Sunday, October 30, 2011

تفصيل لدور العالم والمفكر في إنتاج المعرفة

العالم هو من تخصص في علم ما فأحاط علما بكل ما به من معرفة علمية تراكمت في ذلك العلم عبر العصور ، وقد يتخصص في فرع واحد منه دون سواه، فصار مرجعا فيه.وقد يجرى العالم تجربة في المختبر بهدف التأكد من شيئ ما فيكتشف بالصدفة شيئا آخر فيضيف معرفة جديدة الى العلم ، ولكنه ﻻ يحسب رغم ذلك مفكرا.أما المفكر فقد يكون عالما متخصصا وقد ﻻ يكون عالما ومع ذلك يضيف الى علم ما ما يعد جديدا فيه لم يسبقه اليه العلماء المتخصصون.وﻻ يتحول ما توصل اليه المفكر الى حقيقة علمية اﻻ بعد أن يثبت العلماء المتخصصون صحة ما توصل اليه بتفكيره.المفكر إذن ﻻ يتحول الى عالم لمجرد أنه أضاف شيئاالى علم ما ليس محيطا به وﻻ متخصصا فيه.وفي علوم الدين مثلا سنجد أن تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي للقرآن الكريم واستفصائه للمعاني اللفظ في أية ما بالسياقات اﻷخرى التي وردت فيها ومعانيها فيها ليعطي المعني للفظ الوارد في اﻵية دﻻلته ، يكون في هذه الحالة عالما ومفكرا في ذات الوقت. نفس الشيء ينطبق على الدكتور أحمد الريسوني العالم المغربي اﻷصولي أي المتخصص في مقاصد الشريعة عندما ينتج أفكارا غير مسبوقة ويستنبطها مما جاء في كتاب الله ويعد ما استنبطه مما يطلق عليه باللطائف.ولايتسع المجال هنا لذكر كل علماء الدين المفكرين فيه.المفكر الغير عالم إذن مثقف لديه اطلاع على عدد من العلوم اﻹنسانية دون أن يكون متخصصا فيها ، وتستوقفه خلال اطلاعاته قضية ما ﻻيجد ما قيل فيها مقنعا لعقله فيستغرق في تأملات وتفكير عميق في أمرها بحيث ﻻ يغادرها اﻻ بعد أن يصل فيها إلى أمر ربما لم يسبقه اليه أحد من قبل فيكون بذلك في عداد المفكرين دون أن يكون بالضرورة عالما في العلم الذي يعد ما توصل اليه بمثابة أضافة جديدة فيه.ولذا كانت الفلسفة سابقة للعلم ومنيرة الطريق اليه.إذ يتوصل الفيلسوف الى فكرة ما يبرهن على صحتها بالمنطق ولكن برهانه عليها ﻻ يعني أنها صحيحة حتى يتناولها العلماء ويجرون عليها تجارب علمية تثبت صحة ما توصل اليه بعقله أو خطأ أو قصور ما توصل اليه.
ويمكن القول بأن المعرفة التي ينتجها المفكر تأتيه عن طريق الحدس .وثمة أقوال شتي في بيان ماهو الحدس ؟، وما يجمع بينها أنه إلهام مفاجئ بحل فيقدم تفسيرا لأمر معقد ،وجد الملهم صعوبة من قبل في الوصول اليه.أو يقدم فهما معقوﻻ ﻷمر استعصي من قبل على اﻷفهام. وقد فهم الكثيرون من ذلك أنه معرفة غير موجودة في الكتب ، وهذا صحيح، ولكن صحته لا تكتمل دون ذكر أنه أيضا من ثمار الثقافة المستمدة من الكتب ،ولولاها ماكان بالأمكان تحصيل تلك المعرفة الجديدة عن طريق الحدس.وهنا يمكن تعريف الحدس بأنه اللحظة التي يتمكن فيها العقل بعد طول عناء في التفكير من ترتيب مالديه من المعرفة ترتيبا منطقيا،بعد أن كانت مبعثرة أو مشوشةفي الذاكرة، لتوليد معرفة جديدة منها.وقد تتولد من معلومات بسيطة يلاحظ فيها المفكر شيئا غير منطقي فيها، لم يلحظه أحد من قبل أو يوليه اهتماما، فتستثير عقله وتحفزه على التفكير فيها.

أمثلة عن التفكير في اللامفكر فيه:
سأضرب هنا مثلا من علم البيولوجيا. ففي المدارس الثانوية يدرس أن اﻻخصاب للبويضة يتم نتيجة وصول حيمن ، أي حيوان منوى ،يصل قبل غيره اليها فيخصبها. هذه معلومة وإن كانت علمية تعد ضمن الثقافة أو المعلومات العامة وﻻ تجعل ممن يعرفها ، أي طالب الثانوي ، عالما بيولوجيا.وقد يأتي حين من الدهر على من يملك تلك المعلومة فيفكر فيهاويأبى عقله أن يعتبرها حقيقة علمية رغم أن العلماء المتخصصين في البيولوجيا يقولون بها. سبب اﻻعتراض هو تساؤﻻت حول ما الحاجة أن تحتوى النطفة الواحدة ملايين الحيامن طالما واحدا فيها يكفي ؟ وأيضامالذي يمنع أن يصل ألف حيمن في وقت واحد للبويضة فكيف يتم تخصيبها من واحد منها فقد من ضمن اﻷلف؟..إذن ﻻ بد أن كل هذه الحيامن رغم أن بها نفس العدد من الجينات يختلف كل منها عن اﻵخر فيما يتعلق بالجينات التي يحقق تكاملا مع البويضة، وأن البويضة تنتقي منها فقط ما يحقق هذا التكامل. وقد يشبه هذا نظرية الفوضي في النظم الحرارية .

هنا يصل بعقله وليس نتيجة تجارب علمية في المختبرات وهو غير مؤهل ﻹجرائها لأنه ليس عالما متخصصا بأن ترتيب الجينات في الحيامن يأخذ صفة العشوائية وﻻ يوجد منها ما يتكامل مع جينات البويضة سوى القليل منها بالصدفة.وعندما يصل ألف حيمن أو أكثر الى البويضة في قناة غالوب فإن البويضة ﻻ تقبل منها سوى واحدا فقط وترفض الباقي.وحتي أذا تمت العملية بنجاح على هذا النحو فإن تعاطي اﻷم الى أدوية معينة أو مسكرات أو أصبابتها بأمراض معينة قد تتسبب في تشوية تلك الجينات ويولد الطفل مشوهاأو لديه نقص في أحد الحواس.ويقر علم الوراثة بما يعرف فيه باختلال الصيغة الصبغية (بالإنجليزية: Aneuploidy‏) وهي الحالة التي فيها يكون عدد الصبغيات غير طبيعي نسبة إلى زيادة أو نقصان في عددها أيهي الحالة التي تخص الصبغيات عندما يكون عددها ليس من مضاعفات عدد صبغيات خلايا الأمشاج.وقد ينشأ هذا اﻻختلال من تكون كروموم جديد من خلال كسر وانصهار اثنين من الكروموزومات المختلفة.

في نفس العلم سنجد أن علماء الوراثة يجمعون على أنه اذا كان ممكنا أن ينتقل الى الطقل استعدادا لمرض ما بالوراثة ، فإنه ﻻ علاقة بالوراثة باستقامة أو انحراف سلوك الطقل عندما يكبر.ولكن أليس ممكنا إن تعرض مخ الطقل مثلا لتشوهات وهو جنين أن يؤثر ذلك على انحراف سلوكه مستقبلا؟..
هنا يسترعي انتباه المفكر ، الذي هو ليس عالما بيولوجياوإنما يتمتع بثقافة واسعة في ميادين علمية متعددة ، ما ورد ذكرة في القرآن الكريم من قصة النبي موسى مع العبد الصالح التي وردت في سورة الكهف.قال تعالى ::فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً" الكهف ءاية74 .ثم فسر العبد الصالح سبب قتله الغلام فقال الله تعالى على لسانه:"وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا*فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا".إذا فاﻷمر هنا ليس تخليصا للأبوين من ولد لهما قد يشغلهما عن عبادتهما وإنما استبدال ولد غير زكي سيرهقهما طغيانا منه وكفرا بأخر زكي سيكون خيرا منه زكاة وأقرب رحما..الفرق بين الولدين وهما من نفس اﻷبوين ﻻ يتعلق هنا بالوراثة عنهما وأنما يتعلق بخلل أصاب الولد اﻷول جعل نفسه ليس زكية بحيث يتوازن فيها الفجور والتقوى مثل باقي النفوس العادية، وفق قوله تعالي : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها، وإنما تسبب خللها في أن تكون نوازغ الفجور فيها منذ البدء أكثر من التقوى ، مما يجعل صاحبها ﻻيرجي أو ينتظر منه سوى الشر..

ويمكن أيضا أن يستنتج من أن النفس البشرية في فطرتها تحمل الفجور والتقوى من أن اﻹسلام ليس دين الوسطية وأنما هو دين يتجاوز الوسطية دون أن يخل ذلك بطبيعته كدين يعتمد على اﻻعتدال والعدل ، ومن هذا يستخلص أيضا نظرية : اﻹخلال اﻻيجابي بالتوازنات والتي يمكن تطبيقها في اﻻقتصاد وفي علوم انسانية أخرى.

وهذا الذي يصل اليه المفكر هنا ﻻ يمكن اعتباره من العلم وإنما يفتح الطريق أمام البحث العلمي للعلماء المتخصصين ﻹثبات صحته ، فإن أثبتوها صار علما.

مثال آخر من علم التفسير فعلى مدى أربعة عشر قرنا كان علماء الدين يقرؤون في سورة البقرة قوله تعالى : "حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى " فيقولون قال فلان بأنها صلاة الفجر وقال فلان بأنها صلاة العصر وقال فلان بأنها صلاة المغرب وتركوا صلاة العشاء وحدهاهي التي لم تعتبر الصلاة الوسطى. لم يسترعي انتباه عالم بأن تعدد اﻷقوال في هذا الشأن يستدعي البحث عن أيهما أصدق فيلا أو أنها جميعها قد تكون خاطئة.وﻷن المفسرين اعتادوا على تفسير كل أية بمغزل عن السياق الذي وردت فيه فلم ينتبه أحد منهم الى السياق الذي جاءت فيه اﻵية والذي قد يقوده الى تفسير أقرب الى الصحة ويقبله السياق والعقل.وعندما يستوقف اﻷمر مسلم ماثم ينتبه الى السياق فيجده قبل اﻵية وبعدها يتحدث عن الزواج والطلاق وما قد يترتب على الطلاق من الواجبات ، واذا كانت اﻻية تقصد أحدى الصلوات المفروضة فيعد وجودها في مثل هذا السياق شاذا وبالتالي فهي ﻻ تعني قطعا أي من الصلوات الخمس المفروضة وأنما معنى أخر خفيا.ثم يبحث عن معني الصلاة في القرآن فيجد أنها تأخذ معان تتجاوز معني الصلوات المفروضة ، هنا يستقر رأيه على أن المقصود هنا هو صلة الرحم التي قد يتسبب الطلاق في قطعها بيما يريد الله أن تظل موصولة بين المؤمنين ﻻ يؤثر فيها حدث طارئ.

وقد تستوقف المفكر المسلم سورة صغيرة مثل سورة الكوثر ويقرأ ما ذكره المفسرون للفط الكوثر ، فيراهم تارة يقولون بأنه نهر في الجنة، وتارة يقولون بأن المفصود بها ابنته فاطمة الزهراء أو نسله منها ﻷنها الوحيدة التي كان لها سلالة من بناته اعتمادا على أن اﻷبتر الذي ورد في نهاية اﻵية الثالثة واﻷخيرة في السورة هو من ﻻ عقب له ، فلاتقنعه هذه التفاسير.وهو أذ ﻻيمانع في أن بكون الكوثر نهر في الجنة لورود أحاديث لرسول الله في شأنه، الا أنه ﻻيراه المقصود هنا، ويتأمل في اﻵيات الثلاث بالسورة وهي : إن أعطيناك الكوثر، فسل لربك وانحر،إن شانئك هو اﻷبتر. ويأخذ في اعتباره أنها مكية اعتمادا على سبب نزولها المتواتر ، وأنها نزلت على أثر وفاة ابن رسول الله عبدالله أو أبنه القاسم وشتم رجل له من قريش يدعى العاس بن وائل ، ويكون المقصود هنا بصل لربك وانحر ليس ذبح اﻷضحية على إثر عيد اﻷضحى كما قال بذلك المفسرون أيضا.هنا يستخلص أن المقصود بالكوثر هو كثرة اﻷتباع بينما من شتمه وعايره بأنه ﻻولد له سيكون هو المقطوع الذي لن يتبعه أحد.والمقصود هنا كل من شتمه من كفار قريش وليس الغاص بن وائل وحده. وصناديد قريش الذين آذوا النبي وقتلوا في غزوة بدر أو غيرها من الغزوات لم يعد لهم ولي وﻻنصير حين فتح مكة وأتباع الرسول اليوم يكاد يزيد عددهم عن المليار ونصف المليار مسلم.فهي أذن بشارة مستقبلية للنبي وفي مقابلها على النبي أن يصلى لله ويذبح ذبيحة يظعم بها أتباعه القليلين وقتها مثلما يولم أحد اليوم شكرا على نعمة أنعم الله بها عليه. وقد يأبي عقل المفكر أن يكون في كتاب الله آيات ناسخة ﻷخرى رغم كثرة أقوال الفقهاء في هذا الشأن ، فيفكر مليا في تلك اﻵيات التي استشهدوا بها فيتبين له بأن كل آية منها تناقش قضية مختلفة في نفس الموضوع وبالتالي الحكم في كل منهما واجب النقاذ وليس فيهما ناسخ أو منسوخ ، وﻻ يشعر بالراحة الا عند الوصول الى مثل هذه النتيجة التي يقبلها عقله ويظمئن بها قلبه.ونجد أن من سمات المفكر في هذه اﻷمثلة أنه متحرر من أي قيود في تفكيره وفي تأملاته بحثا عن الحقيقة، ﻷنه لو تقيد بما قاله اﻵخرون لن يكون بمقدوره سوى اعادة انتاج أقوالهم ولن يأتي بجديد.وفي نفس الوقت فإن مخالفته للسابقين عليه ليس فيها ابتداع في الدين وﻻإضافة فيه وانما زيادة فهم له فيها تزكية له من أي شائبة الحقها به اﻷقدمون .

هنا يمكن احتساب صاحب هذا الرأي الغير مسبوق مفكرا وليس عالما متخصصا في الدين مهما بلغ قدر اطلاعه عليه وتفهمه له.وأما لم نعتبره مجرد مفكر ﻷنه لم يصل الى ما أعلنه من رأي اﻻ بعد تفكير عميق فيه ودراسته من جميع جوانبه.وعموما فإن المسلم ﻻ يكون مسلما حقا مالم يكن متفقها في دينه ، وعارفا به ، وبمافي كتاب الله من أحكام وقيم ملزم باتباعها وتمثلها في سلوكه ومعاملاته.وبصفة عامة فإن المفكر ، رغم أن حظة قليل من العلم ، يفكر غالبا فيما أغفل التفكير فيه العلماء ، وهو بالتالى يبدع جديدا يضيفه الى معارفه.وبغير التفكير ﻻ يمكن الوصول الى الحقيقة ،وقد قرأت عبارة منسوبة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله يقول فيها:"أنا لا أخشى على الإنسان الذي يفكر وإن ضلّ , لأنه سيعود إلى الحق .. ولكني أخشى على الإنسان الذي لا يفكر وإن اهتدى , لإنه سيكون كالقشة في مهب الريح " .

تعاليم بودا وطلب المعرفة عن طريق التأمل العميق:
ويستخدم المفكر في انتاج فكره آلية التأمل العميق.والتأمل العميق هو أحد وصايا جوتاما بودا لكهنة بنارس ، والتي يقول فيها:الطريق الوسط الّذي يمكّن من الرؤية والمعرفة، ويقود إلى السلام والحكمة واليقظة والنيرفانا. إنّه الطريق الضيّق النبيل. أي الفهم الصائب والفكر الصائب والكلام الصائب والعمل الصائب والسلوك الصائب والجهد الصائب والانتباه الصائب والتركيز الصائب. هذا هو، أيّها الرهبان، الطريق الوسط الّذي اكتشفه البوذا، والّذي يسمح بالرؤية والمعرفة، ويقود إلى السلام والحكمة واليقظة والنيرفانا.

وتعتمد الفلسفة البودية على طلب : الفضيلة والحكمة والتأمل ، ويمكن القول بأن المفكر ، بصرف النظر عن دينه ، وبدراية منه وبدون دراية، يطبق تعاليم بوذا ويتصف بأخلاقياته من التواضع وأنكار الذات وحب الخير والسعي لما يعرف في البوذية بالنيرفانا والتي قوامها :لإحسان، الإشفاق، التفكير الإيجابي، والرزانة.وجاء في تعاليم بوذا أيضا أن غاية الحياة هو اعتاق الروح من سلاسل الشهوة و حب الذات و السبيل إلى ذلك هو التأمل و القناعة و الزهد في أمور الدنيا و بذل الذات لمساعدة الآخرين و استئصال الأنانية في كل وجوهها وأن الشر الأعظم يتمثل الجهل و منه يصدر العذاب و الشقاء و أسهل طريقة لتحسين أحوال الحياة في الحاضر و المستقبل هي اقتباس المعرفة الحقيقية والتي تتوقف المعرفة على علم الطبيعة المنظورة و غير المنظورة أي الغيبيات و البحث في نفس الإنسان و استقصاء مصادر الأشياء الأولية التي هي أزلية مطلقةوتتطلع الى الخير اﻷعظم الذي صدرت عنه.

العلاقة بين البودية والتصوف :
ومن المرجح أن التصوف لدى المسلمين كان نتاجا لتسرب تعاليم وقيم الحضارات اﻷخرى التي احتك بها المسلمون في الهند وأفغانستان والصين من بودية وهندوسية وكونفشيوسية. ولذا أخذ المتصوفة المسلمون آلية التأمل العميق للحصول على العرفان ، أو المعرفة التي ﻻ توجد في كتب ومؤلقات العلماء وأنما تأتي نتيجة اﻹلهام الرباني من خلال التأمل العميق الذي يتطلب الصفاء النفسي والروحي الكامل خلالة.وفي ذلك ينقل عن أبي زيد البسطامي قوله:" أخذ الناس العلم من الأموات ونحن أخذنا العلم من حي لا يموت أبدا ، كلهم يقولون بالحق ، وإني أقول عن الحق ، فلا جرم أن ليس هناك شيء أصعب من متابعة العلم ، أي علم تعليم تعليم الظاهر " ولكن رغم ذلك فإن المعرفة سواء جاءت عن طريق النقل أو عن طريق العقل والتأمل العميق فإنها ﻻ تكون معرفة ﻷن فلان قال بها، وأنما ﻷنها قابلة للبرهنة على صحتها.وهنا يتساوى علم المتصوفة أو أهل الباطن مع أهل الظاهر، فإذا لم يستطع المتصوف البرهنة على صحة مقولته فهي ليس من المعرفة في شيئ ، بل هي أقرب الى الضلال منها الى الحق حتي تتم البرهنة على صحتها.وفي الواقع فإن المفكر المسلم يمكن أن يعد من المتصوفة في اتباعه مسلكهم في التوصل الى المعرفة.ولكنه ليس مثلهم في عدم ربطهم العرفان بالبرهان.وقد يختلف عن بعضهم أيضا في أن تأملاته تستفيد أيضا بثقافة واسعة يتوقر عليها في مجاﻻت معرفية متعددة ومرتبطة بها على نحو ما.وأغلب أفكار المتصوفة مجدودي الثقافة والعلم مشوشة وعير واضحة وﻻ تعد من الدين أو التدين في شئء، وقد اهتم بها المستشرقون واعتبروها رمزيات تحتاج الى علم السيمياء لفهمها، وهي تمثل بعد فك رموزها الحقائق الدينية للأسلام وليس المعاني الظاهرة في القرآن الكريم، وأن القرآن بذلك فيه تفسير باطني هو اﻷصح من التفسير الظاهري كما قال بذلك هؤﻻء المتصوفة ، وما لجؤوا لذلك اﻻ لتضليل المسلمين عن دينهم وأفساده لهم. وتبعهم في ذلك محمد أركون وتلامذته في سوريا وتونس ومصر ، ودارت حوله معظم مؤلفاتهم، وركزوا في كتاباتهم على ابن عربي وفتوحاته المكية المزعومة.

المفكر فيلسوفا:
وقد عبر قديما عن الفيلسوف والمفكر بالحكيم ووصف بأنه : "من ينظر بعين بصيرته قبل عين إبصاره , ويقيس الأمر وعواقبه ومدى محامده ومذامه .حيث تتأتى له الحكمة أولا من وهب الله له, إضافة لطول خبرته وحسن تقديره ونظره بعين البصيرة في الأمور وعدم الاغترار بظواهرها".ويحاول البعض أن يخلق فروقا وهمية بين المفكر والفيلسوف بمقارنة بين من وصفوا بالمفكرين وبين مشاهير الفلاسفة واهتمامات كل منهمابينما الفيلسوف ليس أكثر من مفكر ، والعبارة المشهورة لديكارت :"أنا أفكر، إذن أنا موجود" تشهد بذلك.ويقولون بأن الفيلسوف يفكر للعالم أجمع وأما المفكر فيفكر لنظاق جغرافي فيه ينتمي اليه غير صحيح ، كما أن القول بأن المفكر يفكر بغير منهج علمي يلتزم به في التفرقة بينه وبين العالم هو أيضا غير صحيح ، فالمفكر الحق أيضا له منهجه الذي يتبعه في تفكيره وتحليلاته.فعندما يقول المفكر بأنه في دراسته أو تفكيره لقضية ما يتناول أبعاد ثلاثة لها هي : المكان أي الجغرافيا، والزمان أي التاريخ ،واﻹنسان بكل ما يتعلق بثقافته أو يبحث في شأن من شئونه ،وخاصة اﻻنتروبولوجيا وعلم النفس والعقائد والتشريع . فلا يمكن في هذه الحالة القول بأن هذا المفكر يفتقر الى منهج في التفكير والبحث.وقد نجد لدى سواه مناهج أخرى يتبعونها. ويهتم المفكر كذلك بنفس الفضايا التي يهتم بها الفيلسوف ويستعمل مثله المنطق في البرهنة على صحة أفكاره، وقد يكون مطلعا أو غير مطلع على انتاج الفلاسفة الأقدمين أو المعاصرين له ، وما يختلف فيه عن الفلاسفة هو أنه لايستعمل المصطلحات التي استعملها الفلاسفة السابقون عليه، فهو منشئ لفكر جديد وليس مكملا لفكر آخرين ، وينفصل عن فكرهم إن كان على اطلاع عليه ، لكي يحقق حريته الفكرية بمعزل عنهم ، أي يستقيد منهم دون أن يتأثر بهم ويتبعهم ، وإنما قد يتقق معهم أو يخالفهم فيما ذهبوا اليه ..ويمكن وصف المفكر بأنه مثقف حريص على الحرية واﻻستقلالية واﻹبداع في مجال المعرفة وهو مهموم طول الوقت بمشاكل مجتمعه على كافة اﻷصعدة ويبحث لها عن حلول غير تقليدية تكون أكثر نجاعة.وهو بهذه الصفات ﻻبد أن يكون ثوريا، بمعني ساعيا لتحقيق تغيير في المجتمع لصالح جميع مكوناته، وتتحقق فيه القيم التي يؤمن بهامن حرية ومحبة وأمانة وصدق وأخلاص وعدل ...الخ. وهو ليس مثقفا عضويا بمفهوم أنطونيو جرامشي ولكنه في ذات الوقت مرتبطا عضويا بمجتمعه ومشغوﻻ أو مهموما به طول الوقت.ولتجرده منالذاتية فهو ﻻ يسعي لزعامة أو شهرة أو سلطة، وأنما يكتفي بالتوجيه وأنتاج ماينفع الناس.

القيم اﻵسيوية:
ويعزي التقدم العلمي في اليابان لممارستهم التأمل العميق وفق ديانتهم الطاوية التي تعد ديانة وضعية عبارة عن مزيج من تعاليم بوذا وكونفيشيوس.كما أن خلايا التفكير أو Thinking Tanks التي انتشرت مؤخرا في الغرب خاصة في الوﻻيات المتحدة استمدت من الثقافة اليابانية وفي محاولة لتقليدها ولكنها تفتقر الى سمتها الروحية وأيضا اﻻلتزام اﻷخلاقي.ويعزي الغربيون التقدم اﻻقتصادي الذي حققته اليابان أوﻻ ثم تبعتها فيه باقي دول شرق آسيا الى ما يسمونه بالفيم اﻷسيوية، ولكن الكبر والغرور يمنعهم من اﻷخذ بها،وتتمثل هذه القيم في : النظام والانضباط والعمل الجاد والترابط الأسرى والمحبة والحشمة والعمل الجماعي والتواضع والتكافل والتكامل وطلب المعرفة والتسامح والتقشف أو ضبط اﻻستهلاك وعدم اﻹفراط فيه.ومعظمها مأخوذ من تعاليم كونفيشيوس وبعضها أخذ عن بودا.ومن حكم كونفشيوس قوله :لو قال كل إنسان ما يفكر فيه بصدق فإن الحوار بين البشر يصبح قصيراً جداً.سلح عقلك بالعلم خير من أن تزين جسدك بالجواهر.ليس من أغراك بالعسل حبيباً، بل من نصحك بالصدق عزيزاً.العقل كالمعدة المهم ما تهضمه لا ما تبتلعه.ليست العظمة في ألا تسقط أبداً بل في أن تسقط ثم تنهض من جديد.ومذهبه يقوم على الحب - حب الناس وحسن معاملتهم والرقة في الحديث والأدب في الخطاب. ونظافة اليد واللسان. وأيضاً يقوم مذهبه على احترام الأكبر سناً والأكبر مقاماً، وعلى تقديس الأسرة وعلى طاعة الصغير للكبير وطاعة المرأة لزوجها. ولكنه في نفس الوقت يكره الطغيان والاستبداد. وهو يؤمن بأن الحكومة إنما أنشئت لخدمة الشعب وليس العكس. وأن الحاكم يجب أن يكون عتد قيم أخلاقية ومثل عليا. ومن الحكم التي اتخذها كونفوشيوس قاعدة لسلوكه تلك الحكمة القديمة التي تقول : " أحب لغيرك ما تحبه لنفسك ".وفق ماجاء في الويكيبديا عنه.
ويمكن القول بأن هذه القيم تعتمد على ما أسميه بفلسفة اﻷسرة ومستمدة منها وذات صلة وثيقة بما يعبر عنه في اﻷسلام بصلة الرحم بمفهومها الواسع ،ويطلق عليها مفكر ياباني اسم : المشاعر العميقة،وكل القيم سالفة الذكر مما يدعو اليه اﻹسلام .ولذا تعد اﻷقرب الى قيم الدين اﻹسلامي وتعاليمه من قيم الحضارة اﻷوروبية وتداعياتهابما يعرف بالحداثة اﻷوروبية،والتي بدأ فلاسفة الغرب يتطلعون الى ما بعدها ، أو ما يسمونه :مابعد الحداثة،وتحاول الحد من نزعات الفردانية والمادية المفرطة التي أفرزتها الثورة الصناعية اﻷوروبية. بينما مازال المتغربون لدينا يتعلقون بالحداثة التي هجرها الغرب نفسه.والدليل على تشابه القيم اﻵسيوية مع القيم اﻹسلامية هو ما نجده في ماليزيا اﻵن بين المسلمين واتباع الديانات اﻵسيوية من هندوسية وبوذية وكونفوشيوسية، حيث يتبني الجميع قيما واحدة ﻻتستطيع أن تفرق بين ماهو اسلامي منها وماهو مأخوذ من تلك الديانات.

وعموما لم تكن تلك العقائد الدينية لدى الشعوب غير المسلمة وانفتاح المسلمين عليها دائما ايجابية ، فقد استعان بها أصحاب الشيع والملل في وضع عقائد مستوحاة منها مزقت وحدة اﻷمة وكان أغلبها فيه مخالفة للعقيدة اﻹسلامية، وتم فيها تسخير الدين لتحقيق أهداف سياسية أو عنصرية محضة تخالف الدين الخالص كما هو عليه في القرآن الكريم والسنة المشرفة وﻻيربطها بها سوى خيوط واهنة .

إن اﻷمثلة التي ضربتها ضربتها من الخبرة الذاتية وتعاملى مع بعض ما عرض لي وفكرت فيه لتوضيح الفكرة المطروحة وبيان الفرق بين العالم فقط والعالم المفكر ، والمفكر الذي ليس بالضرورة عالما ولكنه في ذات الوقت يخدم العلم ، ويضيف اليه ما قد ﻻيضيفه المتخصصون فيه رغم أنه ليس من أهله.وبالطبع إذا كان المفكر عالما أيضا كان ما يضيفه الى العلم ويسهم في تقدمه أكبر مما يضيفه المفكر غير العالم.واﻷمثلة في هذا الشأن عديدة،سواء من تاريخ العلوم أو من الخبرة الذاتية، وقد اكتفيت بما أوردته هناﻹيضاح الفكرة.

قوزي منصور

Saturday, October 8, 2011

اﻹسلام وعلاقته بالحياة العامة والسياسة

المارقون عن الاسلام أو الكافرون به يريدون ابعاد اﻻسلام علن الحياة العامة لكي يمارسون فجورهم وفسوقهم في الدنيا دون رقيب عليهم أو حسيب ، ويطالبون بالفصل بين الدين والسياسة ليسﻷنهما مجالان تداولان مختلفان ولكن خوقا أن يحتكر المتدينون السلطة ومغانمها المادية والرمزية وحرمانهم منها..في نفس الوقت نجد من المؤمنين الذين ﻻيهتمون ﻻ بالسياسة وﻻ بمغانمها من يطالب بالتمييز بين مجالي الدين والسياسة حرصا على سلامة الدين وليس السياسة. فالسياسة يجب أن تلتزم بأحكام الدين طالما من يقومون عليها من المتدينين ولكن في نفس الوقت ﻻ يجب اتخاذ الدين مطية للحصول على منافعها الدنيوية سواء من قبل المسلمين أومن غيرهم.

سأحاول هنا بأيجاز قدر المستطاع أنه ﻻ يمكن فسل الدين عن حياة المجتمع المتدين. دين اﻷسلام هو كل ما اشتمل عليه القرآن الكريم الكتاب المنزل من رب العالمين ، ويضاف الهي ما ورد في السنة المطهرة توضيحا أو تفصيلا ﻷحكامه وخاصة المناسك من صلاة وصيام وزكاة وحج. وما وافق في السنة القولية والفعلية القرآن الكريم فهو من الدين ، وما لم يوافقه أو يزيد عليه أحكاما فهو ليس من الدين وهو أحاديث موضوعة ومكذوبة أو نالها تحريف ومردودة على أصحابها ، فالرسول من خلق الله ورسول خلت من قبله الرسل ، عاش مثلهم ومات مثلهم وﻻ يعقل أن ينسخ المخلوق حكما لخالقه أو يزايد عليه ويضيف لما حكم به أحكاما من قبله.

ماهو الدين الذي جاء به القرآن ، وما معني الدين؟ ..الدين هو المنهج الذي يتبعه الخلق في حياتهم على اﻷرض ويرضى عنه الله سبحانه وتعالي ، وقد تحدد المنهج بتعاليم وأحكام وقيم يلتزم بها الناس .ولم ترد اﻵخرة في القرآن الكريم اﻻ لتذكير الناس بأنهم سيثابون إن التزموا بهذا المنهج القويم والذي عبر عنه أيضا بالصراط المستقيم وأحسنوا في الدنيا وأنهم سيعاقبون في اﻵخرة إن ضلوا السبيل وأساءوا وظلموا عوض أن يلتزموا بالعدل واﻹحسان. وعندما نجد القرآن الكريم يحرم على اﻻنسان أكل الميتة ولحم الخنزير والدم والموؤدة والنطيحة والمتردية وما أكل السبع منه ويحرم عليه شرب الخمر ، ونجده كذلك يحرم الربا والغش والتطفيف والغل وجعل المال دولة في يد أقلية في المجتمع دون باقيه ويحرم كنز الذهب والفضة ، ويحدد علاقة المرء بزوجه وبنيه وذوي رحمه وأقاربه وجيرانه وأهل مجتمعه وأمته ، وينظم الميراث وحقوق المرأة واليتامي والفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وغيرهم...فكيف إذن يمكن القول بأن الاسلام يمكن عزله عن الحياة العامة وقد تدخل في كل جوانبها وشؤونها منظما لها لخير اﻻنسان ؟..وكيف يمكن عزل الدين عن مكارم اﻷخلاق التي يدعو اليها القرآن؟..بل إن القول بإن اﻹسلام هو دين العبادات وقصر تلك العبادات في المناسك رغم أنها في اﻷسلام تتجاوزها الى ماﻻ حد له وﻻ حصر من أفعال الخير التي تعد كلها من اﻹحسان ومن العبادات وكمال الدين ، أو حصر الشريعة في الحدود وهي تشمل كل مناحي الحياة الدنيا...هذه اﻷقوال فيها افتئات على الدين وكذب وافتراء عليه.بل سنجد أيضا أن المناسك جاء ذكرها محدودا وموجزا وترك تفصيلها للسنة النبوية واتخذت الألفاظ الدالة عليها مثل الصلاة والزكاة والصيام والحج معان في اﻻستعمال القرأني لها تتجاوز معني المناسك فصارت الصلاة تشمل صلة الرحم وكل الصلات اﻻجتماعية واﻹحسان فيها ولهذا قلت بإن الصلاة الوسطي هي صلة الرحم اعتمادا على السياق الواردة فيه مخالفا بذلك كل ما قاله الفقهاء في شأنها على مدى أربعة عشر قرنا لأنه إذا فهم اللفظ على غير ما يقتضيه السياق حملت النصوص ما لا تحتمل من المعاني، ورتبت عليها النتائج الخاطئة، .وجاءت الزكاة أيضا بمعني تزكية النفس إذ قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وجاء الصيام بمعني الصيام عن الكلام عندما يكون الصرر منه أكثر من نفعه مثل قول مريم : إني نذرت للرحمن صوما أﻻ أكلم اليوم أنسيا، وجاء الحج بمعني يتجاوز الفريضة بشمل التوجه لله الدائم وذكره والتفكر في نعمه وآﻻئه وآياته.والعبادة في الدين ﻻ تنحصر في المناسك وإنما لها معني عاما كما يقول ابن تيمية، وهو معنى "جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة" لكنه ويقول أيضا إنما :الأصل في العبادات أن لا يشرع فيها إلا ما شرعه الله، والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله . والدين بصفته منهاجا للحياة الدنيوية يشمل العبادات والعادات التي تتفق معها والتي يعبر عنها أيضا بالمعروف.
وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم"تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة وتميط الأَذى عنِ الطريق صدقة" وكل هذه الصدقات من العبادات وما يماثلها مما تقتضيه التقوى واﻹحسان منها أيضا ومجموعها من الدين وﻻ تنفصل عنه.ويقول العز بن عبد السلام : " مصالح الآخرة وأسبابها ومفاسدها فلا تعرف إلا بالشرع، فإن خفي منها شيء طلب من أدلة الشرع، وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس المعتبر والاستدلال الصحيح. وأما مصالح الدنيا وأسبابها ومفاسدها، فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته" وهو يفصل بذلك بين ما هو ديني يقصد به اﻵخرة وبين ما هو دنيوي يحقق للناس مصالحهم في الدنيا،على أن يلتزم طلبهم للمصالح والمنفعة في الدنيا بما أمر به الدين أو ما نهي عنه، ويدخل في ذلك السياسة ، فهي عمل يتعلق بالناس بمصالح الناس في الدنيا وﻻ دخل للدين به اﻻ في عدم تعارضه مع اﻻيمان.وشمولية الدين اﻹسلامي ﻻ تمنع عزل السياسة عنه باعتبارها عمل بشري يخضع لما يبدعه العقل البشري وغير مستمد من القرآن أو السنة مع خضوعه ﻷحكامهما بعدم مخالفته لها. فثمة تمييز بينهما ﻻيمنع من وجود تواصل نسبي بحيث ﻻ يندمجان معا ،وﻻ يعني فصلا مطلقا للدين عن السياسة يجرد السياسة من اﻻلتزام بأحكام وقيم الدين.وإذ ينص الدين على الوفاء بالتعهدات المبرمة بين المسلمين وغيرهم ، فالتعهدات تدخل ضمن السياسة ولكنها هنا يقتصر الدين فيها على اﻹلتزام بحكمه.وتلتزم السياسة بقيم الدين اﻷخلاقية فلايجوز للسياسي الكذب والخداع وإخفاء الحقائق أو التجسس على المسلمين، وهي قيم قد تلتزم بها السياسة لغير المسلمين أيضا، وكم من وزير أجبر على اﻻستقالة أو أقيل ﻷنه كذب على الرأي العام وتمت اﻻطاحة بنيكسون فيما عرف بفضيحة ووتر جيت عندما ثبت تجسسه على خصومه السياسيين.
اﻹسلام هنا إذن يختلف عن كل اﻷديان اﻷخرى ، وﻻيمكن اخضاعه لما خضعت له ﻷنه ليس من جنسها .

نأتي للقول بالفصل بين الدين والسياسة والقول بالتمييز بينهما.
التمييز بين الدين والسياسة يعني أن يمارس المسلم المتدين الملتزم بدينه بين دينه وبين السياسة التي يمارسها، أي ﻻ يكون مسلما متدينا فيها وهو مستحيل عقلا وعمليا اﻻ أذا كان مصابا بازدواح الشخصية علما بأن مرض ازدواج الشخصية ذاته مرضا وهميا ﻻ وجود له.ولكن القول الصحيح هو التمييز بين المجالين فليس معني أن اﻹسلام ينظم كافة شئون الحياة والسياسة تدخل ضمنها أن يتم الخلط بين السياسة والدين فتطلب السياسة عن طريق الدين أو يطلب الدين عن طريق السياسة. ويأتي الخلط من عدم معرفة ما هي السياسة ، فالسياسة ليست مجرد انتخابات وصراع على مقاعد في البرلمان وإنما السياسة هي كيفية تدبير شئون الناس والقرأن كمستودع للدين يحدد قيما وأحكاما ويترك العمل بها ﻻ جتهاد المسلمين وقق احتياجات زمانهم وتطور مجتمعاتهم وتقدمها العلمي والحضاري. اﻻجتهاد البشري في تطبيق أحكام الدين لايمكن اعتباره من الدين وإنما كل ما يمكن قوله أنه ملتزم بالدين فقط. ﻻ يوجد في اﻷسلام نظاما اقتصاديا وكل ما فيه أحكام يجب أن يلتزم بها اﻻقتصاد مثل العدل واﻹحسان وعدم اﻻستغلال في التعامل بالربا وعدم التطفيف في الكيل والميزان أو الغش أو اﻻحتكار...الخ. يمكن لمسلم أن يستنبط نظرية اقتصادية تتفق مع اﻷصلام ويأتي من بعده من يطورها أو يعدلها لكي تتوافق مع تطور اﻻقتصاد أو الظروف الدولية التي تنظم التجارة وغيرها ﻷن دولة المسلمين ﻻ يمكنها أن تعيش في معزل عن سواها من الدول اﻷخرى..والسياسة أيضا تتعلق بنظام الحكم ومن ذلك أن يكون اﻷمر بين المسلمين شوري بينهم دون تحديد لكيفية أن تتم تلك الشورى وإنما تترك ﻻ جتهاد المسلمين وظروف زمانهم وقد يعتمدون الديموفراطية البرلمانية المعمول بها في الدول الغير مسلمة باعتبارها الوسيلة الممكنة لممارسة الشورى وقد يتم اختيار الديموقراطية التشاركية والتي صار التقدم في اﻹعلاميات يتيحها وإن لم تطبق بعد في دول العالم ولكن تتجه اليها المجتمعات بعد ثورة المعلوميات.

السياسة إذن علم من العلوم اﻹنسانية ، وهي تستحق أن يطلق عليها علم العلوم ﻷنها تعتمد على الكثير من العلوم مثل العلوم القانونية والجغرافيا والتاريخ وعلم اﻻجتماع وعلم اﻻقتصاد والعلوم العسكرية وخاصة في تحديد اﻷهداف اﻻستراتيجية للدولة والمجالات الجيوسياسية واﻻقتصادية لها باﻷضافة الى علوم مثل الفيزياء والكيميا والهندسة وغيرها التي يحتاجها التقدم في اﻻنتاج والتصنيع والزراعة باﻷضافة الى علوم التربية والصحة لتكوين مجتمع صحيح بدنيا وعفليا...هذه العلوم كلها لم يعد يعرف عنها شيئا الذين اقتصرت دراساتهم ومعرفتهم على علوم اللغة والفقه فهم غير مؤهلين لممارسة السياسة لمحدودية معارفهم وجهلهم لها وﻻ يكفي أيضا أن يكون طالب السياسة متدينا حتي يكون مؤهلا لممارستها..بل عندما نرى هؤﻻء الفقهاء وهم يتطلعون للسلطة ﻻ يعرفون ماذا يصنعون بها وتنحصر اهتماماتهم في ملابس النساء وفي جواز اﻻختلاط بهن من عدمه ، فأن هذه اﻻهتمامات والتي ﻻ يدخل ضمنها كيفية ادارة اقتصاد البلد للتخلص من الفقر والبطالة وتردي مستوى معيشة الجماهير وكيفية تحقيق العدالة واﻹحسان وفق أحكام الدين فإن ما يمكن قولهم
عنهم بأن وضعيتهم تستدعي الرثاء لهم وتجعل ممارستهم للسياسة باسم الدين فيه اضرار بسمعة الدين.
ويقول الدكتور سعد الدين العثماني في التمييز بين السياسة والدين :"إن تبني التمييز بين الدين والسياسة لا الفصل التام ولا الوصل إلى حد التماهي، هو الذي سيمنع من التنكر للإنجازات التي حققتها البشرية في مجال الفكر السياسي، ويمكن من الاستفادة من تطوراته، ويفسح المجال في نفس الوقت ليكون الدين معينا للقيم الأخلاقية والفكرية، بحيث يتم استصحاب هذه القيم في الممارسة السياسية استصحابا يثريها بالمعاني الإنسانية السامية، كما يمكن أن يبقى الدين -كما كان باستمرار طيلة تاريخنا القديم والحديث- محفزا للإصلاح السياسي، ومعالجة الظواهر السلبية في الحياة الإنسانية."

إن تموذج الحكم في السودان والذي يستمد مشروعية بقائه في السلطة من مقولة أنه يطبق شريعة اﻹسلام بمن فيه من عسكريين ومدنيين وبعد 21 عاما من الحكم لم يطبق شيئا من شريعة اﻹسلام وجمر اقتصاد البلد ووحدة ترابها وأشاع اﻻضطرابات المسلحة في كافبة ربوعها والحروب اﻷهلية التي ﻻ يفرغ من أحدها حتي يتورط في غيرها...هذا النموذج السيئ ،ناهيك عن نموذج طالبان السلفي المتخلف ، يكفي للمرء الحريص على سمعة دينة أن يرفض ممارسة السياسة باسم الدين ، وإن يطالب بالتمييز بينهما تمييزا ﻻ يعني الفصل التام بينهما الذي ﻻ يقبل اﻹسلام. وعلينا في نفس الوقت التمييز بين هؤىء الحريصين على دينهم بمن يقولون قوﻻ مشابها لقولهم ويصفون أنفسهم بالعلمانيين دون أدراك بأن العلمانية كما انتهت اليه في الغرب حاليا لم يتم فيها إنكار الدين بل ثمة دول أوروبية تعتمد العلمانية ومع ذلك تعبر عن هويتها بأنها كاثوليكية أو بروتوستانتية أو أنجيلكانية في دساتيرها، وﻻ يستطيع أحد أن ينكر دور الكنيسة الكاثوليكية في تخليص بولندا من الشيوغية وتغيير نظامها السياس عندما ساندت نقابة التضامن وليس فاليسيا. وأن العلمانية هي في واقعها الحالي علمانيات وليست كلها متطابقة في مفهومها.ولقد كان السائد في شروط انتخاب رئيس للوﻻيات المتحدة أن يكون أبيضا وأنجلوسكسوني وبروتوستانتي وهي الشروط التي تعبر عنها كلمة واسب والتي هي الحروف اﻷولي من تلك الشروط ولم يستثن من تلك الشروط في تاريخها سوى بول كيندي الذي كان كاثوليكيا ولعل ذلك كان من دواعي اغتياله وباراك أوباما أول ملون يحكم الوﻻيات المتحدة وﻻ ينتمي للأنجلو سكسون ،وهو بروتوستانتي الديانة ، وقد يكون آخر آخر رئيس ملون أيضا.والهوس الديني لدى جورج بوش اﻷبن ﻻيحتاج الى دليل.
ويعادي الدين أيضا بعض من يسمون أنفسهم بالليبراليين وهم يجهلون ما هي الليبرالية وﻻ يفرقون بين السياسية منها واﻻقتصادية وﻻ يمكن القول بأنهما يتعارضان مع اﻷصلام كليا . ومنهم من يعتبر نفسه حداثيا واﻹسلام ﻻيمنع أي مجتمع بأن يقوم بتحديث نفسه وصنع حداثته وفقا لقيمه ..وهؤﻻء الدين يطلقون على أنفسهم تلك اﻷوصاف مع جهلهم بمعاني المصطلحات وأنها تتغير من مجتمع الى أخر فيما تدل عليه ومن زمن الى ﻵخر ومن سياق استعملت فيه ، ويعلم الله أنهم من المارقين عن دينه المعادين له عداوة أشد من عداوة غير المنتسبين للأسلام وأنهم أنما يغطون ذلك بما يدعونه ويضللون به الناس .
فوزي منصور