Thursday, June 21, 2007

الإحسان ومجالاته الخمسة




الإحسان ومجالاته الخمسة

الإحسان في اللغة مصدر، تقول أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا
إذا اتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع. والإحسان: ضدُّ الإساءة. إحسانًا، أي:
يَعلَمه ويُتقِنه. والحُسن: ضدُّ القبح، وحَسَّن الشيء تحسينًا زيَّنه. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125)
ويقول. {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}. و {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم
مُّحْسِنُون}.و {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
.وفال صلي الله عليه وسلم :"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، أي أوجب على
المؤمنين الإحسان في كل شيء.

ويكتمل يالإحسان مثلث العقيدة المكون من الإسلام والإيمان والإحسان . ويعد الإحسان الجانب
العملي المتمم للايمان باعتبار أن الإيمان هو الأساس النظري أو الثقافي للعقيدة. فالاحسان هو
الترجمة العملية للعلم اليقيني الثابت بالتجربة والبرهان ، أو الذي توصل اليه بفطرته الوجدان،أ
و وجد دليلا عليه في القرآن ، كتاب الرحمن المنزه عن كل باطل وبهتان ، وذلك بتحويله
المعرفة الي عمل منظوروواقع معاش وتقوى ظاهرة للعيان. وهو جماع أفعال وجهود تبذل في
سبيل الله ، وابتغاء مرضاته أو صدوعا لأمره وتوجيهاته .وجميعهايعد من قبيل العبادات حتى
لوكانت يسيرة كإزالة حجر أو إماطة أذي عن الطريقللتيسيير علي السالكين أو كانت تعود بالنفع
علي صاحبها مثل زرع نبتة أو غرس فسيلة أو أقبل عليها بدافع من الغريزة أو الشهوة مثل
وصا ل زوجته . فجميع هذه التصرفا تومايشبهها، مع تنوعها وتفاوتها في الأهمية ، إعتبرتها
العقيدة من الاحسان الذي يدفع اليه التقوى ومن العبادات الي يثاب عليها فاعلها ويجزيه الله عنه
خيرا ، باعتبارها فعال حسنة تحسن الحياة أوتزيد من حسنها. والحياة الدنيا في العقيدة
موصولة بالآخرة، اذ هي الطريق الموصلة اليها . فان فعل في الدنيا حسنا وجد في الآخرة ماه
و أحسن منه ثوابا حيث" لايضيع الله أجر من أحسن عمل".ا" والله يحب المحسنين."
ويقول القرطبي في شرح قول الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
(التوبة: 91): "هذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن"، فـ"إن الإحسان غاية رتب
الدين وأعظم أخلاق عباد الله الصالحين!!" كما يقول المناوي.

يقول الله تعالي:" واعبدوا الله ولاتشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا ، وبذي القربي واليتامي والمساكين والجار ذي القربي والجار الجنب والصاحب بالجنب"ويقول صلي الله عليه وسلم "إن الله كتب الاحسان في كل شيء" ولذا فان الاحسان مطلوب في جميع مناحي الحياة وفي جميع العلاقات الانسانية. ويدخل ضمن الاحسان القول الطيب والعمل الصالح واسداء النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتقان العمل وحسن العشرة بالمعروف وحسن معاملة الوالدين والزوجة والأولاد والجيران والخدم وعتق الرقاب وتحريرها واطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة وإكرام الضيف واغاثة الملهوف وكذلك التسامح والمبادرة الي الخيرات وجبر العثرات ودرء المفاسد وجلب المصالح.

وكلمة الإحسان مشتقة من الحسن وهو الجمال ، والله يحب الجمال ويكره القبح والسوء والخبائث من القول والأعمال. ولذا يجزي علي العمل الحسن اذا جاء به المحسن ايمانا به وحبا فيه "ومن يعمل صالحا وهو مؤمن فلايخاف ظلما ولاهضما"(طه112). ولآنه مالك وملك عادل في ملكه وشريعته ومنهاج عمله فهو يكره الفسوق والعصيان والإثم والعدوان وحرم في شريعته الظلم والطغيان والاعتداء علي النفس أو المال أو العرض أو سلب حقوق الناس في الحرية والعزة والكرامة والكسب الحلال والتمتع بالطيبات من الرزق والزينة التي أحلها الله لعبادة ومايحقق للعباد الكفاية والأمان لاما يصل بهم الي مادون الكفاية وعتبة الحرمان.وهذه الشريعة المضيئة هي من صنع الرحمن ومن أحسن من الله صنعا وهي حكمه ومن أعدل من الله حكما، الرؤوف بعباده الرزاق الكريم المنان.
شريعة الله فوق الرأي مافتئت وفوق مايصنع الإنسان من نظم
فتلك تبعث مافي النفس من أمل وتلك تقتل مافي النفس من همم
ومافي النفوس ومافيها من عواذلها بعادلات وإن أحسن في القسم
والعقل مهما سمت بالرأي فكرته لم تخل فكرته يوما من الوهم

ولايتجنب الحكم بها سوى الكافر الطاغية أو الفاسق ذو النفس الباغية لأنها تحمي حقوق وأموال وأنفس وأعراض الناس منهما.فلايمكنهما في ظلها ممارسة الاغتصاب والنهب والسلب ولاتستطيع العصابات المسخرة في خدمتهما أن تعيث في الأرض فسادا وإفسادا . ولايخرج عن حكم الله الا من ظلم نفسه بظلم غيره . "وضرب الله مثلا بقرية كانت آمنة يأتيها رزفها حسنا فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " والخروج عن حكم الله لايعد من الذنوب التي تذهبها الحسنات كما يدعي أئمة الجهالة والجاهلية ومرتزقة السلطان وسدنة الطغيان وانما تعد كفر بالله وشرك به و"الله يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به " فحكم الله صيغ لحماية حقوق الناس ومنع انتهاكها أو العدوان عليها علي أي نحو كان.والذين أسرفوا علي أنفسهم وطالبهم ربهم بألايقنطوا من رحمة الله لايدخل ضمنهم من ماتوا كفارا أو مشركين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين وينتهكون حرماتهم جهارا نهارا بوقاحة علي رؤوس الأشهادويأكلون أموال وحقوق الناس بالباطل ويظاهرون المجرمين ويفرقون المسلمين شيعا تتناحرولم يحكموا في دينهم وفي دنياهم ماأنزل الله ولم يحكموا الله ورسوله فيما شجر بينهم من خلاف واتبعوا خطوات الشيطان فأضلهم السبيل.وليس بالضرورة أن الحاكم وحده هو الذي يخرج عن حكم الله وانما كل من أفسد في الأرض أو قتل النفس التي حرم الله بغير حق هو خارج علي حكم الله.هؤلاء جميعا ليسوا من أهل الإحسان وإنما هم تبع للسوء أينما ذهبوا. أما" الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا الى ربهم (أي أنابوا الي ربهم ولاذوا بحكمه وأطاعوه) أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون"(هود23) وكيف بهم وبمن سبق ذكرهم يستويان؟."أفمن اتبع رضوان ربه كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبأس المصير"(آل عمران162).
لا... وانما رضوان الله وتمام نعمته"للذين أحسنوا الحسنى ولايرهق وجوههم قتر ولاذلة"(يونس 26).

وللحاجة للإحسان في كل فعل وتصرف في الاسلام تنظيم له،و يمكن لي القول بأن للإحسان أركان خمسة هي : الأسرة والخلافة والتكافل والتعامل والولاية. وهي المجالات الإجتماعية الخمس التي تدخلت الشريعة لتنظيمهابمجموعة من المباديءوالقيم في كل منها لبناء مجتمع قويم يكفل العدل والأمن والحقوق والسلام والوحدة والمحبة والكرامة ...لأفراده وللمجتمع ككل على النحو التالي:
· الأسرة: وتتضمن الاحسان في الزواج وللزوجة ، والبر بالوالدين وذوي الآرحام والقربي والأصهار
· الخلافة : وتتضمن الإحسان في إعمار الأرض والمحافظة علي النظم البيئية وتنوعها وتوازنها وعلي القيم الثقافية والعمرانية.
· التكافل: وتتمن الإحسان في التصرف في الملكية والمال والعدالة الاجتماعية وحفظ حقوق الغيروالتنظيم الاقتصادي والمالي العادل والزكاة والصدقات.
· المعاملة: وتتضمن الإحسان في معاملة الانسان ومخلوقات الله التي سخرها لخدمته والبيع والشراء والقيم السلوكية الفردية والجماعية .
· الولاية : ويتضمن الاحسان في القوامة علي الأسرة والولاية على الناس وعلي المال والوصاية علي القصر والأيتام وشؤون الحكم والسياسة والقضاء.
وتصنيفها بخمس اجتهاد مني يتفق مع النسق العددي للعقيدة حيث أركان الاسلام فيها خمس وأركان الايمان خمس. وقد تم بذلك حصر جميع مااهتم به المشرع مما الاحسان مطلوب فيه وما تطرق اليه المفكرون الإسلاميون من واقع ماتم استنباطه من القرآن والسنة ويعد من الاحسان.
وقال الله سبحانه وتعالي:{ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[آل عمران148]} فجعل الآخرة موصولة بالدنيا والاحسان في الاولي سبيل الحصول على الإحسان في الأخر ي وقال:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[128]}[سورة النحل]. وقال: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[69]}[سورة العنكبوت].

وقد ورد في مقال للدكتور كمال المصري عن الاحسان معلقا علي ماجاء في حديث جبريل من أن "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهويراك"، والذي اعتبر أن الناس لم يحسنوا فهمه، مايلي:
إن الإحسان ليس إحسان صلاة وصيام فقط، بل هو منهج حياة وأسلوب معيشة، هو عبادة ومعاملة، هو صلاة وحسن خلق، هو طاعة وأداء الحقوق إلى أهلها.
قال الإمام القرطبي في شرحه لقول الله تعالى: "إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ" (النحل: 90): "إنه تعالى يحب من خلقه إحسان بعضهم إلى بعض، حتى إن الطائر في سجنك والسنور في دارك لا ينبغي أن تقصر تعهده بإحسانك".
وقال ابن عطية: "العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق، والإحسان هو فعل كل مندوب إليه؛ فمن الأشياء ما هو كله مندوب إليه، ومنها ما هو فرض، إلا أن حد الإجزاء منه داخل في العدل، والتكميل الزائد على الإجزاء داخل في الإحسان".
وقد ورد في الحديث: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدكم شفرته، فليرح ذبيحته" رواه مسلم وأصحاب السنن.
قال الإمام الآبادي في "عون المعبود": "(كتب الإحسان على كل شيء): على بمعنى في، أي أمركم به في كل شيء".
وقال الإمام السندي في حاشيته: "(إن الله كتب الإحسان على كل شيء)، أي أوجب عليكم الإحسان في كل شيء".
لو كنا نعبد الله تعالى كأننا نراه، لما ظهرت كل هذه الأخطاء والعيوب والذنوب، ولما تواجدت مسوخ الملتزمين في حياتنا، ولما تراجعنا كل هذا التراجع، ولما غدونا لقمة سائغة ينهشنا أعداؤنا متى شاءوا وكيف شاءوا وأين شاءوا.
لمَّا غفلنا عن منهج الإحسان في حياتنا وتحولنا إلى "أمة الهزل" غدا هذا حالنا، وعلاجنا لا يكون مبتسرًا أو مكتفيًا بعلاج عوارض المرض، وإنما يكون بعلاج أسبابه واجتثاثها من أصولها، وليعود "الإحسان" إلى "أمة الإحسان" سابقًا.لو حمل كل مسلم إحسانه معه.
لو عرف كل فرد منا أن معنى: (كأنك تراه) هو: "بأن تتأدب في عبادته كأنك تنظر إليه، فجمع بيان المراقبة في كل حال، والإخلاص في سائر الأعمال، والحث عليهما" كما يقول الإمام المناوي.
لو أدركنا أن معنى: (فإن لم تكن تراه فإنه يراك): "أي فاعلم أنه يراك في جميع الأحوال، فيجب عليك أن تحسن الأعمال" كما يقول الإمام القاري.
لو فعلنا كل ذلك بأفرادنا لعادت أمتنا إلى مكانها الذي أراده الله تعالى لها: "أمة الإحسان".
لقد قال الله تعالى: "مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التوبة: 91)، يقول الإمام القرطبي في شرحها: "وهذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن".
فإذا أردنا أن نرفع العقاب عن أمتنا فلنعد إلى "أمة الإحسان".
لتكون النتيجة: "فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 148).انتهي كلامه.
واذا كان الأصوليون قد قسموا المقاصد الي ضروريات وحاجيات وتحسينيات واعتبروا المقاصد الضرورية خمس هي حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل فان حفظ الأمانة هي من الضروريات وحفظ العدل هو ايضا من الضروريات وكذلك الاحسان والكرامة الاسلامية ووحدة الأمة اذ بدون هذه الضروريات كلها لايمكن أن تقوم فائمة لمجتمع مسلم علي النحو الذي أراده الله ورسوله . ويمكن القول بمقاصد ضرورية للفرد المسلم وأخري للمجتمع المسلم إن لزم الأمر.
فوزي منصور
Fawzym2@gmail.com
Nawaris44@yahoo.fr






Wednesday, June 20, 2007

الأمانة

*الأمانة
الأمانة أم المقاصد الكليةالضرورية
حدد علماء أصول الدين مقاصد الشريعة الكلية والضرورية في خمس هم حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. وكلها نعم أنعم الله بها علي الانسان وهي أيضا أمانات ائتمنه عليها مما أوجب عليه حفظها .اذا الامانة هي أم المقاصد وكلية الكليات وضرورة الضروريات منها . واذا راجعنا الوصايا العشر الذي جاء بها النبي موسى : لاتكذب ، الاتقتل ، لاتسرق ، لاتشتهي زوجة جارك....الخ سنجدها كلها أمانات تستدعي الحفظ ونفس الشيء في تعاليم المسيح التي أوردها كتبة الأناجيل وأيضا في التراث الديني للفراعنة المتمثل أساسا في كتاب الموتي ..سنجد أن كل هذه الأديان تتحدث عن أمانات مطلوب من الناس حفظها بل مطلوب في الاسلام ماهو أكثر من حفظها وهو رعايتهاحيث يقول الله في وصف المؤمنين :" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لاايمان لمن لاأمانة له" ويمكن القول قياسا عليه بأنه لاأمانة أيضا لمن لاايمان له فالإيمان والامانة متلازمان يشترط لوجود أحدهما وجود الآخر معه.والأمانة والأمن والإيمان تنتمي الي أصل لغوي واحد.
وأداء الأمانة وعدم خيانتها يقتضي العدل في الحكم وفي التعامل مع الناس والمخلوقات ويقتضي أيضا اعمال التراحم في شتي صوره والاحسان في القول والعمل ولذا فان العدل والتراحم والاحسان تعد أيضا مقاصد كلية وضرورية .

الأمانة التي حملها الإنسان:
قال الله تعالي : " انا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا" (الاحزاب 725). فماهي تلك الأمانة ؟.

كنت كلما قرأت هذه الآية أوصادفتها واردة في مقالة أو كتاب علي سبيل الاستشهاد أجد نفسي في مواجهة نفس السؤال: أي أمانة تلك التي ألزم الانسان نفسه بها فظلمها بجهله أي بقلة علمه أو كثرة غروره؟ .وكانت مراجعتي لما اجتهد فيه المفسرون أجده لايتفق منطقيا مع بنية نص الآية وتركيبها والسياق الواردة فيه.فمن قائل إنها العقل أو الدين فيكون قد قصرهما علي الانسان وحده بينما يخبرنا القرآن عن الجن مثلا بما ينبؤ بأن لهم عقول ودين بل نجد في قصة النبي سليمان والهدهد مايمكن الاستنتاج منه بأن للطيور عقولها ودينها ، وأ ن تسبح كل المخلوقات بحمد الله كما أخبرنا فإنه يعني أن كلها علي صراط الدين المستقيم.

ومن قال بإنها الاستخلاف في الأرض يمكن الرد عليه أن الاستخلاف تقرر مع بدء خلق الانسان في قوله تعالي : واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." وبذا يكون الاستخلاف مهمة الزامية لايملك الانسان الخيرة فيها ليقبلها أو يرفضها وبذلك لايكون الاستخلاف هو المقصود بالأمانة هنا.

وحسب بنية نص الأية سنجد أن تلك الأمانة لم تعرض علي الانسان مثلما عرضت علي غيره وانما هو طلبها دون أن تعرض عليه وألزم بها نفسه ظالما نفسه بذلك وجاهلا بتبعتها ومسؤليتها ومكابرا في قدرته علي حملها . ويمكن القول أن الانسان لم يفعل ذلك الا طمعا في مكاسب سيجنيها من حمله هذه الامانة والوفاء بمتطلباتها فالجهل هنا يحمل معني الاندفاع والنزق وعدم التبصر وهو مايلازم غالبا الطمع في شيء.

ولفظ الانسان يطلق علي الفرد كما يطلق علي المجموع وعلي الجنس ويستغرق الأجيال من الجنس الانساني منذ ظهوره علي الأرض الي يوم أخر أجياله عليها. ويعني النص في هذه الحالة أن الانسان، فردا كان أوجماعة، لم يقم بالزام نفسه وحده بالأمانة وانما ألزم بها ذريته أيضا وهي مازالت في ظهور أبائها . تماما مثلما قال اليهود وهم يحرضون الحاكم الروماني علي قتل المسيح : اقتله ودمه علينا وعلي أولادنا من بعدنا. وهنا يتجلي معني ظلوماجهولا علي نحو آخر فقد يكون من طلب تحميله الأمانة لم يظلم نفسه بها لآنه كان قادرا علي الوفاء بمتطلباتها ومسؤلياتها ولم يكن جهولا بطلبه اياها طالما كل ماسيترتب عليها في استطاعته القيام به ، ولكنه كان ظلوما لأنه حملها من سيأتي من بعده وهو لايدري اذا ماكان له قدرته وجلده علي تحملها وأنه سيقبل بها ويفي بالتزاماتها وجهولا لأنه اعتبر أن طاعة خلفه لها مضمونة ومؤكدة وهذا مايعد بمثابة جهالة وغرور ومكابرة منه.ولو أنه يستقاد من الأية ضمنا مسؤلية السلف عنه تصرفات الخلف أيضا . أي مسؤولية الآباء عن حسن تعليم وتربية أولادهم حتي يؤدون أمانتهم علي أحسن وجه ومسئولية الحاكم أيضا لآن الحاكم ولي من لاولي له ومسؤول عنه . ويتضح هنا أن الأمانة مسؤولية ويترتب عليها مسؤوليات ممتدة في الزمان والمكان ومن ثم جاء قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
وقيل الأمانة هي الروح ولكننا نجد أن لكل ذي حرة رطبة روح.وبذلك يشترك الانسان فيها مع كل الحيوانات وجميع الكائنات الحية اذ اعتبرنا أن نسمة الحياة هي الروح فان كل خلية حية في النباتات أو الحيوانات تكون ذات روح بل ذرات الجماد أثبت العلم الحديث بأنها تمتلئ بالحركة بداخلها وليست جامدة أو ساكنة كما تبدو لآعيننا. واذا افترضنا أن الانسان هو وحده الذي نفخ الله فيه من روحه بينما باقي الكائنات الحية دبت فيها الحياة بكلمة : كن فيكون ، فان منح الله الانسان روحه كان مع بدء الخلق وبذلك لايكون قد عرضت عليه الامانة أو يكون في وضعية القبول لحملها أو الامتناع عنه . اذا لايمكن أن تكون الروح هي المقصودة بالأمانة في الآية الكريمة.

ويطلق أيضا علي الوديعة والعارية لفظ الأمانةوفي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).وربما اعتبرت الروح أمانة بمعني أنها وديعة أو عارية مستردة بالموت.ولكن يظل هذا المعني ثانويا أو عرضيا للآمانة وليس المعني الاصلي والجوهري المقصود.اذ أنه في حالة التعويل عليه سنظل في حاجة الي اكتشاف الوديعة أو العارية التي أؤتمن عليها الانسان دون غيره أو طلب أن تعلق ذمته بها الي أن يؤديها أو يردها أو يحافظ عليها دون تفريط فيها.ونكون بذلك فد عدنا الى نقطة البدء.

وتعني الآمانة في لغة القرآن حق الغير وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعاليفي سورة النساء: {إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها وإذا حَكمتم بين النَّاس أن تحكُموا بالعدلِ إنَّ الله نِعِمَّا يَعظُكُم به إنَّ الله كان سَميعاً بَصيراً(58)} فالآمانات هنا هي حقوق الغير سواء حقوق رتبها لهم الشرع أو ودائع لهم أو ماشابه ذلك.ويمكن أن نستنتج من هذا المعني أن الآمانة التي نبحث عنها هي حق من حقوق الله علي الانسان عليه أن يؤديه له. ويعزز ذلك قوله صلي الله عليه وسلم:" فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أن : «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له».


ورغم ظهور هذه المعاني العارضة في طريق البحث عن ماهي الامانة؟ فنحن لم نصل الى معناها بعد ولامفر من مواصلة التفتيش عنه.

وقد قال بعض الفقهاء أيضا أن الأمانة هي التكاليف من أوامر ونواه وحلال وحرام ومنهم فخر الدين الرازي والذي عرف التكليف بانه الأمر بخلاف ما فى الطبيعة، و أن هذا النوع من التكاليف ليس فى السماوات ولا فى الأرض لأن الأرض والجبال والسماء كلها على ما خلقت عليه، الجبل لا يطلب منه السير فى والأرض لا يطلب منها الصعود، ولا السماء الهبوط، ولا فى الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء، لكن ذلك لهم كالأكل والشرب فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه. وهكذا يفرق الفخر الرازى بين الإنسان وغيره من المخلوقات بالتكليف حيث يجعل التكليف خاص بالإنسان وأن كل المخلوقات غير الإنسان أمر الله لها موافق لماهيتها وطبيعتها. الا أنني ألاحظ أن الامانة لابد أن تكون شيئا ثابتا أبد الدهر لايتغير ولايتحول بينما التكاليف لم تكن ثابتة في الأديان وانما عرضة للتغيير . صحيح أنه في كل دين كانت الصلاة والصيام والزكاةحاضرة ولكنها تختلف في أشكالها ومواقيتها ولم يكن ثابتا سوى القيم الدينية والاخلاقية ولحق التغيير أيضا بعض الحلال والحرام لرفع العنت أو تغيير الظروف التي اقتضت كل منهما. ومن ناحية أخرى ماكانت السماوات والأرض والجبال لتخرج عن طاعة الله، وانما كلها تعمل وفق أومامره ومشيئته ، ووفق الوظائف التي خصصت لها . وكل ماخلقه الله يسبح بحمده وإن لم نفقه تسبيحه أو ندركه. والملائكة لاتعصي لله أمرا وماخلق الله الجن والانس الا ليعبدوه ، ولذا يمكن القول إن الإنسان وحده لايختص بالتكاليف وإن اختلفت نوعياتها عما كلف الله به غيره.

وقال الزمخشرى بأن المراد بالأمانةهو الطاعة وأنه يراد بها الطاعة لأن الطاعة لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز، وأما حمل الأمانة، فمن قولك فلان حامل الأمانة أو محتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته وتخرج عن عهدته. وهو هنا يلجأ للتفسير بالمجاز بعد أن أعياه فهم ظاهر اللفظ ولكنه لايوضح كيف يكون عرضها ولو علي سبيل المجاز علي من لم يخرج عن طاعة الله قط.

أما الفيروزبادى فقال:" فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان"، أى أبين أن يخنها وخانها الإنسان قال والإنسان هنا هو الكافر والمنافق ففسر حمل بمعني خان وبالتالي فان الامتناع انصب علي خيانة الامانة وليس قبولها بينما نلاحظ أن لفظ الانسان جاء في الاية عاما ولو أريد به التخصيص بالكافر أو المنافق لجاء ذلك واضحا.

ولعل أفضل ماقرأت في هذا الشأن: " أن معرفة الخاصية التى يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات هى التى تقودنا إلى معرفة الأمانة التى انفرد وحده بقبولها ومعرفة الأمانة تقودنا بدورها إلى معرفة أهم حقائق الوجود الإنسانى. إذاً ما هى ميزة الإنسان التى لا يشاركه فيها غيره من المخلوقا ت ليكون هو الخليفة فى الأرض؟ إجابة هذا السؤال تعرفنا ماهية الأمانة التى تميز بها الإنسان،ويمكننا أن نمسك بأول خيط فى تعريف الأمانة بمعرفة المعروض عليهم هذه الأمانة، من أبى أن يحملها، ومن حملوها، أما من أبي حملها أولهم تلك السماوات الرحبة المرفوعة بغير عمد ترونها، الأشد خلقا من الإنسان أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا "النازعات27" .وثانيهما الأرض التى تحمل الإنسان وصلب الصخور وشاهق الجبال والمبانى والمساكن، والبحار والمحيطات وما فيها جميعا." أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى وَجَعَلَ بَينَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يعْلَمُونَ (النمل61) وعرضت على الجبال التى تأخذ الأبصار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "فاطر27" لم تكن جمادية هذه المخلوقات هى مناط العبرة فى العجز عن حمل الأمانة، كما ذهب متأولون. ولكن العبرة ومناطها فى ضخامة أجرامها وطاقتها على الحمل والتحمل: . كل هذه القدرات على الحمل لم تسعف هذه المخلوقات على أن تحمل الأمانة المعروضة، قدرتها على الحمل قائمة وغير منكورة، ومع ذلك أبت كلها أن تحمل الأمانة، بل وأشفقت من حملها فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وبقيت كما خلقت، وكما ارتضت لنفسها، بقيت مخلوقات مسخرة وعرضت على الجبال التى تأخذ الأبصار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "فاطر27" هنا تبدو أول وأهم ملامح الأمانة التى رفضت تلك المخلوقات المسخرة أن تحملها، إنها مخلوقات أرادت بإشفاقها من حمل الأمانة ألا تخرج من طبيعة تكوينها التسخيرى، أى أنها رفضت إلا أن تكون مُسخرة، رفضت أن تكون حرة تفعل ما تشاء، وتحاسب على ذلك بأعدل الجزاء. رأت نجاتها فى تسخيرها، فأشفقت من الأمانة أن تحملها، رأت نجاتها فى ألا تكون حرة الإرادة، فأبت أن تحمل ما عرض عليها، أبت تلك الحرية التى تضعها فى محنة الابتلاء، أبت مسؤولية الاختيار، لأنها عرفت أنها داخلة فى اختبار وابتلاء أن يكون لها حرية الفعل، ويكون عليها جزاء العمل. فرغبت عن الاختبار، ورغبت فى أن تكون مُسيرة، وذلك أفضل لها ألا تفى بحق المسؤولية، وذلك أفضل لها ألا تقوم بواجبات الإرادة الحرة فأشفقت منها، وأبت أن تحملها، قبلت التسخيرورفضت الحرية.
هى الحرية التى أشفقت منها تلك المخلوقات الكبيرة، هى الحرية التى أبت السماوات والأرض والجبال وما كان مثلها من مخلوقات أن تحملها، وحملها الإنسان، وهو من هو فى ضآلة جرمه ومحدودية طاقته، حمل الأمانة، فكان أن سخر الله له ما فى السماوات وما فى الأرض، تكريما له على قبوله الأمانة، وإعدادا له لخلافة الله فى الأرض. وأصبح الإنسان مسئولا عن عمله، يحاسب عليه ثوابا وعقابا، ولا يحمل أحد عنه تبعة مسعاه، أبى الإنسان التسخير وتحمل تبعية الحرية والاختيار، قبل الإنسان مخاطر الابتلاء وعثرات الجهل، وفتح ربه أمامه أبواب التوبة فيتعثر ويخطئ ويتعلم من تجربته ويهتدى إلى سواء السبيل، حمل الإنسان الأمانة، فحمل جوهر إنسانيته: الحرية، لو قبل التسخير كما فعلت السماوات والأرض والجبال وكل من قبل التسخير، لو أنه فعل مثل ما فعلوا، لأعفاه ذلك من المسؤولية والحساب. فالحرية تقابلها المسؤولية.، والتسخير يقابله الإعفاء من أية مسؤولية، الحرية يقابلها التكليف، والتسخير يقابله الامتثال، الحرية يقابلها الابتلاء، التسخير تقابله الطاعة، حمل الإنسان الأمانة، فحمل إنسانيته، وحمل حريته، حمل مسؤوليته، حمل ابتلاءه، وحمل تكاليفه، وما فتئ أن عصى ربه وغوى، وندم وتاب، وتاب عليه ربه فهدى، وأهبط إلى ساحة الابتلاء والتكليف حاملا أمانته، حريته معه واستخلف الإنسان فى الأرض، بقدر الله، وبأهليته للمسؤولية وبما تلقيه عليه من تبعات جسام أعفيت منها كل الكائنات الأخرى."

إذن يستخلص من الرأي السابق أن الأمانة هي الحرية التي منحت للانسان دون سواه من المخلوقات التي ظلت مسخرة ولكن ألم تمنح هذه الحرية للانسان من بداية خلقه؟الم يدخل الله آدم وزوجه الجنة ولم يقيد حريتهما الا في شيئ واحد وهو شجرة طلب منهما الايأكلا منها؟ إن الرأي الاخير رغم مايتضمنه من اغراء بالتوقف عنده والاكتفاء به يجب الا نستحيب للاغراء وأن نواصل الاستمرار في البحث لعله يصل بنا الي ماهو أقرب رشدا.
ولقد جاء ذكر الأمانة أيضا في القرآن بصيغة الجمع في قوله تعالي: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لاتخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون " وفي قوله تعالى فى وصف المؤمنين : والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون "وقد نتوصل الي أن الأمانة التي نبحث عن معناها هي الأم التي تتفرع عنها أمانات كثيرة.
السياق الذي وردت فيه الآية :
مالم نبحث فيه حتي الآن هو السياق الذي وردت فيه الآية ضمن سورة الآحزاب والذي يبدأ من قوله تعالي : " يسألك الناس عن الساعة قل إن علمها عند الله ، ومايدريك لعل الساعة تكون قريبا" (الاية63) ثم تتوالي الآيات من 64-68 تتحدث عن عذاب أهل السعير الذين عصوا الله ورسوله وأطاعوا ساداتهم وكبرائهم فأضلوهم السبيل ، ثم تتوجه الآيات 69و70 بالنصح للمؤمنين ثم تأتي الآية71 لتبشرهم بالفوز العظيم لمن يطع الله ورسوله وبأن الله جزاء طاعتهم يصلح لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم . بعد ذلك مباشرة تأتي الآية72 التي تتحدث عن الأمانة.وبعدها مباشرة تأتي آخر آية في سورة الأحزاب تقول: " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله علي المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما"
من هذا السياق يمكننا أن نستنتج أن الاية 72 يرتبط معني الأمانة فيها ارتباطا وثيقا بقيام الساعة ومايعقبها من حساب وعقاب وثواب.
وتطلعا لمزيد من الهدى سنبحث عن سياق آخر جاء فيه ذكر الآمانة في سورة " المؤمنون" التي عدد الله فيها صفات المؤمنين من بداية السورة وجاء ضمنها :" والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون" ثم يتم وصف المؤمنين عقب ذلك بأنهم"أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" . ثم يأتي الحديث عن الخلق حتي الآية14 لكي يذكر بعده : "ثم انكم بعدذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون" ثم ينتهي هذا السياق لكي تنتقل السورة منه الي سواه. ويذكرنا هذا بماورد في سورة الملك: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا".
تتعزز معلوماتنا الان بأن الأمانة والأمانات ترتبط بالموت والبعث يوم القيامة والحساب والعقاب والثواب وبماهي التزام ومسؤولية وحق علي مؤديها مستحق الأداء لصاحب الحق وأن صاحب الحق هنا هو الله سبحانه وتعالي ودون أن يمنع ذلك من وجود أصحاب حق في الامانة القيام بواجبها نحوهم يكون بمثابة وفاء بحق الله فيها. وأول مايرد علي الخاطر ويتفق مع بنية الاية أن تكون هذه الأمانة أو الأمانات عهد التزم به الانسان وحق عليه الوفاء به ومرتبط أيضا بالايمان حيث يوجد حديث للنبي صلي الله عليه وسلم رواه أحمد وابن حِبَّان عن أنس عن النبي يقول فيه: لاايمان لمن لاأمانة له ولادين لمن لاعهد له". فالأمانة اذن قد تكون عهدا علي الانسان المؤمن يلتزم برعايته والوفاء به لكي يكون جديرا بدخول الجنة خالدا فيها جزاء حفظه وأدائه الأمانه أو يعاقب على عدم وفائه بالعهد بأن يكون من أصحاب السعير .
ويمكن أن يتطور استنتاجنا الآن الي احتمال أن يكون آدم عليه السلام قد قدم عهدا لله سبحانه وتعالي يلزمه ويلزم ذريته من بعده ، هو في نفس الوقت بمثابة أمانة في أعناقهم يلتزمون بالوفاء بها لك يمكن لآدم وزوجه أن يعودا الي الجنة وأن يأخذوا معهم أبناءهم وحفدتهم وذريتهم.بعد أن طردا منها من قبل بعد أن أزلهما الشيطان وعصيا ربهما وقد يكون هذا العهد هو الكلمات التي علمه الله آدم ليتوب عليه.وأن الله سبحانه وتعالي تقبل منهما هذا العهد لكي يكون بامكانهما العودة الي الجنة ومعهما ذريتهما بشرط التزامهما وذريتهما بالعهد.وهو مايتم التحقق منه عبر مسلسل الموت والبعث والحساب . فمن راعي أمانته وعهده دخل الجنة. وبرحمة من الله كلما نسيت أمة منهم العهد أرسل الله لهم رسولا ليذكرهم وأخذ العهد علي الرسول أيضا والذي يأخذ بدوره العهد علي أتباعه فيما يعرف بالبيعة في الاسلام.ويعزز ذلك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: ياآدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يارب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها".
الأمانة اذن بهذا المعني هي عنوان دال علي عقد معاوضة بين الانسان وخالقه يحدد التزام الطرفينوالجزاءات المترتبة علي الانسان في حالة الاخلال به . ويمكن لنا أن نستنتج أيضا أن ماعرض علي السموات والأرض والجبال كان البعث بعد الموت والخلود من بعده في الجنة أو النار بشروط ذلك التي هي العهد الذي قبل به آدم .وبذلك يتسق التفسير مع بنية النص وجميع مفرداته وسياقه سواء في سورة الأحزاب أو مايماثله في سورة "المؤمنون".
فاذا دمرت الارض ودكت الجبال دكا وانهار نظام الفلك في السماوات فانه لن يتم بعث مايموت من أنظمة كونيةأو كائنات حية أخرى غير الانسان. دون أن يمنع ذلك من احتمال انشاء غيرها مثلما أنشأها الله أول مرة وهو علي كل شيء قدير ، أما الذي سيواجه وحده البعث بعد الموت ومابعد البعث فهو الانسان وحده.
العهد والميثاق:
هنا أيضا يجب علينا النظر فيما جاء في أية يبدو أن لها علاقة بما نحن بصدده ، يقول فيها المولي عزوجل:" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (سورة الأعراف الآيات من172-174)وقد أثير جدل كثير حول تفسير الاية واعتمد معظم المفسرين علي ثلاية روايات متشابهة منسوبة لعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وأبوهريرة مع إاقرارهم بضعفها وفحواها أن الله أخرج من ظهرهر آدم ذريته أو صور ذريتهم وأشهدهم علما بأن الاية تحدثت عن بني آدم وليس عن آدم نفسهوبني آدم يحتمل أن يكونوا أبناء آدم في حياته الذين اشتركوا معه في تقديم العهد أوالميثاق لربهم والذى أضحي أيضا بمثابة أمانة في أعناقهم وأعناق ذريتهم ولكن الارجح من ذلك أن المقصود هم الآنبياء الذين كانوا بمثابة الدر في السلالة وأخذ منهم العهد وهذا هو الاقرب الي ألفاظ الآاية والذي تعززه آيات أخرى من كتاب الله وباعتبار أن القرآن يفسر بعضه.فقد ورد في نفس سورة الأحزاب-الآية7- قوله تعالي :{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[الأحزاب:7]،.. فالميثاق اذن مأخوذ من آدم والنبيين والذين هم الدرر في سلالته.
يمكن لنا ايضا أن نستنتج من ذكر لفظ الأمانة مفردا في سورة الآحزاب بينما الأمانات في سورة:" المؤمنون" مقترنة بالعهد بصيغة الجمع بأن لفظ أمانات بصيغة الجمع هو تفصيل للعهد والأمانة بمعني أن كل بند في العهد هو أمانة في حد ذاته وبذلك تكون الأمانة في سورة الأحزاب هي جماع الأمانات المشار اليها في "المؤمنون" وبالتالي تكون كلمة تعني جمع الجمع وليست لفظا مفردا.
واذا طبقنا علم النفس سنجد أنه من المنطقي أن يطمع آدم بعد أن تاب عليه ربه العوده الي الجنة هو وزوجه ومعه بنيه وبناته بعد أن أمسى رب عائلة كبيرةوأن يطالب أيضا بالخلود فيها الذي كان تعلقه به سببا في خروجه من الجنة بعد أن أوهمه الشيطان بأن الشجرة التي منعهم الله عن الاقتراب منها هي الشجرة التي تهب من يأكل ثمارها الخلد.
واذا استعنا بالتاريخ والانثروبولوجيا نستطيع أن نفهم اهتمام الفراعنة البالغ بالبعث والحياة بعد الموت اذا ماأخذنا في الاعتبار أن آدم وبنيه استقروا في أدوميا بفلسطين علي حدودها وأن العماليق من سلالته المباشرة قد حكموها. وأمكننا فهم أيضا تقديس الأسلاف عند القبائل الأفريقية المؤسس علي أن أرواحهم تراقب تصرفاتهم في الدنيا والتزامهم بالسلوك القويم واعتبار هذه المظاهر انعكاسات أو تداعيات أوبقايا ثقافات وعقائد قديمة متصلة بما كان عليه أدم وبنيه وجاء به الانبياءوالمرسلون من بعده.
لقد جاء الخلط أو الخطأ في التفسير للآية:" واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم..." من فهمهم لعبارة "من ظهورهم " وكان الأولي بهم فهمها علي أساس أنها تعني منذ ظهورهم علي وجه الأرض فذاك الفهم المقبول في لغة العرب ييسرعليهم ادراك المعني ولايجعلهم يحولون مايمكن ادراكه بالعقل الي عمل غيبي أقرب الي الخرافة منه الي الغيب ويدعمونه بأحاديث ضعيفة أو موضوعة ويقولون هذا مافسرت به السنة.
الخلاصة :
الأهم من اثبات مأثبته هو مايمكن استخلاصه منه وهو جرد الأمانات مع كثرتها ومعرفة مدي التزامنا برعاية كل منها. اذ أن محاسبة النفس بالنقد الذاتي اليوم هو الذي ينجيها عند حساب الله لها غدا وقبل أن يفوت الأوان ويتعذر الاستدراك. وعلي سبيل المثال فان الابوين لايتحملان المسؤولية عن نفسيهما فقط وانما أيضا عن أبنائهم وبناتهم ونسلهم وكلهم أمانة يسألون عنها وأنه اذا كانت "كل نفس بما كسبت رهينة "فان الوفاء بالأمانة أو خيانتها,حيث اعتبر القرآن الاخلال بها خيانة، يدخل في اطار ماكسبت النفس من خير أو اكتسبت من سوء . وأداء ورعاية الأمانة هو فرض عين علي كل فرد وليس فرض كفاية يغنيه عنه أداء غيره له.وهو أيضا فرض جماعي علي المجتمع الإنساني عامة والمسلم خاصة لايمكن للمجتمع ان يتحلل من مسؤوليته عن ذلك. ولذا فإن أداء الآمانة ورعايتها يمتد داخل الدين الي مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والاعلام والبيئة والتعليم ... أي جميع مجالات الحياة. ويتحمل الحاكم والمحكوم معا مسؤولية الأمانة واشاعتها في المجتمع لتكون اطارا حاكما لحركته وثقافته وعاداته وتقاليده ويحاسب الحاكم والمحكوم عليها في الارض مثلما يحاسبون عليه في السماء طالما أن التفريط في الأمانة هو في دين الأمة خيانة.ولذا جاء الآمر"وأدوا الأمانات الي أهلها" أمرا عاما يتم بمقتضاه اعطاء كل ذي حق حقه كاملا غير منقوص وبمايرضي الله ويتفق مع العدل وشرعية الأمانة.
فالعالم يجب أن يعلم الناس مماعلمه الله والا يكون قد خان الآمانة والميسور الحال يجب أن ينفق في سبيل الله من المال الذي استخلفه اله عليه والا يكون قد خان الأمانة والقاضي عليه أن يحكم بما أمر الله به من عدل والايكون قد خان الأمانة....الخ. وتتعدد السلوكيات التي تتطلبها الآمانة بما لايتسع المجال هنا لحصرها. وحديث الرسول : "لاايمان لمن لاأمانة له " يجعل وجود الامانة معيارا للتفرقة بين الايمان والكفر . اذ لايمكن أن يحسب الحاكم الذي فرط في مصالح الشعب أو اختلس المال الذي أوتمن عليه أوتنازل عن حقوق الشعب للآجانب مقبل عرض من أعراض الدنيا وكذلك القاضي المرتشي الذي حكم ظلما بعلم منه وعمد ..لايمكن حسبان هذا أو ذاك من المؤمنين.
ولأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فيما روي عنه :" لايزال الخير في أمتي الي يوم القيام’" فسنجد هنا وهناك قلة من الناس هم الذين لآماناتهم راعون أما الأكثرية حكاما ومحكومين فقد نعثر علي بقايا الأمانة عالقة في نعالهم من كثرة ماداسوا عليها بها..وكان الله للخائنين خصيما وبهم عليما.
فوزي منصور
Fawzym2@gmail.com
Fawzy_mansour@hotmail.com
نشرت هذه المقالة لآول مرة في يومية "أنوال المغربية"يوم 18أكتوبر1994 وقد أدخل عليها هنا بعض التحسينات.
.








Wednesday, June 13, 2007

هل تحسن الجزائر استخدام مواردها؟

الجزائر...هل تحسن استخدام مواردها ؟

تحسنت الموارد المالية للجزائر خلال السنوات القليلة الماضية نتيجة ارتفاع أسعار النفط وبالتالي زيادة عائدات بيع البترول والغاز مما كان له نتائج ايجابية علي ميزانية الدولة. وقد تمكنت الجزائر علي اثر ذلك من سداد معظم ديونها الخارجية والتي كانت خدمة الدين تستهلك معظم مواردها المالية ، كما تمكنت أيضا من تأمين رصيد هام من العملات الأجنبية. وشجع ذلك الدولة علي التوسع في الانفاق ويظهر ذلك جليا في توجهين أولهما عقد صفقات ضخمة في مجال التسليح ورصدمبالغ كبيرة لتنفيذ مشروعات في مجال الاسكان.
بالنسبة لصفقات السلاح فمن واجب كل دولة أن تعزز قدراتها العسكرية لحماية أمنها القومي وصد أي عدوان خارجي محتمل أو ارهاب العدو المحتمل لمنعه من مجرد التفكير في شن العدوان ، ولكن هذا يتطلب من الدولة عند تحديد حجم ونوعية التسليح ونسبة النفقات العسكرية من الدخل القومي أن تحدد الأعداء المحتملين وأن تحدد بالتالي نوعية السلاح الذي بامكانه صد أي عدوان منهم واذا افترضنا أن العدو المحتمل هو عدو اقليمي وأن ميزان القوة العسكرية الحالي هو في صالح الجزائر فان زيادة نفقات التسليح في هذه الحالة يعد هدرا لموارد مالية كان بالامكان انفاقها في مجالات التنمية وتحسين خدمات الدولة .
بالنسبة للانفاق علي الاسكان فهو انفاق ضروري لتحسين ظروف عيش الأسر الجزائرية ولكنه يجب أن يتم في اطار مخطط للتنمية الشاملة وللعمران وأن لايقتصر علي السعي لارضاء فئات من الشعب لأغراض سياسية أو انتخابية دون الأخذ في الاعتبار مايترتب علي توسيع مدن حالية من تكدس السكان فيها وزيادة الضغوط علي الخدمات واستهلاك الموارد المائية المحدودة وظروف الطبيعة الجبلية لمعظم المدن الجزائرية وصعوبة التوسع الأفقي لها وتكلفته المالية الكبيرة.
قد لايكون المرء متجنيا لو استنتج من ذلك أن انفاق الموارد المالية للدولة الجزائرية يخضع لاعتبارين :

الأول : ارضاء المؤسسة العسكرية وسعيها لتعزيز قوتها المادية والعنفية داخل الدولة لكي تظل ضمن المعادلة السياسية المتحكمة في شئون الحكم وضمان استمرار امتيازاتها وحماية قياداتها وعناصرها من أي تقلبات سياسية تسمح بمحاسبتهم بجرائم ضد الانسانية اقترفوها خلال مايسمي بالعشرية الدامية ودعم المصالح الشخصية للجنرالات بتوفير فرص الحصول علي عمولات يكبر حجمها بقدر مايكبر حجم صفقات التسليح . أي أن الأمر لوصح ماسبق لاعلاقة له بالأمن القومي للدولة الجزائرية أو تمكينها من صد عدوان خارجي .

الثاني: ضمان استمرار نظام الحكم الحالي لمدة أطول بحقنة تخدير مؤقته طالما لايتم وضع مخطط قومي يؤمن فرص عمل لعشرات الالاف من الشباب الجزائري العاطل ويؤمن أيضا أمنا غذائيا ليمكن فصله عن الأمن القومي للدولة ويؤمن فرص زواج للشابات الجزائريات يغنيهن عن عرض أنفسهن في الانترنيت دون جدوى أوالسقوط في براثن شبكات الدعارة الدولية ويقلل أيضا من حجم الواردات الأجنبية أو يحقق تأمين قدرات دفاعية ذاتية عن طريق التصنيع الحربي.

ومن المؤكد أنه كان يمكن تحقيق نفس المصالح الذاتية للعسكريين والمدنيين علي السواء بصرف النظر عن مدي مشروعيتها ضمن خطة وطنية تحقق أيضا مصالح الدولة والشعب ، وتراعي ظروف المكان من تضاريس ومناخ وشبه انعدام للأنهار والسهول الساحلية،وللزمان ومايكتنفه من تحديات للأمن والاستقلال الوطني وأكبر مثال لها ماتشنه الولايات المتحدة من حروب وماتزمع اقامته من قواعد عسكرية في أفريقيا واحتياجات الانسان الجزائري الحالية والمستقبلية مع الاخذ في الاعتبار احتمال نضوب آبار النفط يوما ما.

والذي لم يعد يحتاج الي شرح وتفصيل أنه لايمكن للجزائر تحقيق طموحات وطنية تمكنها من حل مشاكل الحاضر وتعزيز امكانيات المستقبل والافادة من عبقرية الموقع للتوصل الي تحقيق مكانة ومهابة اقليمية وقومية ودولية دون تنفيذ مشروعات قائمة علي التعاون الاقليم والتنمية المشتركة . وهذا كله يمكن التوصل اليه دون حاجة الي وحدة سياسية مع دول الجوار علي النحو الذي كان يفكر به قادة الثورة الجزائرية زمن الاستقلال ومازال له تأثير سلبي علي العقل السياسي الجزائري كنتيجة للاحباط.

حتي لايكون الكلام نظريا ، سأضرب مثلا عمليا لمشروع يمكن تنفيذه ويحقق كل ذلك للجزائر ، والذين قد يعتبرونه خياليا عليهم أن يتذكروا أن الفكر الاستراتيجي لايكون فكرا مبدعا مالم يعتمد علي تصورات مسبقة هي بنات خيال أولا وأخيرا

يوجد غرب مدينة قادس التونسية الواقعة علي خليج تونس منخفض تحت مستوي سطح البحر بعدة أمتار يعرف بشط الجريد واذا ماتوجهنا غربا منه وقطعنا الحدود السياسية بين تونس والجزائر سنجد منخفضا آخر يقع بدوره تحت سطح البحر يسمي منخفض ملقير واذا واصلنا الاتجاه غربا بعد نهاية المنخفض داخل الجزائر
سنصل بعد مسافة ليست بالطويلة منطقة "حاسي مسعود" التي يتم فيها استخراج البترول والغاز. فكرة المشروع المقترح هو حفر قناة بحرية تمتد من خليج تونس جنوب قادس وتمر بمنخفض شط الجريد ثم تمتد غربا نحو شط ملقير مكونه في تونس والجزائر بحيرتين كبيرتين ثم تمتد القناة نحو منطقة انتاج البترول في حاسي مسعود وعن طريق هذه القناة البحرية يمكن تصدير البترول التونسي والجزائريى دون أدني حاجة لخطوط أنابيب مكلفة في صيانتها وتشغيلها وحمايتها من التخريب، بسبب وعورة المناطق التي تجتازها حاليا في اتجاه الموانئ الجزائرية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، وكذلك خامات الفوسفات في البلدين.و حول هذه البحيرات يمكن إقامة مدن صناعية للصناعات الكيماوية مثل صناعة الاسمدة والصناعات البتروكيماوية ، ويمكن أقامة منتجعات سياحية ومناطق للتجارة الحرة الدولية ومنشآت لتحلية مياه البحر وأخرى لتوليد الكهرباء باستخدام الطاقة النووية . كمايمكن أيضا انشاْء مدن مخصصة للتعليم التقني المتوسط والعالي وأخرى للعلاج المتخصص. من مزايا مثل هذا المشروع أن يوفر فرص عمل ومنتجات صناعية ويعيد توزيع السكان علي مجمل التراب الوطني بما ينعكس ايجابا على دواعي الآمن القومي وينقل الانشطة الصناعية من مدن الشمال الي مناطق أكثر أمنا وتتيح فرص أفضل للدفاع عنها . ويحيي المشروع أرضا موات شبه خاليه من السكان ويحسن الظروف المناخية فيها ويمنح فرصا لاقامة مناطق زراعية جديدة ولولعدد محدود من النباتات التي تتحمل قدرا محدودا من ملوحة مياه الري ، كمايتيح فرصا كبيرة لتنمية الموارد السمكية عن طريق استغلال البحيرات ويوفر فرصا لزيادة حصة كل من تونس والجزائر في التجارة الدولية بتوفير مستودعات لمنتجات دول شرق آسيا ودول أمريكا اللاتينية في المنطقة الحرة.
ستكون هناك مشكلة توفير المياه العذبة للشرب مع زيادة سكان المنطقة العمرانية الجديدة حول البحيرات وعلى طول القناة البحرية ، وهي مشكلة يمكن حلهاأيضا عن طريق تعاون إقليمي أوسع نطاقا في مجال المياه والتنمية والأمن الغذائي واعادة توزيع سكان دول شمال أفريقيا وبتمويل محلي ودولي , وهو مايمكن بسطه وتوضيحه في فرصة أخرى.
وتوفير التمويل اللازم لمشروع القناة البحرية سالف الذكر يمكن أن يتم بإقامة شركة مساهمة تساهم في رأسمالها حكومتا تونس والجزائر والشعبان التونسي والجزائري ومؤسسات التمويل الدولية. ويمكن أيضا تزويد الدولتين إن أبديا اهتماما بنظام يؤمن تمويلا شعبيا مستمرا للمشروع كأسهم في رأسمال الشركة
يضم جميع السكان دون استثناء أو اقصاء ويعود بالخير علي الجميع ويحسن من دخل العائلات من جميع المستويات الاجتماعية ويؤمن احتياجاتها المالية المستقبلية في جميع الظروف وبصرف النظر عمااذا كانت تستفيد من التأمينات الاجتماعية الحكومية أم لا ويجسد مبدأ التكافل الاجتماعي ومبدأ صلة الرحم في أجل صورهما.
فوزي منصور
Fawzy_mansour@hotmail.com
Fawzym2@gmail.com

هل تتدارك موريتانيا مافاتها؟

هل تتدارك موريتانيا مافاتها ؟
أعلن مؤخرا أن موريتانيا تعاقدت مع شركة فرنسية علي مد خط أنابيب من نهر السنغال الي العاصمة نواكشوط لتزويد العاصمة نواكشوط بالمياه الصالحة للشرب بقيمة 380مليون دولار ووصف المشروع بأنه غير مسبوق وينفذ لأول مرة في تاريخ موريتانيا وسيتيح فرص عمل لمئات من الموريتانيين.
والذي أراه أنه كان بالامكان بلوغ الهدف من ذاك المشروع وبتكلفة أقل ومردودية أكبر، بمشروع آخر عبارة عن: حفر قناة ملاحية من نهر السنغال حتي ميناء نواذيبو شمال موريتانيا بالاتفاق والتعاون مع جمهوريتي السنغالشريكتي موريتانيا في نهر السنغال. و في اطار مخطط للتنمية المشتركة. وبتنفيذ شركة مقاولات عامة موريتانية/سنغالية/ مالية. ولايحتاج هذا المشروع لغير شراء آليات حفر وشاحنات لنقل مخلفات الحفر. ويعتمد علي عمالة كثيفة متوفرة في البلدان الثلاثة، يتم تحويلها الى مزارعين بعد الانتهاء من تنفيذ المشروع في أراضي الساحل الموريتاني . هذا الساحل الذي كان يمكن تثبيت رماله بأشجار الآكاسيا ونخيل التمر وزراعته بالفول السوداني والبصل والنباتات الطبية والتوابل وقصب السكر والقطن قصير التيلة والدخن ونبات الجويا والخضروات والفواكه مثل الموز والآناناس والمانجو ....الخ محاصيل المناطق الحارة .بالاضافة الي أعشاب المراعي .ولم يكن تنفيذ هذا المشروع يحتاج الى شركة أجنبية أو الحصول علي قرض كبير يضيف عبء سداده أعباء حديدة على أعباء الاقتصاد الوطني الناتجة عن القروض الأجنبية السابقة.وكان هذا المشروع سيوفر وسيلة نقل رخيصة في متناول يد عدد كبير من المستثمرين الصغار في البلدين وزيادة في الدخل القومي وامكانية قيام صناعات تحويلية غذائية عليه توفر الاحتياجات المحلية من مواد غذائية أساسية مثل الزيت والسكر ودقيق الذرة وغيرها.فضلا عن المنتجا ت الحيوانيةمن حليب ولحوم وأسماك نهرية . وكان بالامكان توجيه ناتج الحفر لردم المستنقعات البحرية جنوب العاصمة وزراعتها وتأمين فرص عمل دائمة لآلاف الأسر الموريتانية والسنغالية معاوكذلك الأمن الغذائي للبلدين ودمج العنصرين الزنجي والعربي في بوتقة واحدة عن طريق الزيجات المختلطة مما يسهم في تحسين النسل بالنسبة للأجيال القادمة وانهاء العصبية المبنية علي العرق أو اللون وبناء علاقات صحية جديدة تسمح بوضع نهاية لتأثيرات الرواسب التاريخية القديمة وتحول دون مواصلة القوى الأجنبية استغلالها لاثارة الكراهية والاحقاد والفتن بمقتضي سياستها الاستعمارية المعروفة : فرق تسد والتي تحقق لها مصالحها سواء علي صعيد بيع الأسلحة أو الحصول علي الخامات الأولية من الدول الأفريقية بأسعار متدنية.

والسؤال المطروح هو: لماذا غاب هذا التوجه عن العقل الموريتاني؟

الاجابة علي هذا السؤال هو أن العقل الموريتاني لايعاني من أي قصور ولاينقصه الذكاء أوالقدرة علي التخيل والتصور. اذن..أين الخلل؟..الخلل يكمن في رواسب الخلافات بين موريتانيا والسنغال والعصبية العرقية بين الزنوج ومن يعتبرون أنفسهم عربا في موريتانيا بينما الاسلام يجمعهما معا حيث لافرق فيه بين أسود وأبيض الا بالتقوى .هذه الرواسب النفسيةهي التي تضيق مجال عمل العقل . وبالاضافة الي ذلك عدم وجود قناعة بأنه لاأمل في بقاء دولة صغيرة في عدد السكان مزدهرة ومحتفظة باستقلاليتهاوكرامتها مالم تلجأ الي تنمية انسانية واقتصادية مشتركة مع دول الجوار بحيث يشكلان معا وحدة انسانية وثقافية حتي وان احتفظ كل منهما بوضعيته السياسية علي غرار ماهو حادث الان في أوروبا . علما بأن عرب موريتانيا هم من العنصر الليبي المنتشر في شمال القارة ألافريقية من دلتا مصر حتي ساحل الاطلنطي والذي وجد في موريتانيا منذ فجر التاريخ وتشهد بذلك رحلة حنون القرطاجي الذي أثبت أن "الليبتوس" ينتشرون حتي نهر السنغال جنوبا ومن بعدهم جنوب النهر ينتشر أثيوبيون خطرون علي حد قوله. هناك أي الغرور الناتج عن اكتشاف البترول وبالتالي الحصول علي موارد مالية كبيرة غير مسبوقة في تاريخ موريتانيا وهو مايحجب عوامل هامة وضرورية لايغني عن ضرورة الاهتمام بها توفر الأموال.
ولكن .. هل يمكن تدارك مستقبلا مافات موريتانيا اليوم..؟.هذا ماآمل فيه من الحكومة الموريتانية الجديدة . واذا كان لاينفع البكاء علي اللبن المسكوب فان المطلوب اليوم التطلع الي لبن جديد يتم احفظه في اناء غير قابل للكسر. واذا كنت قد اكتفيت في البداية بضرب مثل لتنمية مشتركة بين دولتين جارتين فانه يمكن تعميم النموذج اقليميا لتحقيق تنمية مشتركةمتعددة الأطراف لصالح شعوب الدول التي يجمعها نفس النطاق الجغرافي.

نموذج لمشروع تنمية مشتركة متعددة الأطراف

ماسيتم عرضه هنا هو تطوير الفكرة السابقة بحيث يعم نفعها علي أكبر عدد ممكن من الشعوب الآفريقية .

ان عائد التنمية المشتركة يزداد بالتأكيد كلما اتسع نطاقها الجغرافي وازداد معه كم الثروة البشرية والثروات الطبيعية المساهمة في عملية التنميةالشاملة الاقتصادية والاجتماعية والانسانية. ووجود أنظمةسياسية مختلفة أومتعددة في الاقليم الجغرافي الذي تتم فيه عمليات التنمية االمشتركة لايعوق أو يعرقل هذه العمليات ، طالما قامت هذه الانظمة بادخال بعض التعديلات علي قوانينها بحيث تسمح بتنقل رؤوس الأموال والأشخاص والسلع عبر حدودها دون عائق ، وتيسير اقامة وعمل مواطني دول اقليم التنمية المشتركة في كل دولة، ومنحهم نفس الحقوق التي يتمتع بها مواطنوها طالما يخضعون لقوانينها وعليهم نفس واجبات باقي المواطنين.
والتنمية ، سواء تمت علي نطاق دولة واحدة أو عدة دول ، تحتاج الى بنية أساسية ضرورية تتمثل في توفير الماء اللآزم للشرب والزراعة وتربية الماشية والتعميروتشييد المباني والمنشآت المدنية والصناعية والأغراض الصناعية ويأتي بعد الماء مباشرة : الطرق اللازمة لنقل الأفراد والسلع برية أوسكك حديدية أو نقل نهرى أو بحري أو جوي ثم بعد ذلك تأتي منشآت التزويد بالطاقة وخطوط الاتصالات.

الماء هنا في هذا النموذج لايكتسب أهميته من حيويته فقط وانما أيضا من اتخاذه محددا للدول المشاركة في المشروع . والتي تنقسم الي دول مزودة بالماء ودول تم نقل الماء اليها لتعمير أراضي خاضعة لسيادتها . ولشعوب الدول المزودة بالماء كل الحق في المشاركة والانتفاع بعائدات التنمية في الدول التي تم نقل المياه اليها. هذا يعد البروتوكول الواجب الالتزام به والعمل
بمقتضاه .

في هذا النموذج تشمل قائمة الدول كل من غانا وغينيا وساحل العاج وليبريا وسيراليون وغينيا بيساو وغامبيا والسنغال كدول مزودة بالمياه وموريتانيا والجزائرومالي وتونس (12 دولة) ويمكن أيضا اضافة المغرب الى الدول المستفيدة من الماءوالمشروع . وقد يتسع نطاق المشروع مستقبلا ليشمل جميع دول شمال وغرب أفريقيا في مرحلة تالية. وعلي أن تكون المناطق التي يجري تعميرها بموجب هذا المشروع في أراضي السنغال وموريتانيا والجزائر ومالي وتونس مفتوحة أمام جميع شعوب اقليم التنمية المشتركة خاصة شعوب الدول المزودة بالماءوالتي ستعتمد عليها أيضا المنشآت الصناعية الجديدة علي الخامات المعدنية المستخرجة من مناجمها.

اذا استعرضنا الدول التي اعتبرت مزودة للماء جغرافيا سنجدا تقع في سواحل غرب أفريقيا وفي منطقة تسودها هضبة فوتاجالون التي تسقط عليها أمطار موسمية غزيرة فيما عدا غانا التي تقل أمطارها نسبيا . وهذه الهضبة مرتفعة عن سطح البحر بما يتراوح مابين 500متر وأكثر من ألف متر حيث نجد مثلا جبل نمبا شرقها يرتفع الي 1850 متر فوق سطح البحر. وبينما تنحدر حواف الهضبة نحو المحيط الأطلسى جنوبها أوغربها انحدارا شديدا فانها تنبسط أو تنحدر ببطء في اتجاه الداخل والصحراء الكبري. ولذا تنحدر من علي حوافها الخارجية أنهار ومجاري سيول قصيرة وسريعة الجريان تذهب مياهها الي المحيط الأطلسي دون الانتفاع بها ، بينما تنبع من داخلها أنهار طويلة نسبيا وتأخذ طريقها من خلال انفراجات بين جبال الهضبة نحو الشمال أو الغرب كما تظهر أيضا البحيرات داخلها . ومن هذه الأنهار: النيجر الذي يصل طوله الى4200كيلومتر والفولتا في غانا ويصل طوله مع روافده الى 1600كيلومتر والسنغال ويصل طوله الي 1700 كيلومتر وغامبيا 1130 كيلومتر. وتأتي بعدها أنهار ساحل العاج بنداما 950كيلومتر وكومويه 900 كيلومتر وساسندرا 650 كيلومترو وكفالي 600 كيلومتر. أما باقي الانهار الأخري مثل أنهار ليبريا وسيراليون وغينيا بيساو فلا يتجاوز أطولها300كيلومتر.

تتلخص الفكرة في جلب مياه هذه الأنهار الضائع معظمها دون الاستفادة منها لزراعة وتعمير أراض واسعة وسط السنغال وفي الصحراء جنوب الجزائر وتونس وشمال مالي لصالح شعوب غرب أفريقيا المشاركة في المشروع. مع السماح بتسرب كميات منها الي مياه المحيط للمحافظة علي البيئة البحرية في سواحل تلك الدول . سيتطلب ذلك حفر قناة جنوب الهضبة قرب اتصالها بالمحيط تلتف مع الهضبة جهة الغرب وتتجه شمالا الي سهول السنغال ثم تقطع نهر السنغال الي موريتانيا عند مدينة روسو الموريتانيةبعد مرورها في السنغال بنهر فالو والبحيرة الملحقة به. ومن شمال موريتانا تتجه شرقا نحو الصحراء المالية والجزائرية علي امتداد منخفض الجوف في جنوبه أو شماله متجهة نحو شمالي منخفض شط ملقير في الجزائر ومنخفض الشطوط في تونس وتصرف مياهها في أحدهما. وخلال هذه الرحلة تجمع القناة مياه الأنهار التي تقطعها وكذلك مجاري السيول التي تصب فيها ويبلغ عدد هذه الأنهار أكثر من 20 نهرا متفاوتة الطول .أما مجارى الأنهار جنوب أو غرب القناة في المسافة الفاصلة بينها وبين المحيط فيتم سدها بركام الصخور الناتجة عن الحفر في الهضبة الصخرية وبحيث يتم من فوقها تصريف المياه الزائدة عن حاجة القناةواستغلال الصالح منها لتوليد الطاقة الكهربائية منها على مدار العام. وهذه القناة الجديدة والتى ستساهم شعوب هذه الدول في حفرها ولاتحتاج الي أي خبرات أجنبية ، من الأفضل أن تكون مزدوجة الغرض أي تستعمل لنقل المياه الي مناطق تحتاجها وتستخدم أيضا لأغراض النقل النهري. وهي ستكون كذلك من تلقاء نفسها، حيث أن أدائها للغرض الاول بكفاءة سيتطلب أن تكون بعرض وعمق ومناسيب محددة تجعلها صالحة للغرض الثاني أي للنقل النهري للأفراد والبضائع، والذي يعتبر أقل وسائل النقل تكلفة وأقلها تلويثا للبيئة ولايعيبها سوى البط ء. وتظهر أهمية هذه القناة في الملاحة النهرية ليس فقط من خلال نقل منتجات المنطقة الاستوائية منها الي الشمال وزيادة حجم المبادلات التجارية بين الدول التي تربط بينها القناة الجديدة , وانما أيضا في دورهاالهام الى جانب سبل النقل الأخري البرية والبحرية في نقل الخامات المعدنية المتوفرة والعديدة لدي هذه البلدان الي المناطق الصناعية الجديدة في موريتانيا والصحراء الجزائرية حيث يمكن اقامة مجمعات صناعية ضخمة للصناعات المعدنية والكيميائية والهندسية الي جانب الصناعات الغذائية والتحويلية الأخرى . وتبعا لهذا النهج الجديد يمكن لهذه الدول الأفريقية الافادة المثلى من ثرواتها الطبيعية التي تتعرض حاليا للاستنزاف والنهب أو البيع
في الأسواق الدولية بأسعار زهيدة ويمكنها رفع حجم مساهمتها في التجارة الدولية وتوفير جزء كبير من العملات الأجنبيةالتي كانت توجهها لاستيراد احتياجاتها من السلع المصنعة وكذلك تكون لأول مرة في تاريخها منذ استقلالها في غني عن الحصول علي قروض أجنبية تقيد حريتها السياسية وتستنفد سداد أقساطها وفوائدها مواردها المالية.
وعلي سبيل المثال لاالحصر، تتوفر كثير من الخامات المعدنية لدى هذه المجموعة من الدول ييتفاوت حجم احتياطياتها الباقية منها بعد استنزاف الاحتكارات الأجنبية للعديد منهاعلي النحو التالي:
· الفوسفات : يوجد في السنغال والمغرب وموريتانيا والجزائر وتونس.
· البوكسيت: يوجد في غينيا ومالي وغانا وساحل العاج وسيراليون وغينيا بيساو.
· الحديد : يوجد في موريتانيا والسنغال وغينيا وسيراليون وساحل العاج وليبريا والجزائر.
· المنجنيز: يوجد في غانا وساحل العاج وغينيا وليبريا.
· البلاتين: يوجد في سيراليون.
· الذهب : يوجد في غانا وغينيا وليبريا وسيراليون.
· الكروم: يوجد في سيراليون.
· التيتانيوم: يوجد في السنغال.
· النحاس : يوجد في ساحل العاج.
· الماس : يوجد في ليبريا وغانا وساحل العاج وغينيا بيساو.
· اليورانيوم: يوجد في الجزائر .
· البترول والغاز: يوجدان أو أحدهما في الجزائر وتونس وموريتانيا والسنغال وساحل العاج.
وهذا يوضح أن هذه المنطقة غنية بمواردها الطبيعية ومع ذلك تعيش معظم شعوبها تحت عتبة الفقر بل سنلاحظ أيضا أن البلدان الغنية بالخامات المعدنية هي التي تعرضت في السنوات الآخيرة للآضطرابات والمذابح والحروب الأهلية مثل الحال في ليبريا وسيراليون وساحل العاج
وشعوبها من أكثر شعوب القارة الأفريقية فقرا وبؤسا.

ويتكامل هذا المشروع مع مشروع القناة البحرية السابق لي اقتراحها لتربط بين شط الجريد في تونس وشط ملقير في الجزائر وخليج تونس مع امتدادها داخل الصحراء الجزائرية الي منطقة انتاج البترول والغاز في حاسي مسعود والتي لاتبعد كثيرا عن الطرف الغربي لشط ملقير الذي يفترض أن يتحول الي بحيرة مائية كبيرة لوقوعه هو و شط الجريد تحت مستوى سطح البحر. إذ أن المشروع التونسي/الجزائري سالف الذكر إن قدر له أن ينفذ سيحتاج الي تزويده بالماء الصالح للشرب بمايكفي ساكنة المناطق الصناعية والسياحية التي سيجري اقامتها حول البحيرات الجديدة في كل من تونس والجزائر.وفي حالة الحصول علي مياه عذبة تضاف الي مايمكن الحصول عليه من تحلية مياه البحر سيتيح ذلك زراعة حبوب مثل القمح والذرة وقطاني مثل الفول والعدس واللوبيا والعديد من أصناف الخضر والفواكة بسبب وجود المنطقة بالقرب من البحر المتوسط وبالتالي في ظروف مناخية أفضل من باقي مناطق الصحراء. وستزيد البحيرات الجديدة من تحسين الظروف المناخية حيث تزداد نسبة رطوبة الجو بما يلائم الاحتياجات الزراعية. ووصول القناة النهرية العذبة الجديدة الي جنوب منطقة الشطوط في تونس واالجزائر سيتيح زراعة مساحات شاسعة من الأراضي المسطحة والصالحة للزراعة بعد تخليصها من الأملاح العالقة بها وتثبيت الكثبان الرملية جنوبها والحد من تأثيرات الرياح الساخنة المحملة بالرمال والقادمة من الصحراء بحزام غابوي.
واستخدام القناة للملاحة النهرية سيتيح وصول المحاصيل الزراعية الاستوائية المنتجة في الساحل الجنوبي لغرب أفريقيا مثل البن والكاكاو وزيت النخيل والمطاط والموز والاناناس.......الخ الي شرق المتوسط. وعودة السفن من شرق المتوسط الي الساحل محملة بمنتجات منطقة البحر المتوسط المعتدلة ، والمنتجات الأوروبية والآسيوية الواردة عبر البحر واتاحة فرص غير محدودة للتصنيع الغذائي ولمبادلات تجارية بشروط أفضل وفائض قيمة أكبر، بالنسبة للمزارعين. فضلا عن امداد المجمعات الصناعية الجديدة في موريتانيا والجزائر باحتياجاتها من الخامات المعدنية علي النحو السابق ايضاحه.

وعلي طول القناة النهرية يمكن مد طريق بري للسيارات وخط سكة حديد سريع يعمل بالكهرباء وشبكات ضغط عالي لحمل التيار الكهربي من محطات الانتاج الي محولات وخطوط التوزيع. وكذلك خط أنابيب لنقل البترول من مناطق انتاجه الي محطات التكرير والغاز أيضا الي مناطق الاستهلاك وكذا خطوط كابلات أرضية وهوائية لنقل الاتصالات التليفونية مابين غرب أفريقيا وشمالها.
اذن مع امتداد القناة ستتوفر البنيات الاساسية اللازمة للعمران والحياة المدنية الحديثة والميسرة لقيام التصنيع وتسريع المبادلات التجارية وتنويع السلع المنتجة.
وستمكن منطقة الانتاج الزراعي والصناعي علي طول امتداد القناة وتفرعاتها والتي قد تأخذ شكل قنوات مغطاة أو أنابيب للري لتفادي تبخر المياه بالحرارة الي اعادة توزيع السكان والحد من ضغط الكثافة السكانية علي الدول محدودة المساحة والدخل والقضاء علي الفقر وتحسين مستوى المعيشة وتعمير مناطق خالية حاليا من السكان بما يجعلها عمقا استراتيجيا اقتصاديا وأمنيا هاما لمختلف الدول المشاركة في المشروع.

تنفيذ المشروع سيتطلب اقامة شركة مساهمة قابضة holding أفريقية متعددة الجنسيات ومتعدية للحدود، موزعة أسهمها علي مواطني الدول المشاركة وحكوماتها ومِؤسساتها المالية وشركاء دوليين. وتقوم باستغلال الأراضي وممارسة كافة الأنشطة الاقتصادية من زراعة وصناعة وتعدين ونقل وتجارة وطاقة واسكان وخدمات لحسابها وبواسطتها مباشرة أو بواسطة مؤسسات أو شركات تابعة لها. وستتصل أنشطة هذه الشركة المساهمة بأنشطة افتصادية تابعة لشبكات تنمية اقتصادية موجودة داخل الدول المشاركة وتمثل المساهمين الأساسيين في الشركة الافريقية الاقليمية الكبرى سالفة الذكر والذين يواصلون زيادة رأسمالها سنويا وتزداد حصتهم فيها من ناحية وتمكينها من التوسع في الاستثمارات وتمكنهم من الحصول علي نصيب متزايد من الارباح سنويا يتم توزيعه علي المساهمين الذين هم في ذات الوقت عائلات سكان هذه الدول مما يكفل تنويع وزيادة مصادر الدخل العائلي وكذلك الدخل الوطني في كل دولة .

إن مايجعل البعض ينظر لهذا المشروع علي أنه يوتوبيا غير قابلة للتنفيذ بسبب مااتسمت به الأنظمة الحاكمة في العديد من الدول الأفريقية من فساد ، واعتمادها علي القوى الأجنبية وارتباط مصالحها بها . أو بمعني آخر عدم وطنيتها. ومع التسليم بهذا الواقع الا أنه لايجب الاستسلام له وأنا هنا لاأقول أنه سيتم تغييره بثورات أو انقلابات أو بتغيير هذه الأنظمة الحاكمة بدمقرطة النظام ولكن سيتم ذلك بادماج هذه العصب الحاكمة بصرف النظر عما هي متهمة به من فساد وعمالة داخل المشروع مع باقي أفراد الشعب الذي سيتم تنظيمه علي نحو لايزعجها وبحيث تجد أن مكاسبها المادية والرمزية من المشروع هي أكبر من مكاسبها الحالية وأكثر أمنا وأنه الوسيلة الوحيدة الامنه لاستثمار أموالها المهربة للخارج دون أن تتعرض للمصادرة اذا ماغيرت الرياح توجهاتها. وأنه سواء ظلت ممسكة بزمام الحكم أم أفلت منها فلاخوف عليها أو علي مااكتنزت من أموال بحق أو بدون حق.

إن عدد سكان هذه المجموعة من الدول الأفريقية يزيد عن المائة مليون نسمة ورغم أن الغالبية تعيش تحت مستوى خط الفقر الي أن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي لهم في شبكات للتنمية ترافق تنفيذ مشروع التنمية الأفريقية المشتركة ستمكنهم من المساهمة في تمويل المشروع بمايعادل ستة ملايير دولار أمريكي سنويا مع توجيه مبلغ مماثل الي مشروعات التنمية المحلية في مناطق إقامتهم . إن المشروع المقترح سيحقق نوعا من التكافل الاقتصادي والاجتماعي ليس بين الدول وانما بين شعوب هذه الدول التي ستتساوى في الحصول علي عائد التنمية المشتركة الجماعية.

يمكن أن أدع خيالي يجمح بي وأن أتصور أن مشروع القناة البحرية بين تونس والجزائر و الرابطة بين شطي الجريد في تونس وملقير في الجزائر،يتم تطويره بحيث تمتد القناة عبر بحر الرمال في الصحراء الكبري حتي تصب في النهاية عند مصب نهر السنغال قبالة مدينة سانت لويس في السنغال ، بعد تذليل الصعوبات التقنية والتي منها: أن مستوي سطح الارض في الصحراء حنوب جبال الأطلس الصحراوي الجزائرية يزيد عن مائتي متر فوق سطح البحر. وهو مايجعل مثل هذا الحلم مستحيل التحقق فضلا عن انهيار جدران الحفر وطمر القناة بالعواصف الرملية والكثبان المتحركة . فضلا عن التكلفة المالية التي لاقبل لدولة مثل الجزائر ولالعدة دول بها. وأنه أيضا لاأمل في أن تأتي عوائد المشروع بمايعوض ماأنفق عليه ولو بعد نصف قرن. أذكر هذه الصعوبات قبل أن يذكرني بها أحد ، ولكنني أقول أنه رغم كل ذلك قد يكون هذا المشروع ممكنا تقنيا وماليا بعد اجراء أبحاث وتجارب معينة ولوأن هذا يظل موضوعا آخر يمكن تأجيل النظر فيه حاليا.


فوزي منصور
كاتب وصحافي مصري مقيم في المغرب
Fawzy_mansour@hotmail.com

هل صلة الرحم هي الصلاة الوسطى؟


الأسرة والحياة الزوجية :


هل صلة الرحم هي الصلاة الوسطى ؟

الحياة الزوجية وما ينشأ عنها من نسل هي المنشئة للعلاقات الاجتماعية المعروفة في ديننا الاسلامي بصلة الرحم أو وصل ذوي الرحم . ومن هنا تظهر العلاقة الوثيقة بين الزواج وصلة الرحم . ويمكن القول بأن صلة أو صلاة الرحم هي صلاة دماء متحولة متعددة الصور في تحولها تجري في عروق أجسام بشرية عديدة . فالنطفة التي يلقي بها الزوج في رحم زوجته ويتكون منها بقدرة الله تعالي جنينا حيا ، هي دماء متحولة إلي مني. والمني سواء أتم عملية التخصيب أم لم يتمها تمتصه جدران رحم الزوجة ويسرى في دمها حتى أن الزوج بإمكانه أن يشم رائحة المني في فم زوجته قبل مرور ساعة على انتهاء الجماع والقذف. والجنين الذي تلده الأم يتغذي من دمها وعندما تلده وترضعه من لبانها فإن اللبن هو دم متحول . وقد تكون الإفرازات التي تبلل المهبل لإعداده للجماع أو لتيسير انزلاق عضو التناسل الذكري بداخله وتبلل ذلك العضو خلال الجماع – وهي أيضا دماء متحولة – تتشربها أيضا بشرة عضو الرجل وتنساب الى دمه ولو أن ذلك لا يوجد دليل عليه يؤكده حتى الآن. هذه الدماء المتحولة بالإضافة الي الرحم ذاته ، ودور الرحم في استمرارية الجنس البشرى ، كلها تعد من آيات الله سبحانه وتعالي المرتبطة بالرحم . ويعد النظر الى الأرحام بالتقدير والاحترام الي حد يقترب من الدعوة الي تقديسها في كتاب الله كما سنرى هو تقدير واحترام وتقديس لآية عظمي من آيات الله . ولذا اعتبر حفظ وصيانة صلة الرحم وكل ما يعبر عن التقدير والاحترام له والاهتمام من قبيل التعبد لله سبحانه وتعالي ودليل على التقوي والصلاح. وكل مافيه أساءة للرحم أو تدنيس له مثل حالة الزنا يعد من كبائر الذنوب والمعاصي.

صلة الرحم في الكتاب والسنة:
قال الله تعالي".يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً."(النساء 1) . وقال سبحانه في التقوى::" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"وقال أيضا:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً". وقال سبحانه وتعالى أيضا: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"( التوبة 119).وقال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً"

قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله، ثم صلة الرحم".
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم."
وقال عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل : أنا الرحمن خَلَقْتُ الرَّحم ، وشققت لها من اسمي اسماً ؛ فمن وَصَلَهَا وصَلْتُه ، ومن قَطَعها بَـتَـتُّـه .".وقال صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم ... قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : ألا ترضين أن أصِل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب . قال : فذاك . قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) .
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يُعَجِّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدَّخَر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه .
وقال صلى الله عليه وسلم : "من أحب أن يبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه". (البخاري).
ونقلت كتب الأحاديث عن رجل من خثعم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نَفَرٍ من أصحابه ، فقلت : أنت الذي تزعم أنك رسول الله ؟ قال : نعم . قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : الإيمان بالله . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم صلة الرحم . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أبغض إلى الله ؟ قال : الإشراك بالله . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم قطيعة الرحم قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف . رواه أبو يعلى . وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح غير نافع بن خالد الطاحي وهو ثقة . و جاء في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعقبة بن عامر : يا عقبة بن عامر صِلْ من قَطَعَك ، وأعْطِ مَن حَرَمَك ، واعْفُ عَمَّن ظلمك .وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَن سَرّه أن يُبسط له في رزقه ، وأن يُنسأ له في أثره ؛ فَلْيَصِل رَحِمَه .وفي رواية : من أحب أن يُبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ؛ فَلْيَصِل رَحِمَـه
قال صلى الله عليه وسلم : صِلة الرحم ، وحُسن الْخُلُق ، وحُسن الجوار ؛ يُعَمِّرْنَ الدِّيار ، ويَزِدْنَ في الأعمار . رواه الإمام أحمد وغيره

وروي أن عمر بن الخطاب قال : ليس الوَصْل (للرحم)أن تَصِل من وَصَلَك ، ذلك القصاص ، ولكن الوَصْل أن تَصِل من قَطَعَك..

وقال بن جرير الطبري في تأويل قوله تعالى : (وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) الذيرَغَّب الله في وَصْلِه ، وَذَمّ على قطعه في هذه الآية : الرَّحم . وقد بَيَّن ذلك في كتابه فقال تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) ، وإنما عَنَى بالرَّحم أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رَحِم والدةٍ واحدة ، وقَطْعُ ذلك : ُلْمه في ترك أداء ما ألْزَم الله من حقوقها ، وأوجب من بِرِّها ، وَوَصْلُها أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطّف عليها بما يَحِقّ التعطف به عليها .
قال القرطبي: الرحم على وجهين: عامة، وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم، والنّصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب.
وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارًا أو فجارًا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى.
قال البيهقي : قال الله تعالى : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) فَجَعَلَ قَطْعَ الأرحام من الإفساد في الأرض ، ثم أتبع ذلك الإخبار بأن ذلك مِنْ فِعْل مَن حَقَّتْ عليه لعنته ، فَسَلَبَه الانتفاع بسمعه وبصره ، فهو يَسمع دعوة الله ، ويُبصر آياته وبَيّـنَاته ، فلا يُجيب الدعوة ، ولا ينقاد للحق ، كأنه لم يسمع النداء ، ولم يقع له من الله البيان ، وَجَعَلَه كالبهيمة أو أسوء حالا منها ، فقال : (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ. ، وقال في الواصل والقاطع : (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ.وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) فَقَرَنَ وَصْلَ الرَّحم وهو الذي أمر الله به أن يُوصَل بخشيته ، والخوف من حسابه ، والصبر عن محارمه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة لوجهه ، وَجَعَلَ ذلك كله من فعل أولي الألباب ، ثم وَعَدَ به الجنة ، وزيارة الملائكة إياهم فيها ، وتسليمهم عليه ، ومدحهم له ، وَقَرَنَ قطيعة الرحم بِنَقْضِ عهد الله ، والإفساد في الأرض ، ثم أخبر أن لهم عند الله اللعنة ، وسوء المنقلب ، فَثَبَتَ بالآيتين ما في صلة الرحم من الفضل ، وفي قطعها من الوزر والإثم .
كثير ممن كتبوا عن صلة الرحم لم يفتهم الاستشهاد بقوله تعالي:" وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ " منزوعة من سياقها، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم الوقوف عندها ، وتأملها ، وكيف أن الإنسان المسلم يسأل عن تقوى الله وعن اتقاء قطع الصلة بالأرحام معا . فالواو هنا واو عطف وقد تعني واو العطف المعية وتعني الترتيب بمعني ثم ، والتخصيص بمعني لاسيما ، وقد تستخدم لغير العطف في حالات مثل القسم و التنبيه ولها في اللغة وفي القرآن خاصة استعمالات شتي. وفد قرئت الأرحام في الأية منصوبة على أساس أنها مفعول به لفعل الأمر إتقوا وقرئت مجرورة علي أساس أن الأرحام مجرورة بحرف جرّ تقديره الباء--أي يصير تقدير الجملة " إتّقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام . عطفـاً بـالأرحام علـى الهاء التـي فـي قوله «به»وقد قيل في الاعتراض على ذلك أنه غير فصيح من الكلام عند العرب لأنها لا تنسق بظاهر علـى مكنـي فـي الـخفض إلا فـي ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر؛ وأما الكلام فلا شيء يضطرّ الـمتكلـم إلـى اختـيار الـمكروه من الـمنطق والرديء فـي الإعراب منه.وبالتالي ينزه كلام الله سبحانه وتعالي عن ذلك. ودفعت هذه القراءة الأخيرة والمشكوك في صحتها الي تأويل لفظ :" تساءلون به" ففهموه بمعني الاستحلاف أو الاستعطاف به عند مخاطبة الناس بعضهم بعضا كقولهم : بالله عليك أن تفعل كذا أو تعطيني كذا. ولم يفهموه بمعني المساءلة والمحاسبة .
والقراءة الأولي هي التي تتفق مع التوجه القرآني في وصل الرحم . و قرأها كذلك ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة، والنخعي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وأبو رزين، وحمزة. قرن الله عز وجل صلة الرحم باسمه الجليل دلالة على خطورة وأهمية صلة الرحم، كما في قوله تعالى:" لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" [البقرة:83]؛ لأن الوالدين أقرب الرحم، وقال تعالى:" وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ" [النساء:36]، وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني، قطعه الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع -يعني: قاطع رحم-). وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها وقد سقت أحاديثا كثيرة في الترغيب بصلة الرحم، والترهيب من قطيعتها. وهنا إما أن واو العطف قد استعملت للدلالة علي أن اتقاء قطع الرحم في منزلة تقوي الله أم جاءت للترتيب بمعني " ثم " بحيث تأتي في التقوي بعد تقوى الله سبحانه وتعالي أو بمعني"لاسيما" للتخصيص ،أي ذكر الخاص بعد العام . بحيث تكون من تقوي الله.ومن ذلك قوله تعالي : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي".
أما عن السياق فالآية جاءت في بداية سورة للنساء لما اختصتهم بالكثير من الأيات والاحكام المتعلقة بهن. وفي سياق يختص بالرحم : " اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء"أي بث من رحم زوجها رجالا كثيرا ونساء وتكون الرحم آية كبري من أيات الله التي تستوجب تقوي الله فيها مثل تقواه في كل شيء أو في مقدمة تقواه في كل شيء.مثلما سبق ايضاحه. وهناك ملآحظة أخري ربما لم يتنبه أو يتفكر فيها أحــــد من قبل وهي أن لفظ " الأرحام "في الآية لم يسبقه لفظ"صلة" ولذا فلا يمكن تأويلها بأن المقصود هو صلة الأرحام فقط . وإنما يكون المقصود هو الأرحام بالمطلق وكل ما يتعلق بها. وتكون أيضا بمثابة اتقوا الله في النساء وفيما أنتجته أرحامهن وكل ما نتج عن علاقتكم بها من صلات .
الصلاة الوسطي
قال الله سبحانه وتعالي في سورة البقرة :" حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي وقوموا لله قانتين" (الآية238) بمعني حافظوا علي الصلوات وخاصة الصلاة الوسطي . وقد اختلف المفسرون في تحديد هذه الصلاة الوسطي التي خصها الله تعالي بالفضل في هذه الآية فمنهم من قال هي صلاة الفجر ومنهم من قال إنها صلاة العصر . واختلاف المفسرين يعني أن تحديدهم لها غلب عليه الظن ولايستند الي الكتاب أو السنة والا مااختلفوا في أمرها. واختلافهم أيضا يعني أن واحدا منهم قد أصاب فيما ظنه والباقي أخطأ وإما أن كلهم قد أخطأ فيما ذهب اليهم ظنه. الاحتمال الأخير بأنهم جميعا قد أخطأوا يأتي في حالة ماإذا كانت الصلوات المذكورة وبالتالي الصلاة الوسطي منها ليست من جنس الصلوات الخمس المفروضة والتي انصرف اليها ذهنهم. فهل توجد صلوات أخري غير تلك المفروضة؟ وبمعني آخر: هل يحتمل لفظ : " الصلاة" في اللغة والدين معاني أخري غير معنى الصلاة المفروضة؟.

في اللغة سنجد أن الصلة والصلاة والوصل والاتصال والتواصل جميعها ألفاظ تنتمي الى جذر لغوي واحد ولها معاني متشابهة تكاد أن تكون واحدة حيث يمكن اعتبار فعل واحد يتضمن كل هذه المعاني حتي لو تم وصفه بلفظ واحد منها . والصلاة من بينها هي الصلة الأوثق والأشد والجامعة والتي ترفع الصلة الي مستوى العبادة أو تجعلها في عداد العبادة خاصة وهي اسم للصلاة المفروضة. والصلاة لغة تأخذ معاني الدعاء والتوسل والرجاء والصلاة المفروضة التي يقاس عليها فيها دعاء لله وتقرب اليه زلفي ورجاء فيه وفي رحمته وهداه وذكر أيضا لله بما يتلي فيها من آيات الذكر الحكيم وتسبيح بحمده .
والعبادات كلها ذات طبيعة روحية وتصل العبد بربه ومعبوده وهي بمثابة صلاة تطهر نفس العابد وتزكيها وتنهيها عن الفحشاء والمنكر . واذا لم تكن العبادة خالصة لوجه الله فقدت روحانيتها وفاعليتها فلا تتزكى بها النفس وتأتي الفحشاء والمنكر سرا أوجهارا لايردعها رادع أو يمنعها حياء من الله أو الناس. وقد سميت الصدقات المفروضة زكاة لأنها تزكي المال والنفس معا واذ تدفع للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وفي سبيل الله في تصل كل المنتفعين بها ومع صفتها التعبدية أيضا تكون بمثابة صلاة مكملة للصلاة المفروضة أو في حكمها . وفي اللعة أيضا يعبر عن العطاء بلفظ :" الصلة " فيقال أرسل اليه صلة أووصله بقدر كذا من المال.
أما في الدين فأول مايلفت النظر هو قوله تعالي : " إن الله وملائكته يصلون علي النبي ، ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" فالصلاة علي النبي من قبل الله وملائكته والذي بأمر بها الله سبحانه الذين آمنوا ليست من جنس الصلاة المفروضة وليس فيها ركوع وسجود وهذا أكبر دليل علي أن لفظ الصلاة له دلالات متعددة ولاينحصر في الصلاة المفروضة وحدها.
نجد أيضا في القرآن الكريم ورود لفظ الصلاة بغير معني الصلوات الخمس في الآية99 من سورة التوبة حيث يقول المولي عزوجل فيها :" ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ماينفق قربات عند الله ، وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم". فصلوات الرسول هنا لايمكن أن تكون صلوات الرسول المفروضة أو التي يتنفل بها من جنسها ، بل إن المقصود هنا هي صلواتهم للرسول التي هي قربة لله منهم والتي تعني مايقدمونه له حبا في الله وفي رسوله من صدقات تصلهم به روحيا وتم التعبير عنها هنا بالصلوات.

مماسبق يتطلب الآمر للتعرف علي الصلوات المقصودة في الآية238 من سورة البقرة ومعرفة بالتالي ماهي الصلاة الوسطي فيها أن نستجمع في أذهاننا جميع معاني الصلاة في اللغة وفي الدين وفي استعمال القرآن الكريم لها علي وجه الخصوص. وأكثر مايرشدنا الي المعني المقصود في الآية سالفة الذكر هو السياق الذي جاءت فيه فإن كان سياق لاعلاقة له بالصلوات الخمس وانما بأمور أخرى وجب اعتبار أن الصلوات المذكورة تنتمي الي نفس الحقل التداولي للسياق.

إذا رجعنا الي السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة سنجده منبت الصلة بالصلوات الخمس المفروضة ولاتعد الآية متوافقة مع سياقها إذا تم تفسيرها علي نحو مادرج عليه المفسرونوبالتالي فا الصلاة الوسطى المفصودة لايمكن أن تكون صلاة الفجر أو العصر أوأي صلاة من الصلوات الخمس وانما هي شيئ آخر له علاقة بالسياق الذي وردت فيه. ويمكن أن يدلنا أيضا فهمنا للوحدة البنائية لسورة البقرة علي ذلك من قبيل الاطمئنان الي صحة ما قد نتوصل اليه.

لقد جاءت الآية الكريمة في سياق ضبط العلاقات الانسانية وخاصة الزواج والطلاق وأحكامهما والزواج ينشئ العلاقات العائلية ويوثقها والطلاق قد يؤثر عليها سلبا وهذا التأثير السلبي له يجب أن يكون له حد لايتعداه ، ففي الطلاق ينفصل الرجل عن زوجته عندما تستحيل العشرة بينهما ولكن إذا كان لهما أولاد فسيظل هؤلاء الاولاد مرتبطون بصلة الدم والرحم والقرابة بعائلتي الأب والأم حيث لهم فيهما أخوال وخالات وأعمام وعمات وأبناء وبنات ؛خوال وأعمام وجميعها صلة رحم ومرتبطة برحم الآم الذي يعتبر الحلقة الوسيطة فيها
وقد تكون الزوجة المطلقة ابنة عم أو ابنة خال الزوج ومعني أن ينسحب طلاقه لها علي علاقته بأهلها سلبا وهي علاقة سابقة علي زةاجه بها لايعني سوي قطع ما أمر به الله أن يوصل. لذا وجب المحافظة في حالات الطلاق علي العلاقات العائلية السابقة عليه أو الناشئة عن الزواج والتي لاتزول بانقطاع حبله وأهم هذه العلاقات مايتصل بالارحام ومااصطلح عليه بصلة الرحم واذا كانت صلة الرحم تبعا لذلك هي المقصودة بالصلاة الوسطي فإنه يجوز تبعا لذلك أن نطلق عليها اسم الصلاة الوسطى أيضا.

اذا استعرضنا السياق الذي جاءت فيه آية المحافظة علي الصلوات سنجده في الواقع يبدأ من الآية 213 التي يقول فيها الله سبحانه وتعالي: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..." أي بوحدة الانسانية والوحدة البنائية لسورة البقرة وهي أكبر سورة في القرآن تدور حول هذا المعني وحول العلاقات الانسانية كما يجب أن تكون وماقد بصيبها من خلل وفساد يجب تجنبه. وإن ضربنا صفحا عن هذا الاطار العام للسورة وركزنا علي العالاقات العائلية المترتبة على الزواج والمتأثرةبه وبكل مايمكن أن يطرأ عليه من خلل كما في حالة انفصام عراه بالطلاق ، يمكن القول بأن ذلك السياق المتصل يبدأ من قوله تعالي في الآية 221من سورة البقرة :" ولاتنكحوا المشركات حتي يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولوأعجبتكم ولاتنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولوأعجبكم ، أولئك يدعون الي النار والله يدعو الي الجنة والمغفرة باذنه..." وتأتي الاية التالية:" ويسألونك عن المحيض..." وتليها الآية الكريمة :" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنا شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين" وتتوالي الايات واحدة تلو الأخري لاتخرج عن سياق العلاقات الزوجية ويبدأ الحديث عن الطلاق وأحكامه ومايترتب عليه ابتداء من الآية 226 التي يقول فيها المولي :" للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوافإن الله غفور رحيم " تتبعها الاية227 : " وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم" وتتوالي بعدها الآيات مبينة أحكامه حتي الآية 237 التي يقول فيها الله سبحانه وتعالي :" وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف مافرضتم إلا أن يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وإن تعفوا أقرب للتقوي ولاتنسوا الفضل بينكم ، إن الله بما تعملون بصير." وعلى إثر هذه الاية مباشرة تأتي آية المحافظة علي الصلوات والصلاة الوسطي رقم 238 بما يعني المحافظة علي الصلوات أو الصلات التي قد يضر بها وقوع الطلاق. بعد أن أمرنا في الاية السابقة عليها بألا ننس الفضل بيننابسبب ماقد ينشأ عن الطلاق من خلافات وغضب وألم وتغير في النفوس وانزعاجها ، وهو مايتطلب من االمؤمنين التغلب علي هذه المشاعر النفسية الطارئة والعارضة لدي عائلتي المطلقين وحيث تعتبر كل عائلة أن ابنها أوبنتها قد ظلمه وأضر به زوجه وتنحاز كل أسرة لمن ينتمي اليها ، لذا تأتي الآية 238 لتعالج الأمر ونطالب الطرفين بألا يسمحوا لهذه المشاعر النفسية بأن تقطع مابينهما من صلاة وخاصة صلة الرحم و بما يجعل المعني متصلا وغير منفطع مع ماجاء في الآية السابقة عليها.

وبعد الآية 238 نجد أن السياق الذي جاءت ضمنه مازال متصلا حتى الآيتين 241و242 والتي يقول فيهما الله سبحانه وتعالي : " وللمطلقات متاع بالمعروف ، حقا علي المتقين ، وكذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون" أن نحكم عقولنا التي تقودنا الي العدل والاعدال والاحسان واطاعة الله فيما بينته لنا آياته من أحكام منظمة للعلاقات في مختلف أحوالها وألا نتبع هوي النفس ومايغري به من مظالم بدافع من الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام ولكأن الزواج الذي انفصمت عراه كان معركة ولم يكن اطارا للمودة والرحمة فلما غابت كل منهما عنه تحتم فك الارتباط بالمعروف ودون نسيان الفضل ففي جميع الأحوال كان لعائلة العروس التي جهزتها فضل وكان للزوجة وهي تقوم بواجباتها الزوجية فضل وكان للزوج المطلق أيضا فضل وتذكر هذه الأفضال وعدم التنكر لها مثلما طلبت منا الآية 237 هو الذي يجعل بمقدورنا المحافظة علي الصلوات والصلاة الوسطي التي هي صلاة الرحم كما أمرنا بذلك في الآية238 . ثم تنتقل بعد ذلك آيات السورة الي سياق آخر مختلف وان ظل ضمن مايمكن تسميته بالوحدة البنائية لسورة البقرة.

إن الاحتجاج بأن السلف لم يقولوا بمثل ذلك علي مدى أربعة عشر قرنا هو احتجاج أقل مايوصف به بأنه سخيف. فالله سبحانه وتعالي لم يطلب منا أن نأخذ ديننا من السلف وهم بشر مثلنا، مهما بلغت شهرتهم في زمانهم أو شهد لهم بسعة العلم ممن اتبعهم أو أخذ عنهم علمه، وانما طالبنا باتباع الله ورسوله وحدهما ، وأن نتأمل ونتفكر في آياته ونهتدي بهديها وأن نأخذ ماآتانا به الرسول وفيه حياة لنا. بل لعل هذا يقدم الدليل علي أن من يوصفون بالسلف الصالح لايصلحون لآن يكونوا، مهما علا كعبهم المصدر الوحيد للمعرفة الدينية ، حتي يقبل ماقالوا به، دون تمحيص له، وينبذ مالم يقولوا به وأن قويت حجته ولم يتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله ولامعالعقل والمنطق أو المتفق عليه من مقاصد الشريعة أو حتي مااقترح اضافته اليها من مقاصد هي: المحافظة علي الأمانة و العدل والاحسان والتراحم والكرامة الانسانية ووحدة الآمة والامامة. حيث ربها واحد وإمامها النبي صلى الله عليه وسلبم ولاإمام لها سواه.

أما تفسير الآية حسب السياق الواردة فيه فهو أمر متفق عليه من أكبر علماء الدين وليس بدعة مستحدثة. وهل يقبل مثلا من كاتب أوباحث يكتب في موضوع معين أن يقحم علي كتابته جملة أو عبارة لاعلاقة لما كتبه قبلها وبعدها بها؟ ..وألا يعد ذلك خطأ فادحا وعيبا في كتابته إن حدث؟ ..فكيف نتوقع من كتاب أحكمت أياته ومنزل من لدن عليم خبير ومعجزة في بيانه أن يكون فيه مانعتبره خطأ . تعالي الله عما يصفون. لايوجد أي قطع في السياق الذي وردت فيه الاية الكريمة وانما هي منسجمة تماما معه ووردت في موقعها تماما ضمنه.

ولعل ماجعل الآمر يلتبس علي المفسرين القدامي ومن تبعهم حتي اليوم هوسوء فهمهم للآية 239 من نفس السورة والتالية مباشرة لآية المحافظة علي الصلوات والتي يقول فيها الله تعالي: " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ، فاذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم مالم تكونوا تعلمون"
وهي في حقيقة أمرها تؤكد ماسبقها ولكنها تعالج حالة أن يمنع الخوف لأي سبب من المحافظة علي علاقات القربي وصلة الرحم . وهو هنا لايجعل التعلل بالخوف لقطع العلاقات وصلة الرحم عذرا مقبولا وانما يمكن للرجل أو المرأة أن يصلا أرحامهما ولو بالمرور عليهما راجلين أو ممتطين ظهور دوابهم دون النزول من عليها . هذا في حالة الخوف علي النفس من أي سبب فاذا انتهي الخوف وجب أن يتم الوصل أو صلاة الرحم في غير عجالة لكي تحقق الغرض منها في نشر المحبة وتمتين الروابط العائلية علي الوجه الأكمل. لاعلاقة للآية اذن بأداء الصلوات المفروضة أثناء المعارك أو في اتتظارها وخوفا من أن ينتهز العدو انشغال المسلمين بها فيهاجمهم وهم ركع أوسجود . اذ أن هذه الحالة قد تناولتها وعالجتها آيات أخر ي في كتاب الله ولاحاجة هنا لتكرارها.

ولايعني تفسير الصلاة الوسطي بصلة أو صلاة الرحم أي اخلال بضرورة المحافظة علي أداء الصلوات الخمس المفروضه في مواقيتها ففي القرآن الكريم آيات تحث علي ذلك وفي أحاديث الرسول كذلك . أي أن هذا الآمر تمت تغطيته بمايكفي.

كما أن الصلوات المذكورة تشمل نطاقا واسعا من العلاقات الانسانية ، فهي تتضمن صلات القربي وصلات مترتبة على وحدةالدين حيث المسلم أخ المسلم لايظلمه ولايسلمه ولايستحل ماله أو عرضه .وهناك صلات مترتبة علي الجيرة، والتي يمكن التعبير عنها بالمواطنه وفق لغة العصر، وهذه لاتتأثر باختلاف الدين أو العرق أو اللون أو بوجود قرابة أوانعدامها وانما يكفي فيها تحقق الجيرة وسواء كانت قريبة أو بعيدة وقد قال صلي الله عليه وسلم : مازال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه".
ثم الصلاة العظمي وهي صلاة الرحم التي تتوسط علاقات القربي والمصاهرة حيث تتقاطع كل هذه العلاقات مع رحم الأم. وهذا مايجعل للمرأة فى الاسلام عامة ، والأم خاصة ، مكانة سامية. ونجد في كتاب الله وسنة رسوله وصايا بهن ، وحفظا لحقوقهن ، وإعلاء لشأنهن ومكانتهن.

فوزي منصور
Fawzy_mansour@hotmail.com
mailto:Nawaris44@yahoo.fr