Thursday, January 6, 2011

لم نحتاج إلى حركة مجتمعية للتنمية؟

بعد أكثر من خمسة عقود على حصول الدول الأفريقية على استقلالها باتت تلك الدول وأجهزة الحكم فيها عاجزة عن تنمية مجتمعاتها ومواصلة تقديم الخدمات الأساسية لها من تعليم وصحة وفرص عمل ، وانتشر في جنبات تلك المجتمعات الفقر والبطالة والعنف والفساد والجريمة ، وتفشت فيها الأمراض المهلكات، وتدهورت أوضاعها على كافة الأصعدة.
لست هنا بصدد بحث الأسباب ، ولكنني أكتفي بتوصيف واقع معاش بحثا عن حل يغيره ومخرج صدق منه يرفع عنا وطأة سلبياته.ولا أريد أيضا الخوض في غمار التنظير، ولدي الدول الأفريقية ما يزيد عن حاجتها من الأبحاث النظرية ومن المنظرين البارعين ، والإنتاج النظري الضخم منشور أو طرح في العديد من المؤتمرات والندوات من أعلامه أو في برامج الأحزاب الزائفة بعد أن صار أفضل إنتاج لدينا هو الثرثرة .ولذا لا يحتاج الأمر إلى المزيد منها. وقد مرت عقود تلو أخرى وبلادنا غارقة فيها وآن الوقت لكي نتوقف عن إهدار الزمن في إعادة إنتاج مقولات قد تكون صحيحة وبليغة ، ولكنها غير منتجة. ولم يكن لها أدني تأثير في تغيير الواقع الذي تبشر به.وإنما تزداد الأوضاع تأزما، والتحديات حدة . وإذا ظللنا نكتفي بالتنظير\م فقد يأتي يوم نعجز فيه عن الفعل، ونستسلم للموت بمعناه الوجودي وليس الفسيولوجي، ونحن في واقعنا الحالي أشبه الموتى فعلا، ولكن لازال بالإمكان ممارسة الفعل المغير ، لو توفر لدينا الوعي والإرادة.

أحاول إذن بالدعوة إلى حركة مجتمعية للتنمية أن أنتقل من الفكر النظري إلى الفكر العملي. فمع تفاقم الأخطار ، وتردي الأوضاع المتواصل، أرى أن الاكتفاء بالجدل الثقافي والسياسي ، دون المبادرة لمباشرة عمل يجسد إرادتنا ونزوعنا نحو التغيير ، وإقامة مجتمعات جديدة وحديثة مزدهرة وحية وعادلة ومتكافلة ومتحدة وتمتلك ما استطاعت من مفاتيح ومصادر وموارد القوة المادية والمعنوية والرمزية ومتطلبات المناعة والتحرر والتقدم، لا يعني الامتناع عن العمل أو القصور فيه سوى الانتحار عن عمد أو غفلة .
إن أكبر تناقض يسقط فيه الكثيرون يتمثل في أقرارهم بأن الدولة باتت عاجزة عن الفعل ، ثم ينتظرون في ذات الوقت إن يتم التغيير المنشود عن طريق مؤسساتها ، بينما فاقد الشيء لا يعطيه. ومن العبث أيضا أن نتصور أننا عندما نرفع شعارات الحداثة والديموقراطية وإدماج المرأة في التنمية (دون أن يكون ثمة تنمية) سنتمكن بذلك من حل مشاكل مجتمعاتنا المتفاقمة.

إن ما تسعى اليه الحركة المجتمعية هو حشد كل القوى الحية في المجتمع من أجل العمل الجماعي لتحقيق تنمية شاملة اقتصادية وانسانية في معزل عن الدولة ومؤسساتها وبيروقراطيتها وفسادها وعنفها وقمعها، وأن نريحها منا ونرتاح منها ، ونتفرغ لما هو أجدى من خدمتها أو مشاكستها، فلا ندخل في صدام معها ولا نقيم سلطة بديلة لها أو الإضرار بمصالح القوى النافذة فيها ، أو إثارة مخاوفها ، حتى يحقق المجتمع كل ما يتوق اليه دون أن تعترضه عقبات أو يحد من اندفاعه عوائق تعرقل مسيرته تحو تحقيق التقدم والثروة والحرية والكرامة والوحدة والعدالة الاجتماعية.

ولا يحتاج المنهج العملي الذي تدعو إليه الحركة المجتمعية إلى شعارات أو أيديولوجيات أو صراعات سياسية أو ثقافية أو ثقافية ، وإنما يحتاج أن يعرف كل فرد في المجتمع دوره وينخرط في أدائه مع باقي أفراد المجتمع في تواد وتراحم وتضامن وتكافل . ولا يعني هدا أننا لسنا حاجة إلى الفكر أو الاختلاف فيه بمعني تعدد الرؤى، بل سنكون في أمس الحاجة الى ذلك، وإلى الابداع الفكرى المستمر والنهوض بالثقافة المجتمعية التي تعود بالنفع المباشر وغير المباشر على المجتمع وتساهم في رقيه وتقدمة وانعتاقة من ربقة الفقر والتخلف، ولكن تعاطينا للفكر والثقافة يتم ونحن نعمل لكي نحسن من مستوى العمل وليس قبل البدء في العمل ، مع تجنب ترك العمل والانشغال عنه بسجالات فكرية عقيمة ، أو بتقسيم جلد النمر قبل صيده. وعندما نهجر السياسة فإننا نهجرها فقط عندما ينحصر دورها في الصراع على السلطة ولكننا نمارسها كعلم ينحصر دورة في حسن أدارة معاش الناس وفقا لما وصفها به علماء المسلمين في زمن إزدهار حضارتهم التي أفلت. وبهذا الفكر العملي المنشود نتمكن من إقامة مجتمع موحد يكون مثل البنيان يشد بعضه بعضا أو مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى مودة خالصا وتراحما إنسانيا قويا ، ودون أن يكون لذلك علاقة بنظام الحكم ولا بالتعددية الحزبية أو الثقافية أو الطائفية أو الفكرية أو بمؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات وعير ذلك ، فكل هذه المؤسسات حكومية وغير حكومية يفترض أنها تتكون من أفراد مواطنات ومواطنين يعملون داخل شبكات الحركة المجتمعية ومؤسساتها كجزء لا يتجزأ منها وخارج الحركة فليفعلوا ما يشاؤون، يؤدون وظائفهم الحكومية أو أنشطتهم المدنية غير الحكومية ، يؤيدون الحكومة ويشكلونها أو يعارضونها ، يشاركون في الانتخابات العامة أو يقاطعونها، يتصارعون سياسيا أو يتحالفون ويتهادنون، ولكن كل ما يمارسونه من تلك الأنشطة يظل خارج نطاق الحركة ومؤسساتها ولا يؤثر على عملهم فيها أو يضر بمصالحها التي هي مصالح جميع المواطنين أويعوق تحقيقها لأهدافها في خدمة المجتمع والنهوض به.

فلسفة الأسرة وثقافة الحركة المجتمعية:
لأن الحركة مجتمعية ، والأسرة هي أصغر خلية في المجتمع ، والأفراد خارج الأسرة لا يمثلون اجتماعا أو مجتمعا مترابطا،فإن الحركة المجتمعية للتنمية تعتمد ما يمكن تسميته بفلسفة الأسرة بالمفهوم الواسع للأسرة والذي يشمل الأسرة الممتدة ، والتي تتشكل على أساسها القبائل في العديد من المجتمعات الأفريقية. وهي بالتالي لا تقر ب "الفردانية" والفلسفة الغربية القائمة عليها والتي هي نتاج التحولات التي شهدتها المجتمعات الغربية خلال عصر الثورة الصناعية.
ولأن الحركة المجتمعية أفريقية ، وتسعي إلى إقامة تنمية اقتصادية وإنسانية واسعة النطاق الجغرافي في شمال أفريقيا ، فمن الطبيعي أن تستلهم فلسفة الأسرة لديها قيم التراث الأفريقي قبل المسيحية والإسلام وبعدهما.
ولأن الحركة المجتمعية تجمع شتات مجتمعات تدين بالمسيحية أو الإسلام فمن الطبيعي أن تلتزم بالقيم والتعاليم المسيحية والإسلامية وتحترمها ولا تتنكر لها. من ناحية لأن المجتمع لن يرقى ويتحقق له السلام والأمن الاجتماعي ما لم يحترم تلك القيم ويتخلق بها ومن ناحية أخرى لن يتيسر الحشد المطلوب في مجتمع يغلب عليه التدين والتمسك بعقائده الدينية. ولأن الحركة المجتمعية تسعي نحو التقدم والتحديث فهي تلتزم أيضا بالقيم الحضارية الإنسانية التي تتفق مع أفضل ما في تراثها الحضاري والديني والتي تتفق مع قيمة الحداثة وفي مقدمتها قيمتي : التعقيل والإبداع. والتي تعد الحداثة الغربية أحدى تطبيقاتها ،وليست في نفس الوقت النموذج الوحيد والمثالي لها رغم ما حققته من نجاحات في المجالات العلمية والتقنية ، وتعطي لذلك الحركة المجتمعية مثلها كل الاهتمام للعلوم الإنسانية والتطبيقية وللبحث العلمي وتطوير التقنيات وتبيئتها دون إهدار للقيم الروحية أو الإضرار بالبيئة الطبيعية، أو استنزاف لمواردها لمواردها المتجددة بما يحول دون تجددها ، أو الإسراف في استهلاك أو تبديد الموارد الطبيعية الناضبة بما يحول دون تمتع الأجيال القادمة من خيراتها.

هذه إذن الثقافة الحاكمة للحركة المجتمعية المتوافقة مع ماهيتها ، والتي تعينها على أن يكون لها هوية مجتمعية متطورة وراقية وتقدمية بقدر ما تتقدم به على درب التحديث لبنياتها واقتصادياتها والتقدم العلمي والإنساني والازدهار المجتمعي.
وهذه الثقافة ، بمحتواها المادي والروحي ، هي ثقافة عملية أثبتت تاريخيا صلاحيتها، وهي حاليا معاقة أو غائبة عن حياة المجتمعات الأفريقية القائمة، ومن الطبيعي أن تسعى حركة تنشد التقدم والتحديث أن تعيد إليها الحياة والحضور الدائم والفاعلية في المجتمع .

ما سبق ذكره هنا هو موجز لدواعي الحاجة إلى الحركة المجتمعية وطبيعتها ، ومقدمة لتفصيل ما هيتها وبيان للفكر العملي الدال عليها، والذي قد يخالطه بعض التنظير إن اقتضى الحال كشروح ضرورية له.
فوزي منصور

السودان على سطح تنور يفور

من حصاد زيارتي للسودان :

وصل أمس يوم 3يناير الرئيس السوداني عمر البشير إلى جوبا عاصمة جنوب السودان في زيارة مفاجئة يرافقه فيها وفد كبير للتباحث مع حكومة الجنوب بعد أن صار باقيا على موعد إجراء الاستفتاء الخاص بانفصال جنوب السودان أسبوعا واحدا.حيث ينتظر إجراء الاستفتاء في موعدهااالمحدد يوم 9 يناير الجاري. وقد فسرت الزيارة بأنها جاءت للتأكد من أن الاستعدادات لإجراء استفتاء نزيه وشفاف في جنوب السودان قد اكتملت وأيضا لإيجاد حلول عاجلة للمسائل الخلافية العالقة بين الجانبين ،
وحسب معلوماتي الخاصة فقد وصل إلى الجنوب في منتصف ديسمبر الماضي وفد من حزب المؤتمر الحاكم في زيارة غير معلنة تنتهي في 8 يناير الجاري وذلك للتباحث مع حزب الحركة الشعبية حول موضوعات منها تأجيل الاستفتاء وهو ما بلغ أمره الحكومة الأمريكية فأجرى الرئيس أوباما عدة اتصالات مع رئيس مفوضية الاستفتاء ومع على عثمان طه نائب رئيس الجمهورية يؤكد عليهما ضرورة إجراء الاستفتاء في موعده ولم يكتف بذلك بل أوفد في حينها كل من رئيسي مصر وليبيا إلى الخرطوم لنفس الغاية. وحيث قدمت طعون في إجراءات التسجيل موثقة إلى المحكمة الدستورية تؤكد وقوع خروقات في عملية التسجيل منها تسجيل مواطنين أوغانديين من الوافدين حديثا على جنوب السودان في سجلات الاستفتاء،فضلا عن وجود طعن سابق في دستورية الاتفاقية المعقودة بين الجانبين والمنظم الاستفتاء بموجبها، وقبلتهما المحكمة شكلا وأرسلت استفسارات في شأن الطعن في إجراءات التسجيل لمفوضية الاستفتاء، فقد حرص الرئيس الأمريكي على أن يطلب من رئيس المفوضية أن يجري الاستفتاء في موعده وألا تعطله أو تعيقه أية إجراءات قانونية. وقد أعلنت المفوضية بأنه تم تسجيل أربع ملايين ونصف ناخب من جنوب السودان ومن المناطق والدول الأخرى التي يتواجد فيها جنوبيين وتتشكك منظمات دولية في صحة الأرقام التي وردت في كشوف التسجيل بمختلف مناطق الجنوب والتي تزيد أو تقل عن العدد المفترض للمستوفين لشروط المشاركة في الاستفتاء.ورعم أنه تم تمديد المدة المخصصة للقيد فقد ظلت بعض مكاتب المفوضية تواصل التسجيل خارج المدة القانونية التي يفترض أن يتم فيها إغلاق التسجيل. وسبق لشان ريك مادوت نائب رئيس مفوضية استفتاء جنوب السودان أن قال في مؤتمر صحفي عقده بمقر المفوضية في جوبا إن أيام التصويت للناخبين الذين يحق لهم التصويت خلالها هي سبعة أيام وإن النتائج الأولية ستعلن بجوبا بعد ثلاثة أسابيع من الفرز، على أن تقوم المفوضية في الخرطوم بإعلان النتائج النهائية للاستفتاء.وبلغ عدد الذين يحق لهم التصويت حسب المفوضية 3.930.916 ناخبا، نحو 3.753.815 منهم سجلوا في ولايات جنوب السودان العشر و100.860 في ولاية الخرطوم و60.314 في دول المهجر.

واحتلت النساء صدارة قائمة التسجيل بنسبة 52% مقابل 48% للرجال، واحتلت ولاية الوحدة المتاخمة لولاية جنوب كردفان الشمالية أعلى نسبة تسجيل، حيث بلغ عدد المسجلين 500.975، واحتلت ولاية غرب بحر الغزال المجاورة لولايات دارفور أدنى نسبة حيث بلغ عدد المسجلين 164.497، في كل من ولايتي أعالي النيل وغرب الاستوائية500ـ ألف ولم تكن بطقات التصويت فيهما قد وصلت حين عقد شان ريك مادوت مؤتمره الصحافي.
وكانت السياسة الأمريكية حتى عهدي بيل كلينتون وجورج بوش تتجه نحو المحافظة على وحدة السودان مع العمل على إسقاط النظام الحاكم في الخرطوم إلا أنها تحولت بعد ذلك إلى تبني العمل على فصل الجنوب وتقسيم السودان تحت ضغوط اللوبيات الإسرائيلية. فقد قدم المبعوث الأمريكي جون دانفورث تقريرا لإدارة بوش في 26 أبريل 2002 خلص فيه إلى ضرورة إجراء تسوية في الحرب الدائرة بين جنوب وشمال السودان والتي تتطلب مصالح الولايات المتحدة وقفها سريعا واستبعد في نفس الوقت احتمال انفصال جنوب السودان باعتبار أن فصل الجنوب لن يؤدي الى السلام المنشود والدائم ، وبين دانفورث في تقريره ضرورة وجود آليات لضمان الحقوق السياسية والدينية والمدنية في إطار دولة موحدة. ومع بدايات عهد أوباما خرج على الملأ مبعوثه اسكوت جرايشن معلنا بأنه الولايات المتحدة تتوقع انفصال الجنوب وأنها مستعدة لذلك. وكان من أسباب تحول الولايات المتحدة من الحرص على وحدة السودان إلى السعي الحثيث نحو انفصاله هو التغييرات المحلية والمتمثلة في عدم التمكن من إسقاط حكومة الخرطوم من ناحية وتورط أوغندا في العمل على انفصال السودان ورغبتها في ضم جنوب السودان إليها بعد انفصاله في وحدة كونفيدرالية تضم أوغندا وكينيا وجنوب السودان أو وحدة فيدرالية بين أوغندا وجنوب السودان تحقق مطامع يوري موسيفيني حاكم أوغندا الاقتصادية وتدعمه سياسيا خاصة وأنه ينتمي في أوغندا إلى أقلية التوتسي وليس إلى أحدي القبائل الأوغندية الكبرى مثل اليوغندا والبانيورو والأشولي وقد عاني خلال السنوات الأخيرة من تذمر اليوغندا وملكها جنوب البلاد ومعارضتهم له، ومن هجمات جيش الرب الذي يقوده جوزيف كوني الذي ينتمي إلى قبيلة الأشولي شرق أوغندا.. ويلاحظ هنا بأن حكومة جنوب السودان قامت خلال السنوات الست الماضية باستبدال المناهج الدراسية في مدارس الجنوب إلى المناهج الدراسية في كينيا وأوغندا وترسل طلبة الجامعات إلى جامعات كمبالا ونيروبي.

عندما كنت في السودان الشهر الماضي كان كل شيء يبدو هادئا و طبيعيا في العاصمة إلا أن مظاهر التوتر والقلق كانت تبدو جلية في الندوات والاجتماعات التي تعقد هنا وهناك وتشارك فيها النخبة المثقفة السودانية ، وأيضا في مقالات الصحف اليومية العديدة، وفي تصريحات المسؤولين في الشمال والجنوب وفي أحاديث كل من التقيت بهم.
وكان أكثر ما يبعث القلق لديها هو الموضوع الأمني يليه الوضع الاقتصادي بعد الاستفتاء وانفصال جنوب السودان بمقتضاه. وكذلك توقع أعمال عنف قد تتحول إلى حرب شاملة وصرح ميليس زيناوي رئيس أثيوبيا الشهر الماضي بأن نشوب حرب جديدة في السودان بعد انفصاله سيكون بمثابة يوم القيامة في المنطقة وهو ما يفهم منه أن الحرب لن تقتصر على السودان وإنما ستشمل أيضا دول الجوار السوداني خاصة أثيوبيا وأوغندا وأر يتريا وكينيا وتشاد. وفي صحيفة نيويورك تايمز أكد كل من ديف ايغرز وجون برندرغاست بأن "الحرب في السودان هي قاب قوسين أو أدني". أما بالنسبة للوضع الاقتصادي فقد تخوف كثيرون من آثار حرمان الشمال من عائدات نفط الجنوب والذي اعتبره البعض بأنه كان العلاج لعلل الاقتصاد السوداني خلال السنوات الأخيرة. كما اضطر بنك السودان من تخفيض قيمة الجنية السوداني الجديد مقابل الدولار بنسبة تقارب العشرين بالمائة مما انعكس فورا على أسعار السلع في الأسواق وزاد من ارتفاع معدل التضخم والذي يخشي ان يكون جامحا وتعجز الحكومة عن التحكم فيه خلال الشهور القادمة من السنة الحالية. وفي ندوة عقدها الحزب الشيوعي السوداني في منتصف ديسمبر الماضي بجوبا قال سليمان حامد سكرتير الحزب في الجنوب بأن" الأسعار ارتفعت خلال الفترة من 2008 الى 2010 إلى أكثر من 480 في المائة الأمر الذي جعل المرتب يغطي 9 بالمائة من الاحتياجات الشهرية لأسرة من خمسة أفراد ، كما أن المرتب الأساسي للخريج الجامعي الذي يبلغ 370جنية أي ما يغطي 20 بالمائة من الحد الأدنى لتكاليف معيشته، وكذلك المعلم من الدرجة الرابعة مرتبه يبلغ 668 أي ما يغطي 36 بالمائة من احتياجاته الضرورية." علما بأن الجنية السوداني الجديد يساوي ثلاثة دراهم وإيجار الشقة الصغيرة في الخرطوم ل يقل عن خمسمائة جنية شهريا والشقة المفروشة فرشا متواضعا يبدأ إيجارها من ألف جنية شهريا.

المخاطر الأمنية المتوقعة في السودان بعد الانفصال:
فيما يتعلق بالوضع الأمني كانت هناك أسباب عديدة تستدعي القلق ومن أبرزها ما يلي:
1-القوات العسكرية التابعة لأحزاب المعارضة في اريتريا: حيث توجد معسكرات تدريب لأحزاب المعارضة السودانية في اقليم أجوردات باريتريا المتاخم للحدود مع السودان تضم حوالي أربعة آلاف مقاتل من شمال وجنوب السودان يتم تدريبهم يوميا بواسطة ضباط فرنسيين وربما كانوا إسرائيليين يتحدثون الفرنسية. وحشدت اريتريا مؤخرا قوات لها على حدودها مع السودان بالقرب من مدينة كسلا وشهدت الحدود اختراقات وهجمات من قبل الجيش الاريتري.
2-قوات الجيش الشعبي في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان: شاركت الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان في الانتخابات العامة التي أجريت في منتصف العام الماضي بمرشحين شماليين تابعين لها وكان منهم مالك عقار في ولاية النيل الأزرق وكذا مرشحين في دوائر بجنوب كردفان بجبال النوبة. وقد استمر تواجد قوات من جيش الحركة الشعبية في تلك المناطق رغم ما نصت عليه اتفاقية نيفاشا بإعادة انتشار الجيش الجنوبي وعودته إلى الجنوب كما امتنعت الحركة الشعبية عن ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب قبل الاستفتاء في مناطق النيل الأزرق وجنوب كردفان ومنطقة أبي البترولية بينما أكمل الجيش الحكومي في الشمال انسحابه من الجنوب بموجب تلك الاتفاقية. وتنص الاتفاقية أيضا بأنه في حالة الانفصال يتم إعادة أفراد جيش الجنوب من الشماليين الي الشمال وجزء كبير من هذا الجيش ينتمي إلى ولاية النيل الأزرق وجبال النوبة جنوب كردفان . وتجدر الإشارة هنا إلى تصريح غريب لمالك عقار والي ولاية النيل الأزرق قال فيه بأن ولاية النيل الأزرق من الأولي لها أن تكون جزءا من أثيوبيا المجاورة وليس من دولة السودان.
3-العصابات المسلحة في دارفور: قامت العصابات المسلحة الدارفورية التابعة لحركة العدل والمساواة وحركة تحرير دارفور بهجمات مشتركة في شمال دارقور تصدت لها قوات الشرطة وفي جنوب الفاشر عاصمة دارفور تصدت لها القوات المسلحة السودانية في النصف الثاني من ديسمبر الماضي وحسب البيانات الحكومية قد منيت قوات المتمردين بخسائر فادحة في الأرواح.كما قامت القوات الحكومية بقصف معسكرات شمال بحر الغزال تابعة لحركة تحرير دارفور التي يقودها مني اركو ميناوى الذي رفض تنفيذ ما اتفق عليه مع الحكومة السودانية في أبوجا من ترتيبات أمنية وتجريد قواته من السلاح ولجأ إلي جنوب السودان مما دعا حكومة الخرطوم بتقديم شكوى ضده الى مفوضية الاتحاد الأفريقي لخرقه اتفاق أبوجا الذي تمنع الماده 24 منه من تحريك قواته خارج إقليم دارفور والتواجد في جنوب السودان.
وكانت ثلاثة قيادات للعصابات المسلحة الدارفورية قد اجتمع في فندق بجوبا في نهاية شهر نوفمبر الماضي وضمت مني اركو ميناوي وعبد الواحد نور الذي قدم من فرنسا ثم عاد اليها بعد ذلك بالإضافة الي كل من أحمد عبد الشافع وأبوالقاسم إمام وحضر العشاء معهم قيادات عسكرية .ومن جيش الحركة الشعبية الجنوبية. طالب البشير حكومة جنوب السودان خلال زيارته الحالية لجوبا بعدم مساعدة قوات فصائل المتمردين الذين فروا من المعارك إلى الجنوب وهدد البشير بالتعامل مع المسؤولين عن إيواء المتمردين كما يتم التعامل مع الخارجين على القانون..وقد أعلن سلفاكير برناديت خلال زيارة البشير للسودان بأنه قرر طرد المعارضة الشمالية المسلحة من الجنوب وهو ﻻقيمة كبيرة له حيث كانت حكومة الجنوب قد منعتها من التحرك فبل قبل 9 يناير حتى يتم اﻻستفتاء في موعده، وطردهم سيتم عقب اﻻستفتاء وهو ما كان مقررا من قبل.
4- أعلن تجمع أحزاب المعارضة بأن أولوياته الحالية هي العمل على إسقاط الحكومة في الشمال عن طريق تنظيم انتفاضة شعبية ضدها وأكد ذلك أيضا محمد إبراهيم نقد أمين عام الحزب الشيوعي السوداني في ندوة بأم درمان حضرتها، ويمكن القول بأن المعارضة تعول على شباب من الخريجين العاطلين كانوا يعملون من قبل مع الحركة الشعبية قطاع الشمال والتي يتزعمها ياسر عرمان خلال الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة ثم تنكرت لهم الحركة الشعبية بعد الانتخابات وانسحاب ياسر عرمان من منافسة البشير على الرئاسة وانضموا الي تجمع أحزاب المعارضة والذي توجد قيادته خارج السودان والتي تنفق عليهم بما يحقق لهم مستوى الكفاف مقابل تنفيذهم لما تكلفهم به في الداخل.ويكونون هؤلاء مجموعات صغيرة لكل منها رئيس ونائب رئيس وأمين صندوق ولكل مجموعة أسم تطلقه على نفسها مثل : الحرية والغد والمستقبل والشروق وغير ذلك من الألفاظ المتفائلة. وقد أشارت صحيفة الانتباهة السودانية التي يصدرها خال الرئيس البشير إلى أن لدي الأجهزة الأمنية معلومات عن مخطط لإثارة الفوضي في الشمال عقب الإعلان عن نتيجة الاستفتاء وأنه يتضمن القيام باغتيالات لبعض المسؤولين السودانيين. ومع أن مصداقية صحيفة الانتباهة هذه تعتبر محدودة الا أنه لو صدقت فيما أوردته فإن السيناريو الممكن هو أن ينشغل الجيش السوداني بهجمات عسكرية في الشرق عبر الحدود الاريترية ومن الجنوب في مناطق شمال بحر الغزال وجنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق بينما يتم إثارة الانتفاضة التي تأمل فيها أحزاب المعارضة في الخرطوم بغرض الاستيلاء على الحكم وإسقاط حكومة حزب المؤتمر الوطني الحاكم. والغريب في الأمر هو أنه رغم وجود هذه التهديدات الأمنية المحتملة فقد لاحظت أن معظم المناطق السكنية في الخرطوم وبحري وأم درمان وضواحيهما يلفها الظلام الدامس بالليل لعدم إضاءة أعمدة الإنارة إن وجدت. أي أن ظروف إثارة الفوضي والتخريب خلال الليل تعد مثالية لمن يقوم بذلك في ظل هذه الظلمة التي تلف تلك المدن الثلاثة. ومما يدل على وجود عدد كبير من العاطلين الجامعيين في السودان من تخصصات علمية غير مطلوبة داخل السودان أو خارجة أنه عندما أعلنت الحكومة عن شغل حوالي 5000وظيفة تقدم إليها خمسون ألفا.

.هل كان استفتاء جنوب السودان ضروريا؟
إن استعراض تاريخ السودان الحديث وحلقات التمرد المسلح في الجنوب على حكومة الخرطوم يتضح أن سوء الممارسات السياسية للحكومات المتعاقبة ومعالجتها لأوضاع الجنوب هي التي أوصلت البلاد الى هذا المنعطف الخطير الذي لايهدد فقط بانفصال الجنوب وإنما بتفتت السودان أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة الى كيانات صغيرة متناثرة لا تملك أي منها مقومات الدولة المستقلة من الموارد الطبيعية أو البشرية ولا تستطيع صيانة استقلالها. إن مبدأ تقرير المصير صاغته الأمم المتحدة أساسا لكي تنال الدول الخاضعة لاستعمار دول أخرى استقلالها، ولم يقرر لتفتيت الدول. وعندما بدأت أول حركة تمرد مسلح في الجنوب والتي عرفت بحركة أنيانا لم يرد في أدبيات تلك الحركة المطالبة بحق تقرير المصير وانتهي التمرد بتوقيع اتفاقية سلام بينها وبين حكومة الخرطوم في أديس أبابا.
وحتى عندما عاد الراحل جون قرنق من الولايات المتحدة بحصوله على درجة الدكتوراه منها وقام بقيادة حركة تمرد مسلحة جديدة بدعوى عدم وفاء الحكومة في الشمال بما تعهدت به في اتفاقية أديس أبابا وتقسيمها الولايات الجنوبية بدون اتفاق مع الجنوبيين لم يكن جون قرنق وقتها يطالب بتقرير المصير وعقد اتفاقية مع محمد عثمان الميرغني عام 1988 توصلا فيها لعقد مؤتمرفي يوليو 1989 لمناقشة القضية القومية لجنوب السودان وتجميد العمل بقوانين سبتمبر التي صدرت في أواخر عهد جعفر نميري لتطبيق الشريعة الإسلامية ولكن الجبهة الإسلامية بقيادة حسن الترابي ومعها حزب الأمة لم يكتفيان بإسقاط الاتفاق في البرلمان وإنما قامت الجبهة الاسلامية بتدبير انقلاب عسكري في 30 يونيو 1989 وحرضت على مواصلة الحرب مع الجنوب وصبغتها بصبغة دينية مما جعلها تمتد إلى 20 عاما وتكلف خزينة الحكومة في الشمال قرابة المائة مليار دولار فضلا عن مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمشوهين واستحقت بأن كتوصف بأنها أطول حرب في تاريخ القارة الأفريقية .ولم يكن ممكنا بعد ذلك التوصل إلى سلام مع الجنوبيين غير تلك الاتفاقية التي صيغت في واشنطن وأجبرت حكومة الخرطوم على التوقيع إليها في يناير 2005 بنيفاشا في كينيا على أن يتم بعد ست سنوات من توقيعها إجراء استفتاء للجنوبيين فقط يقررون فيه البقاء في دولة الوحدة أو الانفصال عن دولة السودان وإقامة دولتهم الخاصة بهم. وقد ترتب على تنفيذ هذه الاتفاقية أن حكمت حركة تحرير جنوب السودان الجنوب منفردة وشاركت أيضا في الحكومة المركزية. وهي اليوم تنادي بالانفصال عن السودان وتعمل من أجله ولم تستفد حكومة الخرطوم من أنفاقها مليار دولار في الجنوب خلال السنوات الست لجعل الوحدة جاذبة ويختارها الجنوبيون في الاستفتاء.ولم يكن الحزب الحاكم وحده هو الذي وافق على منح الجنوبيين حق تقرير المصير وإنما وافقت كل أحزاب المعارضة على ذلك فيما عدا الحزب الوطني الاتحادي إلى حد ما. وتنص الاتفاقية على فترة انتقالية لمدة ستة أشهر بين التصويت على الانفصال في 9 يناير واستكمال استقلال الجنوب في 9 يوليوز 2011.
 ومن غير المتوقع أن يستفيد معظم المواطنين في جنوب السودان من انفصال الجنوب بسبب فساد الطغمة العسكرية الحاكمة في الجنوب والذي استشرى حتى بلغ الأمر ببعضهم بيع أراض لا يملكون حق التصرف فيها لأمريكيين وإسرائيليين في الجنوب. وسعي الرئيس الأوغندي في تمويل مشروعات مكلفة من عائدات بترول الجنوب وأيضا بسبب إدمان حكومة الجنوب على الاستدانة من الخارج وهو ما يعني أن موارد الدولة المالية سيتم استنفادها ويبق المواطنون على حالهم يعانون من الفقر والمرض وسوء الأوضاع المعيشية، ولو أن هذا أيضا هو الوضع الذي يعيشه اغلب المواطنين في الشمال أيضا حاليا وإن بنسبة أقل.
ومع غلبة التيار الانفصالي حاليا في الجنوب فإن ذلك لا يمنع من وجود جنوبيين كانوا يتمنون لو استمرت الوحدة بين الشمال والجنوب وخاصة القبائل الجنوبية التي تتحسب من سيطرة قبيلة الدينكا الحالية على مقاليد الحكم في الجنوب وعلى الجيش وهو ما قد ينجم عنه صراعات قبلية مسلحة داخل الجنوب ويهدد السلم الاجتماعي. كما يخشي المسلمون والذي تبلغ نسبتهم حوالي 18 في المائة من سكان الجنوب أن يسيئ معاملتهم بعد الانفصال قادة الدينكا المسيحيين ويعاملونهم معاملة تمييزية وهؤلاء يفضلون وحدة ولكن ليس في ظل الظروف والشروط القائمة في شمال البلاد.
ومبدأ اقتسام السلطة والثروة التي اعتمدته اتفاقية نيفاشا وتطالب بمثله الآن العصابات المسلحة في دارفور لا يعد مستمدا من علم السياسة وإنما يعد مستمدا من عالم المافيا ففي علم السياسة لا يتم الحديث عن قسمة الغنيمة وإنما مشاركة المواطنين في الاستفادة من الثروة الوطنية وفي صنع القرار السياسي وفق أنظمة سياسية واقتصادية قويمة وديموقراطية تحقق العدالة الاجتماعية للجميع.

فوزي منصور