Friday, December 19, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى _ الجزء العاشر - الإحســـــــان (استكمال موضوع الأسرة)

الإحســـــــان
(استكمال موضوع الأسرة)
اآداب الحياة الآسرية في الإسلام:
“إن تكوين الأسرة في الاسلام ضرورة فطرية حيوية تعبدية وضرورة اجتماعية اقتصادية وضرورة ثقافية أخلاقية، ذلك أن الفطرة السليمة تقتضي الإنسان أن يعيش حياته الإجتماعية في أسرة متعاونة متقاربة في المشاعر والتجارب والأهداف، وهي النواة الصغيرة للمجتمع، فيها ينشأ الأطفال، رجال الغد، وبسببها يستمر النوع البشري على الأرض. ولقد اعتنى الاسلام بها ووضع لها نظاما يكفل تماسكها ويعينها على أداء رسالتها لتنطبع نفوس الاطفال على ما ينفع الأمة ويعز شأنها، ولذلك جاء القرآن الكريم والسنة المطهرة بتفصيل دقيق وشامل وكامل للأسرة حيث فصل كل جزئيات نظام الأسرة في الزواج والخطبة والحقوق الزوجية والميراث والمهر والطلاق والعدة الزوجية وأحكام الرضاع والحضانة، فقال تعالى:”ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” سورة الروم آية (21)..
وقد كان تشريع الاسلام للزواج نقطة البدء في تكوين الأسرة وأدائها لرسالتها وفق قواعد وأحكام وتعاليم وآداب بلغت منزلة عالية من الرقي والسمو لا تدانيها منزلة في الشرائع السماوية السابقة وقد حث الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه على اقامة هذه الرابطة فقال: “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة” أخرجه ابن حبان وصححه ورواه أحمد والطبراني واسناده حسن.
نعم إن الحياة الزوجية من وجهة النظر الإسلامية هي في الحقيقة حياة منضبطة، تقوم على قواعد اخلاقية، وتحكمها آداب وتوجيهات ربانية، وتحدد علاقاتها أحكام وتعاليم شرعية، وبهذا فهي ليست حياة لا مسؤولة يتصرف فيها أفراد الأسرة بما يحلو لهم من تصرفات دون شعور بمسؤولية وبلا وازع من دين، أو رادع من إيمان.
ومن يتتبع احكام الاسلام في الزواج وفي تنظيمه لحياة الاسرة، يجد أن الاسلام قد حرص على سلامة الاسرة ووقايتها من اسباب الانحراف والفساد ويجد أن الاسلام قد حرم الزنى على الرجال والنساء تحريما قاطعا، وحرم كل ما يؤدي اليه، فحرم الاختلاط الماجن بين الذكور والاناث، وضبط العلاقة بين الرجال والنساء على أسس سليمة، فحرم الخلوة بين الرجل والمرأة الاجنبية، وحرم دخول الرجل غير المحرم على المرأة عندما يكون محرمها أو زوجها غائبا عن البيت، وحرم على المرأة التبرج واظهار زينتها لغير زوجها ومحارمها، وحرم على الرجال اغراء الزوجات للخلاص من ازواجهن، كما حرم على النساء اغراء الازواج للخلاص من زوجاتهم.
وحث على ستر العورات وحرم كشفها وكل ما من شأنه أن يؤدي الى الزنى، وعد ذلك من أبواب الفاحشة وارتكاب المعصية، قال تعالى: "ولا تقربوا الزنى، انه كان فاحشة وساء سبيلا" ( الإسراء 32).. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" رواه الترمذي واسناده صحيح.
وقال صلى الله عليه وسلم : "إياكم والدخول على النساء، فقال رجل: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت" رواه البخاري في كتاب النكاح، ويعني أن الفتنة منه تكون أكثر من غيره لتساهل الناس في دخوله عليهم، والمراد هنا اخوة الزوج وأقرباؤه الأدنون. ولصيانة الأسرة وسلامة العيش فيها، ولتحقيق رسالتها الخيرة في المجتمع الاسلامي، حرم الاسلام الخمر على أي فرد من أفرادها كما حرم القمار.قال تعالى:”يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم منتهون” سورة المائدة الآيات (90-91)، ذلك أن الخمر والميسر يهدمان الأسرة بعد أن يهدما العقل، فلتحذر الفتيات وليحذر آباء الفتيات من أن يزوجوا بناتهم ممن يتعاطون شرب الخمر أو يلعبون القمار، فإن فعل ذلك، يكون قد كتب على ابنته أن تعيش حياة تعيسة، سوف يلاحقه إثمها في حياته وبعد مماته، ولهذا حثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على تزويج الرجل الصالح بالمرأة ذات الدين فقال عليه الصلاة والسلام:”تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك” رواه البخاري في كتاب النكاح. وقال عليه الصلاة والسلام:”اذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا ذلك تكن فتنة في الأرض وفساد عريض” رواه الترمذي.
نعم إن الذي يمعن النظر في أحكام الإسلام في تنظيم الأسرة يدرك أن ديننا الحنيف يسعى في أحكامه الى أن يكون كل عضو من أعضاء الأسرة عامل خير وعطاء لنفسه ولأسرته ولمجتمعه، فقد أوجب الإسلام على الزوجين رعاية الأولاد رعاية كاملة تحميهم من التشرد والضياع، وتضمن تربيتهم التربية البناءة للعقل والجسم والروح، قال الله تعالى:”يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا.. » (سورة التحريم الآية (6).)
. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (علموا أولادكم الصلاة اذا بلغوا سبعا، واضربوهم عليها اذا بلغوا عشرا، وفرقوا بينهم في المضاجع) رواه الامام أحمد في مسنده والترمذي والطبراني والحاكم في المستدرك ٫والضرب هنا ضرب التأديب والتعليم، وليس الضرب المؤذي العنيف والعلماء لهذا يحرمون صفع الوجه، كما يوجب الحديث التفريق بين الأبناء في المضاجع بعدم نومهم جميعا تحت غطاء واحد. كما أوجب الأسلام على الزوجين أن تكون حياتهما قائمة على التفاهم والتراحم والمودة، وأن يبتعدا عن الخلافات والمنازعات، وعلى الزوج أن يتحمل ما يجده في زوجته من خلق معوج وأن يحاول تقويمه حسب المستطاع، قال عليه الصلاة والسلام: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" رواه الترمذي، وذلك لما قد يترتب على النزاع بين الأبوين من تعقيد لنفوس الأولاد وتنشئتهم النشأة الفاسدة، التي لا يرضى عنها الله تعالى، الى غير ذلك من واجبات وضحتها الشريعة السمحة على كل عضو من أعضاء الأسرة ليأخذ بيدها الى الخير والسعادة، كما وضحت حقوق كل واحد من أفرادها على الآخرين، فاتقوا الله عباد الله، “اتقوا الله حق تقاته ولاتموتن إلا وانتم مسلمون” ( آل عمران :102)..

الأسرة تحقق مقاصد الشريعة

اتفق الأصوليون منذ العز بن عبد السلام والجويني ثم ألشاطبي علي أن مقاصد الشريعة خمس هي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسـل وإن كنت أقترح أن يزاد عليها حفظ الأمانة والإحسان والعدل والتراحم والكرامة الانسانية ووحدة الأمة والإمامة.. سأبدأ أولا بالمقاصد المتفق عليها ثم أضيف المقاصد التي أقترحها لكي أثبت أن مقاصد الأسرة والمعاشرة الشبقية فيها هي بذاتها مما يدخل ضمن مقاصد الشريعة أو تحققها بكاملها أو يجب أن تكون كذلك . واذا كانت الشريعة والاسرة لهما نفس المقاصد فان هذا يكفي للدلالة على ضرورة دمجهما معا وعدم امكانية الفصل بينهما. واذا ما أخذنا بفلسفة الأسرة في جانبها السياسي واعتبرنا بالتالي أن الدولة أسرة كبيرة، لوجدنا أن حاجة الدولة للشريعة أكبر من حاجة الشريعة للدولة ، بل ربما لاتحتاج الشريعة للدولة كبيرة أو صغيرة. وبإمكانها أن تحيا بدونها ، أما الدولة فلا يستقيم حالها وحال أهلها بدون أن يكون لها شريعة وكذلك الحياة الأسرية والعلاقة الزوجية بين زوجين مؤمنين يتقيان اللـــــه تحتاج بدورها الى شرعة وقد أنزل الله في كتابه ما ينظم هذه العلاقة ويكون بمثابة شرعتها.وكل ما تحتويه حياتهما وما تتضمنه من قيم ومعاملات والتزام بشرعة الله ، هي صورة مصغرة لمجتمع الإيمان والمؤمنين.وبتعدد مثل هذه الأسرة في المجتمع المسلم تتم المحافظة علي الدين ، وبانعدامها يتلاشي الدين . وهي لا تحقق المحافظة علي الدين فقط وإنما تحقق الدين ذاته على أرض الواقع وعلى نحو علني وملموس . وبحيث لا يظل الدين حبيس الكتب ، سواء كانت الكتب هي القرآن الكريم الذي يحفظ كلام الله ورسالة نبيه إلى العالمين أو كانت كتب السنة المشرفة أو ما سطره الفقهاء والمهتمون بأمور دينهم وبالمعرفة الدينية من بحوث. من هنا تبرز أهمية الأسرة المتدينة التقية علي مستوى الاعتقاد وعلي مستوى الاجتماع وعلي مستوى المعرفة الشاملة وعلى مستوى السياســــة وعلى مستوى التقدم الحضاري. وتكون جديرة بالنظر اليها كصورة مصغرة لدولة المسلمين ، وجديرة بأن يتم بناء الدولة على أساسها ، ووفق الفلسفة المستقاة منهـــا .

. الدولة المسلمة الموحدة التي لا تعرف التجزئة والتشرذم والتشتت والفردانية وتختفي فيها نوازع الأثرة والأنانية لصالح الإيثار والإحسان وتندمج فيها الأنا الفردية في الجماعية أو الغيرية .فيكون للجماعة" أنا "جماعية واحدة تحدد هويتها وماهيتها. وتتحدد مهمة الدولة المسلمة تبعا لذلك بتحقيق ما هو ممكن من رخاء وأمن ومتع حلال لكل الأسر المسلمة التي تتكون منها، وتحقيق آمال هذه الأسر المشروعة في مستقبل واضحة صورته لها إلى حد ما .
إن الاستيعاب الكامل والشامل لمفهوم الأسرة والعلاقات الزوجية هو الذي يمكن أن نهتدي به إلى تحديد ما يمكن تسميته بفلسفة الأسرة التي يمكن أن نبني علي أساسها دولة قوية ناجحة سياسيا واقتصاديا. و إذا تبين لنا أن الأسرة تحقق مقاصد الشريعة فإن هذا يعني بأن أي دولة للمسلمين تتخذ من فلسفة الأسرة منطلقا لإعادة البناء والإصلاح السياسي والاقتصادي ستكون الدولة الأكثر قدرة على تحقيق مقاصد الشريعة .
وفي بحث العلاقات الزوجية أعطيت اهتماما كبيرا للعلاقات الخاصة والحميمية المرتبطة بالغريزة الشبقية ، ليس لأنه موضوع يتم التهيب من معالجته بدافع من الحياء ويحتاج إلى من يتناوله بجرأة ، طالما كان ذلك مفيدا ، وإنما لأن مقاصد الشريعة تتحقق في الزواج ضمن هذه العلاقة الغريزية التي مازالت مغلفة بغموض لا يظهر قيمتها.
وهنا تجدر الإشارة بان الإسلام لا يعترف باكتمال الزواج ما لم يتم فيه النكاح ، أي تلك العلاقة الخاصة الحيوية والمعبر عنها أيضا بالجماع. فلا ينتج عقد الزواج كافة آثاره مثل حق الزوجة في كامل المهر أو في النفقة أو في الميراث ما لم يتم النكاح أي دخول الزوج بزوجته. والمرأة المطلقة ثلاثا لا يحل لها الرجوع إلى من طلقها مرة أخرى إلا بعد أن يتزوجها غيره ويدخل بها ويطلقها ، فإن عقد عليها ولم يدخل بها ، لم تحل لزوجها الأول.
وفي جماع الزوجين حفظ لكافة مقاصد الشريعة وتحقيق لتلك المقاصد أيضا رغم تنوعها . فهو يحافظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال والأمانة والإحسان والعدل والتراحم والكرامة
ووحدة الأمة التي الأسرة أصغر مكوناتها ووحدة الإمامة حيث لا تلتزم الأسرة المسلمة بغير كتاب الله وسنة رسوله التي تأسست عليهما..ولكي تكون هذه الفكرة واضحة فإن المرأة العاهرة بالمقابل ، التي تقضي وطرها خارج نطاق الأسرة والزواج ،لا يمكنها أن تحافظ على أي من مقاصد الشريعة سالفة الذكر. بل هي تخسرها جميعها. والجماع وإن كان من ضروريات الحياة الزوجية إلا أن جزء منها ، ولا يعبر الجزء عن الكل ، ولكن إذا كان في الكل جزء يحقق مقاصد الشريعة أمكن اعتبار الكل يحققها.
ولأهمية إدراك ذلك ، أفردت للموضوع هذا البحث المستقل ،آملا من الله تعالي أن يوفقني فيه.

أولا : المقـــــــــــــاصد الخمس المتفق عليها:

١ – المحافظة علي الدين:
طالما أن الزواج هو نصف الدين – كما وصفه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم – فمن البديهي أن تكون المحافظة عليه محافظة على نصف الدين . وإذا كان على الزوجين أن يتقيا الله في النصف الآخر ، يكونان قد حافــظا بذلك علي النصف الآخـــر أيضــا . بينما غير المتزوجين لا يمكنهــما المحافظة علي النصف ولا على الكل، لأن في الزواج إحصـان ، وغير المتزوجين يفتقــرون إلى هذا الإحصان ، وبالتالي أكثر عرضة للزلل.
إذن.. العشرة الزوجية بين زوج مؤمن تقي وزوجة مؤمنة تقية يحققان مقاصد الشريعة فيما يتعلق بالمحافظة على الدين.

٢- المحافظة على النفس :
المحافظة على النفس لها محوران ، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. أولهما: المحافظة على بقاء النفس وحياتها ، وثانيهما : تزكية النفس وبعث خيريتها . لأن النفس التي تفتقر إلى التزكية و الخيرية هي نفس موتها أفضل من حياتها. بل هي وإن كانت حية فسيولوجيا تعد ميتة وجوديا ، ويتضح ذلك من قوله تعالي " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" فبالاستجابة لما دعا إليه الله ورسوله فقط تتحقق الحياة الحقة في الدنيا ، وبغير ذلك ، تكون حياة الخارج عن طاعة الله ورسوله من قبيل العدم. والمسلم وإن بلغ مرتبة الإيمان يظل في حكم الميت ما لم يتجاوزها إلى مرتبة الإحسان. حيث بالإحسان فقط تتحقق حياة المؤمن بمعناها الوجودي أو الأنطولوجي. المؤمن في المجتمع المسلم هو موجود داخل المجتمع ولكنه لم ينوجد فيه بتعبير" هيدجر" ما لم فاعلا فيه ، يتفاعل معه، وينفعل به ، ويؤثر فيه ويتأثر به. أي بالمعني الديني : محسن فيه ويعمل الصالحات.
على مستوى حفظ الحياة : فإن الأسرة منبع تجدد الحياة ، بما ينتج عن العلاقة الشبقية بين الزوجين من نسل حي يضيف إلى الأحياء أحياءا جددا.فهي إذن صانعة للحياة بإذن الله ، أو أداة لصنع الله لها ، وهي حافظة لها بحفظها لبقاء النوع البشري.
والعلاقة الشبقية بين زوجين سليمين من الأمراض الوراثية يحافظان أيضا على لحياة بطرائق شتي . فالأمراض التي لها علاقة بالشبق مثل : الزهري والسيلان وأخيرا السيدا ، والتي تسبب هلاك النفس والنسل، تنتشر خارج نطاق المحصنين الأتقياء الذين حصنوا أنفسهم منها بالزواج والتقوى .
واهتمام المجتمع بتزويج الشباب من الذكور والإناث ونشر القيم الدينية الفاضلة بينهم ، ينهي ظاهرة البغاء والشذوذ ، وما يترتب عليهما من مفاسد ومآس لا حد لها ولا حصر ، لا تقف عند حد انتشار الأمراض القاتلة بينهم فقط.
وتحصين البالغين الشباب بالزواج لا يقتصر على تحصين أجسادهم فقط ، وإنما هو أيضا بداية أو مناخ ضروري لتحصين أنفسهم أيضا ووضعها على أول طريق للتزكية.وإن أهم ما أتغياه من كتابة هذا البحث هو تمكين الشباب من بلوغ هذه التزكية ، وذلك بتقديم معرفة أفضل بالحياة الزوجية والعلاقات الحسني بين الزوجين بما يحقق تزكية نفوسهما وصفائها وتفعيلها وبمعني أخر إحيائها. وما أستعين به من نصوص فيها أحيانا قدرا من الإثارة ، مما قد يحتسب ضمن المجون ، استهدف منه تنبيه النفوس لكي تظل متنبهة يقظة ومستعدة لمتابعة طلب و تحصيل هذه المعرفة والتأمل فيها بعمق واهتمام ، دون كلل أو ملل أو إعياء . وأن تتعامل معها أيضا بعين ناقدة ، فتأخذ منها أحسنها ، مما اقتنعت بجدواه وفائدته ، وتنبذ منها ما ترى أنها ليست في حاجة إليه ، أو سيق على نحو غير مقنع ، أو لا يضيف شيئا إليها ذا قيمة. وفي نهاية الأمر يذهب الزبد جفاء ويبقي الطيب في الأرض ، وقد يقتضي علاج السم بالسم ، فكما يقول أحمد شوقي :
وبعض السم ترياق لبعض وقد يشفي العضال من العضال
خلاصة القول هنا أن العلاقة الزوجية هي مصدر الحياة لدورها في التكاثر الإنساني وفي المحافظة عليها ، و تحمي النفس وتحافظ عليها وتقيها من الشرور أيضا ، وإن لم تكن كافية و حدها لأداء هذا الدور في تزكية النفس ، إلا أنه لاغني عنها فيه.

٣- المحافظة على العقل :
إن الحياة الزوجية الطيبة التي يتغلب فيها الزوجان على ما يصادفهما من مشاكل بدافع من محبة كل منهما للآخر ، وحرصهما على علاقة طيبة بينهما تسودها المودة والرحمة والاحترام والتقدير المتبادل ، يترتب عليها حماية صحتهما النفسية والعقلية. حيث كل من الصحتين النفسية والعقلية يرتبطان معا ،بحيث تتوقف كل منهما على الأخرى. ونتيجة لهذا الارتباط بينهما ، فإن المحافظة على الصحة النفسية هو محافظة على سلامة العقل ،. وإشباع الغريزة الشبقية في إطار الشرع والعرف الذي يتيحه الزواج يدعم أيضا المحافظة على الصحة النفسية والعقلية والبدنية.
وكالما أن المحافظة على العقل من مقاصد الشريعة ، والزواج يحافظ على العقل ، فهو يحقق مقصد الشريعة في هذا الشأن أيضا.
والارتباط القوي بين النفس والعقل ، يجعل تزكية النفس أحد الضمانات الهامة لصيانة العقــــــل.
الا أن المحافظة على العقل من أن تصيبه الآفات النفسية ، وتتسبب في اختلاله ، ليس هو المقصود فقط بالمحافظة عليه. فكما قال الأقدمون هناك العقل المنفعل والعقل الفعال ، والعقل المنفعل استهجنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشهير : ' لا يكن أحدكم إمعة ، إن أحسن الناس أحسن وإن أساءوا أساء ، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تتجنبوا إساءتهم." . أي أن العقل المنفعل هو عقل الإمعة ، العقل التابع لغيرة ، سواء كان هذا الغير من السلف أم من الخلف ممن يعاشره ويأخذ عنه المعرفة . أما العقل الفعال فهو العقل المفكر ، المدبر ، المبدع والمنتج للمعرفة. ولذا قلت بحق الأسرة في التعليم والحصول على المعرفة الصحيحة ، والعملية منها خاصة ، التي تظهر فاعليتها وجدواها في تحسين الحياة العائلية ، وتجمل بذلك في ذاتها ، بمجرد استعمالها، البرهنة على صحتها ومصداقيتها ، وتنقل الأسرة أيضا من العقل المنفعل الي العقل الفعال ، فلا تعد مجرد مستهلكة للمعرفة وإنما منتجة أيضا لها بما اكتسبته من خبرات واختبرت فاعليته.
عندما تتمتع الأسر لدينا بحقها في المغرفة وتجسد معني العقل الفعال وتلعب دورها الحيوي في الإنتاج وبناء الثروة والانخراط بفاعلية في ثورة ثقافية واقتصادية واجتماعية تنقل المجتمع من حال إلى حال وتحرره من ربقة التخلف والمظالم المسلطة عليه ، تكون الأسرة حينها قد نجحت في تحقيق المحافظة على العقل الفعال ويكون ذلك أيضا من مقاصدها المتفقة مع مقاصد الشريعة.

٤- المحافظة على المال :
الأسرة التي تمتلك العقل الفعال هي التي تصنع الثروة المادية وتحافظ عليها وتحسن استعمالها. لأن أيجاد المال وتكاثره سيكون من نتاج كدها وما بذلته من جهودها. ولا يبدد المال ويسيء استعماله ،إلا من حصل عليه دون كد أو تعب أو يجهل كيفية المحافظة عليه واستثماره فيما يعود عليه وعلى أسرته وذوي رحمه خاصة ، والمجتمع كافة بالنفع..وتنمية الثروات بالنسبة للدول التي تعرف حاليا بالغنية ، باستثناء دول البترول التي تحصل على المال كريع لاستخراج النفط من أراضيها، دون أن تنتجه ودون أن تحسن استعماله، تنمية الثروات في الدول الغنية ذات الاقتصاد الإنتاجي وليس ألريعي أو ألخراجي أو الذي يعتمد على النهب ، كان أساسه ومنطلقـــه في بداياته ما تم ويتم جمعه من مدخرات الأسر التي يتم استثمارها في الشركات المساهمة . وكلما زادت مدخرات الأسر الموجهة للاستثمار كلما ارتفعت نسبة النمو الاقتصادي ، وزاد الاقتصاد قوة ومتانة وتعززت ثروة المجتمع ، وأمكن وصف المجتمع بالغني أو دولته الممثلة له بالدولة الغنية.
الرجل الأعزب أو المرأة غير المتزوجة وذات مال أو دخل ، ينفقان مواردهما المالية كلها في الغالب على الاستهلاك الشخصي. ونادرا ما يلجآن إلى الادخار الموجه للاستثمار. والرجل الأعزب الذي كان ينفق موارده المالية على نفسه ولا تكاد تكفيه سنجده بعد الزواج ينفق نفس الموارد على نفسه وزوجه وما يرزقهما الله من أولاد ، دون أن تتأثر بذلك احتياجاته الضرورية بل قد تتحسن تغذيته وبالتالي صحته عن ما كان عليه وهو أعزب. وعندما تتحسن مواردهما ، وكان كل من الزوجين حكيما ومعتدلا، سنجدهما يتجهان الى الادخار والى استثمار ينفع الأسرة في المستقبل. وعندما نجد الزوجة تقتطع جزءا صغير من مصروف البيت ، ولو بدون علم الزوج، وتدخر ما يتحقق من تراكم له للزمن ، فإنها بذلك تحافظ على مال الأسرة من التبديد. في أي من هذه الحالات فإن الأسرة الناتجة عن الزواج هي أفضل إطار اجتماعي للمحافظة على المال . وحفظ المال يدخل ضمن مقاصدها ، وهو أيضا من مقاصد الشريعة ، إذن تحقق الرابطة الزوجية أحد مقاصد الشريعة.
إن إعادة بناء الاقتصاد الوطني المدمر أو المتهالك حاليا ، لا يعد جلب الاستثمارات الأجنبية هو الحل الأمثل لها ، حيث الأجانب يأخذون أكثر مما يعطون، وإنما الأفضل له أن يتم بتجميع المدخرات الوطنية للأسر ضمن نظام اقتصادي يتيح لهذه الأسر المدخرة والمستثمرة لها دور في إدارة استثماراتها وضمان أمنها وجني ثمارها ، وعن طريق شبكات أفقية للتنمية تجمعها معا وتعمل لصالحا ، وفي معزل عن تدخلات أجهزة الدولة وسلطاتها وتسلطاتها.

٥- المحافظة على النسل والعرض :
المحافظة على النسل هو أخر المقاصد الخمس التي أجمع عليها الأصوليون منذ قرون ، ومنذ جمعها ألشاطبي
عمن سبقوه وأوردها في كتابه : " الموافقات " وجاء من بعده من حاول أن يضيف إليها المحافظة على العرض ، بينما اعتبر البعض أن المحافظة على العرض يمكن أن يدخل ضمن المحافظة على النسـل دون أن يعتبر مقصدا مستقلا سادسا. بينما هو في الواقع مستقل عن النسل ويمكن إدراجه ضمن مقصد المحافظة على الكرامة الانسانية والتي منها المحافظة على العرض.
الأسرة هي التي تنتج النسل المقبول اجتماعيا منذ ظهرت الأسرة في التاريخ قبل آلاف السنين ، واللقطاء أو أطفال العلاقات غير الشرعية ، هو استثناء عن القاعدة ، وشذوذ فيها لا يعتد به . وهي الأكثر اهتماما بالمحافظة على النسل . والمحافظة على النسل فيها تحفزها غريزة الأم الفطرية ، واهتمام الأب لأي يكون له ذرية لأسباب شتي ، ثم عنايته بذريته التي تتحول عنده إلى غريزة مكتسبة بمرور الوقت تجعله يرتبط عاطفيا بالطفولة ومن في عمر أولاده من نسل غيره.
والبديل في الواقع عن الأسرة هو العلاقات غير الشرعية ، والتي غالبا ما يتم فيها تفادي الإنجاب وإن حدث ، كانت نتيجته في الغالب أيضا لقطاء يتم التخلي عنهم ، ولا يجدون من يحافظ عليهم محافظة الأسرة على أولادها . هذا إن لم يتعرضوا للموت على إثر ولادتهم بسبب الإهمال أو غيره.
إنتاج النسل إذن والمحافظة عليه من أهداف العلاقات الزوجية الشرعية مثلما هو أيضا من أهداف الشريعة المنظمة لتلك العلاقات . بل يمكن القول بأن تنفيذ هذا المقـصد من مقاصد الشريعة لا يتم إلا عبر العلاقات الزوجية.
نفس الشيء يمكن قوله بالنسبة للمحافظة على العرض . حيث التحصين بالزواج ما هو غير محافظة على العرض في حقيقة أمره ، عرض المرأة وعرض الرجل وعرض أسرتيهما. ولذا يعبر عادة في الأوساط الشعبية عن زواج البنت بأنه ستر لها ، والمقصود بالكلمة هو حفظ عرضها.
المقاصد الشرعية الست التي اقترحت إضافتها:

٦- المحافظة على الأمانة :
في المبحث الذي كتبته عن الأمانة انتهيت فيه إلى أن الأمانة هي ميثاق النبيين الذى ألزموا به من تبعهم ، والأمة الإسلامية تعد الأمة الوارثة لميراث جميع الأنبياء وبالتالي حاملة لأماناتهم. وقلت إن المحافظة على الأمانة هي محافظة على جميع مقاصد الشريعة وهي لذلك تعد أم المقاصد ومجمعها وتستحق أن يكون لها أولوية تبعا لذلك على جميع المقاصد الكلية الخمس التي قال بها الأصوليون .بل يغني مفهومها عن ذكر كل تلك المقاصد . إلا ذكر المقاصد الأخري يظل مطلوبا كتفصيل لمجمل يوضحه ويكشف عنه. أي تفصيل كاشف لما يحتويه مفهوم الأمانة .
وإذ أثبت فيما سبق بأن مقاصد الأسرة هي بذاتها مقاصد الشريعة الخمس التي قال بها الأصوليون ، فإذا كنت قد أثبت أن الأمانة في مبحثها سالف الإشارة اليه بأنها تجمع كل هذه
المقاصد في مقصد واحد ، تكون المحافظة على الأمانة من مقاصد الأسرة والزواج أيضا ، وتستهدف الأسرة تحقيقها في الواقع المعاش ،مثلما هي في نفس الوقت من مقاصد الشريعة
الكلية. وقد اعتبر الكثير من الفقهاء بأن الفرج بالنسبة للرجل والمرأة أمانة تلتزم المحافظة عليها بحيث لاتستخدم في غير ما أحل الله وشرع. والزواج وجده هو الذي يتيح لهما حفظ الفرج أو الأمانة على هذا النحو . وعقد الزواج اعتبره الله ميثاقا غليظا ، وحفظه والالتزام به حفظ للأمانة ، والتفريط فيه تفريط في الأمانة.
والزوجة مؤتمنة على دار ومال وعرض زوجها , وحفظ ذلك كله منها هو حفظ لأمانات . بالطبع ما أعنيه هنا بالزواج الملتزم بشرع الله ، أي بالأساس الذي بني عليه في بدء أمره .

٧- المحافظة على الإحسان:
أدرجت ضمن المقاصد الإضافية التي تستحق أن تضاف إلى المقاصد الخمس التي قال بها الفقهاء ، مقصد المحافظة على الإحسان. ويأتي ذلك من أنه مأمور به مع العدل في قوله تعالي : "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي ...." وإذا كان الإحسان هو العمل الصالح والمتقن ، فمن ما هو مجمع عليه بأن الزواج الملتزم بشرع الله هو عمل صالح ، أما عن توفر الإتقان فيه ، فهو أمر نسبي بتوقف على مدى ما حصله الزوجان من معرفة صحيحة بكل ما يتعلق به . أو بسبب معرفة مشوشة ، فإن استكمال المعرفة أو تخليصها من غيوبها وردها الى أصلها مبرأة من كل عيب ، يحقق الإتقان المطلوب في إطار الإحسان. مع ملاحظة أن لفظ الإحسان كمصطلح في اللغة العربية له مفهوم ديني متشعب الدلالات ، لا يوجد له مرادف في اللغة الانجليزية . وإنما تتم ترجمته في الانجليزية بلفظ يدل فيها على الروحانية أو بلفظ يدل فيها على الصدقة . بينما دلالات اللفظ الدينية تضم أمورا كثيرة جدا يكاد يصعب حصرها ، وكلها تعد من ضروب الإحسان. ويمكن أن تتم هذه الأمور أو التصرفات التي تدخل ضمن الإحسان من خلال الحياة الزوجية الطيبة الملتزمة بشرع الله . وأقرب مثال لذلك صلة الرحم .التي هي من الإحسان بمكانة عظيمة وهي تنشأ بالزواج وتتدعم به أيضا وأحيانا على حسابه . بل إن الأسرة هي المدرسة الأولي التي يتم فيها تعلم الإحسان بكل صوره ومعانيه. وانطلاقا من الإحسان في الأسرة يمكن أن يعم الإحسان المجتمع كله. يقول محمد عابد الجابري : " لابد من تحويل القبيلة إلى تنظيم مدني سياسي واجتماعي ، وتحويل الغنيمة إلي اقتصاد ضريبة ، وتحويل الريع إلى إنتاج .ولابد من تحويل العقيدة إلى مجرد رأي ، أي التحرر من عقل الطائفة وعقل الدوغما دينيا كان أو علمانيا والتعامل بعقد اجتهادي نقدي..." فإذا استبدلنا لفظ " القبيلة" بلفظ "الأسرة" وتركنا النص كما هو ، كان هذا متفق مع ما أقول به هنا. إذ أن القبيلة تفككت منذ زمن طويل ولم يتبق منها بعد رحيل أفرادها إلى المدن سوى هوامش متآكلة في البوادي البعيدة لا يعتد بها. وإذا كانت قد بقيت في بعض الدول الأفريقية فقد اختفت من بلد كمصر منذ قرون وحلت محلها العائلات والأسر . ألأسرة هي ما تبقي حاليا من التنظيمات الاجتماعية القديمة وتعميم تنظيمها وقيمها وفلسفتها على المجتمع كله هو الذي يمكننا من الحصول على دولة الإحسان المفتقدة حاليا ، الإحسان في التكافل والعمل الجماعي ، الإحسان في السياسة ، الإحسان في الاقتصاد ، الإحسان في التعليم وفي الصحة وفي الأمن وفي القضاء والثقافة والفنون....وفي كافة مجالات الحياة. وستتحول عندئذ دولة الإحسان من حلم خياليا أو طوبائيا إلى واقع معاش.
الأسرة الطيبة هي نموذج لمجتمع الإحسان الذي يحل فيه الإيثار محل الأثرة ، ويتم فيه التخلي عن الأنا الفردية لصالح الأنا الجماعية.

٨- المحافظة على العدل :
سؤل الأستاذ أحمد الريسوني ، وهو عالم أصولي مغربي فاضل وجليل، عما إذا كان الإسلام دين الوسطية ، كما هو سائد في خطاب رفاقه في الحركة الدعوية التي يعد فيها من أهم مؤسسيها ، وحتى لا يغضب الرفاق إن خالفهم، ويخون الأمانة العلمية إن وافقهم، أجاب بما يمكن تسميته بإجابة دبلوماسية : " إذا كانت الوسطية هي الاعتدال والعدل ، كان الإسلام بهذا المعني دين الوسطية " وتبعا لهذا المنطق فإنه أذا ما كانت الوسطية لا تعبر عن معاني الاعتدال والعدل ، تكون لا علاقة لها بالإسلام ولا يكون الإسلام دين وسطية.
ليس هنا مجال نقض مقولة الوسطية وإثبات أنها مقولة خاطئة إن وصف الإسلام بها ، وبيان أن الإسلام يبدأ من الوسطية ولا ينتهي إليها وهو بهذا دين ما بعد الوسطية ، وهذا من علو شأنه وعظمته . ولكننا سنقف عند القول بأن الإسلام دين الاعتدال والعدل ، كما وصفه الأستاذ أحمد الريسوني ، ويتفق معه في هذا الوصف كل الأصوليين. والاعتدال هنا مقترن بالعدل ولا يمكن فصله عنه . بل يمكن القول أيضا أن العدل هو اعتدال في الحكم وأن الاعتدال هو موقف عادل.وعدالة الاعتدال تقتضي تجاوز الوسطية في أغلب الأحوال. ويمكن القول أيضا بأن العدل وإن كان يتضمن الاعتدال فإن دلالة الاعتدال وحده لا تحيل إلى العدل ، أذا يمكن القول بأن الإسلام دين العدل . وطالما الإسلام بهذه الصفة المتفق عليه بإجماع المسلمين ، يكون العدل من مقاصده. ويكون الاعتدال ثاويا فيه. لأن النفس لا تبلغ العدل إلا بعد أن تكون معتدلة لا يجرفها الهوى ولا تنحاز إلى جانب دون أخر حتى يتبين لها وجه الحق ، وعندما تنحاز إلى الحق أو تستقر عليه ، هنا يمكن وصفها بأنها عادلة . بمعنى أن الاعتدال هو السبيل إلى العدل والعدل هو بلوغ الحق والتزامه.
ولكن أليس في حفظ الدين حفظ للعدل أيضا ، وحفظ الدين من مقاصد الشريعة وبالتالي يغني ذلك عن القول بأن العدل من مقاصد الشريعة ؟ .. نعم حفظ الدين يقتضي حفظ العدل ولكن لم يعد بالإمكان القول بأنه يغني عن أن العدل أيضا من مقاصد الشريعة الكلية. وقد سبق لي أن بينت بأن الأمانة هي أم المقاصد ، وأن باقي المقاصد تتفرغ منها.
لماذا لم يعد ذلك بالإمكان القول به ، أو أن القول به أرجح وأكثر تبيينا وأقوم سبيلا؟ .
لقد مر على المسلمين حين من الدهر أفتي فيه فقهاء بضرورة طاعة الحاكم وإن كان مستبدا وظالما وحاز السلطة غصبا وقهرا، اتقاء لشـر الفتنة التي قد تنجم عن عصيانه. وضعوا شرطا واحدا واقفا لهذا الوجوب هو عدم إقامة الحاكم للدين . هنا فقط يجوز الجهر بعصيانه. وكانت إقامة الدين في رأيهم أو غرفهم تتمثل في ترك الناس يمارسون المناسك من صلاة وصيام وزكاة وحج لبيت الله لمن استطاع إليه سبيلا دون أن يمنعهم من ذلك ،و أن يعمل على حماية التراب الوطني من أطماع غير المسلمين فيه . هؤلاء الفقهاء الذين يوصفون بالأئمة ويتبعهم السلفيون إلى يومنا هذا ، كلهم أو بعضهم ، فصلوا العدل عن الدين ، بينما العدل جزء لا يتجزأ منه لدواع اقتضتها ظروف زمانهم . وغفل من واصل القول بما قالوا به في سالف الزمان ، أن لكل زمان أحكامه وضروراته ، كما أن أئمتهم هؤلاء بشر يخطى ويصيب وليسوا أنبياء يتنزل عليهم وحي أو عصمهم الله عن الخطأ في أمور الدين. من هنا وجبت ضرورة التأكيد على أن العدل من مقاصد الشريعة ، ومن مقومات الدين ، لكي تعود للدين وحدته ولحمته وكماله ، على النحو الذي ارتضاه الله للمسلمين عندما قال : " اليوم أكملت لكم ديــنكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينــــا". وليس كما ارتضاه لهم بعض الفقهاء في سالف الأزمنة أو حاضرها.
وإذا كنت قد بينت بأن الإحسان من مقاصد الشريعة فإن العدل والإحسان مطلب واحد في حقيقتهما الدينية ، ولا ينفصل أيهما عن الأخر. قال تعالي : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذوى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، يعظكم لعلكم تذكرون " فبدأت الآية بالأمر بالعدل والإحـسان وإيتاء ذوي القربى وهو من الإحسان ، وانتهت بالنهي عما يتناقض مع الإحسان من فحشاء ومنكر، وما يتنافي مع مطلب العدل وهو البغي.
ومن الآية عندما نجد أن الأمر بالعدل سابق الأمر بالإحسان فإن ذلك يوضح لنا أن الأمر هنا هو أمر لنا بالعدل والإحسان في العدل أيضا. وأمر أيضا بالإحسان عامة إلى جانب العدل حيث جاء بعد عمومية الإحسان تخصيص إيتاء ذوى القربي وهو من صلب الإحسان. وهنا تتضح عظمة البيان القرآني وإعجازه التي تستدعي الكثير من التأمل والتفكير العقلي والانفتاح القلبي لاستيعاب جكمة البيان وفهم ألفاظه ودلالاتها ومراميها . هنا أيضا وحدة القيم الدينية وتداخلها معا تداخل النسيج الواحد بحيث لا يمكن الحديث عن واحدة من تلك القيم أو المبادئ فمعزل عن الأخرى وإنما يجب أن يتم ذلك في وحدة بنائية.
في الإسلام تبدأ العلاقة الزوجية الشرعية باتفاق أو عقد بين زوجين مؤسس على كتاب الله وسنة رسوله . ولما كان الدين هو جماع ما في الكتاب والسنة . فإن الزوجين ملتزمان بموجب عقد زواجهما بإخضاع زواجهما لدينهما، وبالتالي المحافظة على الدين على نحو ما سبق بيانه . وفي المحافظة على الدين محافظة أيضا على العدل ، والعدل من مقاصد الشريعة ، إذن ، العلاقة الزوجية تحافظ على مقاصد الشريعة ومنها العدل. بالطبع كل ذلك مرتبط بالعلاقة الزوجية الطيبة والتي تكتسب طيبوبتها من المحافظة على الدين وكافة مقاصد الشريعة.وإذا أخذنا بالمقولة الذائعة الصيت : " العدل أساس الملك" وأن الأسرة مملكة صغيرة ، فإن العدل أيضا هو أساس الأسرة والعلاقات بين الزوجين ، فإن حافظ أفراد الأسرة على العدل ، صمدت الأسرة أمام كل ما يمكن أو يواجهها من تحديات أو مشاكل ومتاعب وعاديات الزمن ، أما إن فرط الزوجان في العدل ، وأهدرا قيمته فقدت الأسرة مناعتها وقدرتها على الصمود وتهيأت للانهيار والتفكك.
يقول الله تعالى:”واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ». كما يقول سبحانه:”لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا تناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ».وفي الحديث القدسي: “يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ».
ويرتبط العدل أيضا بعلاقة جدلية مع الحق . حيث الحصـول على الحق عدل والحرمان منه ظلم.ومن حق كل ذكر وأنثي الزواج . وبالتالي فإن حصول الفتاة على زوج وحصول الرجل على زوجة هو عذل . وهكذا يكون مجرد عقد الزواج تحقيقا للعدل. وحيث أن الزواج لا يكتمل بغير المعاشرة الشبقية ،وحرمان الزوج زوجته أو الزوجة زوجها من تلك المعاشرة هي حرمان من كل منهما للآخر من حقه المشروع وبالتالي هو ظلم له، وبالتالي فإن معاشرة كل منهما للأخر تعد ممارسة للعدل ، ويعد من مقاصد الزواج على هذا الأساس هو تحقيق العدل للزوجين.

9-حفظ التراحم :
لقد خلق الله الزوجين وجعل بينهما مودة ورحمة وهذه من آياته ، قال تعالى : ". قال تعالي : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون".وبث من الزوجين رجالا ونساء كثيرا. ومن ذرية الزوجين تتكون شعوب وقبائل تتعارف . وأكرم كل ذلك ، من بينهم ،هو أتقاهم . قال الله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء" ( النساء: 1) وقال: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" ةالحجرات: 13).
والزواج الذي لا تتحقق فيه المودة والرحمة هو زواج شاذ وفاشل أيضا ، لأنه مناقض للفطرة ومخالف للدين الذى تمت على أحكامه عقدة الزواج. والتراحم هو التعامل بمقتضى الرحمة.والتراحم بين الزوجين هو رحمة متبادلة بينهما. وهي تمتاز عن أي تراحم أخر بأنها مقترنة بالمودة أي بالمحبة. حيث يمكن للإنسان أن يصل دوى رحمه أو يرحم حيوان دون أن يعني ذلك أنه يحب من أحسن إليه . فقد يكون من أحسن إليه فظ أو سيء الخلق أو المعاملة أو السلوك مما يحول دون محبة القلب له ، ولكن يتم الإحسان إليه حبا في الله وطاعة له.وإنفاذا لما أمر به من تراحم مع ذوى الأرحام والقربى. أو يتم الإحسان إليه لأن الله أودع في قلب المحسن الرحمة أو صدوعا لما يقتضيه الواجب الإنساني أو العرف أو تطبيقا لقانون يعاقب على عدم تقديم العون لإنسان في حالة خطر. بينما التراحم في الزواج يشمل كل ذلك بالإضافة إلى المحبة الموصولة بحب الله غز وجل . حيث الله محبة كما قال المسيح . والتراحم أيضا موصول بالله حيث من صفاته : الرحمن الرحيم. وهكذا ، فإنه في الحياة الزوجية يصل الزوج أو الزوجة إلى الله عن طريق المحبة والتراحم معا. بينما في التراحم الغير مقترن بالمحبة يتم التوصل إلى الله عن طريق واحد فقط.
وفي الحقيقة القلب الذي لا يعرف المحبة لا يعرف الرحمة ولا يكون قلبه موصولا بالله.
وأن يكون التراحم من مقاصد الإسلام فهذا أمر تؤيـــــده العديد من آيات الكتاب وأحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم ومنها الحديث المشهور :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمي.
وإذا كانت الحياة الزوجية تجمع بين المودة والرحمة ، وتوحد بين الزوجين فيصيرا مثل الجسد الواحد ، فإنها بذلك تعد نسخة مصغرة من مجتمع المؤمنين ،كما وصفه الحديث النبوي السابـــــق
.ويمثل الحديث الشريف هذا أيضا إمكانية الانتقال عبر فلسفة الأسرة إلى المجتمع الإيماني الذي يكون فيه المؤمنون مثل الجسد الواحد.
من الأسرة أيضا تتشعب وتزداد صلات الرحم والتي يعد الزواج هو المنشئ لها. وإذا كانت صلة الرحم هي من العبادات المأمور بها ، والتراحم المطلق الذي يشملها هو من مقاصد الإسلام ، لذلك ، فإن الزواج والعلاقات الزوجية الطيبة تحقق مقاصد الإسلام.

١٠- حفظ الكرامة :
يحرص الإسلام على حفظ كرامة الإنسان حيا وميتا ، وتتغيا تعاليمه وأحكامه ضمان صيانة الكرامة الإنسانية . ولا يفرق الإسلام في هذا الشأن بين المسلمين وغير المسلمين ، وإن كانت صيانة كرامة المسلم أولى.
وتعتبر الثقافة الاجتماعية ، وهي محقة في ذلك ، أنه لا يحفظ كرامة المرأة مثل الزواج. وهذا الأمر يجمع عليه أيضا فقهاء المسلمين وعموم الناس. والمرأة في الزواج هي أحد العنصرين وليس من الصعب إثبات أن الزواج أيضا يحفظ كرامة الرجل بقدر ما يحفظ كرامة المرأة. ولو أن حفاظه على كرامة المرأة يغلب عليه الظن بأن الرجل يمكنه المحافظة على كرامته وإن لم يكن متزوجا ، بينما قد لا تستطيع المرأة ذلك.
لا يوجد إنسان ، ذكر كان أم |أنثي ، لدية استعداد في أن يفرط في كرامته طوعا ، وإنما قد يتم ذلك ، إن حدث ،جبرا وكرها وعدوانا عليه يعجز عن رده عنه ، ومن الناس من يفضل الموت على أن يقبل التفريط في كرامته ولو كرها.
والحرمة التي يتمتع بها مسكن الأسرة في جميع الأديان والقوانين بمختلف دول العالم ، بصرف النظر عن مدي احترامها ممن ينتهكون حقوق الإنسان، تجعل منزل الأسرة هو أكثر الأماكن صيانة لكرامة الإنسان وأمنه. وثمة مثل إنجليزى يقول إن " بيت الإنجليزي هو حصنه". ولا تنتهك حرمة المنازل في جميع أنحاء العالم الا من قبل العصابات الإجرامية ، وأجهزة أمنية في الدول المتخلفة تعد في عدادها ، وهي تلك التي اصطلح على تسميتها الإعلام بزوار الفجر، الذين ينتهكون حقوق الإنسان في أنظمة الحكم الفاسدة والمستبدة التي يتحكمون في شئونها ، ولا يملك جمهور الشعب فيها شيئا يحمي به كرامته من عدوانهم أو مؤسسات حزبية أو قضائية تحميه منهم، كلما ارتأوا ذلك وممارسوه. إن لم نقل بأن هذه المؤسسات تتواطأ معهم وإن بالصمت والتجاهل .
وفي العلاقات الزوجية الطيبة ، داخل بيت الزوجية ، فإن كل من الزوجين يحرص على صيانة كرامة الأخر وعدم المساس بها بسوء. والزواج الذي لايحرص فيه كل من الزوجين معا على كرامة الزوج أو الزوجة هو زواج فاسد ، ومخالف لكتاب الله وسنة رسوله الذي عليهما تم عقده ، وأولى بالزوجين فيه أن يتفرقا وأن يغني الله كل منهما من سعته.
ومن مقومات الكرامة الإحساس بقيمة الذات وفاعليتها . وهذا الإحساس يتنامى لدى الرجل والمرأة المتزوجين أكثر منه عند الرجل الأعزب والمرأة الغير متزوجة. والشاب الأعزب والشابة العازبة لا يشعر أي منهما في بيت أسرته باستقلاليته والمسؤولية وحرية التعبير عن أرائه ورغباته وغرائزه الفطرية ... وكلها من مقومات الإحساس بالكرامة ، ولا يتحقق لهما ذلك ولا يكتمل إلا في بيت الزوجية.
وحتى خارج بيت الزوجية وفي بيت أسرتيهما بعد زواجهما ، فسيشعر كل منهما بكرامته أكثر من الأول. في هذا الصدد يمكن أن نتخيل مثلا شابة متزوجة أخذت زوجا لزيارة أسرتها والحفاوة والاهتمام الزائد من الأسرة في الاستقبال والضيافة والجو العائلي الجديد الذي يجد الزوجان أنفسهما فيه محور اهتمام الأسرة : الوالد والوالدين والإخوة والأخوات ،من كل جانب.
علينا هنا أيضا بعض الحقائق الدينية والشرعية المرتبطة بالزواج والمترتبة عليه ولم تكن موجودة قبل إحداثه لها بمجرد إتمامه. من ذلك ما ينشأ على الزواج من محرمات بسببه.فأم الزوجة تصير محرمة على زوج ابنتها حرمة أمه عليه. وبالتالي هي أم ثانية له.و أخوات الزوجة يصرن محرمات عليه ، وإن تحريما مؤقتا ، مثل حرمة أخواته. إنهم أخوات جدد أضفن الى أخواته إن كان له أخوات .ولذا تسمي الأخت في هذه الحالة في اللغة الانجليزية بالأخت بموجب القانون أو" Sester in law". والمقصود هنا قانون الكنيسة الذي يقابله في الإسلام وفي العربية لفظ : الشرع.
وأسرة الزوجة تكرم الزوج خلال ضيافتها له إلى جانب أنهم يعدونه قد أسبح واحدا من الأسرة، لثلاثة اعتبارات مهمة هي :
١- صيانة عرض ابنتهن.
٢- حسن معاملته لها وإكرامه لها وما تتيحه معاملته الطيبة من إحسان بأنها في أمان معه مما لا يستدعي القلق عليها.
٣- اعتباره واحد من الأسرة وحلقة الوصل بينهم وبين عائلته التي صارت من أصهارهم.
وهده الاعتبارات ترتبط مباشرة بحفظ كرامة الزوجة من قبل الزوج ومعاملة الأسرة له المبنية عليها تجعله يشعر بمحبتهم له مما يزيد من قدر اعتزازه بنفسه وإحساسه بقيمته، وبالتالي كرامته.
نفس الشيء يمكن أن تلقاه الزوجة من قبل أسرة زوجها إدا أحست تلك الأسرة بأنها تحافظ أيضا على كرامة ابنهم ، وأنها لا تحاول إبعاد ابنهم عن عائلته وقطع صلة الرحم بهم أو إهمالها.
تتغير المعاملة بالتأكيد إذا ما شعرت إحدى الأسرتين بأن كرامة ابنتها الحياة الزوجية الطيبة الملتزمة بالقيم الدينية تحقق إذن الكرامة للزوجين وتحافظ عليها.
الأسرة التي تجسد معاني الحياة الزوجية الطيبة وتلتزم بالقيم الدينية المستقاة من كتاب الله وسنه رسوله تحافظ على الكرامة الإنسانية لأفرادها ومحيطهم الأسرى وتحقق بالتالي مقاصد الشريعة.

١١- المحافظة على وحدة الأمة والإمامة:
يقصد بوحدة الإمامة هنا ، وحدة المرجعية والزواج الشرعي يتم وفق مرجعية واحدة وهي كتاب الله وسنة رسوله. وعندما تحولت الدولة الإسلامية الواحدة إلى دول ودويلات ، اتخذت كل دويلة مذهبا دينيا مختلفا عن الأخرى سواء كان من مذاهب الشيعة أو السنة لأسباب سياسية محضة لا علاقة لها بالدين والتدين. وإنما لإضفاء الشرعية على انشقاق الدولة بدعوى اختلاف المذهب. وكانت لذلك عقود الزواج الشرعية يضاف إلى عبارة :"تم الزواج على كتاب الله ورسوله " عبارة : " وعلى مذهب الإمام مالك أو أبى حنيفة أو..." . إلا أن الأزواج في أي مكان في العالم الإسلامي لم يكن أي منهم يهتم بهذه العبارة المضافة في عقد الزواج ، وإن سألته قال لك تزوجت على كتاب الله وسنة رسوله فقط.
لذا فإن الأسرة التي تأسست على كتاب الله وسنة رسوله والملتزمة بهما هي التجسيد الحالي الوحيد لوحدة الأمة والإمامة في أصغر صورة اجتماعية ممكنة للأمة. وإذا أردنا توحيد الأمة ومرجعيتها الدينية التي يجب أن تكون واحدة ولا تقبل الاختلاف فيها والتفرق شيعا ومذاهبا وجب أن ينطلق الجهد التوحيدي من الأسرة.
لا يمكن أن يجتمع الزوجان ويتحدا بالزواج على أساس واحد هو كتاب الله وسنة رسوله ، أي وفق مرجعية واحدة لهما معا ، ولا تكون بعد ذلك وحدتهما ووحدة مرجعيتهما دليل على المحافظة على وجدة الأمة والإمامة. أي المحافظة على أخر مقصد كلي من مقاصد الشريعة.


التراحــــــــم والصلاة الوسطي
التراحم في الحياة الزوجية :
التراحم هو تبادل المرحمة بين أفراد الأسرة وبين أفراد المجتمع الإنساني. بحيث يرحم كل منهما الأخر فيحنو عليه ، ويحسن إليه ، ولا يقسو عليه في معاملته له.ويقول معتز الخطيب :
"التراحم" وجود أبعاد غير مادية في العلاقات بين الأفراد، أي أن علاقات البشر ذات طبيعة إنسانية لا تتأسس على المنفعة الشخصية وحدها، ومن ثم فهي ليست علاقات عقلانية مجردة، أو تعاقدية نفعية محضة، بل هي علاقات عضوية مركبة، والتراحم مبدأ ينظم مجموعة من المفاهيم الأخلاقية كالترابط والتعاون والإيثار"...ويرى الدكتور "عبد الوهاب المسيري" أن مفهومي "التعاقد" و"التراحم" معيار للتمييز بين المجتمعات الحداثية والمجتمعات التي تتسم بدرجة عالية من الإيمانية والإنسانية، وأن التمييز بينهما الذي صاغه المفكر الألماني تونيز ثم طوره ماكس فيبر تمييز دال في فهم المنطق الاجتماعي للأمة الإسلامية والأمم الأخرى -خاصة الأفريقية والشرق آسيوية- التي لا تعتبر التعاقدية أساس الجماعية وتنزل الروابط الأسرية والقبيلة والدين منزلة مهمة، بغض النظر عن نمط الإنتاج الاقتصادي الذي تتبناه. "
.والرحمة صفة من صفات الله غز وجل الذي وسعت رحمته كل شيء.قال تعالى:" ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ" . ومنها إسماه : الرحمن والرحيم .وقال تعالى في وصف النبي والمسلمين : "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ " (الفتح: 48/29).وقال تعالي في سورة البلد : "وَما أَدْراكَ ما الْعَقَبَةُ ، فَكُّ رَقَبَةٍ ، أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ، يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ، أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ، ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ،أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ . وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ . عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ " (البلد: 12-٢٠)..وفي حديث لعبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".وقال رسول الله أيضا :"من لا يرحم لا يرحم".وروي عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم :"إن رحمة ربنا وزعها مائة جزء نزل جزء واحدا في هذه الدنيا به يتراحم الناس وتتراحم البهائم وتتراحم الطيور". وفي رواية لأبي هريرة : "فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية ان تصيبه".
والرحمة لا تكون بين الناس بعضهم بعضا فقط بل تمتد في ديننا لتكون أيضا بين المسلمين الكائنات الأخرى أيضا حيث يخبرنا النبي صلي الله عليه وسلم عن رجل اشتد عليه العطش وهو يمشي في طريق وعرة فوجد بئرا.
فنزل فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث من شدة العطش يأكل الثري من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم امسكه بفيه حتى رقي فسقي الكلب فشكر الله له فغفر له . فتعجب الصحابة من ذلك فسألوا يا رسول الله وان لنا في البهائم لأجرا؟ فقال:"في كل كبد رطبة أجر" وفي ذلك حديث رسول الله : " دخلت امرأة النار في قطة حبستها فلا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من حشاش الأرض".
وفي حديث قدسي نجد أن الله اشتق اسم الرحم من اسمه، ووعد بصلة من يصلها وقطع من قطعها.ولذلك تعتبر صلة الرحم تأخذ موقعا متقدما في التراحم الذي يدعو إليه الإسلام . وهي بمثابة إشاعة الرحمة في المجتمع انطلاقا من الأسرة والحياة الزوجية . فمن آيات الله وأنعامه على خلقه أن خلق الزوجين ، الذكر والأنثى ، وجعل بينهما مودة ورحمة ."وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".
والعلاقة الزوجية التي تخلوا من المودة والرحمة هي علاقة مناقضة للفطرة، ومخالفة لما قضي به الله وقدره على عباده. ولا ينتج عن غياب المودة والرحمة بين الأزواج في بيت الزوجية سوى تعاستهما معا. وفي ذات الوقت ، تعد متعدية لحدود الله . إذ طالما أن الزواج تم على كتاب الله وسنة رسوله فإنه يكتسب مشروعيته الدينية مادام ملتزما بما أمر به الله وسنه وأوصي به رسوله ، فإن خالف الزوجان ما أمر به الله ورسوله فإن زواجهما تعد مشروعيته الدينية محل تساؤل. قال تعالي :" وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ" [الرعد:25]. وقوله " الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون". وقوله : " والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب".وهو ما يتطلب استعادة الشرعية بأسرع ما يمكن بإعادة المودة والرحمة إلى العلاقة الزوجية . ويجب على كل من الزوجين أن يبذلا ما وسعهما من جهد لتحقيق ذلك والمحافظة على التراحم بينهما.ولا يجب على أحدهما أن يحجم عن فعل ذلك بدعوى أن الآخر هو الذي يتحمل المسؤولية. قال تعالي" هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا" ولا يتحقق السكن إلا بين متحابين متراحمين.
وإذ يدعو الإسلام إلى التراحم فإن التراحم يعد من مقاصد الشريعة الإسلامية التي غفل عنه الأصوليون عندما حددوها بخمس ليس منها التراحم . فال صلي الله عليه وسلم : " مثل المؤمنين في توادهم وتراجمهم كمثل الجسد الواحد ، إن اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمى".
الرحم هو رحم المرأة – الذي تتربى فيه النطفة وتخرج منه بشرا سويا – وقد أطلق على القريب ( رحم ) وعلى الأقرباء ( أرحام ) لأن الأقرباء مشتركون في الخروج من رحم واحدة. .ولذا فإن الحياة الزوجية ولما ينشأ عنها من نسل هي المنشئة للعلاقات الاجتماعية المعروفة في ديننا الإسلامي بصلة الرحم أو وصل ذوي الرحم . ومن هنا تظهر العلاقة الوثيقة بين الزواج وصلة الرحم . ويمكن القول بأن صلة أو صلاة الرحم هي صلاة دماء متحولة متعددة الصور في تحولها تجري في عروق أجسام بشرية عديدة . فالنطفة التي يلقي بها الزوج في رحم زوجته ويتكون منها بقدرة الله تعالي جنينا حيا ، هي دماء متحولة إلي مني. والمني سواء أتم عملية التخصيب أم لم يتمها تمتصه جدران رحم الزوجة ويسرى في دمها حتى أن الزوج بإمكانه أن يشم رائحة المني في فم زوجته قبل مرور ساعة على انتهاء الجماع والقذف. والجنين الذي تلده الأم يتغذي من دمها وعندما تلده وترضعه من لبانها فإن اللبن هو دم متحول . وقد تكون الإفرازات التي تبلل المهبل لإعداده للجماع أو لتيسير انزلاق عضو التناسل الذكري بداخله وتبلل ذلك العضو خلال الجماع – وهي أيضا دماء متحولة – تتشربها أيضا بشرة عضو الرجل وتنساب إلى دمه ولو أن ذلك لا يوجد دليل عليه يؤكده حتى الآن. هذه الدماء المتحولة بالإضافة إلى الرحم ذاته ، ودور الرحم في استمرارية الجنس البشرى ، كلها تعد من آيات الله سبحانه وتعالي المرتبطة بالرحم . ويعد النظر إلى الأرحام بالتقدير والاحترام إلى حد يقترب من الدعوة إلي تقديسها في كتاب الله كما سنرى هو تقدير واحترام وتقديس لآية عظمي من آيات الله . ولذا اعتبر حفظ وصيانة صلة الرحم وكل ما يعبر عن التقدير والاحترام له والاهتمام من قبيل التعبد لله سبحانه وتعالي ودليل على التقوى والصلاح. وكل ما فيه إساءة للرحم أو تدنيس له مثل حالة الزنا يعد من كبائر الذنوب والمعاصي. عن أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم" متفق عليه. وهذا يدل على فضل صلة الرحم وسمو مكانته حيث جمعه الرسول صلى الله عليه وسلم مع إخلاص العبادة لله والصلاة والزكاة. وروي عنه أيضا قوله : " يقول رسول الله ص) : ( أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم لقيامة أن يصل الرحم وان كانت منه على مسيرة سنة ، فان ذلك من الدين.
جاء في الفصل الثاني من الميثاق الإسلامي عن صـــلة الرحــــم حول تعريفه وتحديد مفهومه ما يلي:

1- الرحم في أصل الوضع اللغوي: مستقر خلق الإنسان واكتمال تكوينه في بطن أمه، والمقصود بها هنا: ذوو القربى، سواء كانوا ذوي رحم أو ذوي نسب، من قبيل إطلاق السبب على المسبب أو البعض لأهميته على الكل؛ لأن التواصل عن طريق الأرحام يشملهم جميعًا.
2- وصلة الأرحام هي إسداء البر والخير والمعروف وأداء الحقوق والواجبات والمندوبات لذوي القربى قبل غيرهم من سائر الناس.
3- ويتنوع حكم هذه الصلة بين الفرض والواجب والمندوب بحسب قوة القرابة أو بعدها، الأقرب فالأقرب حتى ترتفع إلى درجة الإيثار للوالدين لأنهما سبب الوجود، وتتقدم الأم على الأب في سائر النصوص والتعاليم الإسلامية، إقرارًا بمكانة الأمومة ومراعاة لِعِظَمِ تعبها ووفرة شفقتها وخدمتها لوليدها.
كما ذكر أن التعبير عن صلة القرابة بصلة الرحم، يُنبِّه الأذهان إلى اعتبار رحم الأم محل الإعجاز الإلهي وقدرة الله عز وجل على خلق الإنسان من عدمٍ؛ وهو ما يرسّخ الوازع الديني والوفاء بحقوق ذوي القربى.وأن الإسلام قد جعلها أساسًا لقواعد الميراث، وأولوية التكافل الاجتماعي وأساس البناء الاجتماعي، واعتبرها أعمق وأهم الروابط المجتمعية التي تعمل على تماسك المجتمع واستمراريته.وحث على ضرورة الإبقاء على قدر مناسب من أواصر المودة وحسن الصلة والمعاشرة بالمعروف، وعدم التنكر لصلة الرحم مهما بلغت أسباب التنازع واختلاف المذهب والمعتقد.والحرص على التناصح والتناصر ومراعاة الأولويات بين ذوي القربى.
قيم التراحم :
يشتمل التراحم على قيم إسلامية كثيرة مثل البر والمحبة والتعاطف والتكافل والتعاون . ومن أبرز القيم المعبرة عنه : البر. وأولي الناس بالبر هم الوالدان. وهو أسمى أنواع البر و في برهما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بروا آباؤكم يبركم أبناؤكم".وقال الله تعالي على لسان عيسى بن مريم عليه السلام : "قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً" ووصف الله يحيي عليه السلام فقال : وبرا بوالديه ولم يكن جباراً عصيا ". ثم يأتي بعد بر الوالدين بر ذوي الأرحام وذوي القربي والفقراء والمساكين.قال تعالي :" ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم أللآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس. أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون"(البقرة 177) وقد سبق تفصيل دلك في حقوق الأسرة.
ويقول الدكتور صبري عبد الرءوف أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر : أنه لابد من أن يكون التراحم والبر سائداً في المجتمع الإسلامي وأكثر الناس حرصا علي وجود البر بين الناس هي المرأة لأنها هي في الأساس التي تربي وتعلم وتحث الصغير علي البر والمعروف وهي تربي في أبنائها توطيد صلة الأرحام ليسود في الأسرة المحبة والعطف والمودة. وهناك بر آخر وهو بر الإنسان بأسرته وبر المسلم بأخيه المسلم.. ونري دائماً النساء تسعي إلي تقديم المعروف والحسنة والبر إلي الأقارب باعتبار أن زوجها مشغول دائما في عمله إذا كانت زوجة صالحة.. ولهذا قال صلي الله عليه وسلم "الراحمون يرحمهم الرحمن".
صلة الرحم في الكتاب والسنة:
قال الله تعالي".يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً."(النساء ١) . وقال سبحانه في التقوى::" يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"وقال أيضا:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً". وقال سبحانه وتعالى أيضا: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"( التوبة ١١٩).
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله، ثم صلة الرحم".
  وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم."
وقال عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل : أنا الرحمن خَلَقْتُ الرَّحم ، وشققت لها من اسمي اسماً ؛ فمن وَصَلَهَا وصَلْتُه ، ومن قَطَعها بَـتَـتُّـه .".وقال صلى الله عليه وسلم : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرحم ... قالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة . قال : ألا ترضين أن أصِل من وصلك ، وأقطع من قطعك ؟ قالت : بلى يا رب . قال : فذاك . قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : “ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ».
وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ما من ذنب أجدر أن يُعَجِّل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يُدَّخَر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم . رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه . وقال صلى الله عليه وسلم : "من أحب أن يبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه". (البخاري).
ونقلت كتب الأحاديث عن رجل من خثعم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في نَفَرٍ من أصحابه ، فقلت : أنت الذي تزعم أنك رسول الله ؟ قال : نعم . قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : الإيمان بالله . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم صلة الرحم . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . قال : قلت : يا رسول الله ! أي الأعمال أبغض إلى الله ؟ قال : الإشراك بالله . قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم قطيعة الرحم قال : قلت : يا رسول الله ! ثم مه ؟ قال : ثم الأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف . رواه أبو يعلى . وقال الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح غير نافع بن خالد الطاحي وهو ثقة . و جاء في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعقبة بن عامر : يا عقبة بن عامر صِلْ من قَطَعَك ، وأعْطِ مَن حَرَمَك ، واعْفُ عَمَّن ظلمك

وروى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مَن سَرّه أن يُبسط له في رزقه ، وأن يُنسأ له في أثره ؛ فَلْيَصِل رَحِمَه .
وفي رواية : من أحب أن يُبسط له في رزقه ، وينسأ له في أثره ؛ فَلْيَصِل رَحِمَـه
قال صلى الله عليه وسلم : صِلة الرحم ، وحُسن الْخُلُق ، وحُسن الجوار ؛ يُعَمِّرْنَ الدِّيار ، ويَزِدْنَ في الأعمار . رواه الإمام أحمد وغيره
وروي أن عمر بن الخطاب قال : ليس الوَصْل (للرحم)أن تَصِل من وَصَلَك ، ذلك القصاص ، ولكن الوَصْل أن تَصِل من قَطَعَك..
وقال بن جرير الطبري في تأويل قوله تعالى : “وَيَقْطَـعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ “ الذي رَغَّب الله في وَصْلِه ، وَذَمّ على قطعه في هذه الآية : الرَّحم . وقد بَيَّن ذلك في كتابه فقال تعالى :”فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ”، وإنما عَنَى بالرَّحم أهل الرجل الذين جمعتهم وإياه رَحِم والدةٍ واحدة ، وقَطْعُ ذلك : ُلْمه في ترك أداء ما ألْزَم الله من حقوقها ، وأوجب من بِرِّها ، وَوَصْلُها أداء الواجب لها إليها من حقوق الله التي أوجب لها ، والتعطّف عليها بما يَحِقّ التعطف به عليها .
قال القرطبي: الرحم على وجهين: عامة، وخاصة، فالعامة رحم الدين، ويجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم، والنّصفة في معاملتهم والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم. وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب.
وقال ابن أبي جمرة: تكون صلة الرحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضرر، وبطلاقة الوجه، وبالدعاء، والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة، وهذا إنما يستمر إذا كان أهل الرحم أهل استقامة، فإن كانوا كفارًا أو فجارًا فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط بذل الجهد في وعظهم، ثم إعلامهم إذا أصروا أن ذلك بسبب تخلفهم عن الحق، ولا يسقط مع ذلك صلتهم بالدعاء لهم بظهر الغيب أن يعودوا إلى الطريق المثلى.
قال البيهقي :” فَجَعَلَ قَطْعَ الأرحام من الإفساد في الأرض ، ثم أتبع ذلك الإخبار بأن ذلك مِنْ فِعْل مَن حَقَّتْ عليه لعنته ، فَسَلَبَه الانتفاع بسمعه وبصره ، فهو يَسمع دعوة الله ، ويُبصر آياته وبيناته ، فلا يُجيب الدعوة ، ولا ينقاد للحق ، كأنه لم يسمع النداء ، ولم يقع له من الله البيان ، وَجَعَلَه كالبهيمة أو أسوء حالا منها ، فقال : "أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ." ، وقال في الواصل والقاطع : “إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ.وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ”فَقَرَنَ وَصْلَ الرَّحم وهو الذي أمر الله به أن يُوصَل بخشيته ، والخوف من حسابه ، والصبر عن محارمه ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة لوجهه ، وَجَعَلَ ذلك كله من فعل أولي الألباب ، ثم وَعَدَ به الجنة ، وزيارة الملائكة إياهم فيها ، وتسليمهم عليه ، ومدحهم له ، وَقَرَنَ قطيعة الرحم بِنَقْضِ عهد الله ، والإفساد في الأرض ، ثم أخبر أن لهم عند الله اللعنة ، وسوء المنقلب ، فَثَبَتَ بالآيتين ما في صلة الرحم من الفضل ، وفي قطعها من الوزر والإثم .
كثير ممن كتبوا عن صلة الرحم لم يفتهم الاستشهاد بقوله تعالي:" وَاتَّقُـواْ اللّـهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَـامَ " منزوعة من سياقها، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم الوقوف عندها ، وتأملها ، وكيف أن الإنسان المسلم يسأل عن تقوى الله وعن اتقاء قطع الصلة بالأرحام معا . فالواو هنا واو عطف وقد تعني واو العطف المعية وتعني الترتيب بمعني ثم ، والتخصيص بمعني لاسيما ، وقد تستخدم لغير العطف في حالات مثل القسم و التنبيه ولها في اللغة وفي القرآن خاصة استعمالات شتي. وفد قرئت الأرحام في الآية منصوبة على أساس أنها مفعول به لفعل الأمر اتقوا وقرئت مجرورة علي أساس أن الأرحام مجرورة بحرف جرّ تقديره الباء--أي يصير تقدير الجملة " اتقوا الله الذي تسـاءلون به وبالأرحام ». عطفـاً بـالأرحام علـى الهاء التـي فـي قوله «به»وقد قيل في الاعتراض على ذلك أنه غير فصيح من الكلام عند العرب لأنها لا تنسق بظاهر علـى مكنـي فـي الـخفض إلا فـي ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر؛ وأما الكلام فلا شـيء يضطرّ الـمتكلـم إلـى اختـيار الـمكروه من الـمنطق والـرديء فـي الإعراب منه.وبالتالي ينزه كلام الله سبحانه وتعالي عن ذلك. ودفعت هذه القراءة الأخيرة والمشكوك في صحتها الي تأويل لفظ :" تساءلون به" ففهموه بمعني الاستحلاف أو الاستعطاف به عند مخاطبة الناس بعضهم بعضا كقولهم : بالله عليك أن تفعل كذا أو تعطيني كذا. ولم يفهموه بمعني المساءلة والمحاسبة .
والقراءة الأولي هي التي تتفق مع التوجه القرآني في وصل الرحم . و قرأها كذلك ابن عباس، والحسـن، ومجاهد، وقتادة، والنخعي، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وأبو رزين، وحمزة. قرن الله عز وجل صلة الرحم باسمه الجليل دلالة على خطورة وأهمية صلة الرحم، كما في قوله تعالى:" لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا" [البقرة:83]؛ لأن الوالدين أقرب الرحم، وقال تعالى:" وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ" [النساء:36]، وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني، قطعه الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع -يعني: قاطع رحم-). وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها وقد سقت أحاديثا كثيرة في الترغيب بصلة الرحم، والترهيب من قطيعتها. وهنا إما أن واو العطف قد استعملت للدلالة علي أن اتقاء قطع الرحم في منزلة تقوي الله أم جاءت للترتيب بمعني " ثم " بحيث تأتي في التقوي بعد تقوى الله سبحانه وتعالي أو بمعني"لاسيما" للتخصيص ،أي ذكر الخاص بعد العام . بحيث تكون من تقوي الله.ومن ذلك قوله تعالي : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطي".
أما عن السياق فالآية جاءت في بداية سورة للنساء لما اختصتهم بالكثير من الأيات والاحكام المتعلقة بهن. وفي سياق يختص بالرحم : " اتَّقُواْ رَبَّكُـمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء"أي بث من رحم زوجها رجالا كثيرا ونساء وتكون الرحم آية كبري من أيات الله التي تستوجب تقوي الله فيها مثل تقواه في كل شيء أو في مقدمة تقواه في كل شيء.مثلما سبق ايضاحه. وهناك ملآحظة أخري ربما لم يتنبه أو يتفكر فيها أحــــد من قبل وهي أن لفظ " الأرحام "في الآية لم يسبقه لفظ"صلة" ولذا فلا يمكن تأويلها بأن المقصود هو صلة الأرحام فقط . وإنما يكون المقصود هو الأرحام بالمطلق وكل ما يتعلق بها. وتكون أيضا بمثابة اتقوا الله في النساء وفيما أنتجته أرحامهن وكل ما نتج عن علاقتكم بها من صلات .
الصلاة الوسطي
قال الله سبحانه وتعالي في سورة البقرة :" حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي وقوموا لله قانتين" (الآية٢٣٨) بمعني حافظوا علي الصلوات وخاصة الصلاة الوسطي . وقد اختلف المفسرون في تحديد هذه الصلاة الوسطي التي خصها الله تعالي بالفضل في هذه الآية فمنهم من قال هي صلاة الفجر ومنهم من قال إنها صلاة العصر . واختلاف المفسرين يعني أن تحديدهم لها غلب عليه الظن ولايستند الي الكتاب أو السنة والا مااختلفوا في أمرها. واختلافهم أيضا يعني أن واحدا منهم قد أصاب فيما ظنه والباقي أخطأ وإما أن كلهم قد أخطأ فيما ذهب اليهم ظنه. الاحتمال الأخير بأنهم جميعا قد أخطأوا يأتي في حالة ماإذا كانت الصلوات المذكورة وبالتالي الصلاة الوسطي منها ليست من جنس الصلوات الخمس المفروضة والتي انصرف اليها ذهنهم. فهل توجد صلوات أخري غير تلك المفروضة؟ وبمعني آخر: هل يحتمل لفظ : " الصلاة" في اللغة والدين معاني أخري غير معنى الصلاة المفروضة؟.
في اللغة سنجد أن الصلة والصلاة والوصل والاتصال والتواصل جميعها ألفاظ تنتمي الى جذر لغوي واحد ولها معاني متشابهة تكاد أن تكون واحدة حيث يمكن اعتبار فعل واحد يتضمن كل هذه المعاني حتي لو تم وصفه بلفظ واحد منها . والصلاة من بينها هي الصلة الأوثق والأشد والجامعة والتي ترفع الصلة الي مستوى العبادة أو تجعلها في عداد العبادة خاصة وهي اسم للصلاة المفروضة. والصلاة لغة تأخذ معاني الدعاء والتوسل والرجاء والصلاة المفروضة التي يقاس عليها فيها دعاء لله وتقرب اليه زلفي ورجاء فيه وفي رحمته وهداه وذكر أيضا لله بما يتلي فيها من آيات الذكر الحكيم وتسبيح بحمده .
والعبادات كلها ذات طبيعة روحية وتصل العبد بربه ومعبوده وهي بمثابة صلاة تطهر نفس العابد وتزكيها وتنهيها عن الفحشاء والمنكر . واذا لم تكن العبادة خالصة لوجه الله فقدت روحانيتها وفاعليتها فلا تتزكى بها النفس وتأتي الفحشاء والمنكر سرا أوجهارا لايردعها رادع أو يمنعها حياء من الله أو الناس. وقد سميت الصدقات المفروضة زكاة لأنها تزكي المال والنفس معا واذ تدفع للفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين وفي سبيل الله في تصل كل المنتفعين بها ومع صفتها التعبدية أيضا تكون بمثابة صلاة مكملة للصلاة المفروضة أو في حكمها . وفي اللعة أيضا يعبر عن العطاء بلفظ :" الصلة " فيقال أرسل اليه صلة أووصله بقدر كذا من المال.
أما في الدين فأول مايلفت النظر هو قوله تعالي : " إن الله وملائكته يصلون علي النبي ، ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما" فالصلاة علي النبي من قبل الله وملائكته والذي بأمر بها الله سبحانه الذين آمنوا ليست من جنس الصلاة المفروضة وليس فيها ركوع وسجود وهذا أكبر دليل علي أن لفظ الصلاة له دلالات متعددة ولاينحصر في الصلاة المفروضة وحدها.
نجد أيضا في القرآن الكريم ورود لفظ الصلاة بغير معني الصلوات الخمس في الآية٩٩ من سورة التوبة حيث يقول المولي عزوجل فيها :" ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر ويتخذ ماينفق قربات عند الله ، وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم، سيدخلهم الله في رحمته، إن الله غفور رحيم". فصلوات الرسول هنا لايمكن أن تكون صلوات الرسول المفروضة أو التي يتنفل بها من جنسها ، بل إن المقصود هنا هي صلواتهم للرسول التي هي قربة لله منهم والتي تعني مايقدمونه له حبا في الله وفي رسوله من صدقات تصلهم به روحيا وتم التعبير عنها هنا بالصلوات.
مماسبق يتطلب الآمر للتعرف علي الصلوات المقصودة في الآية٢٣٨ من سورة البقرة ومعرفة بالتالي ماهي الصلاة الوسطي فيها أن نستجمع في أذهاننا جميع معاني الصلاة في اللغة وفي الدين وفي استعمال القرآن الكريم لها علي وجه الخصوص. وأكثر مايرشدنا الي المعني المقصود في الآية سالفة الذكر هو السياق الذي جاءت فيه فإن كان سياق لاعلاقة له بالصلوات الخمس وانما بأمور أخرى وجب اعتبار أن الصلوات المذكورة تنتمي الي نفس الحقل التداولي للسياق.
إذا رجعنا إلى السياق الذي وردت فيه الآية الكريمة سنجده منبت الصلة بالصلوات الخمس المفروضة ولاتعد الآية متوافقة مع سياقها إذا تم تفسيرها علي نحو مادرج عليه المفسرونوبالتالي فا الصلاة الوسطى المفصودة لايمكن أن تكون صلاة الفجر أو العصر أوأي صلاة من الصلوات الخمس وانما هي شيئ آخر له علاقة بالسياق الذي وردت فيه. ويمكن أن يدلنا أيضا فهمنا للوحدة البنائية لسورة البقرة علي ذلك من قبيل الاطمئنان الي صحة ما قد نتوصل اليه.
لقد جاءت الآية الكريمة في سياق ضبط العلاقات الانسانية وخاصة الزواج والطلاق وأحكامهما والزواج ينشئ العلاقات العائلية ويوثقها والطلاق قد يؤثر عليها سلبا وهذا التأثير السلبي له يجب أن يكون له حد لايتعداه ، ففي الطلاق ينفصل الرجل عن زوجته عندما تستحيل العشرة بينهما ولكن إذا كان لهما أولاد فسيظل هؤلاء الاولاد مرتبطون بصلة الدم والرحم والقرابة بعائلتي الأب والأم حيث لهم فيهما أخوال وخالات وأعمام وعمات وأبناء وبنات ؛خوال وأعمام وجميعها صلة رحم ومرتبطة برحم الآم الذي يعتبر الحلقة الوسيطة فيها
وقد تكون الزوجة المطلقة ابنة عم أو ابنة خال الزوج ومعني أن ينسحب طلاقه لها علي علاقته بأهلها سلبا وهي علاقة سابقة علي زةاجه بها لايعني سوي قطع ما أمر به الله أن يوصل. لذا وجب المحافظة في حالات الطلاق علي العلاقات العائلية السابقة عليه أو الناشئة عن الزواج والتي لاتزول بانقطاع حبله وأهم هذه العلاقات مايتصل بالارحام ومااصطلح عليه بصلة الرحم واذا كانت صلة الرحم تبعا لذلك هي المقصودة بالصلاة الوسطي فإنه يجوز تبعا لذلك أن نطلق عليها اسم الصلاة الوسطى أيضا.
اذا استعرضنا السياق الذي جاءت فيه آية المحافظة علي الصلوات سنجده في الواقع يبدأ من الآية ٢١٣ التي يقول فيها الله سبحانه وتعالي: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..." أي بوحدة الانسانية والوحدة البنائية لسورة البقرة وهي أكبر سورة في القرآن تدور حول هذا المعني وحول العلاقات الانسانية كما يجب أن تكون وماقد بصيبها من خلل وفساد يجب تجنبه. وإن ضربنا صفحا عن هذا الاطار العام للسورة وركزنا علي العالاقات العائلية المترتبة على الزواج والمتأثرةبه وبكل مايمكن أن يطرأ عليه من خلل كما في حالة انفصام عراه بالطلاق ، يمكن القول بأن ذلك السياق المتصل يبدأ من قوله تعالي في الآية ٢٢١من سورة البقرة :" ولاتنكحوا المشركات حتي يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولوأعجبتكم ولاتنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولوأعجبكم ، أولئك يدعون الي النار والله يدعو الي الجنة والمغفرة باذنه..." وتأتي الاية التالية:" ويسألونك عن المحيض..." وتليها الآية الكريمة :" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنا شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين" وتتوالي الايات واحدة تلو الأخري لاتخرج عن سياق العلاقات الزوجية ويبدأ الحديث عن الطلاق وأحكامه ومايترتب عليه ابتداء من الآية ٢٢٦ التي يقول فيها المولي :" للذين يولون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوافإن الله غفور رحيم " تتبعها الاية٢٢٧ : " وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم" وتتوالي بعدها الآيات مبينة أحكامه حتي الآية ٢٣٧ التي يقول فيها الله سبحانه وتعالي :" وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف مافرضتم إلا أن يعفوا الذي بيده عقدة النكاح وإن تعفوا أقرب للتقوي ولاتنسوا الفضل بينكم ، إن الله بما تعملون بصير." وعلى إثر هذه الاية مباشرة تأتي آية المحافظة علي الصلوات والصلاة الوسطي رقم ٢٣٨ بما يعني المحافظة علي الصلوات أو الصلات التي قد يضر بها وقوع الطلاق. بعد أن أمرنا في الاية السابقة عليها بألا ننس الفضل بيننابسبب ماقد ينشأ عن الطلاق من خلافات وغضب وألم وتغير في النفوس وانزعاجها ، وهو مايتطلب من االمؤمنين التغلب علي هذه المشاعر النفسية الطارئة والعارضة لدي عائلتي المطلقين وحيث تعتبر كل عائلة أن ابنها أوبنتها قد ظلمه وأضر به زوجه وتنحاز كل أسرة لمن ينتمي اليها ، لذا تأتي الآية ٢٣٨ لتعالج الأمر ونطالب الطرفين بألا يسمحوا لهذه المشاعر النفسية بأن تقطع مابينهما من صلاة وخاصة صلة الرحم و بما يجعل المعني متصلا وغير منفطع مع ماجاء في الآية السابقة عليها.
وبعد الآية ٢٣٨ نجد أن السياق الذي جاءت ضمنه مازال متصلا حتى الآيتين ٢٤١و٢٤٢ والتي يقول فيهما الله سبحانه وتعالي : " وللمطلقات متاع بالمعروف ، حقا علي المتقين ، وكذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون" أن نحكم عقولنا التي تقودنا الي العدل والاعدال والاحسان واطاعة الله فيما بينته لنا آياته من أحكام منظمة للعلاقات في مختلف أحوالها وألا نتبع هوي النفس ومايغري به من مظالم بدافع من الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام ولكأن الزواج الذي انفصمت عراه كان معركة ولم يكن اطارا للمودة والرحمة فلما غابت كل منهما عنه تحتم فك الارتباط بالمعروف ودون نسيان الفضـل ففي جميع الأحوال كان لعائلة العروس التي جهزتها فضل وكان للزوجة وهي تقوم بواجباتها الزوجية فضل وكان للزوج المطلق أيضا فضـل وتذكر هذه الأفضال وعدم التنكر لها مثلما طلبت منا الآية ٢٣٧ هو الذي يجعل بمقدورنا المحافظة علي الصلوات والصلاة الوسطي التي هي صلاة الرحم كما أمرنا بذلك في الآية٢٣٨ . ثم تنتقل بعد ذلك آيات السورة الي سياق آخر مختلف وان ظل ضمن مايمكن تسميته بالوحدة البنائية لسورة البقرة.
إن الاحتجاج بأن السلف لم يقولوا بمثل ذلك علي مدى أربعة عشـر قرنا هو احتجاج أقل مايوصف به بأنه سخيف. فالله سبحانه وتعالي لم يطلب منا أن نأخذ ديننا من السلف وهم بشر مثلنا، مهما بلغت شهرتهم في زمانهم أو شهد لهم بسعة العلم ممن اتبعهم أو أخذ عنهم علمه، وانما طالبنا باتباع الله ورسوله وحدهما ، وأن نتأمل ونتفكر في آياته ونهتدي بهديها وأن نأخذ ماآتانا به الرسول وفيه حياة لنا. بل لعل هذا يقدم الدليل علي أن من يوصفون بالسلف الصالح لايصلحون لآن يكونوا، مهما علا كعبهم المصدر الوحيد للمعرفة الدينية ، حتي يقبل ماقالوا به، دون تمحيص له، وينبذ مالم يقولوا به وأن قويت حجته ولم يتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله ولامعالعقل والمنطق أو المتفق عليه من مقاصد الشريعة أو حتي مااقترح اضافته اليها من مقاصد هي: المحافظة علي الأمانة و العدل والاحسان والتراحم والكرامة الانسـانية ووحدة الآمة والامامة. حيث ربها واحد وإمامها النبي صلى الله عليه وسلبم ولاإمام لها سواه.
أما تفسير الآية حسب السياق الواردة فيه فهو أمر متفق عليه من أكبر علماء الدين وليس بدعة مستحدثة. وهل يقبل مثلا من كاتب أوباحث يكتب في موضوع معين أن يقحم علي كتابته جملة أو عبارة لاعلاقة لما كتبه قبلها وبعدها بها؟ ..وألا يعد ذلك خطأ فادحا وعيبا في كتابته إن حدث؟ ..فكيف نتوقع من كتاب أحكمت أياته ومنزل من لدن عليم خبير ومعجزة في بيانه أن يكون فيه مانعتبره خطأ . تعالي الله عما يصفون. لايوجد أي قطع في السياق الذي وردت فيه الاية الكريمة وانما هي منسجمة تماما معه ووردت في موقعها تماما ضمنه.
ولعل ماجعل الآمر يلتبس علي المفسرين القدامي ومن تبعهم حتي اليوم هوسوء فهمهم للآية ٢٣٩ من نفس السورة والتالية مباشرة لآية المحافظة علي الصلوات والتي يقول فيها الله تعالي: " فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ، فاذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم مالم تكونوا تعلمون"
وهي في حقيقة أمرها تؤكد ما سبقها ولكنها تعالج حالة أن يمنع الخوف لأي سبب من المحافظة علي علاقات القربي وصلة الرحم . وهو هنا لايجعل التعلل بالخوف لقطع العلاقات وصلة الرحم عذرا مقبولا وانما يمكن للرجل أو المرأة أن يصلا أرحامهما ولو بالمرور عليهما راجلين أو ممتطين ظهور دوابهم دون النزول من عليها . هذا في حالة الخوف علي النفس من أي سبب فاذا انتهي الخوف وجب أن يتم الوصل أو صلاة الرحم في غير عجالة لكي تحقق الغرض منها في نشر المحبة وتمتين الروابط العائلية علي الوجه الأكمل. لاعلاقة للآية اذن بأداء الصلوات المفروضة أثناء المعارك أو في اتتظارها وخوفا من أن ينتهز العدو انشغال المسلمين بها فيهاجمهم وهم ركع أوسجود . اذ أن هذه الحالة قد تناولتها وعالجتها آيات أخر ي في كتاب الله ولاحاجة هنا لتكرارها.
ولايعني تفسير الصلاة الوسطي بصلة أو صلاة الرحم أي اخلال بضرورة المحافظة علي أداء الصلوات الخمس المفروضه في مواقيتها ففي القرآن الكريم آيات تحث علي ذلك وفي أحاديث الرسول كذلك . أي أن هذا الآمر تمت تغطيته بمايكفي.
كما أن الصلوات المذكورة المتصلة بصـلاة الرحم تشمل نطاقا واسعا من العلاقات الانـسانية ، فهي تتضمن صلات القربي وصلات مترتبة على وحدةالدين حيث المسلم أخ المسلم لايظلمه ولايسلمه ولايستحل ماله أو عرضه .وهناك صلات مترتبة علي الجيرة، والتي يمكن التعبير عنها بالمواطنه وفق لغة العصر، وهذه لاتتأثر باختلاف الدين أو العرق أو اللون أو بوجود قرابة أوانعدامها وانما يكفي فيها تحقق الجيرة وسواء كانت قريبة أو بعيدة وقد قال صلي الله عليه وسلم : مازال جبريل يوصيني بالجار حتي ظننت أنه سيورثه".
ثم الصلاة العظمي وهي صلاة الرحم التي تتوسط علاقات القربي والمصاهرة حيث تتقاطع كل هذه العلاقات مع رحم الأم. وهذا مايجعل للمرأة فى الاسلام عامة ، والأم خاصة ، مكانة سامية. ونجد في كتاب الله وسنة رسوله وصايا بهن ، وحفظا لحقوقهن ، وإعلاء لشأنهن ومكانتهن.وتشديد على صلة الرحم ومنها قوله تعالي :" إنما يتذكر أُولو الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق ، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " (الرعد:19-21 .).
وهذه الصلاة للرحم أو وصلهم أوجبه الإسلام لهم أحياء وأمواتا . وأعطي الأولوية في الوصل وإذ يأتي الوالدين في المقدمة على من سواهم من الأحياء كالزوجة والأولاد و الأشقاء وغيرهم فلأنهما سبب وجود الإنسان. لذا وجب تفضيلهم على الجميع وتقديم الإحسان إليهما وخصهما بالعطف والرعاية. قال الله تعالى عن لسان النبي عيسـى (عليه السلام):”وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً »(مريم ٣٢).وفي التنويه بيحيى (عليه السلام) قال تعالى: “وبراً بوالديه ولم يكن جباراً عصياً »(مريم ١٤).وقال تعالي :" وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً"(الإسراء ٢٣و٢٤) . وللرسول صلي الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يحض فيهما على بر الوالدين وهما أقارب المرء من الدرجة الأولي وأقرب ذوي رحمه إليه .ومنها: قوله صلي الله عليه وسلم: (بر الوالدين واجب وان كانا مشركين). وقال (عليه السلام).وقوله: “بر الوالدين أكبر فريضة”وقوله” “ر الوالدين وصلة الرحم يزيدان في الأجل ».وقوله”صلى الله عليه وآله وسلم »: (يا علي رضا الله كله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخطهما ». إذ أن الأبناء إذا لم يبروا آباءهم لم يبرهم أبناؤهم،وانفرط عقد أسرتهم وتمزقت .وقال أيضـا : " من سرّه أن يمدّ له في عمره، ويزداد في رزقه فليبر والديه، وليصل رحمه"
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال:" أقبل رجل إلى نبي الله فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد، أبتغي الأجر من الله. قال: فهل والديك أحد حيّ؟ . قال: نعم، بل كلاهما. قال: فتبتغي الأجر من الله؟ قال: نعم. قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما "
وبر الأم مقدم على بر الأب . عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك ، قال: ثم من؟ قال: أمك ، قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك. وفي رواية قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك. وفي هذا عظم حق الأم على الولد حيث جعل لها ثلاث حقوق؛ و قيل أن سبب ذلك أنها صبرت على المشقة والتعب، ولاقت من الصعوبات في الحمل والوضع والفصال والرضاع والحضانة والتربية الخاصة ما لم يفعله الأب، وجعل للأب حقاً واحداً مقابل نفقته وتربيته وتعليمه .
سألت السيدة عائشة رضي الله عنها النبي :" أي الناس أعظم حقا على المرأة؟ قال: زوجها، قلت: فعلى الرجل! قال أمه"..

وقد ورد في التراث الإسلامي إن معاذا قال : يا رسول الله إن والدتي كان لها مما أعطى نصيب تتصدق به وتقدمه ، وما كنت إذا أعرف البركة فيما أعطى ، وأنها ماتت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحب أن تأجر أمك في قبرها ، قال معاذ : نعم يا رسول الله – صلى الله عليك وسلم – قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فانظر إلى الذي كانت أمك تعطيه في حياتها ، فتصدق به عليها ، بعد وفاتها ، وقل : اللهم تقبل من أمي أم معاذ “ فقال من حوله : يا رسول الله أهذا لمعاذ خاصة أو لجميع المسلمين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وحده ولجميع المسلمين كافة ، قالوا : فمن لم يكن له منا ورق يتصدق به على أبويه يحج عنهما ؟ قال نعم إذا كان مؤمنا فيه خير ، وإذا كان عند الإحرام قال : لبيك عن فلان وفي سائر المواقف يقول : اللهم تقبل عن فلان . واقضوا عنه النذور والصيام والدين ، وحق من قضى عن رحمه إن كان مؤمنا .
ومن صلة ذوي الرحم بعد موتهما الدعاء لهما.قال صلي الله عليه وسلم : "إذا مات الإنسـان انقطع عمله إلا من ثلاث: إلا من صدقة جارية، وعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " ونقل أيضا أنه سأله رجل من بني سلمه : فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما . وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما هي : صلة الجد والجدة والعمات والخالات والأخوات والإخوة وأبناء العمات والخالات وباقي دوي القربى والأرحام.وروى البيهقي في كتاب الشهادات من سننه... عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثٌُُ من كن فيه حاسبه اللهُ حسابا يسيراً وأدخله الجنةَ برحمته . قالوا: ما هن يا رسول الله ؟ قال : تعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وتصل من قطعك ...قال: فإذا فعلت ذلك فما لي يا رسول الله ؟ قال : أن تحاسب حسابا يسيرا ويدخلك الله الجنة برحمته . وروى عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها .
وعن أبي بردة قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله ابن عمر فقال: أتدري لما أتيتك؟ قال: قلت: لا. قال: سمعت رسول الله يقول: "من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده ". وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاءٌ وودّ، فأحببت أن أصل ذاك.
سأل ابن مسعود رسول الله قائلاً : أي العمل أحب إلى الله ?‏ فأجاب الرسول : "الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال : بر الوالدين قلت ثم أي : قال : الجهاد في سبيل الله ‏".
عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن رسول الله قال: "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن الخمر، والمنان. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث (الذي يقر الخبث في أهله)، والرجلة "
.إن كل ما سبق يوضح ليس فقط أهمية صلة الرحم في الدين الإسلامي ولكن أيضـا لم تم التعبير عنها بلفظ الصلاة؟ ولم هي أيضا الصلاة الوسطي التي أمرنا الله بالمحافظة عليها ؟.
وصلة الرحم تمثل علاقات الأسرة بالمجتمع ويمكن كما فلت أن تمتد لتشمل الأمة كلها ، خاصة تلك التي تجمعها رقعة جعرافية واسعة مثل شغوب شمال أفريقيا حول الصحراء الكبرى من البحر الأحمر حتي المحيط الأطلسي ومنإريتريا و أثيوبيا والسودان ومصر شرفا حتي عينياوالسنغال والمغرب غربا ، فالتاريخ يشهد أن الدماء قد اختلطت على مدي قرون بين سكانها مشكلة نطاقا واسعا من صلات الرحم . كما يشهد الكثيرمن التاريخ الشفهي لدي للعديد من القبائل الكبرى بأنها هجرات من مصر القديمة ,مونفس الشييء حدث بين سكان شمال أفريقيا وشرق المتوسط والبحر الأحمر والتي تمثل قلب العالم المسلم وبين تلك المنطقة الوسطي وبين أواسط أسيا وجنوبها. بما يجعل صلات الرحم تشمل العالم المسلم بأكملة. إلا أن صلة الرحم تظل أقوي وأوسع نطاقا بين شعوب شمال أفريقيا ، المسلمة منها وغير المسلمة . كما يضم شعوب أفريقيا مجالا جغرافيا واحدا متصلا يمثل في نفس الوقت عمقا استراتيجيا لكل دولة قائمة فيه حاليا يؤمن أمنا وفرص تنمية إقتصادية وإنسانية أفضل.

ولقد وحد الدين الإسلامي بين الأسس التي تقوم عليها الأسرة وبين الأسس التي تقوم عليها الأمـة عندما أوضح أن كل منهما يقوم على المودة والرحمة , وهو ما يستوجب أن تقوم المعاملات داخل الأمة على نسق العلاقات داخل أفراد الأسرة الواحدة القائمة على ذكر وأنثي .

لقد أدركت الدول الغير مسلمة في شرق آسيا أهمية نظام وكيف يمكن مد فلسفته إلى تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية بناء على ما تضمنته الفلسفة الكونفوشيوسية والبوذية من اهتمام بالأسرة والإعلاء من شأنها وهو ما نجده أيضا في ديننا دون أن نستفيد منه , وكان من نتيجة ذلك أن حققت الدول قي شرق آسيا خاصة اليابان والصين تقدما إقتصاديا وعلميا خلال سنوات قليلة نسبيا ومازالت الصين تواصل تقدمها باطراد,ولقد أن الأوان أن نستلهم قيم ديننا وأن نستفيد ممن جربوا مثل مالدينا في ديننا من قيم في الدول والشعوب الأخرى لكي يتحقق لنا ما تحقق لهم .

من نظام الأسرة وقيمها وفلسفتها ومن مفهوم صلة الرحم الواسع النطاق يمكن أن تعمل شعوب شمال أفريقيا معا لبناء مستقبل أقضل لشبيبتها ، ذكورا وإناثا، ولأجيالها القادمة أن جمع بينها مخططا تنمويا واحدا يتم تنفيذه بتعبئة وبأرادة الشعوب وليس وفق رغبة حكام الدول ومشيئتها وبدون أن تعبأ باختلاف أنظمة الحكم التي يمكن أن تظل على حالها . وبدون أن تدخل في ضراع مع أنظمة الحكم المستبدة أو تتعرض لأدوات قمعها الغاشمة,

No comments: