Wednesday, December 16, 2009

الديموقراطية التشاركية أو التشاورية كبديل عن الديموقراطية البرلمانية الحالية

الديموقراطية التشاركية أو التشاورية كبديل عن الديموقراطية البرلمانية الحالية


الديمقراطية شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ علَى التعددية و التداول السلمي للسلطة بين من حازوا ثقة أكثرية الشعب في انتخابات عامة نزيهة مع احترام حقوق الانسان والمواطنة واتخاذ قرارات في كافة المجالات تتماشي مع رغبات ومصالح اغلبية السكان.وهي أيضا نظام سياسي واجتماعي مميز يحيل إلى محتمع تسوده ثقافةٍ سياسيّة و أخلاقية و قانونية مطبقه في واقع حال المجتمع الموصوف بالديموقراطي.

ويحدد غالبية السكان رغباتهم أو يفصحون عنها عن طريق انتخابهم الحزب السياسي اذي تضمنت برامجه تلك الرغبات أو عن طريق الاستفتاءات أو استتطلاعات الرأي وتلتزم الحكومة بنتائج تلك الإجراءات.

ولكن هل تحسن الأغلبية دائما التعبير عن مصالحها؟.. كثيرا ما تكون الأغلبية غير واعية بمصالحها الحقيقية وقد تتبع في تصور مصالحها زعيم له جاذبية أو كاريزمية خاصة تشكل سلطة رمزية عليهم ويكون تصوره لتلك المصالح خاطئا أو تستخدم الأحزاب في التأثير عليها شخصيات اجتماعية مثل الزعامات السياسية أو الدينية أومشاهير الفنانين والرياضيين ممن يتمتعون بكاريزمية خاصة تجعل تأثيرهم على الجمهور المنبهر بهم كبيرا ، وهي شخصيات ليست بالضروة واعية تمام الوعي باهتمامات الناس وبمصالح الجمهور ومصالح البلد الاستراتيجية.و لا يتم الاستعانة في العادة بمثقفين أو بمفكرين أوبعلماء متخصصين يعدون أكثر دراية بتلك المصالح في توجيه الجمهور .
ويتميز العصر الحالي الذي برزت فيه الثورة الأليكترونية والمعلوماتية بالتغير السريع للتقنية العلمية ومسايرة ايقاع العصر السريع والمختلف عن السابق يحتاج أيضا لنظام يكفل القدرة على سرعة اتخاذ القرارات السريعة التي تمس المواطنين في الحاضر وتؤثر أيضا على مصالح الأجيال القادمة. وهو ما لاتحققة بكفاءة حاليا النظم الديموقراطية الحالية في العالم والتي أفرزها عصر الثورة الصناعية بينما يتطلب زمن الثورة المعلوماتية ديموقراطية جديدة متوائمة معه.و قد حان الوقت للبحث عن ممارسات جديدة لتعالج ما يعتري الديمقراطية التمثيلية الحالية من قصور واستبدالها هي بذاتها بديموقراطية يكون فيها أمر الناس شورى بينهم. ولم أتعرض هنا لممارسات النظم الاستبدادية التي لا تعبأ بالرأي العام فيها والتي تتولي قمعه بشراسة في الغالب إن اعترض على سياساتها الضارة بمصالح أغلبية الشعب والمستفزة له في أن واحد ولا تهتم بغير الأوليغارشيا المسيطرة على الاقتصاد والحكم والمسخرة لهما في خدمتها.

لم ينصرف الناخبون عن العمل السياسي في الدول المتخلفة التي أقامت ديموقراطية شكلية أو مظهرية يتم فيها تزوير سجلات ولوائح الناخبين ونتائج الاقتراع بشتي السبل منها الوسائل الاليكترونية أو المعلوماتية الحديثة ،وممارسة ضغوط من الأجهزة الأمنية والنخب الحاكمة أو المسيطرة للآبقاء على احتكارها السلطة والثروة في يدها فقد وفقدت بذلك الديموقراطية البرلمانية مصداقيتها وإنما امتد فقدان الثقة في النظام البر لماني لمواطني الدول الممتقدمة الديموقراطية التي ظهرت فيها تلك الأنطمة مع الثورة الصناعية لأسباب عديدة على إثر الدخول الى عصر المعلوميات لأسباب عديدة منها التعددية الحزبية التي كانت تقوم عليها والتي كان فيها لكل حزب هويته بعد إن فقدت تلك الأحزاب الهوية التي كانت لديها وصار من العسير التفرقة بينها وتنامي الشعور لدي المواطنين بأن تلك الديموقراطية البرلمانية صارت عاجزة عن التعبير عن مصالحها الحقيقية والقدرة على ابتكار حلول لمشاكلها اليومية التي تواجهها في حياتها.

في كتابه "الموجة الثالثة"، يقول آلفين توفلر أن الحكومة القائمة على التمثيل و الإنتخاب، و التي ولدت من الأحلام التحرّريّة لثوار الموجة الثانية(يقصد عصر الصناعة)، كانت تقدّماً مدهشاً بالنسبة لنظم السلطة الأسبق، كانت نصراً تكنولوجيّاً أكثر إثارة من الآلة البخاريّة أو الطائرة . لقد أتاحت هذه الحكومة تتابعاً منظّماً، يختلف كثيراً عن حكم السلالة الوراثي، و فتحت قنوات الإتّصال في المجتمع بين القاعدة و القمّة، ووفّرت طقساً يتيح التعامل مع الخلافات بين الجماعات و الفئات المختلفة على أساس سلمي
و بفضل تمسّك هذه الحكومة، القائمة على التمثيل الإنتخابي، بمبدأ حكم الأغلبيّة، و بحقّ كلّ إنسان في إعطاء صوته، ساعدت بعض الفقراء و الضعفاء، في إستدرار بعض المنافع من إخصائيي السلطة الذين يديرون آلة التكامل في المجتمع . فظهرت الحكومة بمظهر الثورة الإنسانيّة
و مع ذلك، و منذ البداية الأولى، عجزت الحكومة دائماً عن الوفاء بالتزاماتها . لم تستطع، في أيّ مكان، أن تغيّر البناء التحتيّ للسلطة في الدول الصناعيّة ... بناء الصفوة و الصفوة العليا . و هكذا، تحوّل الإنتخاب، بصرف النظر عمّن يكسب فيه، إلى أداة ثقـافيّة قويّة في يد الصفوة.و على مرّ السنين تبدّدت الأحلام الورديّة للديموقراطية النيابية ومع إندفاع ثورة المعلومات، و تطوّر تكنولوجيّاتها، فقدت هذه الديموقراطيّة مصداقيّتها، في جميع الدول التي تأخذ بها . و الشواهد على ذلك لا تحتاج إلى حصر، أو تقديملقد كانت هذه الديموقراطيّة مناسبة منذ قرنين، عندما كانت المشاركة المباشرة للناس غير ممكنة أومجديّة . أمّا الآن فقد تغيّر الوضع .
فقدت النظم القديمة في الاقتصاد والممارسة السياسية و التعليم و الإدارة و الإعلام مصداقيتها، لتناقضها مع الواقع الجديد الذي أحدثه التحوّل من مجتمع الصناعة إلى مجتمع المعلومات . و في جميع المجالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، بدأ البحـث عن النظم الجديدة التي ستحل محلّ النظـم القديمة.ولهذا تطلع العديد من المفكرين الي ديموقراطية بديلة يمكنها أن تتمتع بمصداقية لدى كافة المواطنين ويشعرون بأنها تعبر عن مصالحهم .
وهذه الديموقراطية الجديدة التي يتم التطلع اليها والسعي بالفعل من بعض الدول المتقدمة لتحقيقها أطلق عليها اسم : الديموقراطية التشاركية أو التحاورية.
وهي نظام مجتمعي يشارك فيه كل فرد في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياته، فلا ينيب أو يوكّل من يقوم نيابة عنه بذلك .. ديموقراطية لامركزية ترتبط ارتباطا وثيقا بإعطاء أهمية مضاعفة للحكم المحلّي، و تستفيد من التكنولوجيات المعلوماتية في التصويت و تبادل الآراء و الأفكار.

.. يقول الكاتب المستقبلي جون ناسبيت: أنّنا بصدد أوضاع جديدة، بعد مقدم ثورة الإتّصالات، و ما صاحبها من إرتفاع المستوى المعرفي للناخبين، ومع قدرتنا الحاليّة على معرفة الكثير عمّا يجري، بما لا يقل عمّا يعرفه ممثّلونا في البرلمان، و معرفتنا به بنفس السرعة.
قلنا أن الأحزاب كانت حجر الأساس في العمليّة الديموقراطيّة، و خط التجميع الرئيسي في مصنع التمثيل النيابي . و كانت تمثّل الخطوط العريضة لمصالح و لتوجّهات المواطنين، التي كانت تستقطب في اليمين و اليسار و أحيانا الوسط . و بشكل عام، كان الفرد ينتسب إلى هذه الأحزاب وفقا لهذا التقسيم.
الذي حدث خلال نصف القرن السابق، أن كلّ حزب من هذه الأحزاب قد لحق به ما لحق بكلّ شيئ قي حياتنا ، نتيجة الدخول المتصاعد لثورة المعلومات، التنوّع و التمايز و الإختلاف .ففقدت الأحزاب هويتها التي كانت تميز هدا الحزب عن ذاك و فقدت بعدها مصداقيّتها بالنسبة للناخبين، و تحوّلت الإنتخابات البرلمانيّة إلى حرب عصابات.
و الحقيقة أن إهتمام المواطن بالسياسيّين يقل يوما بعد يوم، و هذا هو السرّ في إنخفاض الإهتمام بالإنتخابات القوميّة السياسيّة
ويشير الى دلك المفكر الأمريكي : ناسبيت قائلا، أن إشتراك الشعب في الإنتخابات القوميّة يتناقص مرّة بعد مرّة . و رقم99% الشهير لا نراه سوى في الدول الشموليّة .. لقد إعتاد المحلّلون السياسيّون أن يربطوا بين ضعف الإقبال على الإنتخابات و بين اللامبالاة و الجهل . إلاّ أن هذا التحليل يفقد قوّته، عنما نرى أن الناخبين قد أصبحوا أفضل تعليماً، و أغزر معرفة، و أكثر تحديداً لموقفهم . لهذا، بدأ المحلّلون يفهمون أخيراً أن الناخبين يتخذون قراراً واعيا بعدم المشاركة في الانتخاباتً
يقول الناس أنهم لا يحملون ثقة كبيرة، لا في التنظيمات السياسيّة و لا في يشغلونها . و هم بموقفهم هذا، يعبّرون عن إيماتهم بأن السياسيّين: إمّا لا يستطيعون القيام بما يطلبه الناخبون، أو لا يريدون فعل ذلك.
ويستطرد ناسيت قائلا:.إنتزعنا جوهر القوّة السياسيّة من أيدي ممثّلينا المنتخبين، لكي نعيد إستثمارها في مجالين أساسيّين:
الأول هو الإقتراع السرّي المباشر، بالنسبة لحق إقتراح و تعديل القوانين، و بالنسبة للإسستفتاء على العمليّات المعيّنة، و الثاني هو النشاط السياسي الشعبي . و في كلّ من الحالتين، يكون المواطنون و ليس السياسيّون، هم الذين يقرّرون ما يفعلونه، و يمارسونه.

وقد اختلفت وتعددت التصورات حول أشكالها وآلياتها.ولو أنه يلاحظ أنها جميعها تم استنباطها من النظم المعلوماتية حيث تقوم شبكات صغرى بتزويد شبكات أكبر منها بالمعلومات دون وجود نظام هرمي مركزي يتحكم في تلك الشبكات الصغرى ويسود أيضا في انسياب المعلومات نطام التغذية والتغذية المرتدة. وبذلك تكون ديموقراطية المشاركة، بديل عصر المعلومات لديموقراطية التمثيل النيابي التي أفرزها عصر الثورة الصناعية ، حين تكفّلت الدولة بجميع المهام التي كانت تقوم بها الأسرة الزراعية، من تعليم و علاج و رعاية للكبار .. و أيضا بعد أن اعتمد عصر الصناعة على الإنتاج الكثيف واسع النطاق و قيام السوق للربط بين عالمي الانتاج والاستهلاك .وقد أحدثت الديموقراطية وقتها شرخا في جدار السلطة، دخلت منه أعدادا كبيرة من الطبقة المتوسّطة إلى عملية اتخاذ القرار لأوّل مرّة . وكان ذلك وقتها بمثابة ثورة في الفكر والممارسة السياسية.

يقول الأستاذ راجي عنايت :نتيجة لثورة المعلومات، و تطور تكنولوجيات المعلومات، تنوّع البشر، نتيجة لتنوّع ما أقبلوا عليه من ذلك التدفّق المعلوماتي . فلم يعودوا متماثلين متطابقين تقريبا، يكفي أن تتفهّم واحدا منهم حتّى تفهم باقيهم نفهم ذلك جيدا، إذا تأملنا مجموعة من البشر في قرية من القرى، خلال عصر الزراعة، أو في بدايات عصر الصناعة .. سنجد تقاربا شديدا في أفكار و توجهات و عادات الأفراد، نتيجة لقلة المعلومات المستجدة، و ندرة التغيرات و تباعدها زمنيا . و كان يكفي أن تقابل واحدا منهم حتّى تعرف الكثير عن باقيهم ..لكن، عندما يتنوّع البشر، يتغيّر الوضع .. و تنهار معظم النظم التي اعتمدها عصر الصناعة.
لتنوّع الذي طرأ على البشر أسقط أحد أهم مبدأ من مبادئ عصر الصناعة، و هو مبدأ النمطية، الذي يجعلنا ننظر إلى البشر كآحاد متطابقة .. وهو المبدأ الذي جعل من المركزية ممارسة عظيمة، و فن كبير، و مكسب ضخم، طوال عصر الصناعة .. و هو الذي أشاع كلّ ما هو جماهيري، أي كلّ ما يستهدف تنظيم خدمة الآحاد المتطابقة من البشر .. الإنتاج الجماهيري النمطي على نطاق واسع، و الاستهلاك الجماهيري للسلع والخدمات النمطية، التي تقبل عليها الجماهير النمطية .. و الإعلام الجماهيري الذي يتوجّه لجماهير نمطية، ساعيا إلى مزيد من قولبتها .. و أيضا الديموقراطية النيابية الجماهيرية، و التي تلخّص إرادة و توجّهات و مصالح أبناء الدائرة في نسق نمطي، يعبّر عنه بالتوكيل شخص واحد، هوالنائب البرلماني.
عندما تنوّع البشر، و اختلفت مشاربهم، سقط مبدأ النمطية و التوحيد القياسي للبشر، فاهتزّت النظم المركزية، و انهارت جميع المؤسسات الجماهيرية .. و كان من بين هذا التعثّر الحالي لديموقراطية التمثيل النيابي عالميا .. و بدأت تظهر بدائل للممارسة السياسية، كان من بينها ديموقراطية المشاركة.والحقيقة، أن المشاركة لا تقتصر تطبيقاتها على الممارسة الديموقراطية، فهي ثقافة أساسية في جميع مجالات النشاط البشري في مجتمع المعلومات.إنها ثقافة عصر المعلومات.
من أهم سمات الديموقراطية التشاركية : اللامركزية وتنظيم المواطنين والمؤسسات في شبكات أفقية لا تخظع لتتنظيم مركزي هرمي.ولما كان تحسين ظروف المعيشة هو من أولي اهتمامات المواطنين فإن تحقيق الديموقراطية الاقتصادية في مؤسسات اقتصادية واجتماعية تأخذ شكل الشبكات الأفقية ويشعر المواطنون فيها ، ليس فقط بممارستهم المشاركة في الشأن الجماعي وإنما أيضا بالنفع المادي المباشر الدي يعود عليهم من هذه الممارسة ، هو بمثابة تأهيل المواطنين لممارسة الديموقراطية السياسية التشاركية مستقبلا وفي صنع القرارات السياسية الخاصة بهم من خلالها.ومن هنا كان مخطط : الحركة المجتمعية للتنمية الذي عرضته كمشروع مجتمعي ينظر الي المستقبل ويعيد بناء المجتمعات الحالية في دول شمال أفريقيا بما يحقق أيضا التغيير الذى تنشده هده الشعوب على كافة المستويات ولاتهتدي الي السبيل اليه. أي أن هذا المخطط يعد بمثابة تطبيق عملي لأحدث التوجهات الفكرية في أوروبا والعالم وفي ذات الوقت تأسس على القيم الحضارية والدينية لمجتمعاتنا في محاولة لإعادة الاعتبار إليها باعتبارها من مقومات وضمانات الحفاظ على تماسك المجتمعات وبعث الحيوية فيها ودفعها نحو تقدم لايتم على حساب الحقوق والكرامة الانسانية أو إلحاق الضرر بالطبيعة والبيئة أو يفرط في حقوق الأجيال القادمة.
أنظر موقع الحركة المجتمعية لتنمية أفريقيا الشمالية في الفيسبوك ورابطه:
http://www.facebook.com/group.phpgid=up.phpgid=43863521285&ref=ts=
تجربة من البرازيـــل
.وفي ما يلي مقتطفات من حوار مطول أنجزته مجلة (أيريش لفت ريفيو) الأيرلندية مع الأكاديمي والمؤرخ الإيطالي بول جينسبورغ ،والدي يعمل حاليا مدرساً لمادة التاريخ الأوربي المعاصر في جامعة مدينة فلورنسا. قام بترجمته: عادل بدر سليمان. و تحدث فيه جينسبورغ عن كتابه الأخير الذي حمل عنوان (الديمقراطية: الأزمة والتجديد). عن ما ألت اليه الديموقراطية الحالية من ضعف وعن الحاجة إلى تجديدها.

يقول بول جينسبورغ : ثمة تناقض ظاهري في الديمقراطية: ما لدينا اليوم هو توسع (كمي) للديمقراطية بهذا الشكل أو ذاك,، ليس فقط في أوربا، وإنما أيضاً في جميع أنحاء العالم. لكن ثمة أزمة حقيقية في (نوعية) الديمقراطية، خصوصاً في داخل الوطن الواحد. تأخذ هذه الأزمة أشكالاً متنوعة، لكن الشكل الأهم ربما يكون هو ذاك الشعور بالبون الشاسع الذي يفصل بين ما يجري في البرلمانات وبين آراء الناس والحياة اليومية. يمكننا أن نستكشف تجليات أزمة الديمقراطية في نماذج عديدة ومتنوعة. أحد هذه النماذج، سواء أخذنا السويد أو بريطانيا أو إيطاليا حيث لم تكن عموماً نسبة الثقة بالمؤسسات عالية جداً، هو ما نراه اليوم من تراجع كبير في الإيمان بالمؤسسات الديمقراطية، وليس فقط في الطبقة السياسية، وهي قضية مختلفة، ولكن أيضاً في المؤسسات الديمقراطية.
فقد ضَعُفتْ مصداقية البرلمانات، وقلَّتْ ثقة الناس بأن البرلمانات الحديثة تقوم بعملها بشفافية ومسؤولية. ثمة ميل ،مع بعض الاستثناءات، نحو إحجام الناخبين عن الإدلاء بأصواتهم، وهناك أيضاً نزعة واضحة نحو الاستخفاف بالطبقة السياسية. هذه هي بعض عناصر الأزمة التي يمكن للمرء أن يشير إليها من دون عناء، أما النتيجة التي يمكن استخلاصها من كل ذلك فهي أن الديمقراطية هي حقاً في وضع ضعيف لجهة حيازتها ثقة المواطنين. وإذا ما سحبنا هذا الأمر على الاتحاد الأوربي، فإننا سنلاحظ أن المشكلة تصبح ضخمة جداً، وذلك لأن الإقبال على التصويت في انتخابات الاتحاد الأوربي التي جرت مؤخراً في دول أوربا الشرقية كان منخفضاً إلى أبعد الحدود. وحتى في الدول التي كان فيها التصويت أعلى بقليل، كإيطاليا وإسبانيا (دون ذكر بريطانيا)، نجد أن الناس قد عبّروا عن خوفهم الشديد من الشرخ الديمقراطي الذي يفصل بين ما يحصل في المفوضية الأوربية، ومجالس الوزراء، وبين المواطنين في أوربا ككل.
في كتابي الأخير، قدمت عرضاً جدلياً حول حاجتنا للعودة إلى المبادئ الأولى، وبالتحديد حاجتنا إلى دراسة ونقاش نموذجين من الديمقراطية التمثيلية والمباشرة، والعودة إلى نموذج أثينا. ليس لأنه بوسعك استخدامه بشكل مباشر، عبر نقله بحرفيته، وإنما لأنه كان دائماً يوجد نقاش ـ يمكن للمرء تلمس وجود مثل هذا النقاش بسهولة في فترات زمنية سابقة وتحديداً في القرنين التاسع عشر والعشرين ـ حول كيفية إعطاء الناس مزيداً من السلطة بشأن حياتهم،سواء في العمل أو النظام السياسي، عبر حكومة محلية، أو صيغ جديدة من الديمقراطية التشاركية. أحاول شرح هذه النقطة في كتابي، عبر عرض بعض التجارب؛ كتجربة مدينة (بورتو أليغري)، (تقع جنوبي البرازيل يقطنها 1,5 مليون مواطن، كانت في تسعينيات القرن العشرين، المدينة الأولى التي نجح فيها (حزب العمال) بإدارة شؤون البلدية. الحزب، وهو حزب الرئيس (لولا دي سيلفا، بادر إلى طرق إدارية جديدة - خاصة في كل ما يتعلق بتخصيص الموارد البلدية- وعمل على الحفاظ على البيئة. وكذلك (الميزانية التشاركية) التي أدارتها البلدية، وبموجبها تقرر لجان الأحياء سلم الأوليات المحلية وعلى المستوى البلدي العام. تؤكد هذه التجربة أن التنمية يمكن أن تتم مع احترام البيئة، وأن الضرائب المرتفعة نسبياً، المترافقة مع استقرار وأمان اجتماعيين، لا تؤدي بالضرورة إلى هروب الرساميل وإفقار القطاعات المصرفية والتجارية. كما أن تقليص التفاوت بين الطبقات الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة هما الأساس لاحترام حقوق الإنسان وتمتين أواصرالتضامن بين الناس وبناء المواطنية . من خلال التعاون واللقاء والحوار والتصويت،أعطت تجربة (الميزانية التشاركية) سكان (بورتوأليغري)، إحساساً بالمساهمة في تسيير شؤون مدينتهم، وتحديد طبيعة حياتهم، إحساس لا يمكن أبداً للديمقراطية التمثيلية التقليدية أن تقدمه لهم.
. في الجوهر يعمل هذا النموذج على النحو التالي: مع بداية كل عام, يعود عمدة مدينة (بورتو أليغري) ومجلسها البلدي للوقوف على رأي عامة الناس، من خلال عقد اجتماعات جماهيرية يتم فيها تقديم تقارير عما أنجز في السنة الفائتة، ومن ثم الانتقال إلى دورة جديدة. يعقد الناس اجتماعات في حلقات صغيرة جداً، على مستوى الشارع أوالحي, من أجل صياغة مطالبهم الأولى, ثم ُتعقدُ اجتماعات رئيسية ضخمة تضمُ جميع مناطق المدينة لإقرار جزء من الميزانية المحلية وليس كلها، لأن الميزانية بالطبع تتضمن الرواتب والنفقات الثابتة والتعويضات وغير ذلك. وفي المرحلة التالية تقوم هذه الاجتماعات الضخمة بانتخاب مجلس الميزانية,، وهنا تكمن الخطوة الأكثر إبداعاً في هذه العملية.
في المحصلةي، صحيح أنه يتكون لديك مجلس بلدي منتخب بطرق ديمقراطية تقليدية تمثيلية, ولكن يتكون لديك أيضاً مجلس للميزانية منبثق مباشرةً عن القاعدة الشعبية. يخرج عن هذه العملية الديمقراطية المحلية المباشرة عدد من الوفود (40 وفداً) تقيم طوال فصل الصيف نقاشات حول الميزانية مع المجلس البلدي، وخصوصاً مع العمدة، بغية تحديد تفاصيل وأوَّليات ذلك القسم من الميزانية الذي انتزعته الجماهير بطريقة ديمقراطية سلمية. ثم يعودون إلى حلقات اللقاء الصغيرة في الأحياء ليقدموا لها تقريراً عما توصلوا إليه. وفي نهاية هذه الدورةا لسنوية.يتبنى العمدة القرارات التي تخرج من النقاش، ويجعل منها برنامجاً للمدينة يبدأ بتنفيذه فوراً. المثير للإعجاب في تجربة (بورتو أليغري)، وبخلاف التجارب التي حدثت في أوربا، هو ذلك العدد الكبير من فئات العمال,، الرجال منهم والنساء، ومن جميع الأقليات التي تنخرط في هذه العملية الديمقراطية.

لا يمكنك أن تركز كامل نشاطك على فكرة تجديد الديمقراطية, بل أعتقد أن الجميع بات الآن مدركاً لضرورة تجديد التفكيرالاقتصادي،والديمقراطية الاقتصادية، ولضرورة البحث عن نظام اقتصادي بديل يكفل تمويل صناديق التقاعد، والتعاونيات، وكل أشكال الضمان الاجتماعي. ثمة حاجة ملحة لإجراء المزيد من النقاش، وتقديم المزيد من المقترحات حتى نتوصل إلى صيغة تنظيمية معينة. أعتقد أن القضية الهامة هنا هي كيف تصيغ برنامج عمل يقنع الجماهير بأنه برنامج واقعي يحمل أهدافاً قابلة للتطبيق. ما لدينا اليوم من مكاسب اجتماعية هي فقط ما تبقى من مآثر التقليد الشيوعي، ومن موروث الديمقراطية الاجتماعية، فقد أخفقنا مع بداية القرن الحادي والعشرين في المحافظة على كل تلك المكاسب، كما لم نتمكن من تكوين فكر جديد يستنبط نظرية جديدة تقوم مثلاً بفك طلاسم الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية.
وإذا ما نظرنا إلى عدد الأشخاص الذين يريدون المشاركة في الأنواع المختلفة من الجمعيات التطوعية، وإلى الأشخاص الفاعلين في المجتمع المدني, فإننا نرى أن الناس لا يرغبون في المشاركة على أساس يومي وفي جميع أشكال حياتهم، وإنما فقط في أجزاء ولحظات محددة من
حياتهم. أعتقد أن هذا النوع من التشارك؛ سواء كان تشاركاً في المجتمع المدني، أو في أشكال ديمقراطية أخرى،هو من ضمن الأشياء التي تأتي وتذهب في منحنى دورة الحياة الفردية. لذلك يمكنك أن تكون ناشطاً ومهتماً في العشرينيات من عمرك، ثم تبتعد عندما يصبح لديك أولاد صغار، ثم تعود فيما بعد لتصبح ناشطاً، وهذا بمجمله سيكون شكلاً من أشكال ترسبات الممارسة الديمقراطية،ونوعاً من أنواع الابتعاد عن العائلة، والخروج من حالة الجلوس الدائم أمام التلفاز، والانتقال للقيام بعملٍ ما. لا أعتقد أن الناس، وخصوصاً في هذا الوقت الذي يتعرضون فيه لضربات الأزمة الاقتصادية العالمية،بعيدون عن هذه الأفكار على الإطلاق.(انتهي ).
وهذه الأفكار يمكن أن تستفيد بها مؤسسات الحركة المجتمعية في عملها الجماهيري.وقد استفادت الحركة من أكثر تصورات الديموقراطية التشاركية شهرة والذي يتجه في تطبيقها الى أن يتم توزيع سكان المجتمع الراشدين في حي من أحياء المدينة على فئات أو قطاعات مهنية ينتمون اليها تتشاور كل فئة أو ألمنتمين الي القطاع المهني في مسألة مع تزويدهم بكافة المعلومات المتعلقة بالمسألة المطلوب استشارتهم فيها ، أو الحاق خبراي متخصصون في تلك المسألة المعروضة عليهم وبحيث يكون كل عضو مشارك في هذه العملية التشاورية قادراعلى الفهم والتعلم والتحليل وصياغة حكم معلَّل بما يساعد في النهايةعلى تكوين الرأي الصائب في الموضوع محل التشاور. ثم تختار كل فئة أو قطاع ممثل لها ينقل أفكارها إلى لجنة تضم ممثلي تلك الفئات أو القطاعات في الحي تقوم برفع ما يتم الاتفاق عليه بينهم الي مستوى تنظيمي أعلى يشمل جميع أحياء المدينة يتم فيه مراجعتها وبعد التوافق عليها ترفع إلى مستوى أكبر يدمع عددا من المدن وفي النهاية يصل الى الجهة المخولة بصناعة القرار.أي أن صناعة القرار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو البيئي أو غيره يبدأ من القاعدة ثم يتم تصعيده وليس مثلما هو متبع حاليا يصدر من القمة ويتم إلزام القاعدة به التي لم تتم استشارتها أو الأخذ برأيها ، وتم الاكتفاء بممثل في البرلمان قد لايدرك انعكاسات القرار على المواطنين أو المعنيين به .ـويتم من خلال ذلك وضع المواطنين في ظرفٍ يتمكنون فيه من الفهم وتبادل الآراء والتصرّف بمسؤولية في صنع القرارات السياسية وفي صياغة القوانين أيضا التي تهم كل المواطنين أو تهم فئة أو أصحاب مهنة معينة منهم بما يضمن لهم عدم صدور أية قوانين لاتحمي مصالحهم المشروعة.وبحيث يكون القرار الذي يصدر معبرا عن الإرادة العامة وليس بناء على رغبات نخبة معينة لايهمها سوى تحقيق مصالحها ولو على حساب أغلبية الشعب.والقرار الذي يصاغ وفق تلك المسطرة أو الطريقة لايمكن اعتباره قرار أغلبية أو أقلية وإنما سيكون قرار كامل أفراد الأمة الراشدين الذين شاركوا في صنعه. ويساهم التقدم الحاصل في مجال المعلوميات على أتمام تلك العمليات بكفاءة ويسر وبسرعة كبيرة جدا وهو الأمر الذي لم يكن متاحا من قبل .ويمكن للتشاور أن يضم مجتمعات دول أخرى في نفس الوقت داخل الإقليم الجغرافي أو على مستوى العالم كله. وتم تطبيق ذلك في الجمعيات المدنية التي تقوم وفق نظام الحركة حيث تم تقسيمها إلى 19 قطاع مهني يختار كل قطاع نقيبا له يكون عضوا في مجلس أدارة الجمعية المشكل من نقباء المهن وبحيث ينقل كل نقيب الي ذلك المجلس تصورات أعضاء قطاعة في مسألة أو مشروع ما ويتم تبادل الرأي بين النقباء لاتخاذ قرار موحد يستجيب الى ما تم جمعه من رؤى وتطلعات.

فوزي منصور.