Sunday, December 7, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى الجزء الثاني

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى
الجزء الثاني


مزالق الزعامات:
كان في دولة للمسلمين عالم صالح يترأس جمعية دينية ووجد جمعيات دينية أخرى في البلد قد ظهرت ، ولقناعته بأن الدين الواحد لا يجب أن تظهر فيه دعاوي مختلفة وتقول كل منها بأنها مستقاة من الكتاب والسنة ، أي من مصـدر واحد ،لا يجب أن يكون موضوع خلاف فيه أو اختلاف عليه ، فقد عزم على توحيد تلك الجمعيات. أو على الأقل الإتقاق معها على توزيع المهام بينها بحيث تقوم كل جمعية بما لا تقوم به الأخري حتي لا يختلف الناس في دينهم ، وقد وفقه الله مع العديد منها إلا واحدة استعصت عليه يتزعمها عالم أيضـا ، ويشهد تاريخه ومواقفه فيه بأنه رجل صدق وإخلاص في دعوته ، فقد رفض التوحيد ما لم يقترن بشرط أن يكون هو الزعيم الأوحد للجماعة الموحدة مدى حياته ،لأنه صاحب رسالة تتطلب أن يكون على رأس أي جماعة حتي تتحقق أهداف رسالته. ولا يقبل أن يترك الأمر للانتخاب فيجد نفسه مرؤوسا لمن هو أقل منه تقوى وعلم ونظر . فلا يتحقق الهدف الذي كرس حياته من أجل تحقيقه.

ثم أوقع هذا الرجل جماعته في مأزق بسبب رؤيا رآها ،مثل تلك التي سبق أن رآها وتوهم على إثرها بأنه الرجل الذي اختاره الله ليجدد دينه على رأس المائة عام ،واعتبر التمسك بها من قبيل الإيمان بالغيب، ولايعني الإيمان بالغيب أن كل من ألفي اليه أمر وهو نائم يعتبره من علم الغيب . قال تعالي :”قُل لاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاّ مَا شَآءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوَءُ إِنْ أَنَاْ إِلاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ” . (الأعراف : 188) ، وإذا كان الرسول لا يعلم الغيب ، فكيف بمن هم دونه منزلة عند الله أن يعلمه ؟. نعم قد يوحي الله لرجل أو إمرأة صالحة أمرا ، كما أوحي إلى أم موسي أن إلقيه في اليم ، ولكن ليس في ذلك إطلاع له على الغيب. وقد يأتيهما الملك في منامهما مبشرين ببشارة خيريطمئن بها قلب قلق ، كل ذلك وارد حقا ، ولكن لم يكن الحال كذلك وإنما تم تصـوره على هذا النحو والمبالغة فيه وإشاعته. وبدا كأنه عدوى جماعية ولوثة نفسية. وهو ما تأكد بعد أن لم يتحقق ما ظنوا أنه به يوعدون.

وجاء من أقصي المدينة رجل يسعى، والتقي بممثل الشيخ ،وعرض عليه خطة تنقذ الجماعة من المأزق الذي وقعت فيه، وقد يؤثر على مصداقيتها ،وينقذها من ورطتها ،ويحقق لها أهدافها خلال سنوات معدودة .بينما لا تستطيع بالمنهج الذي تتبعه أن تحقق هدفها في غير سنوات أكثر, وبتضحيات أكبر، وقد لا تستطيع. رفض الشيخ المقترح، ليس لأنه لا يحقق الهدف، وإنما لأن تحقيقه سيتم على يد رجل سواه :مجهول ليس له شهرته، وأقل منه علما .وأنه يفضل أن لا يتحقق الهدف إلا عن طريقة وبمنهجه الذي اختاره ويسميه "المنهاج النبوي "،حتي لو احتاج الأمر مائة عام.إذا ليس المهم عنده أن يتحقق للأمة المسلمة الهدف الذي أراده لها، والذي سماه بحكم الخلافة الراشدة ،بقدر أهمية ألا يشعر أتباعه بأن ثمة من في عباد الله من لديه خطة أو رؤية أكثر نجاعة مما لديه. وهذا لعمري ما يعرف في علم النفس بجنون العظمة أو البرانويا. وهذا من أحد معوقات تقدم الأمة المسلمة رغم توفر حسـن النية والإخلاص لدي الزعيم ، الذي غلب عليه حب الزعامة والوجاهة على إخلاصه لله الواحد دون أن يدرى بذلك أو ينتبه اليه.وهذا عموما لايقلل من شأنه أويقدح في صلاحه وصدقه وأخلاصه وعبادته وتقواه. ولا يمنع أن يكون من أهل الجنة إن شاء الله . وإنما هو تحليل للدافع حتي عند أهل الصـلاح أحيانا.والذي يجعلهم موقنون بصحة خيار قد لا يكون الأصوب والأنفع ، ولا يراجعونهم من يتبعونهم ، حتي لو كانوا غير مقتنعين ، حياء منهم ، أو يتبعونهم اتباع الإعمي للبصير ، أيا كان المنتهي.
وحب الزعامة والافتتان بها نزعة فردية إنسـانية لا تتعارض مع توحيد الفرد وإيمانه وعدله وإحسانه ولاتحول دون دخوله الجنة إن شاء الله إن زادت حسناته على سيئاته التي قد تقوده اليها هذه النزعة الفردية . وخير مثال لذلك في التاريخ الإسلامي هو واقعة الجمل التي قادت اليها هذه النزعة إثنين من الصحابة المبشرين بالجنة ، واستدرجا اليها أو ورطا فيها أم المؤمنين السيـدة عائشـة، أحب زوجات الرسول اليه ،وكان لديها دافعها الشخصي أيضا ، إذ كان في نفسها شيء من الخليفة علي بن إبي طالب رضي الله عنه. وموقف الاثنان المبشران بالجنة أيضا من اختيار الخليفة عثمان عوض اختيار على بن أبي طالب بعد وقاة عمر بن الخطاب.بينما الأرجح أنه إن كان عثمان الأكثر تعبدا فإن على كان الأصلح في شئون الحكم .

ولأن الله هو الذي خلق النفس وسواها وأعلم بها ولكي يحد من نزعاتها في مجتمع المسلمين شرع العمل الجماعي والشورى التي هي حكم الجماعة . وجعل من التوحيد والإيمان إفراد الله ورسوله بالقداسة والطاعة . ولكن الظروف التي نشأت فيها الدولة الإسلامية ووفاة النبي المبكرة قبل ترسيخها بعد أن أكمل تبليغ رسالة ربه ، لم تسمح تلك الظروف بمأسسة العمل الجماعي والشورى . ولايمكن اعتبار ما أثر عن استشارة ابوبكر وعمر لبعض خاصة الصحابة هو النموذج الأمثل للشوري. لأن الشورى تقتضي أن يعبر جميع المسلمين عن رغباتهم وإرادتهم الجماعية . والنظم الديموقراطية الحديثة في جوهرها هي صور متنوعة لتطبيق مبدأ الشورى الإسلامي لدي غير المسلمين . وفي ذات الوقت فإن الشورى تلك لم تطبق في تاريخ المسلمين ودولهم على الإطلاق ولم تطبق لدي غيرهم إلا في العصر الحديث . وكان المسلمون أولي بتطبيقها، ولكن ذلك لم يحدث.ووجب الآن أن يحدث.

مبادئ مثل الإيمان والاحـسان الجماعي والحكم الجماعي التي لم ينتبه لها المسلمون في تاريخهم أو يسعون لمأسستها ، بالإضافة إلى مبادئ مكملة لها مثل التكافل والعدالة الاجتماعية ووحدة الأمة والإمامة ، كان هدف الأسلام منها هو الحد من السلطة الفردية والنزعات الفردية وصهرها داخل الجماعة. وركز الإسلام على مفهوم الأسرة وصلة الرحم ليجعل من المسلمين أسرة واحدة ، والمسلمون في تلك الأسرة أخوة متحابين ومتضامنين ومتساوين في الحقوق والواجبات.أي تمت معالجة نزعة الزعامة والسيطرة والحد من سلبياتها.وإحـساس الزعيم بأن له أتباع يطيعونه فيما يأمرهم به ، ولا ينافشونه فيه أو يجادلونه بالحسني ، ويتوهمون أن طاعته لما ظهر من تقواه وحسن رأية ومواقفة التي لم يخش فيها سوى الله سبحانه وتعالي يزيد من إحسـاس الزعيم بذاته وحرصه على الزعامة أكثر من حرصه على أي شيء آخر. تفسير تلك الحالة يمكن أن يكون المرجع فيها علم النفس وليس الدين. والمشكلة هنا في الإتباع أكثر منها في الزعيم ذاته، لآنهم بطاعتهم العمياء له يتسببون في زيادة السلبيات والأضرار التي كان يمكن تفاديها.
والذي يجب الرجوع فيه إلى علم النفس أيضا ، هو الموقف من صحابة رسول الله ، فرغم أنهم أحبوا الله ورسوله وجاهدوا بالنفس والمال وتحملوا الأذي في سبيل نشر الدعوة ، وسعوا إلى مغفرة من الله ورضوانا بكل ما وسعهم ، كانوا مع ذلك حديثي عهد بالجاهلية وقيمها وأعرافها ومن الصعب أن يتم تغيير الأنفس في زمن وجيز . وبالتالي فإن تقديسهم إلى حد انكار أنه كان لكل منهم شوائب متخلفة عن الجاهلية هو بمثابة نفي لبشريتهم ، وهو ما يخالف المنطق والعقل والعلم . كان منهم من استطاع أن يتغلب على تلك الشوائب ويمحيها ، وبعضهم كان لديه الفليل منها ، ومنهم من كان لديه أكثر، أي كان ثمة تفاوت في هذا الأمر. ومن هذه الشوائب العصبية والغيرة وحب السلطة والزعامة وغير ذلك . ويؤيد هذه الحقيقة ما أثر عن أن الرسول غضب بوما من عمر بن الخطاب فقال له : إنك أمرئ مازال فيك بعض من آثار الجاهلية. فإذا كان هذا شأن عمر بن الخظاب فما بالك فيمن هم أدني منه درجة؟.

وبالنسبة لعمر ، رغم أنه مثال الحاكم العادل الزاهد ، ليس في التاريخ الاسلآمي ، وإنما في تاريخ الانسانية كلها ربما، فحتي في مفهومه للعدل وتطبيقه له في بعض الأمور ربما أخطأ الموقف الأكثر صحة وصوابا. مثال ذلك اعتقاده بأن العدل في أن يميز السابقين في الهجرة ، والذين تركوا خلفهم أهلهم وأموالهم وهاجروا حبا في الله ورسوله وجاهدوا في سبيل الدين بأنفسهم وأموالهم ، يجعلهم تاريخهم أحق بمعاملة مختلفة عن معاملة سواهم من حديثي العهد بالأسلام ، أو من كانت تضحياتهم أقل من تضحية المهاجرين بما في ذلك الأنصار الذين لم يغادروا بلدهم وأهليهم . واختلف مع ابوبكر في ذلك ، وكان موقف أبوبكر هو المساواة بين المسلمين، وأنفذ أبوبكر أمره ، وعندما تولي عمر الخلافة نفذ مالم يوافق عليه أبوبكر من قبل لآنه رآه عدلا. وهنا يكون أما أن أبوبكر أخطأ أو أن عمر هو الذي أخطأ . ولكن يمكن القول بأن عصبية عمر للمهاجرين ، والذي لم يكن راضيا عن حب الرسول للآنصار أكثر من حبه للمهاجرين في حياة الرسول هي التي حددت معني العدل لديه . ولو كان ثمة شورى ، وحكم الجماعة ، ربما انتصرت الجماعة لموقف أبوبكر وألزمت به عمر.

يختلف الدين عن السياسة ، بأن الدين ثابت والسياسة متغيرة بتغير النوازل والوقائع وإكراهات كل منهما،
بل قد تمنع هذه الإكراهات أحيانا التطبيق الصحيح للدين ، رغم إلتزام الحاكم إلتزاما كاملا به. ومن ذلك أن عمر قد أوقف العمل بحد السرقة في عام المجاعة. وهو في ظاهره مخالفة للدين وفي جوهره الفهم الصحيح للدين . وأوقف عمر العمل بزواج المتعة رغم أنه كان معمولا به قبله لأنه خشي من إشاعته بما يفسد المجتمع المسلم أو يلحق الأذي أو الطلم ببعض النساء، فحرمه من قبيل درء المفاسد.

والمنهج النبوي نوعان : منهج ديني يدخل ضمن الثوابت صالح لكل زمان ومكان ، ومنهج سياسي يندرج ضمن المتغيرات للتوافق مع احتياجات المجتمع المسلم ومتطبات الأحداث والوقائع ويختلف باختلاف الزمان والمكان تبعا لذلك. وهو ما يعني أن سياسة النبي في أمر لو امتد به العمر كان يمكن أن تتغير في نفس الأمر بسياسة مختلفة عن السياسة الأولي . بمعني أخر منهجه في الدين ملزم لأن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله . أما منهجه السياسي قغير ملزم لأحد لأنه ليس أكثر من تقدير شخصي مرتبط بظروف متغيرة ، وقابل لأن يتغير بتغيرها ، وهو أمر من أمور الدنيا والدين ، وأمور الدنيا أثر عن النبي قوله : أنتم أدرى بأمور دنياكم.

والتزام الخلفاء الراشدين بمنهج النبوة كان في الجانب الديني منها وليس في الجانب السياسي ، ولو كان ثمة منهاج نبوي قي السياسة ملزم لما كان ثمة اختلاف في سياسة عمر عن سياسة أبوبكر في توزيع الفيء الذي سبق الإشارة عليه ، فأبوبكر ساوي بين المسلمين فيه وعمر ميز المهاجرين حسب أسبقتيهم في الإسلام عن غيرهم.

ويوضح الأستاذ أحمد الريسوني ذلك قائلا: « الحديث يقول على منهج النبوة (يشير إلى حديث منسوب لرسول الله يقول فيه بأن الحكم بعده سيكون على منهج النبوة أربعون عاما ثم ينقلب إلي ملك عضوض) فالقضية قضية منهاج ، ثم الحديث لايعول عليه كثيرا ، هو في أقصى حالاته حديث حسن . والحديث الحسن قد يقبل في تحية المسجد وفي آداب الطعام وفي تفاصيل العبدات وجزئيات المعاملات ونحوها. أما أن تبني عليه التاريخ والخلافة ومستقبل الأمة فهذا أمر أنا أتردد فيه وأتحفظ عليه. لكن عموما الحديث يتكلم عن منهاج النبوة ، ليس هناك نظام للنبوة ، نظام سياسي معين ومفصل وغيره. ..هناك منهاج للنبوة : منهاج الاستقامة والإيمان والعبادة والعدل والإحسـان والرفق والأخلاق ونشر العقيدة والقيم الرفيعة كالكرامة والحرية والشورى ...هذا هو منهاج النبوة الصالح لكل زمان ومكان.»
ودليل ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يعلم علم اليقين انتقاله إلى الرفيق الأعلي في مرضه ، لم يحدد خليفة له ، وترك الأمر للمسلمين ،وعندما فرض عمر بن الخطاب أبوبكر الصديق خليفة ارسول الله في اجتماع السقيفة ، وقال للأنصـار منا الأمراء ومنكم الوزراء(ولم يتم تطبيق الشق الثاني من هذا المبدأ فيما بعد ، سواء في الخلافة الراشدة أو عندما تحولت إلى ملك عضوض ) ، لم يكن لذلك علاقة بالدين أو بمنهج نبوي.مزعوم .والنبي عندما لم يختر من يخلفه ، لم يفعل مثلما فعل أبوبكر عندما أحسن بدنو منيته فاختار عمر لخلافته. ودون إعمال مبدأ الشورى، لأن الظرف التاريخى وإكراهاته لم تكن تسمح بذلك ، وكان ذلك إما تقديرا منه بأنه الأصلح لها ، أو اعتبر ذلك ردا على موقف عمر في اجتماع السقيقة الذي فرض فيه عمر خلافتة لرسول الله ووافقه عليها الناس(.ولعله لو ترك لهم حرية الختيار لرشحوا لها أبي بكر ووافقوا عليه بأرادتهم بالإجماع،) أو للإثنين معا. وعندما تعرض عمر من بعده لنفس الموقف ، لم يتبع عمر ما سنه أبوبكر باختيار فرد ليخلفه ، ولم يترك الأمر لشورى المسلمين ، وإنما حدد خمسة من المهاجرين المبشرين بالحنة ليختاروا واحد منهم فاختار أغلبهم عثمان بن عفان .وتحول الحكم من بعد الخلفاء الراشدين الأربعة إلى ملك عضوض ليس على منهاج النبوة ، إن صح الجديث ، ولو أن التحول تم قبل اكتمال السنوات الأربعين، فإن هذا يعني بأن معاوية ومن خلفه من أسرته ، فيما عدا عمر بن عبد العزيز منهم ، لم يلتزموا بما أمر الله به من عدل وإحسان.

وفي الحقيقة كان إعمال الشورى بعد وفاة الرسول في اختيار الحاكم أو تسيير دفة الحكم مستحيلا ولذا أعطى الخلفاء الأولوية لاستقرار الدولة الناشئة وتثبيت الحكم فيها خاصة وهي تتجه نحو الفتوحات الإسلامية أو شرعت فيها فعلا.ولم تتحدد بعد الأمة المسلمة وحدود الدولة ، مع الافتقار أيضا إلى الأنظمة السياسية والإدارية لتسيير الدولة ، وهو ما تم اقتباسه بالتدريج من الفرس والرومان فيما بعد.
وكانت البيعة للخلفاء الراشدين تؤخذ من أهل المدينة وتعد ملزمة لباقي المسلمين في باقي أنحاء الدولة ، ولو كان الحكم في الإسلام لأهل المدينة وحدهم لكان الأنصـارالذين كان الرسول يعلن دائما أنهم أحب الناس إليه، وهم سكانها الأصليون والمهاجرون ضيوف عليهم ، أولي بالحكم من المهاجرين . ولكنه وضع أملاه الظرف التاريخي وإكراهاته وليس له أدني علاقة بالدين . ولو أنه تم إضفاء المشروعية على بعض جزئياته بنسبة أحاديث للرسول مشكوك في صحتها تقول بوجوب أن يكون الحاكم عربيا قرشيا. وثمة حديث الغدير الذي يتمسك به الشيعة يقول بضرورة أن يكون من أهل البيت وسلالتهم.
قول الصحافي المصرى عبد الحليم قنديل (القدس العربي 23سبتمبر 2008)"' دولة المدينة '، وهى دولة قادها نبى يوحى إليه، وامتزج فيها معنى السلطة الدينية بالسلطة الدنيوية، رغمها نجد استقلالا نسبيا لمعنى السياسة عن معنى الدين، كان الوحى القرآنى ينزل على النبى منظما أمور المعاملات وقضايا التشريع المحضة، وتلك ميزة تفرق بين القرآن المدنى والقرآن المكى الذى اقتصر على الاعتقاد التعبدى، وفى الوقت نفسه طالب القرآن رسوله أن يشاور شعبه فى شئون الحرب والسياسة، إذن وجد مصدر إلهى صاغ جمله من قضايا التشريع الاجتماعى، وقام إلى جواره مصدر بشرى 'وضعى' حث عليه القرآن، كما فى قوله تعالى 'وشاورهم فى الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله'(سورة آل عمران من الآية 159)، وفى كتب السيرة النبوية نقرأ عشرات القصص نزل فيها النبى على أمر أتباعه رغم مخالفتهم لرأيه، أخذ النبى برأى أتباعه فى قصة حفر خندق حول المدينة فى غزوة الأحزاب، وفى اختيار موقع نزول الجيش فى غزوة بدر، وفى تلك المواقف وأشباهها كان الرسول يضع حدودا للتمييز بين ماهو دينى محض وما هو أدخل فى باب الدنيا سياسة وحربا، وكان الرسول يقول 'ما كان من أمر دينكم فإلى، وما كان فى أمر دنياكم فأنتم أعلم به '، ويقول 'أنتم أعلم بأمور دنياكم '، فليس الحكم والقضاء والسياسة دينا وشرعا وبلاغا يجب فيها التآسى والاحتذاء بما فى سنة الرسول من وقائع وتطبيقات على إطلاقها، ويختلف الأمر فيما هو دين من سنة الرسول سواء ما تعلق منها بتطبيق الوحى القرآنى أو الأحاديث المتواترة قطعية الورود قطعية الدلالة. وبعد دولة المدينة، ونهاية الجمع بين السلطتين الدينية والسياسية فى شخص الرسول، أصبحت سلطة الخلافة الراشدة مدنية محضة، وزادت رقعة التمييز فى السياسة عن الدين، بل أقدم الخلفاء والصحابة على تصرفات بالسياسة تناقض ما كان يفعله النبى نفسه، فقد اتفق الصحابة على عهدى أبى بكر وعمر على تعديل توزيع 'خمس الغنيمة'، كان خمس الغنيمة وقت الغزوات والفتوحات يمثل موردا ماليا هاما للدولة الإسلامية الناشئة، وكان الرسول يقوم بتوزيع خمس الغنيمة على خمسة أسهم : لله وللرسول سهم، ولقرابة الرسول سهم، ولليتامى سهم، ولأبناء السبيل سهم، وللمساكين سهم خامس، وكان التوزيع فى عهد النبى يتم على أمر دينى واضح ورد بنص القرآن، ولم يمنع ذلك الصحابة من تعديل نظام التوزيع عملا بتغير الظروف، وتم إلغاء سهمى الرسول وقرابته ووضعا فى الخزانة العامة وخصصا لنفقات الحرب والدفاع، واقتصر التوزيع على أسهم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.
وحين حدثت الفتنة الكبرى، وتفرقت جماعة المسلمين شيعا فى صراعات المجتمع والسياسة، ظل تقليد التمييز بين ما هو دين وما هو سياسة حاضرا حتى لدى المسلمين الذين رجحت الكفة ضدهم، ويصف الثائر العظيم على بن أبى طالب قتاله مع أنصار معاوية فى معركة 'صفين ' بقوله ' لقد التقينا، وربنا واحد ونبينا واحد، ودعوتنا إلى الإسلام واحدة'، ولم يحد عن ذلك الفهم الصافى المميز بين السياسة والدين غير الخوارج...».

هل للآستعمار دور في تخلف المسلمين؟
والذين يدعون بأن الإسلام الحالي هو من مخلفات الحقبة الاستعمارية ، إنما يكذبون على أنفسهم وعلى التاريخ . فعندما جاء الاستعمار الغربي إلى بلادنا في نهاية القرن التاسع عشر أو في أوائل القرن العشرين ، وجدنا على هذا الإسلام الحالى وأحيانا أسوء منه ، أو على الأصح ما تبقي من الإسلام الحقيقي . ووجدوا أن هذا الذي تبقي من الإسلام يرجع إليه الفضل في استمرار الفقـر والظلم والتخلف ، ويعينهم على بسط هيمنتهم واستقطاب عملاء لهم ، فحافظوا عليه ، بل وأظهروا احترامهم له . وجندوا في خدمتهم بعض من شيوخ الزوايا والطرق الصوفية والأعيان والذين راحوا يدعون شعوبهم للاستسلام للاستعمار وإرادته وهيمنته كقضاء وقدر لابد من تقبله والانقياد له عملا بأحكام الدين وأوامره من هؤلاء الذين قال فيهم الله سبحانه وتعالي: “ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا ، فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء ربهم هذا ، وما كانوا بآياتنا يجحدون” (الأعراف 51). بل لقد أغرى الاستعمار جهل المسلمين بدينهم فحاولوا تحويلهم إلى النصرانية ، وكان ذلك سببا في تمسك الناس بدينهم بعد أن تحول إلى رمز للمقاومة الشاملة للاستعمار ، كما أن فتح الاستعمار مدارس للحصـول منها على موظفين للإدارة الحديثة التي أقاموها فكان سببا في تعلم القراءة والكتابة وتحسين معرفة الناس بدينهم. وساعد على ذلك في المغرب العربي ظهور علماء دين في قيادة المقاومة أو النضال السياسي مثل عبد القادر الجزائرى أو عبد الكريم الخطابي وعمر المختار وعلال الفاسي . فقد ساهم هؤلاء ومن التف حوله وارتوي من معينهم خلال فترة المقاومة للآستعمار في إعادة إحياء الدين فتأسست في ظلهم أو من بعدهم المدارس الدينية وعمرت المساجـد الممهجورة بالمصلين . وظهرت بفضلهم وبفضـل مجاهدين آخرين ما يعرف اليوم باليقظة أو الصحوة الدينية والتي مازال مداها يتسع يوما بعد يوم وعاما من بعد عام.
لقد تم التحلص من الاستعمار ولم تتقدم الذول المسلمة بعد تحررها منه ، بل على مستوى البنيات الأساسية والتنمية والتعمير لم تستطع أن تنجز فيما يقارب نصف قرن ما أنجزه الاستعمار في عشر سنوات ، ولم تحقق حكما متحررا وطنيا مستنيرا يحقق مصالح الشعب المسلم ويحافظ على حقوقه وكرامته . وإنما نطالع في كل مكان حكما استبداديا فاسدا ينتهك حقوق الإنسان وينهب الثروات ويزيد الناس فقرا وجهلا ويأسا وإحباطا . تعليم قاصر ، قضاء فاسد مرتش ، أجهزة أمنية طاغية متضخمة دون أن تحقق أمنا للناس ولا تصل إلى قدرة تستطيع بها حماية البلد من أي عدوان خارجي عليه وتكتفي بالانصياع المذل للأعداء المحتملين طلبا للسلامة وإتقاء شرهم.
لايمكن أبدا تعليق أخطائنا وخطايانا على شماعة الاستعمار ، فقد تخلصـت الصين والهند وفيتنام وغيرها من الأستعمار ، وها هي اليوم تحقق أكبر معدلات تنمية سنويا في العالم ، بينما نزداد نحــن تخلفا عاما من بعد عام.

يقول الدكتور أحمد الريسوني:”لانحطاط - كما في أصله اللغوي - هو الهبوط والانحدار إلى الأسفل ، فهو ضد العلو والارتفاع . ومنه قول الشاعر العربي :“كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّه السَّيْلُ مِنْ عَلِ” (...)وأسوأ درجاته وأخطرها هي المعبر عنها بـ(الدرك الأسفل) و( أسفل سافلين) ، أعاذنا الله منها.
فكل ما كان ، من الأفعال والصفات والأفكار ، متدنيا ومنخفضا وضعيفا ورديئا ورخيصا ، في مكانته وقيمته وفائدته وفاعليته ... فهو داخل عندي في الانحطاط .ومما لا شك فيه أن أحوال المسلمين - منذ زمن طويل - متسمة بكثير من معاني الانحطاط المذكورة . وإذا كنت لا أنكر الأثر الأجنبي الخارجي الكبير في تعميق هذا الانحطاط واستدامته ، فمما لا يمكن إنكاره أيضا ، أن انحطاط المسلمين هو أساسا من كسبهم ومن عند أنفسهم ، وأن ذلك هو ما مهد الطريق وفتح الأبواب للتسلط الأجنبي . ومنذ ما يزيد عن ستين عاما ، ألف العلامة أبو الحسن الندوي كتابه الشهير ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ) . وهو عنوان يتضمن أن انحطاط المسلمين مسألة مسلمة لا تردد فيها ، كما يتضمن كون الخسارة الناجمة عن هذا الانحطاط لم يقف أثرها عند المسلمين ، بل أصابت العالم كله بشرها وضررها ... كثيرا ما نسمع بعض الدعاة والخطباء والوعاظ ، يَعْزون تخلف المسلمين وانحطاطهم ، ومصائبهم وهزائمهم ، إلى عدم تمسكهم بدينهم ، وإلى تفريطهم في شريعتهم ، وإلى إعراضهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ...
وهذا كلامٌ حقٌّ لو قصدوا به معناه الحق ... غير أنني عندما أصيخ السمع وأمعن النظر ، في تفسيراتهم لهذه المقولة وما يذكرونه لها من تعليل وتفصيل وتمثيل ، أجد أنها - عند أكثر هؤلاء السـادة - لا تعدو أن تكون وجها آخر من وجوه التخلف ، ومسلكا إضافيا لإنتاج التخلف والإبقاء عليه . فتفسير انحطاط المسلمين ، بتهاونهم في صومهم وصلاتهم ، وبتقصيرهم في تلاوة القرآن وذكر الله ، وبتركهم الجهاد في سبيل الله ، وبشيوع الربا والزنى في حياتهم ، وبتبرج نسائهم وقلة حيائهم ،... هو تفسير عشوائي منحط ، ولا يقل انحطاطا وسطحية عن بعض التفسيرات ''الحداثية'' لتخلف المسلمين ؛ مثل تفسيره وإرجاعه إلى الدين والتدين ،وإلى الإيمان بالغيبيات ، أو إلى عقيدة القضاء والقدر ، أو الإيمان بالجنة ، أو إلى الحجاب و تعدد الزوجات ، أو إلى تضييع الوقت بكثرة الصلاة ، وتضييع الثروة بسبب الحج وذبح الأضاحي ، أو إلى انخفاض الإنتاج بسبب الصوم ...فهذه التفسيرات وتلك هي ما عنيته بعبارة:”الانحطاط في تفسير الانحطاط”(...)ويبدو لي أن الانطلاق الصحيح في فهم أسباب تخلف المسلمين ، يكون بالبحث عن العناصر التي تنتج الانحطاط ، وليس عن العناصر التي ينتجها الانحطاط .ولا شك عندي ان أكبر عنصر منتج للتخلف والانحطاط في تاريخ المسلمين ، هو فساد الحكم والحكام ومناهج الحكم . وهذا الأمر قد جاء الإخبار به والتحذير منه في عدد من الأحاديث والآثار “
وانتهي الدكتور الريسوني إلى أن مرتحزات الانحطاط ومنتحاته هي :
«1. الانقضاض على الحكم باعتباره حقا وامتيازا للأقوياء المتغلبين . وهكذا انتقل الحكم من منطق الشورى والاختيار والتعاقد والشرعية ، إلى منطق القوة والغلبة والسيطرة وفرض الأمر الواقع ، مع الاحتفاظ – إن اقتضى الحال – ببعض الشكليات والرموز والألقاب الشرعية.
2. التصرف في الحكم ومسؤولياته وإمكاناته ، باعتباره غنيمة ومكسبا وامتيازا ، يستميت أصحابه في التمسك به والذود عنه ، تماما مثلما يفعل أي متملك مع أملاكه وحماه. وهذا هو المنطق الذي استبيح به توريث الدولة بكل مناصبها ومرافقها واختصاصاتها ، كما توَرَّث الأمتعة والتركات . بينما المنطق الإسلامي هو أن الحكم أمانة،وأنه يوم القيامة خزي وندامة ، إلا من أتاه بحقه ومن بابه ، وأدى الذي عليه فيه ، كما جاء في الحديث الشريف . ولذلك لا يتولاه أحد من الصالحين طالبا راغبا ، وإنما يتولاه - عند الضرورة - مطلوبا راغما.
3. خنق الأصوات الناقدة والفئات المعارضة ، وإن أمكن استئصالها فهو الحل المفضل والأمثل ، وذلك في مقابل تغذية المرتكز الرابع ، وهو:
4. إحاطة الحكام بهالة أسطورية من التعظيم والتقديس والعصمة ، يجند – أو "يتطوع" – لنسجها وتفخيمها شعراء وفقهاء وخطباء ووزراء ، وغيرهم من المسترزقين
5. إعطاء الأولوية المطلقة للبقاء في الحكم وتأمينه بأقصى درجة ممكنة ، واستدامته إلى أبعد حد ممكن ، وجعْلُ ذلك كله الهدفَ الأول والأسمى للدولة ، تُسَخَّرُ له كل المتطلبات البشرية والمالية والسياسية اللازمة ، مهما تكن ، حتى رأينا عبر التاريخ كثيرا من حكام المسلمين ، يسلِّمون كرامتهم وسيادتهم واستقلالهم وثروات شعوبهم للأعداء ، تأمينا لبقائهم في الحكم .
6. الاستيلاء على الأموال والممتلكات العامة ، والتصرف فيها بالتشهي والمآرب الخاصة ، وإطلاقُ أيدي الأقارب والأصدقاء والأعوان فيها ، نهبا وإسرافا وتبذيرا.» .

الإسلام هو مدخل العقيدة:
الإسلام بأركانه الخمس المعروفة من شهادة بوحدانية الله ورسالة النبي محمد وصلاة وزكاة وصيام وحج لم استطاع إليه سبيلا ، لايعدو أن يكون مجرد مدخل للعقيدة بمفهومها الشامل.
فمن المتفق عليه بأنه من جاء يشهد بأن لا إله الا الله وأن محمدا رسول الله وأقام الصلاة وآتي الزكاة وأظهر الصيام في رمضان ما لم يكن مريضا أو على سفر، لايجوز لأحد أن يرد إسلامه متهما إياه بأنه يضمر الشرك أو الكفر أو يرائي في الدين ، فليس لنا في بداية الأمر سوى ظاهر أمره ، حتي لوكان في حقيقة أمره مشركا أو كافرا أو منافقا. فالله وحده العالم بما يستره في نفسه أو يخفيه ، وما انطوت عليه نيته وسريرته . وأمره موكول إلى الله وحده ، ومن المأثور عن رسول الله قوله : «  أمرت أن أقاتل الناس (أو العرب) حتي يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة”
قال جل شأنه : «  وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ”( آل عمران/85 )
وفي نفس الوقت فإن عقيدة المسلم التي تحسـد توحيده الحقيفي لله لا تكتمل بغيرأن يضيف إلى الإسلام السالف الذكر والتبيين ، كل من : الإيمان والإحسان .أي المعرفة في شموليتها ، بقدر ما يمكنه أن يحصله المسلم منها ، والعبادة في تمامها ، ووفق القيم الدينية والأخلاقية الحاكمة لها وفي صدارتها الصدق والإخلاص. وشقا الإيمان والاحسان هما اللذان يعتريهما نقص شديد في حياتنا المعاصرة ، وغيابهما هو سر كل ما تعانية المجتمعات المسلمة من مظالم ومفاسد وتخلف ، وما تتعرض له من محن .
الذي يريد أن يدخل مجتمع التوحيد المشتمل على الإسلام والإيمان والإحسان ، عليه أن يأتي أولا بشواهد الإسلام الظاهرة الخمس والمتمثلة فيما يعرف بأركانه الخمس سالفة الذكر. وأن يقبل قوانينه في الحدودوالأحكام والمعاملات . وهذا يماثل تماما لمن يتقدم لشغل وظيفة فيلتزم لكي يتمكن من قبوله فيها أن يقدم شهادات التعليم والخبرة الحاصل عليها وأن يوقع إقرارا بقبول العمل وفق أنظمة ولوائح المؤسسة.
ومن المعروف في الدول المتقدمة أن قطاعيها العام والخاص عندما يقبلان أحدا في وظيقة مدفوع عنها أجر ، لا يمنحانه الأجر مقابل ما قدمه من شهادات وإقرارات فقط وإنما مقابل عمله وإنتاجه أساسا في الوظيفة التي يشغلها ، وكلما أتقن العمل ، وأظهر فيه دراية ومقدرة وكفاءة كلما زيد في أحره ، وفتحت أمامه سبل الترقي ، وعلت درجته ، وزادت سلطاته ومسؤولياته في إطار السلم الوظيفي بالمؤسسة.
فإذا بم يظهر مزيدا من المعرفة والتقنيات وزيادة في الإنتاجية ، لم يتحرك مرتبه وظل راكدا حتي لو قضي كل عمره في الخدمة. ولكن لا يتم منعه من الخدمة أو التوقف عن سداد أجره.
كما يتم طرد الموظف من الخدمة في الوظيقة التي التحق بها إذا ما أخل بشروط العقد وامتنع عن أداء العمل الموكول إليه فيها أو أهمل إهمالا جسيما ترتب عليه خسائر فادحة للمؤسسة.
ووفقا للمثال السابق تكون أركان الإسلام الخمس هي شروط قبول ودليل أهلية ، وقبول المسلم لحكم الإسلام هو التزام مبدئي وضرورى للتعاقد قبل أن يسمح للمسلم بالولوج من باب العقيدة إلى مبناها ةبالتالي إلى أمه المسلمين ومجتمع الإسلام ، وفي المبني إما أن يظل في نطاق الإسلام أو ينتقل منه إلى مرتبتي الإيمان والآحسان التي تكتمل بهما عقيدة التوحيـد . وأذا كانت رحمة الله بعباده قد جعلت مقابل طلب الانتساب واكتساب الأهليه بالحفاظ على أركان الإسلام الخمسـة أجرا ، فإن الأجر الحقيقي والعبادة الحقة والتجارة الرابحة في الدنيا والآخرة فيما يناله المسلم مقابل عمله وجهده الذي يرجو في الله وحده دون سواه ، وفي نطاق عقيدة التوحيـد وفي المرحلة اللاحقة لقبول الانتساب اليها ، أي في مرحلة ما بعد الإسلام.
روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد، أتانا رسولك (من أرسلته إلينا) فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك! قال: (صدق).
قال: فمن خلق السماء؟ قال: (الله).
قال: فمن خلق الأرض؟ قال: (الله).
قال: فمن نَصَب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال: (الله).
قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض، ونصب هذه الجبال، آلله أرسلك؟ قال (: (نعم).
قال: وزعم رسولك أن علينا خمسَ صلوات في يومنا وليلتنا. قال: (صدق).
قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا ؟ قال: (نعم).
قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا. قال: (صدق).
قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال (نعم).
قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال: (صدق).
قال: فبالذي أرسلك، آلله أمرك بهذا؟ قال: (نعم).
قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. قال: (صدق).. قال: ثم ولى (أي انصرف الرجل) وهو يقول: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، فقال النبي (: (لئن صدق ليدخُلَنَّ الجنة) [مسلم].
فإن صح هذا الحديث ، وأخاله صحيحا ، وجب أخذه ضمن ما حاء في كتاب الله وسنة رسوله كله وليس في مغزل عنهما ، وإنما أيضا يمكن أن نستنتج منه بأن المسلم يكفيه أن يؤدي ماهو مفروض عليه في الأسلام من صلاة وصيام وزكاة وحج دون أن يزيد عليهما بشريطة أن يتخلق بخلق الإسلام فلا يأتي اللبه وقد ظلم أحدا أو اعتدى على حق من حقوقه المشروعة أو اقترف ما حرمه الله عليه ، وأن يكون في ما أداه من عباده مخلصا لله فيها . أي أن الأخذ بما جاء في الحديث يظل مشروطا بشروط وردت في كتاب الله وأحاديث أخرى للرسول.فقد سئل الفضيل بن عياض عن معنى قوله تعالى: {ليبلوكم أيكم أحسن عملاً} [_الملك:2] فقال: أحسن العمل أخلصه وأصوبه. قيل: فما أخلصه وأصوبه؟قال: أخلصه ألا تشرك مع الله غيره، وأصوبه ما وافق السنة. ويعزز ذلك أيضا
قول تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إلىَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبْصر به، ويده التي يَبْطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنَّه، وما ترددتُ عن شيء أنا فاعله تردُّدِي عن نفس المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مَسَاءَتَه)[البخاري]..ولإخلاص في العبادة وما يندرج ضمنها من أعمال الإيمان والإحسان شرط لقبولها في الإسلام قال تعالى:”وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء” [البينة:5].وقال رسول الله: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) والإخلاص في العبادة من سمات التوحيد ، قال تعالى:”فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا”(الكهف:110). وهذا ينطبق على كل الأغمال المفروضة والمعروفة بأركان الإسلام وغيرها من عبادات الإيمان والإحسان.
ومع ذلك ، فإن أداء العبادات المفروضة في أركان الإسلام الخمسـة ، مكتملة الشروط ، ومنتجة المطلوب منها بحيث تنهي الصـلاة ، على سبيل المثال ، عن الفحشاء والمنكر ، ليس وحده كافيا للنهوض بمجتمع المسلمين . ولكنه الحد الأدني المطلوب منهم.

وهذا ما يبدو لي أنه لم تفطن إليه بعد الجماعات وما يعرف بالأحزاب الإسلامية في بلاد المسلمين سواء في الهند وباكستان حيث يوجد فيهما معا أكثر من 300مليون مسلم وجماعات دينية نشطة أو في مصر والجزائر والمغرب وغيرها من بلاد المسلمين. حيث تركز الاهتمام على أركان الإسلام الخمس ومقاومة بعض المحرمات المنتشرة، وإضافة بعض القيم الأخلاقية .ودون البحث في أسباب الآفات الاجتماعية كالزنا والدعارة مثلا للقضاء عليها في منابعها والاكتفاء بالمواعظ والقول بانهما من الكبائر، أو المطالبة بعقوبة لهما تتفق مع حكم الشريعة . بينما المنهج الأمثل هو علاج الآسباب بالتزامن مع الموعظة وبيان موقف الدين منها ، وليس بمواجهة الأسباب والأكتفاء بالمواعظ . وعنـد التطرق لضروب الإيمان ودروب الإحسان سنجد كم هي مقصرة في ذلك .

يتسـع نطاق العبادات في عقيدة التوحيد لتشمل كل إداء أو انصياع لأوامر الله ، وكل ما استهدف الإسلام تحقيقه ، وكل ما يجلب النفع أو يمنع الضرر بالنسبة للإنسان وغيره من مخلوقات الله . وكل انتهاء عما حرمه أو نهي عنه وامتناع عن التورط فيه . ولقد جاء في الأثر أن الله فرج كربة مؤمن جزاء له عن امتناعه من المساس بامرأة ليسـت حليلة له عرضت عليه أن تمكنه من نفسها مقابل قضاء حاجة لها ، فقضي لها حاجتها ، وامتنع عنها وقال : إني أخاف رب العالمين. فالله يثيب عن الامتناع عما نهي عنه ، أي العبادة السلبية، مثلما يثيب عن كل خطوة في طاعته حتي ولو لم تنته بتحقيق الغرض منها أو الهدف الذي سعي صاحبها لتحقيقه في سبيل الله ، كما يثيب بالطبع عن العمل الذي عاد بنفع على المسلمين ، أي العبادة الإيجابية . ولعل أفضـل الأعمال التي يحتاجها المسلمون اليوم :هو ما ينشلهم من واقعهم البئيس الحالى إلى واقع أفضل حالا ، ومن مستنقع الطلم الى نعيم العدل . وميزة العبادات المتعدية الأركان الخمس للإسلام أنها أكثر حلاوة ومتعة للقائم بها عندما يكون عمله خالصا لوجه الله ، وأكثر جدوى لمجتمع المسلمين وثوابا عند الله . أي أنها تجمع بين الجسنيين في الدنيا والأخرة معا ، بالاضافة إلى المتعة وأنها في جوهرها نعمة من نعم الله على عباده.

البر الجامع بين الإيمـــــــــان والإحسان
يأتي الإيمان بعد الإسلام وهو المنهج الذي يتوحد فيه المؤمن بالله الواحد ملتمسا من مشكاة نوره ما يستطيع ويتسع له العمر وهو تحصيل العلم والمعرفة النافعة للمسلمين . وكم من علم ومعرفة أو محسوبة كذلك والعلم بها يتساوى بالجهل بها حيث لا تقدم ولا تؤخر على المستوى الاجتماعي ، وانما هي مجرد لغو وعبث .
يشمل الايمان : الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر. ويمثل الإيمان القالب النظرى أو الفلسفي للعقيدة ، بينما يمثل الإحسان القالب العملي أو التنفيذى للعقيدة وحيث يتوحد فيه المؤمن بمخلوقات الله بدءا بوالديه وزوجته وأولاده وذوي رحمه وعشيرته وإخوانه وأçخواته وامته وانتهاء بكل دابة تدب على الأرض وبيئته الطبيعية والكون كله. وهو أما فعل أو امتناع عن فعل وفي كل عبادة لله وثواب من لدن الله . وقد عرف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بأنه : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تراه فهو يراك . ولذا كانت أعمال الإحسان هي أسمي العبادات وأوفرها أجرا وثوابا. وقد ورد عن رسول الله أن رجلا دخل الجنة لأنه سقي كلبا عطشا وفضله على نفسه وهو أكثر منه عطشا فهلك من ذلك . وقال إن إمرأة دخلت النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولاهي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض . ومن المنطقي أن المسلم لا يرقي إلي هذه المرتبه السامية من الحس الإنساني والرحمة والرفق بالإنسان والحيوان بصلاة أو صيام أو زكاة فقط ، وإنما بالإيمان. هذا الإيمان الذي يحثه على الإحسان في شتي صوره.
الإيمان والإحسان هما الجانبان المسكوت عنهما ، والغير مختلف عليهما ، ليس لأنهما موضع إجماع وأنما لأنهما غير مطروحان أصلا وفق مفهومها الشامل ، وغير معمول بهما في أغلب الحالات . وتتناولهما المواعظ والخطابات والمقالات تناولا سطحيا لا يسبر غورهما ولا يحيط بهما من كل جانب ولا يجمعهما في نظرية واحدة أو منهجا عمليا. ويتم الاكتفاء عند ذكرهما بسرد بعض الآيات والأحاديث. وهما بالتالي ما ينقصان الديانة السائدة عند المسلمين حاليا ، عامتهم والكثير ممن يعتبرون أنفسهم من خاصتهم ونخبتهم العالمة. وبالإيمان والإحسان تكتمل الأيديولوجيا الإسلامية وأستعمل هنا لفظ أيديولوجيا مضطرا ، مع علمي التام بأن الايديولوجيا أبعد ما تكون عن العلم وأنها إطار نظرى مغلق بينما ما أتحدث عنه علم ومعرفة وأطار نظرى مفتوح . ولأن الذين يعادون الحركات الدينية يعيبون عليها عدم توفرها على ايديولوجيا. وببسط هذه المفاهيم وتوضيحها إعناء للمسلم من أن يقلب وجهه في المشرق والمغرب بحثا عن قبلة يرضاها , يقول في ذلك الله سبحانه وتعالي : «  ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب وإنما البر من أمن بالله والملائكة والكتاب والنبيين وأتي المال على حبه ذوي القربي واليتامي والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب ، وأقام الصلاة وآتي الزكاة ، والموقون بعهودهم إذا عاهدوا والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس ، أولئك الذين صدقوا ، وأولئك هم المتقون “ فهذه الآية الكريمة جعلت البر هو الإيمان والإحسان ، ويمكن أن نستنتج منها أيضا أن في الإيمان والإحسان صلاة وزكاة غير الصلاة والزكاة ضمن أركان الإسلام الخمس .وقد نكتشف في البر صلاة ليست فيها ركوع وسجود ولكن فيها خشوعهما والتعبد بغيرهما ، وأن فيه زكاة غير زكاة المال أو ليست قاصرة أصلا على المال ، ولكنها تزكي النفس ، وتنير القلب ، وتقرب صاحبها ألى الله وإلى درجة من الربانية التي بحث عنها المتصوفة وقد يكون منهم من وصلها، وقد لا يكون قد بلغها قط. فعلم ذلك عند الله , وأهل البر هو أولياء الله الحقيقيون الذين لم تقم لهم أضرحة ومواسم ، وقد يكون منهم أصحاب الأضرحة والشهرة وقد لايكونون ، فعلمهم أيضا عند الله. وحتي إذا ما افترضنا أن الصلاة والزكاة هنا هي الصلاة والزكاة الشائعة فسنلاحط أن الله سبحانه وتعالي في هذه الآية قد قدم أركان الإيمان ثم ثناها ببعض الأمثلة على الإحسان أو بعض مظاهره ، بينما جاءت الصلاة والزكاة في المرتبة الثالثة وهما من أركان الإسلام الخمس ، ولو أن ما يعزز بأنهما ليس المقصودان بالأية هو أنهما جاء من بعدهما بقية صنوف الإحسان مما يجعلهما من الأحسان وليسا من الأركان الخمسة للآسلام.وقال تعالى : ‏"‏وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ‏وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏‏ "‏ المائدة وتدلنا هذه الأية على أن للبر خاصية جماعية ، وإن مجاله المجتمع ، وأن أفراد المجتمع الذين يعملون به عليهم التعاون معا عليه لجني ثمراته . وبالتالي هو ليس بعمل فردي.
وفي أية أخرى يقول المولي عزوجل : « ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، واتبع ملة ابرهيم حنيفا ». (النساء 125).ولذا فإن نجاح أعمال البر لا تحقق مقاصده مالم تكن خالصة لوجه الله ومتضمنه لمعاني الإحسان. وأن تسلم وجهك لله وأنت محسن يعني أن تكون مؤمنا ومحسنا وأن تتبع مله أبيك إبراهيم يعني أن تكون موحدا لله.
وعندما يجتمع التوحيد مع الأيمان والأحسان أي العمل الصالح يحق على محتمع المسلمين ما وعدهم الله به في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ». هذا في الدنيا وفي الأخرة ينتظرهم جزاء أوفي . قال تعالي : « 
وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُـواْ بِهِ مُتَشَـابِهاً وَلَهُمْ فِيـهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ».وإذ يحرص للذين أمنوا على عمل الصالحات يجترح الذين لم يتداوزوا الإسلام إلى الآيمان السيئات بجهلم وقد يعذرهم الله فيها ويعفرها لهم ولكنهم لايستوون مع الذين أمنوا وعملوا الصالحات ، بل قد تزيد سيئات الذين لم يصلوا إلبى الإيمان وما يتضمنه من علم على حسناتهم فتحبط عملهم ويكون مثواهم الله مالم يرحمهم الله ، وفي ذلك يقول الله :
"أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ".
وفي حديث لرسول الله يصف فيه طبيعة البر : عن وابصة بن معبد رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( جئت تسأل عن البرّ ؟ ) ، قلت : نعم ، فقال : ( استفت قلبك ، البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر ، وإن أفتاك المفتون ) حديث حسن رُويناه في مسندي الإمامين : أحمد بن حنبل ، و الدارمي بإسناد حسن . ولا تطمئن النفس والقلب لعير ما وافق وسلم به العقل. ولم تفهم فلسفة البر حتي الأن بهذا المعني وإنما اقتصر الفهم على تقديم الصدقات للمحتاجين. وهو بعض البر وليس كله. وفهم قاصر لمحتواه.
والدعوة إلى الإسلام لا تحتاج من الداعي سوى القدرة على التأثير نفوس عامة الناس ، واستمالة عواطفهم ، والاستفادة من تسليمهم الفطرى والغريزي بوجود الله ، وبأسلوب إنشائي خطابي منمق، ولذا فهي لا تحتاج إلى تقديم براهين عقلية لعامة الناس وهم أساسا لايطلبونها ، وإنما تكفي معهم الموعظة الحسنة . ولكن الأمر يختلف بالنسبة للآيمان ، والذي الجانب النظرى والفلسفي للعقيدة . ولذا فهو يحتاج إلى الحكمة والبرهان العقلي . أما الدعوة للإحسان وهو الجانب العملي للعقيدة ، فيتطلب مناقشةبالحسنى بماهو مستخلص من مجاهدة الإيمان من منطق وفلسقة ، وما هو ناتح عن تقليب النظر في مصالح الناس وفق علم الاجتماع وعلم النفس والتربية وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وغيرها من العلوم في جانب الاستخدامات العملية لها ، لبيان ما ينطوى عليه من محاسن ومنافع وقوائد اللناس . ومن هنا جاءت الآية : « إدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن “ والتي علق عليها الدكتور زكي نجيب محمود بقوله : «الحكمة   هي طريق البرهان العقلي من المبتدأ إلى المنتهي . والجدل هو التسليم بالمبتدأ أو المبدأ . أو المبدأ ثم طلب البرهان على المنتهي . أما الموعظة فهي تلجأ إلى التأثير بالخطابة ، وضرب الأمثلة ، دون اللجوء إلى برهان عقلي يقام. وإن نصيب الأمة من التقدم الثقافي يقاس بالنسبة العددية بين هذه الطبقات الثلاث (أي الحكمة والجدل والموعظة): فإذا كثرت الفئة التي تصـر على تحليل الأفكار الأساسية المتداولة تحليلا على وجه الدقة لمضمونها ، ومصادر تكل المضمونات ، كانت الأمة على درجة رفيعه من الوعي الثقافي ... »

ولأن الإسلام في حدود النطق بالشهادتين وأداء الفرائض لا يحتاج إلى برهان عقلي وتكفي فيه الموعظة الحسنة ، فإن العقل في حدوده يظل خامدا ، طالما اقتصر على ذلك ولم يتجاوزه إلي مرتبة أعلى منه . وبالتالي يعجز عن تحقيق التقدم أو أي مستوى من الوعي الثقافي . ويكفي للتدليل على ذلك أن الاقتصار على الدين في هذا المستوي يشترك فيه الأميون والمتعلمون ، أما فيما تجاوز حده لايستطيعه سوى أهل العلم والمفكرون. ولايمكن بالتالي إرساء قواعد الإيمان والإحسان إلا بنشر العليم والمعرفة النافعين ، وبحيث يصبح التعليم ومساندا بإعلام حضارى راق يهتم بإشاعة العلم والمعرقة ،قادر على انتاج العلماء والباحثين والمبدعين وليس ببغاوات عقولهم في آذانهم ، وألسنتهم تنطق بما لايفهمونه ، ومع ذلك يحسب أكثره نفسه عبقريا . وأن ما حشره في عقله وذاكرته جعله أكثر حكمة من لقمان. وكم تحدثت ألى رجال تقتضي الوظائف المسندة اليهم ، أو الأدوار التي يقومون بها في الحقل السياسي أو الثقافيتتطلب علما ومعرفة وثقافة وذكاء وتفكر بإمعان، ويعتبرون أنهم (جابوا فيها الديب من ذيله) ، وليس لهم في العالمين صنوان .قإذا بي أكتشف أنهم لايسمعون سوى صوتهم الرنان.. وأن عقولهم جامدة مثل الحجر الصـوان ، وصوتهم أنكر من صوت الإتان ، ولو أن الأتان أكثر طواعية ومرونة واستجابة ونفعا وأمان ، ولايعيبه سوى يهيقه الذي وجد له فيه شركاء من البشريقلدونه فيه بإتقان. وهؤلاء لا نفع فيهم ولا خير يرتجي منهم ، بل هم أحيانا ما يكونون مثل الخرقاء التي نقضت غزلها من بعد قوة إنكاثا. فأي دولة يمكنها أن تتقدم بمثل هذه الجثث المتحركة ؟ والتي لا تملك عقلا أو علما أو أمانه أو ضميرا ، وإنما هم أناس أذن ، سماعون للكذب “ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهمم وعلى بصرهم غشاوة ، ولهم عذاب عظيم “.

مجمل الأيمـــــــان
الإيمان هو العلم اليقين بالتوحيد وبمصادره وتطبيقاته وقبول أحكامه ومتطلباته ، ومعاهدة الله على الخضوع له ولها والعمل بها ،وهو ميثاق النبيين.ويدعم هذا العلم ، إلى جانب مصادر التشريع المنزلة من عند الله وما بينه رسوله ، معطيات كافة العلوم التي أحاط العقل البشرى بمكوناتها وقوانينها وأسرارها في زمانهم . قد يكون من المستحيل في زمن اتجه فيه العلم الى التخصص الدقيق أن يجمع إنسان علوم الزمن الحالي ، ولكن المطلوب هو أن يعرف على الأقل الدور الذي يلعبة كل علم لم يتخصص فيه ،وأن يتعاون مع المتخصصين فيه في بناء نوع من المعرقة الميسرة للجميع في محال الأيمان ، ومخطط عملي ابيستمولوجي يسخر كل هذه التخصصا في نهضة ورقي المجتمع المسلم في مجال الإحسان, ويتعزز الإيمان أيضا بالتأمل العميق قي أيات الله الكونية وما أنعم به على عباده والبحث عن حلول لما يعترض الأمة من نوازل في حدود فلسفة العقيدة الأسلامية وثوابتها. وبقدر ما يزداد المؤمن علما بقدر ما يزداد تقوى .مصداقا لقوله تعالي : «  إنما يخشي الله من عباده العلماء” فالعلماء المؤمنون هم أكثر خلق الله تقوي لأنهم الأكثر معرفة بقدرة الله وبمقامه.وكلما ازداد العالم تقوى كلما أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ليس بالخطب المنبرية والمواعظ فهذا ليس سبيله ونهجه وعمله ، وإنما بالعمل على خلق البيئة التي ينمو فيها المعروف ولا يجد المنكر له مكانا فيها. أي دعا إلى العمل بمقتضيات الإحسان وكان هو في مقدمة العاملين فيه ورائدهم ومرشدهم إليه . وحبب الناس في الإحسان وفي الإقبال عليه ويسر لهم سبيله ، لكي يرقى المجتمع كله ويتقدم .
وإذا كان التسليم بوحدانية الله وبرسالة نبيه هو الركن الأول في الإسلام ، فإن الإيمان يتجاوز التسليم بالوحدانية إلى الاعتقاد بها وبأسماء وصفات وأفعال الواحد الأحد وعدم الشرك به , ولا يقف الشرك بالله عند حد عبادة الشجر والحجر والمقابر والأضرحة والشيطان على النحو الذي توقف عنده السلقيون ولكنه يتخذ صورا عديدة لايسلم منها بعضهم .وصدق محمد إقبال في ما ورد في قصيدة له من : "كعبتنا مليئة بأصنامنا ص هنناك من يعبدون المال والسلطان والشهوة والشهرة والجاه والنفوذ والزعامة...ومثل ذلك من دون الله. ويسلكون في شركهم سبل النفاق والكذب والخداع والغش وغيرها وقد يكون في ذلك أكثر شركا من نثليث النصارى وعبادة البوذيين لتمثال بوذاوالكاثوليك لمثال العذراء مريم. قال تعالي : «  قالت الأعراب آمنا ، قل لم تؤمنوا ، ولكن قولوا : أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، وأن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا ، إن الله غقور رحيم « (الحجرات 14) والذين يقولون بأن عدد المسلمين في العالم تجاوز المليار مسلم ، لا يفكرون في كم ياترى عدد المؤمنين منهم؟.
المسلم الذي لا يتخذ لله شركاء في ملكه ، ولا يتوهم ان له أندادا عندهم رزقه وغناه فيلتمس لديهم فضلا أو جاه ، يتطلب إيمانه وتوحيده لله منه أن يعبد الله مخلصا له الدين ، وأن يسلم له وجهه حنيفا مله أبيه ابراهيم. وأن يعتصم بحبل الله مع إخوته المؤمنين جميعا لحفظ وحدتهم حتي لا يتفرفون، وأن يجاهد في سبيله معهم ، ويجمع المسلمين بما أتاه الله من علم وتقوى على صراط مستقيم . وأن يدفع الشقاق عنهم ويزيل الفرقة في صفوفهم ، وألا ينضـم إلى فرقة ضد أخرى وهو يعلم أن كل صادق في إسلامه. ويهديهم بالحسني إلى طاعة الله ورسوله ,وطريق الهدي والسلام , وأن يستمسك بهدي الله ويتبع رضوانه. وأن يحتكم إلى الله ورسوله في أي خلاف ويرتضي حكمهما دون أن يكون له الخيرة في أمره . وألا ينفض عهذ الله بعد ميثاقه ، أو يقطع ما أمر الله به أن يوصل . ولا يقسد في الأرض أو يتخذ من النمفسدين وليا ولا نصيرا أوظهيرا وهم لا يزيونه إلا خبالا. وأن يستبشر بنعمة من الله وفضل . ويصبر على القضاء صبرا جميلا لا يخالطه يأس ولا جزع ولا سخط ولا شكوي . وألا يقنط من رحمة الله ، إنه لايقتط من رحمة الله إلا الكافرون. ويواجه المحن صابرا مصابرا مرابطا متقيا لله باحثا له ولأمته عن مخرج صدق منها . وأن يتخذ من أحسن القول وأفضل العمل وأخلص الجهاد وسيلته إلى مرضاة الله. وأن يتوحد بالله الواحد توحد المستسلم له، والذي تعوذ فيه الروح إلى من نفخها فيه حيا وميتا ، راضية مرضية ،وليس توحد بعض الطرق الصوفية الضالة والسادرة في الجهل والخراقات والشعوذة والباطنيةالمشوشة والأعقلانية . وبالتمثل ببعض صفات الله الحسني التي تعود إلى مكارم الأخلاق في توحده به ،والمطلوبة في كل مؤمن اقتداء برسول الله فيها، كل منها في موضعه مثل : العلبيم – الحكيم – الرحيم – الكريم – البار – المحسن – الحميد – الخبير- العزيز – الناصر ...الخ. فهذه الصفات المطلقة في ذات الله يمكن أن توجد على نحو نسبي في أولياءه الذين لاخوف عليهم ولاهم يحزنون ، وكل مؤمن هو ولي الله ، وإلا لم يكن إيمانه كاملا ، فالولاية لله لكل مؤمن به وليست قاصرة على أناس معينين وليست ميراثا يورثه أب لأبنه ، وإنما كل نفس منهما بما كسبت رهينة.ونقسض ولاية الله هي ولا ية الشيطان ولا وسط بينهما.
وإذا كان الله نور السموات والأرض ، فإن التوحد به يتطلب من المؤمن أن يكون قبسا من نوره وعلمه ، وأن يتمثل النور بكل ما فيه من طهر ونقاء ووضوح وجلو للظلمة وإشعاع وشيوع في النفع والاهتداء به فتطيب النفس وتزكو وتمتلأ بالمحبة والسكينة والسلام .وتعمرها الرحمة والرفق والهدوء والراحة والطمأنينة .ويزيل النور الرباني ما يكتنفها من الظلمات ، فيجتمع لديه نعمتي البصر والبصيرة .وكلما زاذ المؤمن توحدا بربه كلما استضاءت نفسه بنور الايمان الألهي ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء من عباده.
ولما كان الله عالم الغيب والشهادة ، وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها ألا هو ، ويعلم ما في البر والبحر ولا من ورقة لا يعلمها ولا حبه في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ، فإن توحدنا به يزيد من حرصنا على طلب العلم من المهد إلى اللحد وجلب المعرقة من حيث توجد ، وأن يشمل علمنا إلى جانب العلم بكتابه وما شرعه الله ورسوله كل ما يجلي لنا أسرار كونه والقوانين الحاكمة و الناظمة له في الأرض وما أقلت واختزنت وفي السماء وما أطلت ، وأن نتعلم من تراث الغابرين وجديد المعاصرين ،بصرف النظر عن دياناتهم، بما لا يتعارض مع ديننا الحنيف القويمإذ لايستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون و” ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به ، فتخبت له قلوبهم ، وأن الله لهاد الذين أمنوا إلى صراط مستقيم “(الحج 54) . وفي هذه الاية من
سورة الحج دليل على ارتباط العلم بالإيمان ، حيث لا يكون الإيمان بغير علم . ولكن بقدر حاجة الايمان الى العليم ، يحتاج العلم أيضا إلى الايمان وإلا تم الانحراف به من ما ينفع الناس إلى ما يضرهم مثل العلم الذي يستخدمه أهل الضلال في الحرب والعدوان والتدمير وسفك الدماء. والعلم الذي يتق الله يزيده الله على ما اكتسبه من علمه فيهديه إلى المزيد منه ، قال تعالي أيضا :“يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ».وقال:”وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقال تعالى:”وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَالنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ”
ولنا في علماء المسلمين زمن ازدهار الحضارة الإسلامية أسوة حسنة ، إذا جابوا البلاد وجمعواوترجموا تراث الشعوب الثقافي في مصر وفارس واليونان والهند والصين ، فاستفادوا منه وأضافوا اليه . فإذا كانت الثفاقة توصف بأنها وطنية ، ومن خصائص الهوية والحضارة القومية أو الاقليمية ، فإن العلم والمعرفة لهم خصائص عالمية ، وهما وسيلة تحقيق الحضارة القومية ، وبدون العلم والمعرفة يستحيل إقامة حضارة أو ثقافة وطنية . قال الله تعالي : «  يؤتي الحكمة من يشاء ، ومن يؤت الحكمة ، فق أوتي خيرا كثيرا ، وما يذكر غير أولى ألألبات “ (البقرة 269) والحكمة المذكورة في الأية هي العلم ، والألباب هي العقول ، ولذا فإن العلم يعتمد على ما هو عقلي ولا مكان فيه للغيبيات . حيث الغيب علم يختص به الله سبحانه وتعالي عالم الغيب والشهادة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالي هو :”الخالق البارئ المصور” وهو أيضا “بديع السموات والأرض “ فإن إيماننا به وتوحدنا معه وتمثل أسمائه وصفاته يلزمنا بالسعي نحو الكمال في العلم والإتقان والإبداع والجمال وحسن التدبير في المعاش والادارة والتنظيم والتراحم والانتاج والاستهلاك والانتاج وكل ما يتعلق بحياتنا الدنيا. إذ لكي يؤتينا الله الحكمة علينا أن تلتمس الأسباب.وإذا أنعم الله علينا بها ، وجب أن نطرق بها كل سبيل للخير وباب.
ولقد كان علماء الحضارة الإسلامية لا يكتفون بدراسة الفقه والتفسير والحديث وأصول الدين بعد أن يبلعوا فيها شأوا عاليا ولكنهم كانوا يضيفون إلى تلك العلوم الدينية والشرعية باقي علوم زمانهم من طب وفلسفة وفلك ورياضيات وغيرها مما برعوا فيها وأتقنوها وألفوا فيها المصنفات. كان كل منهم موسوعة علمية مما مكن من ظهور الحضارة الإسلامية وإزدهارها . وبدأت تتلاشي الحضارة وتضمحل وتنتهي عندما جاء من بعدهم من أهمل تلك العلوم واكتفي بالعلوم الدينية وحدها. ورزئ العلم الإسلامي في تلك القرون الخوالي القريبة العهد بحكام بنوا حكمهم على الغصـب والجور والعصبية والغنيمةوالعدوان ، وأغلقوا المدارس وحرموا الشعوب المسلمة من التعليم بما في ذلك التعليم الديني ، واحتجوا بما نسبوه لعلي بن إبي طالب كرم الله وجهه بأنه قال : لاتعلموا أبناء السفلة العلم ، وكان كل أفراد الشعب في نظرهم فيما عدا من يساندهم من عائلات التجار من أبناء السفلة وهم فقط من الأشراف الذين يجب أن يقتصر تعليم الدين عليهم وعلى أولادهم وبناتهم وجواريهم الذين كانوا يستقدمون لهم المعلمون. ورأينا أحد الـلاطين يعمم أمرا على أصحاب الكتاتيب ألا يعلموا الناس سوى الفاتحة والقليل من قصار السور التي تلزمهم لآداء الصلاة وفرائض الوضوء والغـسل وكتيب ذلائل الخيرات. ومع انحـسار العلم الديني والدنيوى لم يعد للبر ، أي للإيمان والإحسـان ، في المجتمع مكان. وعندما أعيد فتح المدارس قبيل منتصف القرن العشرين ، كان من الطبيعي أن ينحصـر الإهتمام في تعليم أركان الإسلام الخمس ، بينما كان الاهتمام بالايمان والإحسان محدودا . واقتصـر الاهتمام بالايمان والإحسـان على بعض القيم الإخلاقية دون تركيز عليها. لذا نجد رجالا ملتحون يؤدون الصلوات الخمس جماعة ، وتتدلي منأيديهم مسابح أطول من لحاهم ، ولكن قلوبهم لم تعمر بالأيمان ، ولم ترتق لديهم النفس في مراتبها من نفس أمارة بالسوء إلى نفس لوامة إلى نفس طيبة طاهرة بذكر الله قوامه. وتحول تدينهم إلى نوع من العصبية والتعالي على الغير، والتحامل عليهم إلبى حد التجني . . ورأينا أناسا أخرين ، ربما لايصلون غير يوم الجمعة، يخرجون إليها في ثياب بيض يرفلون ، تحسبهم ملائكة على الأرض يمشون، وهم يقولون ما لايفعلون. و يحبون المال حبا جما ويأكلون التراث أكلا لما ،ويمنعون الماعون . ويستحلون مال اليتيم،لايخشون فيه إثما ولا لوما،وينتهكون الحرمات، ويفسدون في الأرض بغيا وطلما . ويصدون عن سبيل الله إن كان في الصـد عنه لهم غنما،ذ ويحملون في صدورهم قلوبا سقما ،وإن ذكرتهم بأياته إن أضت بمطامحهم كانوا عنها عميانا وصما ، ونيقصـون في الكيل ويطففون في الميزان ، ومن هؤلاء وهؤلاء، ممن يعتبرون أنفسهم أفضـل إسلاما، من يتعامون مع الناس بجفاء وبغير إحسـان، ويضمرون في نفوسهم البغضاء والكراهية والحسـد والخسران ، ولا يتورعون عن الغيبة والنميمة والتجـسس عليهم بحثا عن العيوب والأدران..وظهر في تلك النفوس التي لم ترتق في مدارج العقيدة إلى الإيمان والاجسـان :الكبر والغلو والتشدد في الدين والتعـصـب ونصـب المكائد لمن في نظرهم أقل منهم إسلاما والتزاما. ويتعاملون بالربا وقد نهوا عنه ، ويدلون بأموالهم إلى الحكام ليأكلوا أموال الناس بالباطل وهم يعلمون . ويتخذون لله أندادا وشركاء في الملك وبنعمائة يكفرون ، وقد افتروا على الله الكذب وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ، واتخذوا بطانة من دونهم لا يألونهم خبالا لعلهم بهم ينتصرون.وقد يسأل سائل : هل هم بعد ذلك مسلمون؟ وأكتفي في الإجابة بقول الله في شأن أمثالهم : «  أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ، ومالهم من ناصرين” وقوله تعالي : «  وكم من قرية عنت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا ، فذاقت وبال أمرها ، وكان عاقبة أمرها خسرا” . وإن كانوا مازالوا من المسلمين فهم ليسو من الإيمان والإحسان على هدي. وربما ينطبق عليهم لفظ : « القاسطون” ، أي الذين لم يكتمل لديهم دينهم ، وينطبق عليهم قوله تعالي على لسان الجن الذين استمعوا تلاوة الرسول للقرآن الكريم : “وَأَنّامِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـَئِكَ تَحَرّوْاْ رَشَداً* وَأَمّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنّمَ حَطَبا” أي أنهم لو أسلموا وجههم لله مخلصين له الدين وطهروا قلوبهم تحروا رشدا ، وإن ظلوا على حالهم كانوا ، رغم عبادتهم الظاهرة والتي قد تكون ريائا ، كانوا لجهنم حطبا .

بوجود هؤلاء ومن هم أدني منهم درجة أو درجات ، ممن يجهرون بعدائهم للدين والملتزمين به ، ويشايعون الرذيلة ويسعون لنشرها في الأرض، وجهلهم أو تنكرهم للإسلام والإيمان والإحسان ،وما يرتبط بهما من عدل واعتدال ، عمت المظالم ونهبت الممتلكات العامة و أموال الناس وانتهكت إنسـانيتهم وأعراضهم وحقوقهم . وتحول بعض الناس في المجتمع إلى وحوش كواسر ، لايعرفون للشفقة أو الرحمة معني وإنما يجدون في الاعتداء على سواهم متعة ولذة، لايردعهم عن ذلك أي رادع.وإنما سخرت االقوانين لخدمتهم وحما يتهم . فأشاعوا الخوف والرغب في نفوس المسـالمين الآمنين ،وعوض مكافحة الإرهاب كما يدعون ، عمموه وسخروه لمآرب لايعلمها غير الله. وانتشرالفقر والجهل والمرض في المجتمع، وكان التخلف عن باقي الأمم جزاءا وفاقا .مصـداقا لقوله تعالى: “فمن اتبع هداي فلا يضلّ ولايشقى ومن اعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً” (طه/123)

يقول الشيخ العزالي في مقال منشور له يوم 1988/9/18 : « وقد عاصرت أحوالا كان الكسـب الحرام فيها عادة مألوفة ، وربما مررت بارض شاسعة ليس عليها علم لأحد، هي بعض أرض الله التي خلق لعباده ، ثم مررت بها مرة أخرى فإذا هي أضحت ملك فلان إبن فلان . ممن اشتراها؟ وماذا دفع فيها ؟ . بقد وضع يده عليها فحلت له ، ولأولاده وأحفاده من بعده . إن هذه المسالك في دار الأسلام كان اول الأسباب لانهيارها، واستسلام بنيها للشيوعية “ ويروى عن رسول الله جديثا يقول فيه بأنه لو تزول قدم عبد يوم القيامة حتي يسأل عن ماله من أين اكتسبه ؟ وفيم أنفقه؟ ..ومن واجب الحاكم المسلم ، أو يتخذ من الإسلام غطاء شرعيا لحكمه ، أو مرجعية له ، أن يسأل المحكومين عن أموالهم : من أين اكتسبوها؟ وفيم أنفقوها ؟ دون انتظار ليوم الحساب ، فيصادر المال الحرام ، ويحجر على السفهاء ، ولو من قبيل درء المفاسد وحماية المجتمع المسلم . ولكن المشكلة في أن يكون الحاكم المسلم المؤتمن على مال المسلمين هو الذي منح الأرض لفلان أبن فلان ، فأعطي من لا يملك من لا يستحق. وهذا الذي يأخذ بلا حسـاب يطغى في الأرض ويفسـد فيها بلا حساب حتي رأينا ثري مصـري تحول بين فجر وضحاها إلى ملياردير، ومشارك في حكم مصر المحروسة التي لم يعد يحرس مالها أو عرضها أحد عن طريق موقعه في الحزب الحاكم وعضويته لمجلس الشورى ، يعطي مليوني دولار لشرطي سابق ليقتل مغنيه لبنانية في دبي بعد أن تعقبها من لندن إلى هناك.وفي كل بلد من بلاد المسلمين لن نعدم مثيلا له أو أكثر أجراما وطعيانا. طالما الداء المستشرى فيها واحد. قال سبحانه وتعالي : « وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ، فدمرناها تدميرا.»

ومما يمكن أن يؤخذ على الجماعات الدينية، إلا القليل منها، أنها ركزت اهتماماتهاعلى أركان الإسلام الخمسـة ، ولم تعط اهتماما كافيا لمكونات الإيمان الستة ، والتي بات الناس لايعلمون منها سوى أسمائها ، أما معناها ومحتواها ومقاصد العقيدة في الإيمان بهذه المسميات فقليل من يدركهما . وحتي اقتران الإيمان بالعلم ، أو لزومية العلم له ، طل مشوشا وغير واضح في الإذهان. ووقر في الكثير منها بأن العلم المطلوب هو العلم الديني وحده ، والذي اعتبر أن فيه صلاح الدين والدنيا ، وأن ما عداه من علوم فضول .ونفس الشيئ بالنسبة للأحسان الذي لايعرفون عنه سوى أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فهو يراك . أما تفاصيل تلك العبادة وكيف تكون فظل ذلك مجهولا من أغلب الناس.

ولقد سبق لي أن كتبت أن السياسة وفنونها علم ،وأنها علم العلوم .و إن أكثرالمصـائب و الكوارث التي ابتليت بها الدول الإسلامية ناتجة من أن من يتولون سياستها ، سواء ممن يحسبون من أهل السياسة أو التكنوقراط يجهلون علم السياسة ، ولذا تخبطوا في ممارستهم لها.وحبطت أعمالهم فيها ،وإن دققنا في الأمر سنجد أن دور هؤلاء هو تنفيذ ما يوحي بهم عسكر بلادهم ، وجهل هؤلاء بالسياسة أكثر من جهل من يأتمرون بأمرهم.

علينا أن نعترف أيضا ، استنتاجا مما سبق ، بأنه لا يمكن لدولة أن تحقق تقدما حضاريا بحكومة دينية ،لم تتجاوز معرفة حكامها العلوم الشرعية. ولقد نجد دولة مثل ايران التي يوجد على رأسها وفي فقيه ، وتتوزع فيها المسـؤوليات على الملالي من خريجي حوزة قم قد حققت تقدما في الصناعات العسكرية بعد أن تركت فيها الخبز لخبازه ولو يأكل نصفه ، كما يقول المثل . ولكن لم يتحقق نفس التقدم في الاقتصـاد وهو عصب الدولة . وتشهد حاليا مستوى عال من التضخم محليا ، ولم تتحقق فيها أية عدالة اجتماعية. ولقد سبق أن حقق صدام حسين نفس الطفرة العلمية في المجال العسكرى، ومع ذلك قاد بلده نحو الخراب. وذهبت كل إنجازاته هباء ،بسبب ممارسته السياسة، وهو عسكرى لاعلم له بالسياسة ، ولا رغبة حتي في تعلمها ،بعد أن أعماه الغرورواإحساس المفرط والمرضي بالعظمة عن ذلك . نفس الشـيء ممكن قوله على المتخصصين في علوم مثل الطب والصيدلة والهندسة والدفاع وغيرها ، فإن تخصصهم لا ينفع في تخطيط سياسة دولة ، أو تنفيذها في غير مجال تخصصهم ، مالم ينكبوا على دراسة علوم السياسة ، والتي تشمل مزيج من العلوم الإنسـانية مثل الاقتصـاد و علم النفس والاجتماع والقانون والتاريخ والجغرافيا وغيرها. وثقافة عامة ولو سطحية في شأن العلوم التطبيقية يعرف فيها المثقف دور كل من العلوم في التقدم الحضاري وفي الانتاج الزراعي والصناعي.وليس من الضرورى الحصول على شهادات دراسية في علوم السياسة ، بل قد يكفي عقد دورات دراسية مكثفة فيها عن طريق أحزابهم السياسية يستقدمون لها خبراء وأساتذة مشهود لهم بالكفاءة العلمية ولهم مؤلفاتهم في السياسة والاستراتيجية وإقتصاد التنمية.وهو ما لم ينتبه إليه أو يشرع فيه أي حزب سياسي بعد ، وأقصي ما يبذلونه من جهد هو عقد ندوة أو ما يسمونه أحيانا بيوم دراسي يتم ملء وقتها بخطب حماسية أو يتداول فيها من يحتاجون من يعلمهم وليس بالتالي بمقدورهم أن يقدموا معرفة أو علما ، لأن فاقد الشيء لايعطيه.

ومع ذلك ، وإذا كانت السياسة ليست من علوم الدين ولا يصلح لها من اقتصـر تعليمهم على العلوم الشرعية ، فمن الواجب على من يمارسها كمسلم وعالم ومؤمن أن يلتزم بأحكام وحدود الدين كما شرعها الله ورسوله . أى أن تكون السياسة متدينة وليست دينية. وهذا هو التمييز، وليس الفصـل بين السياسة والدين الذي كتب فيه وشرحه وفصله ودافع عنه الدكتور سعد الدين العثماني وكان مما قاله فيه بأنه يستحيل عند السياسي المتدين الفصـل بين السياسة ودينه، ولكن يستوجب عليه في ذات الوقت التمييز بينهما، وإذا كان التمييز لا مفر منه للسياسي المتدين، فإنه يستحيل أن نطالب به سياسي غير متدين أو متدين وغير سياسي، لأننا في هذه الحالة سنكون قد طالبناه بأن يميز بين أمر يعلمه وأمر يجهله، بينما المنطق المعقول هو أن نطالبه التمييز بين أمرين يعلمهما معا. .

ويجب أيضا أن تمارس السياسة في حدود الإحسـان . أي أن تكون ممارستها بمثابة عمل تعبدي وخالصة لوجه الله تعالى وحده . وهو أيضـا ما قال به الدكتورسعد الدين العثماني (متخصص في الشريعة وعلم النفس )،عن حق وعلم ودراية وروية.. وقد علقت على ذلك في حينه على في مقال لي منشور بجريدة العدالة والتنمية المغربية بتاريخ 7 يناير 2008،قائلا : إن السياسة التي تتخذ من الدين الإسلامي مرجعية لها، مثلما أشار إلى ذلك وأثبت الدكتور العثماني، تعد ضربا من العبادة وهي عبادة سبيلها السياسة بينما للعبادات الأخرى سبل أخرى، ولذا وجب على المتعبد بالسياسة أن يجمع بين علوم الدين وعلوم السياسة أو يكتفي بالعبادات الأخرى ويبتعد عن ممارسة السياسة. (...)وتسلم حزب سياسي ذو مرجعية دينية الحكم أو المشاركة فيها، يجب أن يكون في سبيل الله ولتحقيق مصالح المسلمين وحماية حقوقهم، ولا يجب أن يكون قبوله الحكم أو المشاركة فيه لمجرد تأكيد ولاء الحزب لنظام سياسي أو الحصول على شهادة بحسن السير والسلوك من أجهزة به، لأن المشاركة إذا كانت لغير الله كانت بمثابة إخلال بواجب التوحيد لله وأقرب إلى الشرك به، ولذا يجب على الحزب ألا يقبل ذلك إذا لم يكن بمقدوره أن يجسد رؤيته السياسية المستمدة من قيم ومقاصد الدين على أرض الواقع كعمل تعبدي يبتغي فيه مرضاة الله، فإن لم تكن الظروف مواتية بعد وجب الاعتذار عن المشاركة في حكم لا يحقق ذلك إلا أن يتغير المناخ السياسي ويكون ملائما للعمل السياسي الناجع والمقبول من الله والمأمول فيه من عباده، ووضوح ذلك والالتزام به يتطلب الجمع بين المهارة الحزبية والدراية السياسية معا بالإضافة إلى الالتزام بتقوى الله طبعا.
وهذا المنهج المتسـق مع ما يلزم به الإيمان والإحسـان ، أو يلتزم به” الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، يجب أن يكون كل موقف سياسى للمؤمن المحسن يبتغي به مرضاة الله وحده وإلا كان موقفه مشوبا بشرك. قد يصعب هذا وفق شروط الممارسة السياسية المتاحة ، ولكن أيجاد حل لهذا المأزق ليس مستحيلا.فالمؤمن كيس فطن ، وإذا كانت موازين القوي ليست في صالحه أمكنه أن يصبر حتي يكثر عدد الؤمنين فتقوي بهم ظهره . ويسعي بهم نحو احقاق الحق وابطال الباطل ، ولا يجب أن يجعل الخوف يتسرب إلى قلبه وهو لم يصنع ما يستدعيه ، وليذكر قوله تعالي : "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ “ (آل عمران: 173-175).اوصدق الإيمان يحمي صاحبه من الوهن والاستكانة والضعف والخوف و يساعد على تصحيح موازين القوي المادية ، فلا يجعل الدنيا أكبر الهم، ومبلغ العلم فيتخفف المؤمن من جواذب الأرض التى تجعله يثّاقل إليها ،ويحرر عقله وإرادته ، ويزدد ثقة في نفسه . قال تعالي : "وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِـبُّ الصَّابِرِينَ".وهو هنا غير مطلوب منه أن يحارب أو يعادي أحدا وإنما أن يسلك سبيل السلم وإذا خاطبه الجاهلون قال سلاما . وقال الله تعالي :"وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُـمُ الأَعْـلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ” (آل عمران: 146).وقال : "وَكَـانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِيـنَ" (الروم: 47) .وقد لا ينصرني الله على الظالمين ولكنه ينصرني على نفسى فلا تطير شعاعا من الإسي والحسرة والحزن وتحتظ بجأشها وقوة ايمانها، وتصبر صبرا جميلا ، والله يحب الصابرين ."إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِـفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا(الله) فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ" (الأعراف: 201) وا يجب على المؤمن ألا يكون يائسا أو قنوطا ، فأنه يجب عليه أيضـا ألا يكون عحولا فيتهور أو يرضي الدنية ليصل إلى مبتغاه٫

خلاصة القول هنا أن شخصية عقيدة التوحيد الإسلامية قد اعتلت وأصيبت بالانفصـام منذ تقلص دور الإيمان والإحسـان فيها .وأن البعث الديني أو الصحوة الدينية الحقيقية هي التي تعيد إليها صحتها ووحدتها وتوحيدها . وأن علماء المسلمين خلال الألف عام الأخيرة من عمر الإسلام لم يهتموا بفقه الحضارة والأخلاق القائم في العقيدة على الإيمان والإحسان ، وقصروا جهدهم على فقه العبادات في الإسلام وليس في الإيمان والأحسان ، ولكل عبادته أيضا . بل لقد بلغ بهم أحيانا أن أعتبروها من الفرعيات أو الثانويات ، أو من المكملات والتحسينيات وهي من أصول الدين وأساسياته . والآن وجب الاهتمام بالمهمل أو المهجور لأن بدونه لن يحرز المسلمون تقدما. وفي الأديان الأخرى التي تقدم المؤمنون بها ، كان لمبادئ الإيمان والإحسان لديهم ، رغم أنها أقل قيمة وأحكاما مما هي عليه في ديينا ، الفضل الكبير على تقدمهم٫ ولم يكن ذلك فقط عند أتباع المسيحية وإنما عند أتباع البوذية في آسيا أيضا. حتي لو كان الشائع أنهم علمانيون لايهتمون بالدين ، فإن البحث والتفصـي يظهر خلاف ذلك. ولذا فإن جهد المسلمين المخلصين يجب أن يتركز على هذا الجانب الذي لم يأخذ حقه بعد من العناية به رغم أهميته الكبرى في نهضة الأمة ثقافيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا .

الإيمان علاج نفسي:
تقول الدكتورة ليلي الأحدب (موقع إسلام أون لاين) :تعرف الصحة النفسية بأنها: "القدرة على مواجهة الأزمات النفسية العادية التي تطرأ على الإنسان، ويرافقها الإحساس الإيجابي بالسعادة والكفاية، ويكون ذلك عادة بإشباع أكبر قدر من حاجاته الأساسية للأمن والحب وإثبات الذات والإنجاز والنجاح".ولكي يتم توضيح ذلك أكثر يمكن القول: إن أهم عرضين طارئين على الصحة النفسية هما القلق والاكتئاب؛ فالقلق هو الشعور بالخوف من شر متوقع وعدم القدرة على دفعه، أما الاكتئاب فهو الشعور بعدم الاهتمام أو بالقيمة الشخصية وقيمة الأشياء وافتقاد السرور، وفي حالات شديدة منه يترافق باليأس، وقد يؤدي إلى الانتحار.وتحقيق التوازن بين الجانبين الروحي والمادي في التصـور الإسلامي يُكسب الإنسان الشخصية السوية التي هي أساس الصحة النفسية؛ مما يقلل من تعرضه لعوادي القلق وأزمات الاكتئاب، وبما أن الإنسان يستعجل دائما لتحصيل السعادة العاجلة (خُلق الإنسان من عجل)، ويغفل العمل للدار الآخرة؛ فإن القرآن يوضح أن الإيمان والعمل الصالح هما وسيلة الحياة الطيبة في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون).
يعتمد الأسلوب التربوي في الإسلام على ثلاثة مناحٍ:
المنحى الأول: هو تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتقواه.
المنحى الثاني: أداء العبادات المختلفة لتعزيز الجانب الروحي والصفاء النفسي.
المنحى الثالث: هو السيطرة على الدوافع الغريزية في الإنسان والتحكم بأهواء النفس التي تؤدي إلى المعاصي.
(٫٫٫) اضطر”علماء النفس إلى الإقرار بكون الدين عاملا مساعدًا للصحة النفسية والجسدية بعد أن تجاهلوه وقللوا من قيمته مثّل نقطة تحول مهمة في علم النفس. بل إن علم النفس المعاصر يعتبر الدين عاملا مهمًّا في إعادة الطمأنينة إلى النفس؛ فقد أكد كارل يونج أهمية الدين وضرورة إعادة فرص الإيمان والرجاء لدى المريض، وأكد ستيكل أهمية تدعيم الذات الأخلاقية على هذا الأساس.
كما أكد هايكو إيرنست على أنه تبدَّى من خلال عدد متزايد من الدراسات وجود تأثير وثيق وإيجابي متبادل بين الإيمان/التدين والحالة الصحية؛ فمن يؤمن بإله خيِّر أو بأي قوة سامية أو حتى "بمجرد" معنى أعمق للحياة فإنه يتغلب على أزمات الحياة والمشقة (الإرهاق) والصراعات النفسية الاجتماعية بسهولة كبرى؛ فالإيمان يسهل وجود "إستراتيجيات تأقلم" فاعلة، وبالتالي فهو أقل تعرضا للأمراض النفسية والجسدية. فالإيمان يؤثر وقائيا، ويبدي -إذا ما وقع المرض- ثقة كبرى بسيرورة الشفاء وينمي هذه السيرورة. إنه يسهل حصول الشفاء".
وقد قوم النفساني العيادي ديفيد لارسون بصورة منهجية كل الدراسات التي نشرت في أكبر مجلتين متخصصتين في الطب النفسـي بين عامي 1978 و1989 فيما يتعلق بالعلاقات بين الإيمان والصحة النفسية، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن التدين يؤثر في 84% من الحالات بشكل إيجابي، وفي 13% بشكل حيادي، وفي 3% فقط ظهر أن التدين مضر صحيا.
إنه لا يمكن مغالبة الفطرة التي يعتبر الإيمان جوهرها. ووفق المنظور الإسلامي فإن حياة المخلوقات مرتهنة إلى غاية؛ هي العبادة (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، وهي بمعناها الواسع تعني تلك الصلة الدائمة بين الإنسان وربه واتصال روحه بالمصدر العلوي. ومن ثم لم يكن غريبًا أن نجد مثل "جيفري لانج" (عالم رياضيات أمريكي أسلم) يعبر عن تلك الفطرة (الإيمان) بالقول: "يبدو أننا جميعا بحاجة لأن نؤمن بأحد ما أو شـيء ما. فالحياة دون معنى أو اتجاه بائسة حقًّا. ويبدو أنه يتوجب أن نحيا من أجل شيء ما عزيز علينا ونموت من أجله، سواء كان هذا الهدف أو الشيء مبدأ سياسيًّا أو خطة حياتية أو أمة أو حلمًا أو فكرة أو مالا أو سلطة أو جاها أو أسرة أو شهرة أو ثأرا.(...)وإذا كان "الإيمان" فطريًّا وضروريًّا فلا بد من الإقرار باختلاف التأثير بحسـب موضوع الإيمان ونوع المعتقدات التي نعتقد بها؛ فلا يمكن أن يؤدي الإيمان بالحجر إلى نتائج الإيمان بالله نفسها! كما أن الإيمان هو الذي يمنح المرء القدرة على قبول ما لا يستطيع العقل فهمه؛ حين يتصل بعالم علوي بواسطة المعرفة غير البشرية (الوحي)، وهذه المعرفة اليقينية هي التي تفصـل الإيمان عن الخرافة، فمن دون معرفة يتحول الإيمان إلى خرافة، وقد يأخذ طابع التشدد والرهبة؛ فتظهر آثاره على شخصية الإنسان وتعامله مع نفسه ومع غيره بشكل مدمر أحيانًا، ولذلك فما نبحثه هنا هو الإيمان السـوي الفطري الذي يشبع حاجة الروح إلى مصدر أعلى تلجأ إليه في الشدائد، وتحتمي به النفس من القلق وعوارض الاضطرابات النفسية الأخرى؛ وقد صور القرآن الكريم حالة الصراع والقلق التي تنتاب الإنسان الذي يفقد إيمانه بالله سبحانه وتعالى بالحالة التي يشعر بها الإنسان الذي يخر من السماء فَتَخْطَفُه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق.إن الإيمان يمنح المرء السلام النفسي الداخلي والطمأنينة الروحية، وهذا الأمر يمكن إدراكه في الديانات السماوية المرتبطة بالمعرفة الإلهية (الوحي) على أساس يقيني، دون الوقوع في شرك التأويلات البشرية المتطرفة التي قد تتحول إلى النقيض؛ فتنتج العداء للآخر المختلف معها في المعتقد.(٫٫٫)يما يخص الإيمان بالله فإنه يقي من حدوث حالات عصابية أو ذهانية؛ فالإنسان يتعرض لضغوط مختلفة تسبب له الإجهاد والقلق، وإذا زاد القلق عن حده الطبيعي فإنه يؤدي إلى حالات عصابية أو ذهانية. إن المؤمن ضعيف بنفسه قوي بربه سبحانه، وعندما يلجأ إليه ليستمد منه القوة فإنه يحول نقاط الضغط هذه لصالحه، وهذا اللجوء يكون بالصلاة “واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين” والتضرع”وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون” والذكر”ألا بذكر الله تطمئن القلوب».
كذلك فإن ما يفرضه هذا الإيمان على العبد من شعور بالعبودية للرب الخالق الرازق المعطي المانع الضار النافع الرحمن الرحيم العزيز الحكيم يجعل الإنسان في منأى من الخوف أو القلق، والمؤمن لا يخاف فوات رزقه؛ لأنه يقرأ الآية:”وفي السماء رزقكم وما توعدون”، ولا يخاف غير الله “أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد ».
وفي الإيمان بالقضاء والقدر يرتفع الإنسان فوق مخاوفه وهمومه أكثر فأكثر، فما كان لك آتيك على ضعفك، وما لم يكن لك فلن تناله بقوتك، وكما قال عليه الصلاة والسلام: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشـيء لم يضروك إلا بشـيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفت الصحف".
فبالإيمان بالقضاء يتحقق التوكل على الله والتفويض إليه بعد الأخذ بالأسباب والاعتراف بأن ناصية الإنسان في يد الله يصرّفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.
ثم إن الرضا بقضاء الله سبحانه وتعالى يسكب في النفس يقينا وسكينة وطمأنينة؛ فلا يبالغ المؤمن في حزنه ولا في فرحه:”ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور ». وعدم المبالغة في الحزن والفرح دليل على التوازن الانفعالي ومؤشر على تمتع الشخص بالصحة النفسية. ومن هنا نفهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له. وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له"، وفي هذا تعبير عن حالة متقدمة جدًّا في الصحة النفسية.(٫٫٫)
ولا بد للإيمان أن يترافق بالتقوى والعمل الصالح، والتقوى هي أن يراك الله حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك، وهي موجهة لسلوك الإنسان ليرقي ذاته ويرتقي في سلم الإنسانية، والتقوى بهذا المعنى تجنب السلوك المنحرف والشاذ والسيئ، وهي بالتالي من العوامل الرئيسية في نضوج الشخصية وتكاملها واتزانها لبلوغ الكمال الإنساني، وتحقيق السعادة والصحة النفسية .(٫٫٫)هذه الأساليب الثلاثة: "الإيمان، والطاعة، واجتناب المعصية" يسعى الإسلام إلى تقوية مناعة الفرد النفسية، وتحقيق التوازن بين البعد الروحي والبعد الجسدي؛ مما يؤدي إلى شعور الفرد بالطمأنينة والسكينة واتصاف المجتمع كله بالأمن والسلام » انتهي كلامها.

وقال أبي رحمه الله في الإيمان شعرا:
ومــا نعمة الإيمــان إلا مراحم * تفيض بأضواء الهدي في السرائر
إذا عبست سود الحوادث أشرقت * على القلب إشراق النحوم الزواهر
وكيف يصد الحر أعوان دهره * إذا لم يك الإيمان أقوى مناصــــر
ومن لعليـل القلب يأسو جراحه * ويشفيه من حر الأسي في الضمائر
إذا هو لم يرفع إلى الله دعوة * ويتق بالإيمــــــــــان شـر البـوادر
إلا إنما الإيمــان واحة مصحر * وسلوة محزون ، وراحة ســـــاهـر
عرفت به نفسي فأسلمت أمرها * إلى الله إسلام التقي المصـــــــابر

No comments: