلية و الترفيه ، دائرة الأصدقاء و المعارف . و بهذه الطريقة تستطيع وسائل الاتصال الجماهيري التدخل في الحياة الخاصة للناس ، و ذلك بسيطرتها على الترفيه و أوقات الفراغ و التعبئة التجارية للأذواق .

لكن هل لا تؤدي هذه الحالة إلى نوع من تأنيب الضمير و الشعور بالذنب الناتج عن تناقض بين السلبية الناتجة عن البعد عن كل ما هو سياسي و اجتماعي و بين الإيجابية المتأصلة في التراث الديمقراطي الغربي و تاريخه السياسي ؟ يجيب بودريار بان مجتمع الاستهلاك يعمل كذلك على القضاء على هذا الشعور بالذنب و التقصير، وذلك بأن يجعل الناس يشعرون بالأمان في بعدهم عن ما يسمى بغابة الحياة و مخاطرها . فكلما بثت وسائل الإعلام صورة بائسة و متوحشة و خطرة عن العالم كلما زاد شعور الناس بالأمان في بعدهم و انعزالهم عنه . إن شعورهم الزائف بالأمان يقضي على أي إحساس بالذنب أو التقصير ، كما يعد أحد عوامل قبول الوضع القائم ، إذ يجعلهم محايدين و سلبيين أمام كل القضايا و المشاكل الاجتماعية و السياسية . " إن علاقة المستهلك بالعالم الحقيقي و بالسياسة و التاريخ و الثقافة ليست علاقة اهتمام أو مسئولية ملتزمة ... بل هي علاقة فضول. "

و لم يعد التفرد Singularity هدف الفرد الذي يسعى إليه من خلال الاختلاف عن الآخرين ، فالعناصر التي يزود بها المجتمع الفرد لكي يحدث لديه شعور بالتفرد تجعله ينساق في حبائل أيديولوجيا الاستهلاك .. هذه الأيديولوجيا تبث في الفرد نرجسية تجعله يرى تفرده على أنه يتمثل في نوع الملبس أو السيارة التي يستخدمها أو العطر الذي يضعه أو نوعية السلع التي يشتريها أو الطريقة التي يقضي بها وقت فراغه . و بذلك يتحول التفرد إلى مجرد التماهي مع مقاييس عامة يصنعها المجتمع ، و الاندراج في أنماط Types محددة يمثلها المشاهير و نجوم السينما و الإعلام. ينقلب التفرد الآن إلى أن يصبح تنميطا Stereotyping و توحيدا للمقاييس Standardization .

الحاجات والوسائل :
ساد الليبرالية خطاب حول الحاجات Needs و حول الوسائل التي يسعى المرء لإشباع هذه الحاجات عن طريقها . و اعتمد هذا الخطاب على تصور عن الطبيعة الإنسانية و عن الإنسان باعتباره إنسانا اقتصاديا Homo Oeconomicus . ظهر هذا الخطاب في علم الاقتصاد السياسي و في بعض المذاهب الفكرية و الفلسفات مثل الفلسفة التجريبية الإنجليزية ، و ساد الفكر السياسي الغربي طويلا ، و الآن يعد أحد الدعائم الأساسية لمجتمع الاستهلاك . و تحتوي أعمال بودريار على نقد حاد و عميق لمفهوم الحاجة هذا ..وليست الحاجات التي يتكلم عنها الخطاب المدعم لمجتمع الاستهلاك حاجات بشرية صادرة عن الطبيعة الإنسانية ، بل هي حاجات من صنع مجتمع الاستهلاك نفسه . إنها ليست حاجات أولية . فحاجة الإنسان إلى الطعام مثلا تشبعها كمية محددة من الطعام ، إلا أن الطعام في المجتمع الاستهلاكي يتخذ صورا وأشكالا عديدة أخرى و يتحول للمجال الرمزي . فعلى الرغم من أن حاجات الإنسان الأساسية محددة إلا أننا نجد تنوعا هائلا في السلع التي تشبع هذه الحاجات . و يرجع هذا التنوع إلى مجتمع الاستهلاك الذي يخلق حاجات أخرى ثانوية بمجرد إنتاجه لكم هائل من السلع التي تشبع حاجة واحدة . فللإنسان حد أدنى يكتفي به و يستطيع عن طريقه إشباع حاجاته الأولية ، لكن مجتمع الاستهلاك خلق حاجات أخرى ترفية و رمزية لا يمكن إشباعها ، ذلك لأنه بمجرد أن يشبع الفرد حادة منها حتى تؤدي به إلى حاجات أخرى وإلى ما لا نهاية . و يرجع السبب في ذلك إلى أنها ليست حاجات تشبع عن طريق قيم استعمالية بل عن طريق قيم تبادلية . لا يأتي إشباع هذه الحاجات عن طريق امتلاك المرء لقيمة استعمالية لشيء ما بل لقيمة رمزية . فالسلع تستهلك لما تضفيه على المرء من مكانة أو وضع اجتماعي أو قيمة في المجتمع و صورة معينة عند الآخرين ، لا بما تشبعه من حاجات أولية لديه .

الحاجات في حقيقتها ليست حاجات أفراد بل هي حاجات نظام ، هي حاجات النمو . فالنمو المتزايد للمجتمع هو الذي يفرض حاجات معينة تخفي نفسها باعتبارها حاجات أفراد . فإذا كان العصر الحالي هو عصر ما بعد صناعي Post-Industrial يتمثل إنتاجه الأساسي في الخدمات و السلع الاستهلاكية و الصناعات اللينة و صناعات الإعلام و المعلومات فمن الطبيعي أن تكون القيمة السائدة فيه هي القيمة التبادلية والرمزية لا القيمة الاستعمالية ، و من الطبيعي أيضا أن يعمل هذا المجتمع على خلق الحاجات التي يشبعها إنتاجه ، و بما أن إنتاجه استهلاكي و خدمي و خدمي و إعلامي فإن الحاجات التي يخلقها يجب أن تكون رمزية ثانوية .

خلق حاجات جديدة باستمرار كان من ضرورات بقاء النظام الرأسمالي ، فهذا النظام في حاجة دائمة إلى أسواق لتصريف إنتاجه . فكانت الإمبريالية ضرورية بالنسبة لهذا النظام و ذلك لفتح مزيد من الأسواق عبرجميع قارات العالم ، فإذا لم تجد الرأسمالية أسواقا فسوف تموت . أما استقلال المستعمرات فكان لابد و أن تخلق الرأسمالية سلعا جديدة تشبع حاجات جديدة . و بذلك فتحت أسواقا جديدة تعوضها عن الأسواق التي فقدتها في حركات الاستقلال ، فظهرت الأسواق الاستهلاكية ة الإعلامية و الخدمية التي ضخت دماء جديدة للنظام.

كما يغير المجتمع الاستهلاكي من طبيعة دوران رأس المال و من إعادة إنتاج النظام . فقد كانت علاقات الإنتاج من نظام طبقي و ملكية خاصة و ما يصحبها من قوانين و تشريعات هي التي تعمل على إعادة إنتاج النظام الرأسمالي و الحفاظ عليه و على تماسكه و ذلك في عصر الرأسمالية الصناعية ، أما الآن و في عصر رأسمالية ما بعد الصناعة فقد أصبح الاستهلاك و التبديد و الإهدار هو الذي يعمل على إعادة إنتاج النظام و الحفاظ على تماسكه . لم يعد يستند النظام على تحول القيمة الزائدة إلى رأسمال جديد يتراكم و يتوسع باستمرار ، بل أصبح يعتمد على إنتاج صناعات لينة يجب أن تهدر و تفنى لكي يعاد إنتاج غيرها باستمرار ، و هكذا يتم دوران رأس المال الآن .
لقد كفت الحاجات عن أن يكون لها استقلال و وضع خاص ، فهي لم تعد تتسم بأنها أولية و طبيعية و خاصة بالذات الإنسانية بل أصبحت من صنع النظام ، و بالتالي لم تعد تصلح لنقد الرأسمالية كما فعل ماركس و لوكاتش وفلاسفة مدرسة فرانكفورت و كثير من التيارات اليسارية . لقد أصبحت الحاجة مشروطة اجتماعيا و تحولت إلى أحد منتجات النظام ، و لذلك لا يمكن نقد هذا النظام بما ينتجه .
والحقيقة أننا نجد عند هيجل تشخيصا مشابها لمفهوم الحاجة و خاصة في كتابه " أصول فلسفة الحق " الذي وضع فيه نظرياته الاجتماعية و السياسية . فالحاجات عنده تتضاعف كلما تقدمت الحضارة ، و لا يستطيع الفرد إشباعها جميعا ، كما تتحول أكثر إلى أن تكون حاجات ترفية . لكن في حين ينتقل هيجل من تشخيصه لنظام الحاجات إلى مقولة العمل و يأخذ في تحليل الاقتصاد السياسي باعتباره ينطلق من مفهومي الحاجة و العمل يكتفي بودريار بنقد مجتمع الاستهلاك و الأيديولوجيا المدعمة له و لا يقوم بالخطوة التي قام بها هيجل و من بعده ماركس و هي نقد الاقتصاد السياسي نفسه القائم على مفهوم الحاجة ، بل يكتفي بنقد هذا المفهوم فقط.
و يكمن السبب وراء ذلك في أن بودريار كان قد تخلى عن محاولة نقد الاقتصاد السياسي لأنه اعتقد أن ما حل محله الآن هو نسق الرموز والعلامات المتحكم في الاتصال و الإعلام و الاستهلاك .

المساواة :
المساواة أسطورة ، استخدمتها الأيديولوجيا الليبرالية دائما لتبرير أسلوب الإنتاج الرأسمالي و الحفاظ علىالوضع القائم . تحولت كل مساوئ هذه الأيديولوجيا و خبائثها الآن إلى مفهوم السعادة . أصبحت السعادة هي علامة المساواة و مقياسها . و لكي تكون السعادة حاملة لأسطورة المساواة يجب أن تخضع للقياس ، أي قابلة لأن تقاس في صورة موضوعات و علامات ، يجب أن تتحول إلى رفاهية . فقد ورثت دولة الرفاهية في الغرب التراث السياسي الليبرالي بجميع قيمه و معاييره ، و نظرت لنفسها على أنها هي المحققة لهذه القيم و المعايير و التطور الطبيعي لها ، فكان من المنطقي أن تترجم المساواة إلى مصطلحات مجتمع الاستهلاك الذي هو نتاج دولة الرفاهية ، و تصبح السعادة علامة على الرفاهية و الرفاهية علامة على المساواة .
لكن يتم عزل و إبعاد السعادة الأصيلة ، السعادة التي هي شعور داخلي لدى المرء و مستقل عن أي موضوع خارجي و التي هي رضا و قناعة ، تلك السعادة التي ليست بحاجة إلى دليل مادي ، و ذلك لتخلي مكانها للسعادة باعتبارها رفاهية يجب أن تقاس و يبحث عنها بمحك منظور . لا تعد السعادة هي فرحة الجماعة في الأعياد و الاحتفالات ، لا تعد معنوية و متجسدة في الحياة الجماعية المشتركة بل تصبح ذات معايير فردية. كما يذهب بودريار إلى أبعد من ذلك و يرى أن تراث الليبرالية منذ بدايته و هو يترجم المساواة إلى هذا المفهوم الضيق عن السعادة . فإعلان حقوق الإنسان و المواطن يعترف و ينادي بحق كل فرد في السعادة ، أي ينقل السعادة من معناها الجماعي العام و المعنوي و التساندي إلى معناها الفردي الذي يتحول إلى رفاهية و استمتاع بموضوعات استهلاكية . " تحول مبدأ الديمقراطية من مساواة حقيقية للكفاءات و المسئوليات و الفرص المتساوية … إلى مساواة أمام موضوعات التملك و الرموز المادية للنجاح الاجتماعي و السعادة ... و الظاهر أنها مساواة عينية إلا أنها شكلية تخفي و تحجب غياب الديمقراطية الحقيقية و اختفاء المساواة . "

و إذا كان المجتمع المعاصر يحقق شيئا من المساواة في الرواتب و أوضاع المعيشة و إشباع الحاجات فإن ذلك يعد نتاجا زائدا By-Product للوظيفة الأصلية للنظام ، و التي تتمثل في زيادة الامتيازات المادية لأصحاب الامتيازات ، أي لمن لهم امتيازات أصلا . فاللامساواة هي هدف النمو و ما المساواة إلا نتاجا زائدا حدث بالصدفة . فبينما كانت الليبرالية تعتقد في أن زيادة النمو سوف تقضي على الندرة و بالتالي على البؤس و الشقاء الذي تعاني منه الطبقات الدنيا و بالتالي تقضي على احتمالات الثورة و القلاقل الاجتماعية و تقلل من حدة التناقضات الطبقية و الفروق الواسعة بين مستويات المعيشة ، فإن النمو لم يؤد واقعيا إلى كل ذلك بل على العكس أدى إلى زيادة الفروق .

إذا كانت مبادئ الديمقراطية و المساواة تقوم في الخطاب الليبرالي التقليدي بممارسة السيطرة الاجتماعية و التنظيم الأيديولوجي للتناقضات السياسية و الاقتصادية ، فإنها لم تعد تقوم بمثل هذا الدور الآن . فقد جعل مجتمع الاستهلاك هذه القيم هشة و غير قادرة على أداء وظيفة الاندماج الاجتماعي لمجتمع يتناقض واقعه مع هذه القيم ، حتى إذا تم تمثلها عن طريق التربية و التنشئة الاجتماعية . فما يقوم بهذا الدور الآن عبارة عن آلية لاشعورية في الاندماج و التحكم . تتمثل هذه الآلية في إدخال الأفراد في نسق من الاختلافات ، أي في نظام من التعدد و التنوع الثقافي الذي يسعى فيه الأفراد لأن يكونوا مختلفين عن طريق اختيار موضوعات استهلاكية. و بذلك يتم إحلال الاختلاف محل التناقض . فالتناقض لا يحل عن طريق إحلال المساواة و التوازن محله ، بل عن طريق إحلال الاختلاف و التمايز ، الثقافي و الاستهلاكي و الإعلامي .

وهم الحرية :
يستخدم مجتمع الاستهلاك مفهوم الحرية بنفس الطريقة التي استخدمها بها مجتمع الصناعة . فقد كانت الليبرالية تدعو للحرية في بداية العصر الصناعي ، إلا أن هذه الدعوة كانت زائفة و أيديولوجية و يكمن ورائها أهداف أخرى . فقد كان على الفرد أن يتحرر من الإقطاع و من ارتباطه بكنيسة أو مذهب أو طائفة أو عرق و ذلك لكي يصبح عاملا أجيرا في ظل النظام الرأسمالي . فقد أدى مبدأ الحرية كما استخدمه المجتمع الصناعي مهمة قطع صلة الفرد بكل ما كان يربطه بوحدات اجتماعية سابقة على الرأسمالية و ذلك ليتمكن النظام من إدخاله سوق العمل و يصبح فيه سلعة . و نفس هذا التوظيف لمبدأ الحرية يستخدمه مجتمع الاستهلاك الآن ليطبقه على الجسد . يجب على الجسد الآن أن يتحرر ، أي أن ينفك ارتباطه بمفاهيم الخطيئة و السقوط و الذنب و المعصية ، أي بكل المفاهيم الدينية المسيحية و البيوريتانية التي تفرض على الجسد الزهد و التقشف ، و ذلك لكي يمكن أن يصبح موضوعا للاستهلاك ، أي حاملا لموضات أزياء و عطور و هدفا لطرق ممارسة الحمية ( الريجيم ) و صفحة بيضاء لأدوات التجميل و هدفا لتسويق الرياضة و الأجهزة الرياضية ، وسلعة جنسية أيضا .
كما لا تعد حرية المجتمع الحالية و سهولة الحوار بين كل أطرافه و تبادل الآراء و المواقف فيه نتيجة لتقدم أخلاقي أو لزيادة التحرر أو لفهم أفضل و أعمق للمشاكل الاجتماعية ، بل تكشف هذه الحرية عن أن الآراء والأيديولوجيات و الفضائل و الرذائل أصبحت مادة للتبادل و الاتصال ، و هي متساوية القيمة في لعبة العلامات و الرموز التي يمارسها النظام . و لم يعد التسامح في هذا السياق حالة سيكولوجية باطنة أو فضيلة أو قيمة عليا ، بل هو شرط من شروط وجود النظام نفسه ، لأن هذا النظام يتمثل في إنتاج المعلومات و توصيلها و أداء الخدمات و خلق حاجات تشبعها سلع استهلاكية ، فمن الطبيعي أن تكون الحرية و التسامح من بين مقومات وجود النظام و أداءه لوظائفه .

كانت الليبرالية تفهم الحرية على أنها تجد تعبيرها الأكمل و التام في مفهوم الملكية الخاصة و ما يشمله من مفاهيم فرعية مثل الحيازة و حق الانتفاع و العقد Contract باعتباره اعتراف الأطراف المشاركة فيه بالملكية لبعضهم البعض و ما يتفرع عن ذلك من حقوق للمشاركين في هذا العقد . و يعد مفهوم الملكية الخاصة مصدر التنظيم القانوني و السياسي الليبرالي للمجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر ، كما يشكل أساس الحقوق و الواجبات المدنية و السياسية و كذلك جزءا كبيرا من قانون العقوبات . لم يعد مفهوم الملكية الخاصة بمثل أهميته تلك في مجتمع الاستهلاك . فلم يعد هناك معنى لمفهوم الحيازة أو التملك أو الاقتناء ، فقد أخلت هذه القيم مكانها لقيم الاستعمال و الاستمتاع و الاستهلاك . الحيازة هي الاحتفاظ بشيء معين يبقى و يدوم و تكون الاستفادة منه طويلة الأجل ، أما الاستهلاك فهو إشباع لرغبة عن طريق إهلاك و إهدار لموضوع هذه الرغبة . كما أخلى مفهوم العقد مكانه لمفهوم السعر المناسب ، فبمجرد شرائك لسلعة فهذا يعني أنك توافق على سعرها ، و موفقتك على السعر تعني اتفاقك مع النظام . فبعد أن كان الاتفاق و الإجماع و الرضا أهداف يتم الوصول إليها عن طريق الحوار السياسي الاجتماعي بين المواطنين حول شئون حياتهم و مستقبلهم هادفين تنظيم التعامل بينهم ، أصبح يتم الوصول لهذه الأهداف عن طريق شراء سلعة .

يحول المجتمع الاستهلاكي الديمقراطية إلى شيء يقاس . فالنمو و زيادة الإنتاجية تعني الوفرة ، و الوفرة تعني الرفاهية ، و الرفاهية تعني الديمقراطية . و بالتالي فقياس النمو و الإنتاجية يعني قياس درجة الديمقراطية القائمة . و تصبح الحقوق الطبيعية للإنسان هي حقوقه في تملك و استهلاك موضوعات إشباع حاجاته . و بذلك لن يكون هناك معنى للتساؤل حول ما إذا كان هذا المجتمع يحقق الحرية و المساواة أم لا ، و هل هو ديمقراطي أم لا ، و هل قضى على أوجه اللامساواة السابقة أم لا ، لأن هذا المجتمع قد أبدل بالفعل قضايا الحرية و المساواة و الديمقراطية و نقلها من الميدان الاجتماعي و السياسي إلى المجال المادي الاستهلاكي .

الجماهير الصامتة :
يذهب بودريار إلى أنه منذ القرن الثامن عشر و خاصة منذ الثورة الفرنسية أصبح مجال السياسة مجالا للتمثيل Representation ، أي بدأ ما هو اجتماعي يجد التعبير عنه في ما هو سياسي ، و أصبح المواطنون يجدون في المجال السياسي تعبيرا عنهم ، فقد استندت الممارسة السياسية آنذاك على مفاهيم الديمقراطية النيابية و التمثيلية و على الرأي العام و فكرة الإرادة العامة . يترجم بودريار ذلك إلى مصطلحات البنيوية و ما بعد البنيوية . فهو يرى أن مجال السياسة أصبح منذ ذلك الوقت مجالا للدلالة و المعنى ، فما يحدث في السياسة هو دال Signifier لمدلول أساسي FundamentalSignified
هو الإرادة العامة . و لا يزال الفكر السياسي الليبرالي يلعب على الحنين لهذا العصر الذهبي ، الذي كان فيه الاجتماعي مستقلا و ممثلا في السياسي.
أما الآن فلم يعد الاجتماعي مجالا مستقلا و لم يعد مصدرا للطاقات و القوى التي تمد السياسي بالدلالة و المعنى . فمع تحول المجتمع المدني Civil Society إلى مجتمع جماهيري Mass
Society أصبح مستقبلا لكل ما تفرضه عليه السياسة و لم يعد له الدور الفاعل و المؤثر الذي كان يتمتع به . لم يعد المدلول الذي تشير إليه و تنتهي إليه الدالات السياسية . فلقد اختفى أي واقع اجتماعي أساسي يكمن تحت معني العملية السياسية ، و انعزلت السياسة أكثر و أكثر عن الجماهير و أصبح لها استقلال و تسيير ذاتي ، أي أصبحت لا تشير إلا لذاتها و لا دلالة لها إلا بالنسبة لمجالها فقط . فمع التداخل المتزايد بين الاقتصاد و السياسة ، و مع كثرة جماعات الضغط ذات المصالح الجزئية الخاصة و قوة تأثيرها ، لم تعد الجماهير مؤثرة في المجال السياسي . لم يعد هناك إلا مدلولا واحدا أو إحالة واحدة و هي إلى الأغلبية الصامتة التي أصبحت إحصائية .

لا تظهر هذه الأغلبية الصامتة ممثلة في شيء معين أو باعتبارها مصدرا لمعنى ممارسات سياسية معينة ، بل باعتبارها عنصرا إحصائيا . و لم يعد من الممكن لأي أحد أو أي منظمة أن تتحدث باسم الجماهير ، فقد كفت الجماهير عن أن تكون ذاتا بالمعنى التقليدي و لم يعد يمكنها أن تمر بمرحلة تكوين هويات سياسية . لم يعد هناك كذلك معنى للاغتراب ، لأن الاغتراب يحدث لذات في سياق عملية تكوينها الذاتي ، ذات لها احتياجات ووعي و خبرة . كما تنتفي كذلك فكرة الثورة ، فالثورة يفترض أن تحدث من قبل مضطهدين ، و يفترض في المضطهدين أن لهم هوية ووعي بمصالح مشتركة و أهداف واحدة ، إلا أن الجمهور ليس له هوية ، فهو مجموع إحصائي لا غير ، و كتلة كبيرة لا متمايزة تم تحييدها .

تتحول الجماهير في المجتمع المعاصر إلى كتلة ضخمة يراد جمع المعلومات عنها بهدف توجيهها و السيطرة عليها . و لم يعد لقياس الرأي العام و لعمليات استطلاع الرأي معنى ، فهي تفترض وجود رأي جاهز لدى الجماهير ووجود موقف محدد لديها يتم الكشف عنه ، إلا أن ذلك ليس صحيحا . لا يعمل قياس الرأي العام إلا على الإيحاء بوجود رأي عام ، و يقوم في ذلك بوظيفة النبوءة الذاتية التحقيق Self-Fulfilling Prophecy أي الإشاعة التي تتحول إلى حقيقة بمجرد انتشارها . أما وسائل الإعلام فلا تهتم بالمعنى ، فالمعنى هو المحتوى أو المضمون في عملية الاتصال ، في حين أن هذه العملية محايدة تجاه المحتوى و لا يهمها إلا التوصيل. فالمضمون ليس هو الرسالة ، بل إن وسائل الإعلام نفسها هي الرسالة The Media Is The Message كما يقول ماكلوهان . يتوصل بودريار من ذلك إلى أن الاتصال يحيد المعنى و يلغيه ،و يصبح هدفا في ذاته ، فهو اتصال من أجل الاتصال لا من أجل توصيل و نقل المعنى .

اكتمال الأيديولوجيا :
إذا كانت الأيديولوجيا ، و خاصة في المجتمع الصناعي ، تتمثل في عملية التشيؤ Reification التي تظهر فيها العلاقات الاجتماعية بين الناس على أنها علاقات بين أشياء ، و في عملية صنمية السلع Fetishism Of Commodities التي تتحول فيها العلاقات الاقتصادية إلى قوانين حتمية تماثل قوانين الطبيعة و تنعزل عن أساسها الاجتماعي و تصبح علاقات بين سلع ، فإن تحليل بودريارللمجتمع الاستهلاكي يكشف عن أن هذه الأيديولوجيا قد وصلت إلى نهايتها المنطقية .
حلل ماركس أسلوب الإنتاج الرأسمالي على أنه نظام منتج للسلع . فكل التنظيمات الاقتصادية و كل تفاصيل عملية الإنتاج في هذا النظام تهدف إلى هذه الغاية . و على الرغم من أن هذه السلع نتاج العمل البشري إلا أنها بمجرد دخولها في علاقات تبادل في السوق حتى يكون لها حياتها الخاصة و قوانينها الخاصة التي تسمى قوانين السوق ، مثل العرض و الطلب ، و بذلك تستقل عن أصلها البشري و الاجتماعي و يصبح لها كيانها الخاص . و ليس هذا و حسب ، بل إنها تصبح هي التي تنظم علاقات الأفراد ببعضهم و تنظم علاقاتهم بالمجتمع . و بذلك تأخذ الطابع الصنمي . كما أن طاقة العمل البشري تقاس بمدى قدرتها على إنتاج سلع ، و تتحدد قيمة هذا العمل بقيمة ما ينتجه من سلع . و هذا ما يؤدي إلى تشيؤ العلاقات الاجتماعية . فالعلاقات بين المنتجين التي هي في الأصل علاقات اجتماعية تظهر على أنها علاقات بين منتجات عملهم و تحكمها قوانين اقتصادية .

إذا كان ماركس قد ذهب إلى أن السلع و العلاقات بينها قد حلت محل العلاقات الاجتماعية ، فإن بودريار يذهب الآن إلى أن العلامات و الرموز قد حلت محل الواقع نفسه ، و بذلك أصبح الدال مستقلا عن المدلول و تم تعميم الأيديولوجيا . فالسلع تستهلك لا لما تسده من حاجات بل لما لها من قيمة رمزية ،أي تستهلك باعتبارها علامات . كما أن وسائل الإعلام لم تعد تنقل لنا إلا العلامات و الرموز ، و بذلك صنعت واقعا ثانيا بديلا عن الواقع الحقيقي . فلم يعد الدال يشير إلى مدلول معين ، و لم تعد العلامة علامة لشيء واقعي بل أصبحت علامة لعلامة أخرى ، و تم إخراج الواقع من هذه العلاقة الجديدة . فلم تعد القيمة التبادلية تشير إلى قيمة استعمالية ، إلى حاجة أو هدف أو غاية ، بل إلى قيمة تبادلية أخرى و علامات و رموز أخرى.فإذا كانت الأيديولوجيا هي استبدال الواقع بالعلامة و النظر إلى الدال على أن له الأولوية على المدلول ، فإن تحليلات بودريار تكشف عن أن المجتمع الاستهلاكي لا يقوم بعملية الاستبدال هذه و حسب ، بل إنه يحل العلامات محل بعضها البعض و يستبدل رموزا برموز و ذلك في غياب الواقع أو الشيء الحقيقي . صحيح أن بودريار ينظر إلى هذه العملية الجديدة على أنها نهاية للأيديولوجيا ، إلا أنها نهاية لنوع معين من الأيديولوجيا، تلك التي تحل العلامة محل الواقع ، و ظهور لنوع جديد و هو المتمثل في إخراج الواقع ذاته من لعبة العلامات و الرموز .في كتاب : "السياسة الاقتصادية: آراء لليوم وللغد" والذي ترجم بإشراف السيد فادي حدادين ، يدلل ميزس على النظرية من خلال الأمثلة المحلية الشائعة، ويفسر الحقائق التاريخية البسيطة، في معطيات من المبادئ الاقتصادية. إنه يصف كيف تمكنت الرأسمالية من تدمير النظام الطبقي الذي كان يجسده الإقطاع الأوروبي، كما إنه يبحث في النتائج السياسية التي تترتب على أنماط الحكومات المختلفة. إنه يحلل فشل الاشتراكية ودولة الرفاه الاجتماعي، ويبين ما يستطيع المستهلكون والعمال تحقيقه عندما يكونون أحراراً في ظل النظام الرأسمالي لتقرير مصائرهم بأنفسهم.

يقول ميزس: "عليكم أن تتذكروا أنه في السياسات الاقتصادية لا توجد معجزات. لقد قرأتم في كثير من الصحف والخطب حول ما سمي بـ"المعجزة الاقتصادية الألمانية"—إعادة بناء ألمانيا بعد هزيمتها أو تدميرها في الحرب العالمية الثانية. ولكن هذه لم تكن معجزة. لقد جاءت تطبيقاً لمبادئ اقتصاد السوق الحرة ووسائل الرأسمالية، على الرغم من أنها لم تطبق بشكل تام في جميع جوانبها. كل بلد يستطيع أن يمر بمعجزة مماثلة من النهوض الاقتصادي، على الرغم من إصراري على القول بأن النهوض الاقتصادي لا يتأتى عن معجزة؛ إنه يتأتى عن تطبيق سياسات اقتصادية سليمة."
ويتابع ميزس بالقول: "الناس يتحدثون عن سياسة [الطريق الوسط]. ولكن الذي لا يرونه هو أن التدخل الجزئي، والذي يعني التدخل فقط بقسم صغير واحد من النظام الاقتصادي، من شأنه أن يؤدي إلى وضع تجد فيه الحكومة نفسها، وكذلك أولئك الذين يطلبون تدخل الحكومة، في أوضاع أسوأ من تلك التي أرادوا إلغاءها. فكرة أن هنالك نظاماً ثالثاً—بين الاشتراكية والرأسمالية—كما يقول دعاته، نظام بعيد جداً عن الاشتراكية بقدر بعده عن الرأسمالية، والذي يحتفظ مع ذلك بمزايا كل منهما ويتجنب مساوئه، هو طرح لا يقوم على أساس. إن الناس الذين يؤمنون بأن هنالك مثل هذا النظام الخيالي، يستطيعون أن يرتقوا إلى مرتبة الشعراء، عندما يمتدحون عظمة التدخل! لا يستطيع المرء إلا أن يقول بأنهم مخطئون. فالتدخل الحكومي الذي يمتدحونه من شأنه أن يخلق ظروفاً هم أنفسهم لا يحبونها."

إقتصاد المعرفة :
في حين كانت الأرض، والعمالة، ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاقتصاد القديم، أصبحت الأصول المهمة في الاقتصاد الجديد هي المعرفة الفنية، والإبداع،والذكاء، والمعلومات . وصار للذكاء المتجسد في برامج الكمبيوتر والتكنولوجيا عبر نطاق واسع من المنتجات أهمية تفوق أهمية رأس المال، أو المواد، أو العمالة.وظهرت مدرسة اقتصادية حديثة تتبنى ما بات يعرف بإقتصادات المعرفةتقوم على البحث والتطوير في مجال المعلوميات على وجه الخصوص ضمن نظريات النمو الاقتصادي الحديثة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، وازداد ت وتيرة هذا الاقتصاد تسارعا مع بداية القرن الحادي والعشرين .ومن رواد تلك المدرسة :باول رومر، روبرت لوكاس، وروبرت سولو.وتعد الموارد البشرية المؤهلة وذات المهارات العالية، والمتمثلة في رأس المال البشري، هي أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد الجديد، المبني على المعرفة.ويعتمد اقتصاد المعرفة على دراسات تطبيقية لقياس أثر رأس المال البشري على معدل النمو في الأجل الطويل. فهذه المدرسة ترى أن زيادة الإنتاجية تمثل عنصرا داخليا وليس خارجيا في عملية النمو ولها علاقة بسلوك الأفراد المسؤولين عن تراكم المعرفة والعناصر المنتجة الأخرى مثل تراكم رأس المال المادي والتوسع في قوى العمل والتقدم التكنولوجي.

وتؤكذ تلك المدرسة على الأهمية المحورية للمعرفة في عملية النمو الاقتصادي وتوليد العمالة وتعزيز التنافسية. فاقتصاد المعرفة، يتطلب قيام نسق لنقل التقانة واستيعابها في المجتمع وتنشيط إنتاج المعرفة المؤدي إلى توليد تقانات جديدة، وهو ما يحقق غايات الكفاءة الإنتاجية والتنمية الإنسانية معاً. وفي هذا الإطار فإن الابتكار والابداع والتجديد في مجال المعارف التقنية و توظيف رأس المال المعرفي في إنتاج التقانة وتوظيفها في عملية النمو الاقتصادي.يمثل اقاعدة الاقتصاد الجديد والقدرة على منتجات معرفية لها قدرة تنافسية في الأسواق الاقليمية والدولية. والمعرفةفيه هى المحرك الرئيسى للنموالاقتصادي .

ويعد هذا النمط من اقتصاد المعرفة نتيجة مباشرة لما يعرف حاليا بثورة الاليكترونيات والمعلومات والاتصالات ، وتمثل أخر طور من أطورا الرأسمالية العالمية والذي يسهم إلى حد كبير في عولمتها أو ظهور وانتشار مفهوم وأيديولوجية العولمة .وأصبح هذا النوع من الاقتصاد يحتل حيزا متنامي في الانتاج القومي لها وفي زيادة دخلها القومي خاصة بعد أن زادت المنافسة العالمية لمنتجاتها من الاقتصاد التقليدي القديم الذى أفرزته الثورة الصناعية.والذي كانت تلعب المعرفة فيه دورا أقل، غلى جانب عوامل الإنتاج التقليدية الأخرى .كما ساعد على ذلك انتشار شبكات الكمبيوتر مثل الانترنت .

خصائص اقتصاد المعرفة
وتتمثل خصائص واحتياجات الاقتصاد المبني على المعرفه في الأتي:
1. الابتكار: والذي يعززه نظام فعال من الروابط العلمية مع المؤسسات الاكاديميه وغيرها من المنظمات التي تستطيع مواكبة ثورة المعرفه المتناميه واستيعابها وتكييفها مع الاحتياجات المحلية في الدول المتقدمة..وهناك أنواع عديدة بشبكات المعرفة مثل شبكات الجامعات وشبكات مراكز البحوث وشبكات مؤسسات المعلومات كالمكتبات ودور النشر ومراكز التوثيق وشبكات الصناعات المختلفة
2. الارتقاء بمستوى التعليم بحيث يمكنه إمداد الاقتصاد باحتياجاته من اليد العاملة الماهره والابداعيه القادرة على ادماج التكنولوجيات الحديثة في العمل.يتطب اقتصاد المعرفة نوعاً جديداً من التعليم والتدريب
. و تطور المعرفة السريع يتطلب التدريب مدى الحياة ، كما يتطلب مستوى علمي وتكنولوجي للعمالة أعلى من السابق والتطور السريع فيها يحتاج إلى برامج للتعليم والتدريب مدي الحياة ، أي لاينتهي التعليم فيها بالحصول على شهادات جامعية على نحو ما كان سائدا في نظم التعليم السابقة.ويتطلب أيضا بالنسبة للدول الناطقة بالعربية إلى تعريب المصطلحات المعلوماتية وإتقان اللغة الانجليزية المستعملة بكثرة في المعلوميات. والتي تشمل خمس:
أ وضع المصطلح العلمي وتوحيده ونشره .
ب الاهتمام بتقييس استعمال اللغة العربية في المعلوماتية والاتصالات .
ج الإسراع في تكوين قواعد المعلومات باللغة العربية في مختلف المجالات ووضعها على الشبكات الحاسوبية ومنها الانترنت .
الاهتمام بالترجمة العلمية من اللغات العالمية وخاصة الانكليزية الى اللغة العربية .
د الاهتمام الجاد بتعليم العلوم باللغة العربية في المدارس والجامعات على مدار الوطن العربي مع الاهتمام في الوقت ذاته بتعليم اللغات الاجنبية وإتقانها وخاصة الإنكليزية .
ه دعم البحوث القائمة واللازمة في مجالات اللغة العربية وتكنولوجيا المعلومات .
3. االتوفر على بنية تحتية قائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تسهل نشر وتجهيز المعلومات والمعارف وتكييفها مع احتياجات الاقتصاد.ويتحقق فيها الامكانيات التالية :
أ- توليد المعرفة: وذلك في مؤسسات البحث والتطوير وفي الجامعات ، وهذا يتطلب قيام الدول العربية برفع معدلات تمويلها ودعمها لهذه المؤسسات.
ب- نقل المعرفة : وذلك من قبل الشركات المتقدمة ، وكذلك مؤسسات التوثيق العلمي وشبكات نقل المعلومات ومؤسسات الترجمة، وكذلك عن طريق البعثات للاختصاصات المختلفة بقصد نقل المعرفة وتوطينها ، يضاف إلى ذلك جهود التعاون الإقليمي والدولي بهذا القصد.
ج- أما نشر المعرفة: فيكون بدعم دور التوثيق والإعلام العلمي إضافة إلى برامج التوعية العلمية المختلفة ، وكذلك توفير مراكز تقديم المعلومات العلمية والتكنولوجية والتجارية وغيرها ، وتوسيع مجال ا ستثمار شبكات الحواسيب ومنها الانترنت وتشجيع إنتقال العاملين من الجامعات ومراكز البحوث إلى الصناعة وبالعكس .
د- استثمار المعرفة: وهي من أهم الوظائف التي يجب الاعتناء بها وذلك بتوفير المؤسسات الوسيطة بين جهات توليد المعرفة وفعاليات الإنتاج والخدمات مثل المؤسسات التكنولوجية ومثل المخابر
الهندسية والهندسة العكسية ومثل دعم براءات الاختراع وحماية الملكية الفكرية وغيرها من الإجراءات.
ه- التوسع المستمر في انتاج المعرفة وتنويع المنتجات
4. توفير بيئةاقتصادية وعلمية تحفز زيادة الانتاجية والنمو في حقل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أوتيسير الحصول عليها وتنميتها.
5. وجود أسواق مفتوحة تستوعب المنتجات محليا وإقليميا ودوليا.

ويقدر الاقتصاديون أن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي GDPفي الدول الغربية المتقدمة مبني على المعرفة. وزادت صادرات هذه الدول من هذه المنتجات المعرفية لتصل إلى 36% في حال اليابان و 37% للولايات المتحدة و 43% في ايرلندا و 32% في المملكة المتحدة . ويزداد استثمار الدول في المعرفة والمعلومات من خلال الصرف على التعليم والتدريب والتطوير في القطاعين العام والخاص.
فالاستثمار في المعلومات أصبح أحد عوامل الإنتاج ، فهو يزيد في الإنتاجية كما يزيد في فرص العمل.ونجاح المؤسسات والشركات يعتمد كثيراً على فعاليتها في جمع المعرفة واستعمالها لرفع الانتاجية وتوليد سلع وخدمات جديدة ، وقد أصبح الاقتصاد يقاد من قبل سلسلة هرمية من شبكات المعرفة التي تتغير فيها المعلومات بمعدلات سريعة.

وقد سعت بعض الدول المتخلفة اقتصاديا والتي ليس لها انجاز يعتد في الثورة الزراعية أو الصناعية إلى الفقز نحو اقتصاد المعرفة واعتبرت بأنه مجرد تكليف شركات اتصالات أجنبية بإقامة شبكات اتصال حديثة وتوزيع أجهزة كمبيوتر على بعض المدارس وتخصيص بعض المدارس أو إضافة أقسام في الجامعات لدراسة المعلومات تكون بذلك قد هيأت نفسها لدخول اقتصاد المعرفة والذي راحت تبشر به أجهزتها الدعائية . ولا يتوقع بالتأكيد أن تحقق أي انجازات ذات قيمه مادية من هذه الجهود المبذولة ترفع من قيمة الانتاج الوطني ، وكما فشلت من قبل في الاقتصاد التقليدي فلا يتوقع لها أي نجاح في اقتصاد المعرفة. إن ما أنجزته حتي الان يعد ضروريا ولكنه أيضا مظهريا وشكليا أكثر منه عمليا واقتصاديا ، لقد استنزفت شركات الاتصالات الاجنبية مواردا المالية دون أن يتحقق أي تقدم على طريق اقتصاد المعرفة . لايمكن تجاهل المعلوماتية في عصرها وزمانها. ولكن لكي تتحول إلى اقتصاد معرفة ومنتجات معرفية قابلة للتسويق والتصدير وزيادة الدخل الوطني فإن ذلك يحتاج إلى بيئة متخمة بالمعرفة وليس دولة ما يغرب من نصف شعبها مازال أميا والنصف الثاني معظمه أبعد ما يكون عن المعرفة التقنية ، 90 في المائة أو أكثر من خريجي جامعاتها تخرجوا من كليات نظرية ووفق مناهج تعليمية متخلفة حتي عما وصلت إليه العلوم الإنسانية في العالم .

لا يمكن أن تتجاهل التنمية الاقتصادية الانتاج الزراعي والصناعي والاهتمام بهما من شأنه أن يطور في حد ذاته المعارف التقنية ، واستخدام الكمبيوتر في العلوم التطبيقية وفي الصناعات التقليدية وإن بالتدريج هو الذي يمكن من خلق بيئة علمية مواتية لانتاج سلع معرفية قابلة للتسويق محليا وخارجيا وأن تحتل بالتدريج نسبة متصاعدة في الانتاج الوطني المحلي . لفد انتجت الهند سلعا معلوماتية بعد أن توسعت في التعليم التقني وتخريج علماء
أكفاء في المعلومات وفي البرمجة ولكنها تحرز حاليا معدل تنمية اقتصادية لايعتمد على المعلوماتية وإنما على الاقتصاد التقليدي.كما أن الهند التي تمتلك أسلحة نووية من صنعها قد تمكنت من الحصول على تقنيات عالية المستوى وانتاج تقنيات مماثلة محليا وبالتالي حققت تقدما علميا ساهم في ذخولها مجال اقتصاد المعرفة في مجال البرامج أو السوفت ويرولكنها ما زالت في بداية الطريق بالنسبة للمعدات أو الهارد وير.