Saturday, December 13, 2008

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى الحزء السابع عن صفات المؤمنين

المؤمنون في سورة الأنفال :

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ
إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ *
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ *وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ
وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ "(الأنفال 1-8) .

نزلت سورة الآنفال في شأن غزوة بدر وكان بعض المؤمنين غير مقتنعين على ما يبدو من الأيات الكريمة السابقة بضرورة التصدي لمشركي قريش والدخول في حرب مبكرة معهم قبل أن تزداد قوة المسلمين ، خاصة
وأن قرار الحرب إتخذ فجأة وقبل تمهيد له واستعداد المسلمين للحرب عددا وعدة، وجادلوا النبي في ذلك . وكان جدالهم ممارسة لحقهم في أبداء الرأي فيما يرونه في صالح الجماعة , ولم يكن جدالهم دليل على نقص في ايمانهم أو خروج عن طاعة الرسول لأنهم في النهاية انصاعوا لأمره ، وبذلك لم يكن الجدل ليخرجهم عن إيمانهم باللله ورسوله . وإنما يعيب الله عليهم جدالهم في الحق بعد أن تبين لهم ، أي بعد أ، علموا أن الله هو الذي يريد منهم بدأ الحرب مع الكافرين .وهم وإن أطاعوا الله ورسوله في نهاية الأمر إلا أن بعضهم خرجوا وهم كارهون لعدم اقتناعهم بإمكانية أن يتحقق لهم النصر وهم ما زالوا قلة وعدوهم كثير العدد بالنسبة لهم ، وهو ما جعل المعركة بالنسبة لهم وكأن من شأنها أن تسوقهم إلي الموت وهم ناظرون.ويعلق الشهيد سيد قطب على هذه الآية فيقول: "هذا ما أرادته العصبة المسلمة لأنفسها يومذاك، أما ما أراده الله لهم، وبهم، فكان أمرًا آخر: . وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ، لقد أراد الله- وله الفضل والمنة- أن تكون ملحمة لا غنيمة؛ وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أن يقطع دابر الكافرين، فيقتل منهم من يقتل، ويؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضع شوكتهم، وتعلو راية الإسلام، وتعلو معها كلمة الله، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق، لا عن جزاف تعالى الله عن الجزاف وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال.
ويقول د. أحمد عبد الخالق : نعم؛ أراد الله للعصبة المسلمة أن تصبح أمة، وأن تصبح دولة، وأن يصبح لها قوة وسلطان. وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها، فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها!
وأن تعلم أن النصـر ليس بالعدد وليس بالعدة، وليس بالمال والخيل والزاد، إنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله، التي لا تقف لها قوة العباد. وأن يكون هذا كله عن تجربة واقعية، لا عن مجرد تصور واعتقاد قلبي.
ذلك لتتزود العصبة المسلمة من هذه التجربة الواقعية لمستقبلها كله، ولتوقن كل عصبة مسلمة أنها تملك في كل زمان وفي كل مكان أن تغلب خصومها وأعداءها مهما تكن هي من القلة، ويكن عدوها من الكثرة، ومهما تكن
هي من ضعف العدة المادية، ويكن عدوها من الاستعداد والعتاد، وما كانت هذه الحقيقة، لتستقر في القلوب كما استقرت بالمعركة الفاصلة بين قوة الإيمان وقوة الطغيان. (...)وإذا كان الله تعالى، قد فرض عليهم المعركة، فإنهم لا بد لهم من اللجوء إليه، كي يمكنهم من رقاب عدوهم، وما كان الله تعالى ليخذلهم مع عدوهم، وهو سبحانه وتعالى يعلم ضعفهم وقلة عددهم وعتادهم، فما كان من الله تعالى، إلا أنه أغاثهم، حين استغاثوا به وأمدهم بألف من الملائكة، مع أن ملكًا واحدًا كفيل بحسم المعركة لصالح الرسـول- صـلى الله عليه وسلم- وأصحابه بأمر الله تعالى، لكن الله تعالى أنزل ألفًا من الملائكة، ليكون ذلك بشرى للمؤمنين بالنصر، وليطمئنوا
إلى أن هناك من يقاتل معهم، وخاصة إذا كان من يقاتلون معهم أقوياء، وأن عددهم بالملائكة قد صار أكثر من عدد عدوهم، ومع كل ذلك، فإن النصر ليس بالكثرة، وأن الهزيمة ليست بالقلة، ولكن النصر بيد الله تعالى وبقوته
وسلطانه، وهو سبحانه إذا أراد أمرًا هيأ له الأسباب. "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَـاهُ أَنْ نَـقُولَ لَـهُ كُنْ فَيَـكُونُ "" (النحل) وتأمل هذه الآيات البينات.. قال تعالى: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ " وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ "(الأنفال)، ِ"إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ " (الأنفال)، ويعلق الشهيد سيد قطب على ذلكم المدد الرباني للمؤمنين في هذه الغزوة فيقول: أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة، لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره. لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلة في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته، فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم، والطمأنينة تفيض على قلوبهم "وهكذا كان يوم أحد، تكرر الفزع، وتكرر النعاس، وتكررت الطمأنينة". (...)أما قصـة الماء: "وَيُنَزِّلُ عَلَيْـكُمْ مِـنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ" فهي قصة مدد آخر من أمداد الله للعصبة المسلمة، قبيل المعركة.
قال علي بن طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة وعصة، وأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين؟ فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- بألف من الملائكة، فكان جبريل في خمسمائة مجنبة، وميكائيل في خمسمائة مجنبة".
ويأتي موقف آخر من مواقف التأييد الإلهي للمؤمنين، موقف تتجلى في عظمة المولى سبحانه وتعالى، إنه ذلكم ما أوحى الله به إلى الملائكة من تثبيت الذين آمنوا، وإلى ما وعد به من إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا، وإلى ما أمر به الملائكة من الاشتراك الفعلي في المعركة: "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُـمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُـوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَـانٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ " (الأنفال 12-14).
لذا جاءت الأيات لتوضح لهم الصفات التي يجب أن يتصـف بها المؤمنون وهي التقوى والوحدة في الكلمة والصف والتي تعتمد على مبدأ أن المؤمنون إخوة وبجب عليهم المبادرة إلى تسوية خلافاتهم وإصلاح ذات البين
بينهم وطاعة الله ورسوله والخشوع عند سماع كلمات الله وأن يزدادوا إيمانا عندما تتلي عليهم آيات الله ويتوكلون على الله ويقيمون الصـلاة وينفقون في سبيل الله مما رزقهم ويجاهدون في سبيل الله التماسا للقوة وإحقاق الحق وقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. والمجرمون هنا هم المشركون الذين لم يكتفوا بكفرهم وإنما جمعوا بين الكفر وأيذاء المؤمنين والاستيلاء على ممتلكاتهم وأموالهم ظلما وعدوانا.
هذه الصفات والسلوكيات التي يجب أن يتحلي بها المؤمنون هي التي نستعرضها هنا واحدة تلو الأخرى.
وغزوة بدر هي أول غزوة بعد الهجرة ، وإقامة الدولة الإسلامية في يثرب التي أضحي إسمها المدينة بعد هجرة الرسول المؤمنون من مكة أليها.وتمت في منتصف شهر رمضان المبارك.
ويعلق الأستاذ سيد قطب رحمه الله على ما جاء في السورة من صفات المؤمنين قائلا: « فلا بد للإيمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها، ليثبت وجوده، ويترجم عن حقيقته. وكما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل " ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيراً في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولتعريف الإيمان وتحديده؛ وإخراجه من أن يكون كلمة تقال باللسان، أو تمنياً لا واقعية له في عالم العمل والواقع.
ثم يعقب بتقرير صفات الإيمان " الحق " كما يريده رب هذا الدين؛ ليحدد لهم ما يعنيه قوله تعالى: " إن كنتم مؤمنين".. فها هو ذا الإيمان الذي يريده منهم رب هذا الدين:
" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون. الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم "..
إن التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي. وفي العبارة هنا قصر بلفظ: " إنما ". وليس هنالك مبرر لتأويله - وفيه هذا الجزم الدقيق - ليقال: إن المقصود هو " الإيمان الكامل "! فلو شاء الله - سبحانه - أن يقول هذا لقاله. إنما هو تعبير محدد دقيق الدلالة. إن هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون. فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين. والتوكيد في آخر الآيات: " أولئك هم المؤمنون حقاً " يقرر هذه الحقيقة. فغير المؤمنين " حقاً " لا يكونون مؤمنين أصلاً.. والتعبيرات القرآنية يفسر بعضها بعضاً. والله يقول: فماذا بعد الحق إلا الضلال .فما لم يكن حقاً فهو الضلال. وليس المقابل لوصف:« المؤمنون حقاً “ هو المؤمنون إيماناً غير كامل! ولا يجوز أن يصبح التعبير القرآني الدقيق عرضة لمثل هذه التأويلات المميعة لكل تصور ولكل تعبير!.
لذلك كان السلف يعرفون من هذه الآيات أن من لم يجد في نفسه وعمله هذه الصفات لم يجد الإيمان، ولم يكن مؤمناً أصلاً.. جاء في تفسير ابن كثير: قال علي ابن طلحة عن ابن عباس، في قوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم قال: المنافقون: لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون، ولا يصلون إذا غابوا (أي عن أعين الناس) ولا يؤدون زكاة أموالهم فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين. ثم وصف الله المؤمنين فقال: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فأدوا فرائضه. وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً يقول: زادتهم تصديقاً، وعلى ربهم يتوكلون يقول: لا يرجون غيره.وسنرى من طبيعة هذه الصفات أنه لا يمكن أن يقوم بدونها الإيمان أصلاً؛ وأن الأمر فيها ليس أمر كمال الإيمان أو نقصه؛ إنما هو أمر وجود الإيمان أو عدمه.

" إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون "
ومن ذلك قول أحد الصحابة - رضوان الله عليهم -: كنا نؤتى الإيمان قبل أن نؤتى القرآن..وبهذا الإيمان كانوا يجدون في القرآن ذلك المذاق الخاص، يساعدهم عليه ذلك الجو الذي كانوا يتنسمونه؛ وهم يعيشون القرآن فعلاً وواقعاً؛ ولا يزاولونه مجرد تذوق وإدراك! وفي الروايات الواردة في نزول الآية قول سعد بن مالك وقد طلب أن ينفله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف، قبل أن ينزل القرآن الذي يرد ملكية الأنفال للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيتصرف فيها بما يريد.
وقد قال له: " إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه " فلما نودي سعد من ورائه بعد وضعه السيف وانصرافه، توقع أن يكون الله - سبحانه - قد أنزل فيه شيئاً؛ قال: " قلت: قد أنزل الله فيّ شيئاً " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كنت سألتني السيف وهو ليس لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك " . فهكذا كانوا يعيشون مع ربهم، ومع هذا القرآن الذي يتنزل عليهم. وهو شيء هائل. وهي فترة عجيبة في حياة البشر. ومن ثم كانوا يتذوقون القرآن هذا التذوق.. كما أَن قيامهم بالحركة الواقعية في ظل التوجيهات القرآنية المباشرة كان يجعل التفاعل مع هذا التذوق مضاعفاً.. وإذا كانت الأولى لا تتكرر في حياة البشر؛ فإن هذه الثانية تتكرر كلما قامت في الأرض عصبة مؤمنة تحاول بالحركة أن تنشئ هذا الدين في واقع الناس كما كانت الجماعة المسلمة الأولى تنشئه.. وهذه العصبة المؤمنة التي تتحرك بهذا القرآن لإعادة إنشاء هذا الدين في واقع الناس هي التي تتذوق هذا القرآن؛ وتجد في تلاوته ما يزيد قلوبها إيماناً؛ لأنها ابتداء مؤمنة. الدين عندها هو الحركة لإقامة هذا الدين بعد الجاهلية التي عادت فطغت على الأرض جميعاً! وليس الإيمان عندها بالتمني، لكن ما وقر في القلب وصدقه العمل!
" وعلى ربهم يتوكلون "..
عليه وحده.. كما يفيده بناء العبارة. لا يشركون معه أحداً يستعينون به ويتوكلون عليه.. أو كما عقب عليها الإمام ابن كثير في التفسير: " أي لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك لا شريك له ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب، ولهذا قال سعيد ابن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان "..
وهذا هو إخلاص الاعتقاد بوحدانية الله؛ وإخلاص العبادة له دون سواه فما يمكن أن يجتمع في قلب واحد، توحيد الله والتوكل على أحد معه سبحانه. والذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد أو على سبب يجب أن يبحثوا ابتداء في قلوبهم عن الإيمان بالله!
وليس الاتكال على الله وحده بمانع من اتخاذ الأسباب. فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما يأمر به من اتخاذها؛ ولكنه لا يجعل الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها. إن الذي ينشئ النتائج - كما ينشئ الأسباب - هو قدر الله. ولا علاقة بين السبب والنتيجة في شعور المؤمن.. اتخاذ السبب عبادة بالطاعة.
وتحقق النتيجة قدر من الله مستقل عن السبب لا يقدر عليه إلا الله.. وبذلك يتحرر شعور المؤمن من التعبد للأسباب والتعلق بها؛ وفي الوقت ذاته هو يستوفيها بقدر طاقته لينال ثواب طاعة الله في استيفائها.
ولقد ظلت الجاهلية " العلمية! " الحديثة تلج فيما تسميه " حتمية القوانين الطبيعية ". ذلك لتنفي " قدر الله " وتنفي " غيب الله ". حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها، أمام غيب الله وقدر الله وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي! ولجأت إلى نظرية " الاحتمالات " في عالم المادة. فكل ما كان حتمياً صار احتمالياً. وبقي " الغيب " سراً مختوماً. وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة؛ وبقي قول الله - سبحانه -
" لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً "
هو القانون الحتمي الوحيد، الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الإلهية من وراء القوانين الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون، بقدره النافذ الطليق!,

يقول سير جيمس جينز الإنجليزي الأستاذ في الطبيعيات والرياضيات:" لقد كان العلم القديم يقرر تقرير الواثق، أن الطبيعة لا تستطيع أن تسلك إلا طريقاً واحداً، وهو الطريق الذي رسم من قبل لتسير فيه من بداية الزمن إلى نهايته، وفي تسلسل مستمر بين علة ومعلول، وأن لا مناص من أن الحالة (أ) تتبعها الحالة (ب). أما العلم الحديث فكل ما يتسطيع أن يقوله حتى الآن، هو أن الحالة (أ) يحتمل أن تتبعها الحالة (ب) أو (ج) أو (د) أو غيرها من الحالات الأخرى التي يخطئها الحصر. نعم إن في استطاعته أن يقول: إن حدوث الحالة (ب) أكثر احتمالاً من حدوث الحالة (ج) وإن الحالة (ج) أكثر احتمالا من (د)... وهكذا. بل إن في مقدوره أن يحدد درجة احتمال كل حالة من الحالات (ب) و (ج) و (د) بعضها بالنسبة إلى بعض. ولكنه لا يستطيع أن يتنبأ عن يقين: أي الحالات تتبع الأخرى. لأنه يتحدث دائماً عما يحتمل. أما ما يجب أن يحدث، فأمره موكول إلى الأقدار. مهما تكن حقيقة هذه الأقدار "
ومتى تخلص القلب من ضغط الأسباب الظاهرة، لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء، وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث. وهو وحده الحقيقة المستيقنة. والأسباب الظاهرة لا تنشئ إلا احتمالات ظنية!.. وهذه هي النقلة الضخمة التي ينقلها الاعتقاد الإسلامي للقلب البشري - وللعقل البشري أيضاً - النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل إلى أولى مراحلها من الناحية العقلية؛ ولم تصل إلى شيء منها في الناحية الشعورية، وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامع مع قدر الله؛ والتعامل مع الأسباب والقوى الظاهرية!.
إنها نقلة التحرر العقلي، والتحرر الشعوري، والتحرر السياسي، والتحرر الاجتماعي، والتحرر الأخلاقي... آخر أشكال التحرر وأوضاعه... وما يمكن أن يتحرر " الإنسان " أصلاً إذا بقي عبداً للأسباب " الحتمية " وما وراءها من عبوديته لإرادة الناس. أو عبوديته لإرادة (الطبيعة!) فكل " حتمية " غير إرادة الله وقدره، هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره.. ومن ثم هذا التوكيد على التوكل على الله وحده، واعتباره شرطاً لوجود الإيمان أو عدمه.. والتصور الاعتقادي في الإسلام كل متكامل. ثم هو بدوره كل متكامل مع الصورة الواقعية التي يريدها هذا الدين لحياة الناس.»

1- التقوي
أصل التقوي في اللغة " اتقى، يتقي " ومعناها احتمى بشيء من شيء. أما معناها المستعمل في الدين هو خشية عصيان أمر الله سبحانه وتعالي والالتزام بطاعته.قال ابن عباس رضي الله عنهما: “المتقون: الذين يحذرون من الله وعقوبته ».
وأمر الله بها:قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون". قال تعالى:« وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]وقال عز وجل: "وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا " (النسـاء:131) والتقوي من البر ، أي أنها تجمع بين الإيمان والإحسان وحسـن الاعتقاد والعمل الصالح ، قال تعالي :"وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [ البقرة: 189].ويامر الله بالتقوى في العديد من أيات الذكر الحكيم : فيقول تعالى : "قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم" ( الزمر: 10) وفي قوله سبحانه "وَتَزَوَّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُـونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ"(البقرة:197), و قال عز من قائل : "وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ "( الأعراف : 26 ) ووصانا بها الله كما وصي بها من قبل أهل الكتاب ، لقوله تعالي:"وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِيـنَ أُوتُواْ الْكِتَـابَ مِن قَبْلِكُـمْ وَإِيَّــاكُمْ أَنِ اتَّقُــواْ اللّهَ"( النساء : 131 ).
وقال صلى الله عليه وسلم :" عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير ".وقال أيضا في خطبته خلال حجة الوداع :" اتقوا ربكم وصلّوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم، تدخلوا جنة ربكم ".وتقوى الله هي أساس التفاضل بين المسلمين وليس حسبهم ونسبهم ومالهم وسطوتهم،وهي ميزان تفضيل المؤمنين عند الله في الآخرة حيث ترتب منازلهم لديه حسب تقواهم . وجعل الله معيار التفضيل للمؤمنين تقواهم ، فقال تعالي: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" ( الحجرات : 13 ).ويقول الرسول صلي الله عليه وسلم :" المسلمون كأسنان المشط (متساوون مثله) لافضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله:« أما بعد... فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل الذي لا بد لك من لقائه، ولا منهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة ».
ويقول أحد مراجع الشيعة : المدرسي: التنافس في ذلك المجتمع (مجتمع الإيمان )يتركز دائم حول القيم المعنوية كالعلم وتهذيب النفس والعمل الصالح ، وهي قيم تمتاز بانها غير محدودة وتودي الي سمو في قيمة
المجتمع وتماسك في طبقاتة ، حيث يتنافس الناس في الاعمال الخيرة كتاليف الكتب ، وتزكية النشا، وتاسيس الاجهزة الاعلامية الصادقة كالصحافة والاذاعة والتلفزيون ، او كانشاء المرافق الضرورية مثل المدارس
والمساجد والمستشفيات والمصانع .

وتقوي المؤمنين تعود عليهم بالخير العميم في الدنيا والآخرة ،وللمتقين عند ربهم متزلة عليه ومقام كريم ،كما يتبين مما يلي :
1 – التقوى سببا للرزق والتمكين في الأرض :قال تعالى : "وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى" (طه:132 ) وقال تعالى : "إِنَّ الأَرْضَ لِلّـهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِـنْ عِبَـادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ" ( الأعراف: 128)

2 –التقوي سبيل تحصيل العلم بعون الله تعالي لطالبه قال تعالى : "وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ "(البقرة:182).

3 – بالتقوي تنجلي البصيرة ،وقال سبحانه : "فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُـلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" [ الحج : 46 ] وفي ذا ت المعني يقول تعالى : "يَا أَيُّهَا الَّذِيـنَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُـمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ”( الحديد : 28 ) .

4 – يحظي التقي برعاية دائمة من الله ويجده معه ذائما إينما كان ، وفي أية حال .يقول تعالي : “إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ” ( النحل : 128) ويقول:”إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ” ( النحل : 128 ) قال تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ (الحديد:4) وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا” [المجادلة:7]. قال تعالى: «  لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا “(التوبة:40). وقال تعالى: “لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى « [طه:46]. ، قال تعالى: » إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ” (النحل:6) وقال تعالى: “وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ” [لبقرة:194].

5 – إن أولياء الله هم المتقون، والله وليهم وناصرهم :”إِن أَوْلِيَــآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّـقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْـثَرَهُمْ لاَ يَعْلَـمُونَ” (الأنفال : 34 ).وقال تعالى: “وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ” [الجاثية:19].وقال تعالى: “أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ” [يونس:63،62

6 – إن التقوى: سببٌ لقبول الأعمال وللفوزبرضي الله ودخول الجنة والنجاة من نار عذابه يوم القيامه قال تعالى:”إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ” (المائدة:27).و قال تعالى: “وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ “هُمُ الْفَائِزُونَ” (النور:52).وقال تعالى:« وَإِن مِّنـكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَـانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا”(مريم:72،71). وقال تعالى: “وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى” (الليل:17)..وقال تعالي : “فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ»( الأعراف : 35 )و قال تعالى: “وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ” (الزمر:61).و قال تعالى: “تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا” (مريم:63)وقال: إن المتقين: لهم في الجنة غُرفٌ مبنيةٌ من فوقها غُرف، قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْـدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (الزمر:20) .قال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (آل عمران:133). وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (المائدة:65).و قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ “(النحل:31).وقال عز وجل”مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ” ( الرعد : 35 ), وقال عز من قائل : “وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ” ( آل عمران : 133 ) . وقال تعالى : “تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّا” ( مريم : 63 ), والتقوى سبيل التمتع بنعيم الجنة قال تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (المرسلات:41-43).
وإن لهم مقاماً أميناً وجناتٍ وعيوناً.. إلخ - كما قال تعالى«: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَـامٍ أَمِيـنٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ »(الدخان:51-56).
وإنه لهم مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال تعالى:« إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ «([القمر:55،54) .
و قال تعالى: “مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ “ (محمد:15).
وفي الحديث: أن النبي قال: « إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن».

7- سبب لتعظيم شعائر الله، قال تعالى: وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ (الحج:32) .

8- وهي سبيل اليسـر بمشيئة الله ، قال تعالى:"وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا "(الطلاق:4)، وقال تعالى: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى [الليل:5 -7].

9- وتقي من مس الشبطان ، قال تعالي :"إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ "(الأعراف:201).

10- جالبة للرزق والبركة فيه ، قال تعالى: قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ "(الأعراف:96).

11- تمكن المؤمن من التفرقة بين الحق والباطل :قال تعالى: "يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً.َيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ" (الأنفال:29) وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ(الحديد:28)

12- سببا للفرج بعد الضيق ، قال تعالى:"وَمَن يَتَّـقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّـهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ "(الطلاق:3،2]

13- منجاة من كيد الكافرين ، قال تعالي:"وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا" (آل عمران:120).

14- تعين على النصر في المعارك ، قال تعالى:" وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ "* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ * بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ(آل عمران:123-125).وقوله:""وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ "(آل عمران:126).

15- إنها سبب لصلاح الأعمال ، ومغفرة الذنوب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ(الأحزاب:71،70).

16- سبب لتهذيب السلوك :قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى (الحجرات:2) .

17-إن التقوى: سبب لنيل محبة الله عز وجل وهذه المحبة تكون في الدنيا كما تكون في الآخرة، كما قال في الحديث القدسي من الله عز وجل: « ما تقرّب إليّ عبدٌ بشيء بأفضل مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصـره الذي يبصـر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه “ قال تعالى: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (آل عمران:76).

18- إن التقوى: تحول دون الزيغ، والضلال بعد الهداية، قال تعالى: وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «(.الأنعام:153).

19- إن التقوى: سبيل الحصـو ل على رحمة الله، في الدنيا و الآخرة، قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (الأعراف:156).،

20- إن حسن العاقبة للمتقين ، قال تعالى: وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (طه:46)، وقال تعالى: وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (ص:49)، وقال تعالى: “إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ »(هود:49).

21- إن للمؤمنين البشرى في الآخرة بألا يحزنهم الفزع لأكبر، وتلقى الملائكة لهم قال تعالى:« الَّذِيـنَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ »(يونس:64،63).
وقال الامام أحمد عن أبي الدرداء عن النبي في قوله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا قال: ( الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو تُرى له ).
وعن أبي ذر الغفاري أنه قال: يا رسول الله، الرجل يعمل العمل، ويحمده الناس عليه، ويثنون عليه به فقال رسول الله : « تلك عاجل بشرى المؤمن “.
و قال تعالى :« أَلا إِنَّ أَوْلِيَـاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِـمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ «(يونس:62-64) .قال ابن كثير: وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى:" لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ “ ( الأنبياء:103 ).
لهم نعم الدار، قال تعالى:« وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ” [النحل:30].
تضاعف أجورهم وحسناتهم، كما قال تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِيـنَ آمَنُوا اتَّقُـوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ "[الحديد:28]. كفلين: أي أجرين.
قال تعالى:« زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ” [البقرة:212].

22- إن التقوى: تدفع إلى عدم الخضوع في القول لمن في قلوبهم مرض، قال تعالى: يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا [الأحزاب:32].

23-إن التقوى:تمنع الجور في الوصيةوالتزام العدل وشرع الله فيها، قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].

24- إن التقوى: بسببها يتم إعطاء المطلقة متعتها الواجبة لها،بما يرضي الله ويرضيها ، والحفاظ علي المعروف والمودة والرحم ، قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241].
إن التقوى: يجازي الله عليها في الدنيا والآخرة، قال تعالى بعد أن منّ على يوسف عليه السلام بجمع شمله مع إخوته: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].

25- إن التقوى: سبيل الاهتداء بما جاء في كتاب الله. قال تعالى: ألم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (البقرة:2،1).وهي سببٌ للتكفير من السيئات، والعفو عن الزلات قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (الطلاق:5)، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ (المائدة:65).

26- إإن المتقين مكرمون يوم الحشر ، قال تعالى:« يَـوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِـينَ إِلَى الرَّحْـمَنِ وَفْدًا »(مريم:85).وقال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (الشعراء:90)، وقال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (ق:21).
قال ابن كثير: عن النعمان بن سعيد قال: « كنا جلوساً عند علي فقرأ هذه الآية: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا.. قال: لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة ».
وفي الحديث: « إن في الجنة لغرفاً يرى باطنها من ظهرها، وظهرها من بطنها “ فقال أعرابي: لمن هذا يا رسول الله؟ قال :« لمن أطاب الكلام، وأطعم الطعام، وصلّى بالليل والناس نيام ».

27- إنها سبب لصلاح الأعمال ، ومغفرة الذنوب، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ »(الأحزاب:71،70).

29- إن التقوى: تحول دون الزيغ، والضلال بعد الهداية، قال تعالى: “وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .”(الأنعام:153).

30- إن التقوى: سبيل الحصـو ل على رحمة الله، في الدنيا و الآخرة، قال تعالى :« وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ » (الأعراف:156).و قال تعالى: "أَمْ نَـجْعَلُ الَّذِيـنَ آمَنُوا وَعَمِلُـوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ "(ص:28).

إصلاح ذات البين:
قيل : المراد بذات البين المخاصمة والمهاجرة بين اثنين بحيث يحصل بينهما بين أي فرقة , والبين من الأضداد الوصل والفرق . وإصلاح ذات البين هو مصالحة من شجر بينهما خلاف فملأ قلبيهما بغضا للآخر لكي تطهر قلوبهما من الكراهية وتعود المحبة لتحتل مكانها الذي كانت فيه قبل أن تزيلها الكراهية منه وتحل محلها.حيث أن فساد ذات البين كما وصفه رسول الله : "هي الحارقة" .ولذا كان الصلح من أعما الخير فقال تعالى " فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما والصلح خير "والأية هنا تتحدث عن زوجين حدث بينهما شقاق ولكنها تنطبق على كل
حالة يتم فيها إصلاح ما بين مؤمنين بينهما خصومة.
والمودة والصلاة الطيبة هي ميزة مجتمع المؤمنين وفضيلته التي لايجب عليه التخلي عنه بسبب خلافات عارضة ، أيا كان سببها ، قال تعالي " الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ "(الزخرف:67).
قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم ( ألا أخبركم بأفضـل من درجة الصيام والصـدقة والصـلاة " أي درجة الصيام النافلة وصدقة نافلة والصلاة النافلة " ، فقال أبو الدرداء : قلنا بلى يا رسول الله ، قال : إصلاح ذات البين ) ..ونشوب خلاف بين اثنين من المؤمنين جعلهما يتباعدان بعد أن غضب كل منهما من الأخر أمر محتمل الحدوث دائما في الحياة وقد ينتج عن سوء فهم أو سوء تقدير لموقف ما أو تأويل خاطئ له أو بسبب وشاية أو نبأ كاذب مشى به لأحدهما فاسق فصـدفه دون أن يتبين حقيقته ونسـي قوله تعالي : "يأيها الذين لآمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ي، أن تصيبوا قوما بجهال،فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".وقد ينتهي الخلاف إذا ما تدخل طرف صالح ثالث ، فرد أو فردين أو جماعة للصلح بينهما طاعة لأمر الله :قال تعالى:”فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون”(الحجرات:10.) ، و"إن أرادا إصلاحا يوفق الله بينهما"، وقد لا يحتاجا إلى وساطة فيشعر أحدهما أنه أخطأ فيقال بادر إلى الاعذار عن خطئه لأخيه ، أو يشعر بأنه احتد عليه فتسبب في غضبه وتأزم ما بينهما فيسارع الى تطيبة خاطره واستعادة ما كان بينهما من محبة ومودة ، دون حاجة لتدخل أي طرف خارجي.وقال تعالى:"ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ".أو حتي يكون خصمه هو من أخطأ في حقه فيبادر هو إلى مسامحته والعفو عن خطئه . ومن كان صاحب حق فيكفي أن يجيئه أخوه معتذرا، وعليه أن يقبل اعتذاره وينهي الخصومة، ويحرم عليه أن يرده ويرفض اعتذاره. وينذر النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك بأنه لن يرد عليه الحوض يوم القيامة.قال رسول الله :" وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً وثمة حديث مرفوع لرسول االله يقول فيه : " تُفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيُغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء .. فيقال : انظروا هذين حتى يصطلحا .. انظروا هذين حتى يصطلحا .. انظروا هذين حتى يصطلحا "، .
لا يحل لمسلم أن يهجر مسلماً ومن هنا حرم الإسلام على المسلم أن يجفو أخاه المسلم، ويقاطعه، ويعرض عنه، ولم يرخص للمتشاحنين إلا في ثلاثة أيام حتى تهدأ ثائرتهما، ثم عليهما أن يسعيا للصلح والصفاء والاستعلاء على نوازع الكبر والغضب والخصومة، فمن الصفات الممدوحة في القرآن “أذلة على المؤمنين” ( المائدة:54).
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم، وخرج المسلم من الهجر".
وتتأكد حرمة القطيعة إذا كانت لذي رحم أوجب الإسلام صلته، وأكد وجوبها ورعاية حرمتها. قال تعالى: “واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً”( سورة النساء: 1.)
وصور الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصلة ومبلغ قيمتها عند الله فقال: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله". وقال: "لا يدخل الجنة قاطع". فسره بعض العلماء بقاطع الرحم، وفسره آخرون بقاطع الطريق فكأنهما بمنزلة واحدة.
لقد ذهب العديد ممن كتبوا عن “إصلاح ذات البين” إلى التركيز على الإصلاح بين الزوجين أو بين فرد مسلم وأخ مسلم له ، ولم يهتموا بإصلاح جماعة مسلمة على جماعة أخرى مختلفة معها . ولم ينتبهوا إلى أن قوله تعالي :« وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ “ذات طابع جماعي .
وإصلاح ذات البين وهو عمل في حقيقة الأمر من أعمال الإحسـان ، وعلاقته بالإيمان هو أنه يجب أن يكون الإيمان هو الدافع أليه . أي أن يكون المتصدون للآصلاح يتوفرون على النية الخالصـة الصـادقة ، وأن يكون عملهم الإحساني فيه يتوخون فيه رضي الله عليهم . ولقد تشكلت لجان لأصلاح ذات البين بين إيران والعراق عندما نشبت الحرب بينهما من قبل الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي ،وفشلت هذه اللجان في تحقيق المصالحة واستمرت الحرب وسقط بسببها عشرات الألاف من مسلمي الجانبين بين قتيل وجريح ومعوق، وكان أشخاص يحرصون على وجودهم ضمن تللك اللجان بدعوى علاقتهم الطيبة بالطرفين وتحوم حولهم شبهات الأن بأن حرصهم على التواجد فيها كان هدفه على ما يبدومنع هذه اللجان من تحقيق المصالحة وإطالة الحرب بين البلدين. قد تكون هذه الشبهات صحيحة وقد لا تكون ، ولكن لو أرادوا بالفعل إصلاحا لوفقهم الله في مهمتهم وتم حقن دماء المسلمين وتقليل الخسائر. وما لجأ صدام حسين لاحتلال الكويت لتعويض خسارته ، وكان بعده ما كان.
إن الذي يتصدى لإصلاح ذات البين بين الناس عليه أن يكون قد أصلح قساد نفسه أولا قبل أن يشرع في أصلاح غيره وأن تتوافر فيه شروط الشاهد العدل والحكم العدل من صدق وأمانة وحسن خلق وسمعة طيبة.والذي يعجز عن إصلاح فساد نفسه ليس بمقدوره أن يصلح فساد الآخرين.
تحدث الخصومة والفرقة عندما يعتزل فريق من الناس فريقا أخر ، وتبدأ المصالحة بينهما بأن يخف فريق ثالث مصلح يعمل على ضمهم لبعض وإعادة ما كانوا عليه من وحدة ومحبة مستعينين في مسعاهم بالله سبحانه وتعالي ومحكمين في الخصومة كتاب الله وسنة رسوله وإلزام المتخاصمين بهما، فإصلاح ذات البين يعني: صيانة الألفة والمحبّة من خلال إدامتهما ومعالجة أيّ شرخ ممكن حدوثه قبل اتّساعه مهما كان حجمه سواء بين الإخوة، أو الزوج والزوجة، أو الأصدقاءأو الأب وابنه أو الأم وابنها أو ابنتها أو زوجة ابنها أو زوج ابنتها أو غير ذلك .
و تحقيق المصالحة الجماعية أهم من تحقيق المصالحات الفردية وكلاهما واجب ومطلوب ، لأن المصالحات الجماعية هي التي تحقق وحدة الأمة وهي أحدى مقاصد الشريعة الغراء. وهي فرض عين على جميمع أفراد الأمة وتتحول إلى فرض كفاية عندما تتحقق المصالحة عن طريق جماعة من المؤمنين. والمصالحة باعتبارها من أعمال الصالحات/الإحسان هي من العبادة ، والمصالحة الجماعية هي عبادة جماعية.
ويقول الشيخ القرضاوي ما يتوافق مع ذلك :« وإذا كان على المتخاصمين أن يصفيا ما بينهما وفقا لمقتضى الأخوة، فإن على المجتمع واجبا آخر؛ فإن المفهوم أن المجتمع الإسلامي مجتمع متكامل متعاون، فلا يجوز له أن يرى بعض أبنائه يتخاصمون أو يتقاتلون، وهو يقف موقف المتفرج، تاركا النار تزداد اندلاعا، والخرق يزداد اتساعا.
بل على ذوي الرأي والمقدرة أن يتدخلوا لإصلاح ذات البين متجردين للحق، مبتعدين عن الهوى.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه فضل هذا الإصلاح، وخطر الخصومة والشحناء فقال: "ألا أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول: إنها تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"..

وأثر عن أمير المؤمنين على بن إبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في إحدى وصاياه: «أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله، ونظم أموركم، وصلاح ذات بينكم فإنّي سمعت جدّكما صلّى الله عليه وآله، يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة والصيام» .
وقال صلى الله عليه وسلم:«ألا أنبئكم بصدقة يسيرة يحبها الله» فقالوا: ما هي؟ قال: «إصلاح ذات البين إذا تقاطعوا»

وعلى المصلح أن يتوخي في إصلاح ذات البين ما يلي:
1 ـ أن يخلص النية لله فلا يبتغي بصلحه مالاً أو جاهاً أو رياء أو سمعة وإنما يقصد بعمله وجه الله " ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً " .
2 ـ أن يتحرّى العدل ليحذر كل الحذر من الظلم " فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " .
3 ـدراسة القضية من جميع جوانبها وأن يسمع كلام كل من يصلح بينهما ويناقشه فيه بالحسنى.
4 ـ إختيار الوقت المناسب للسعي في الصلح .
الصبر والحكمة والبحث عن كلمة سواء جامعة بين من يعمل على تصالحهما مع التريّث وعدم العجلة حتي يلمس قبولا من الطرفين لما يعرضه عليهما من حلول لآنهاء الخلاف وعودة الصفاء والمحبة بينهما ، فالعجلة قدتفسد أكثر مما تصلح .
وأيضا على الذين يتدخل المؤمنون لإصلاح ذات بينهم أن يكون لديهم رغبة في الصلح باعتباره من الخير ومن متطلباات الإيمان والتقوي والا يركبوا رؤوسهم أو يصـر أخد المتخاصمين على ظلم أو انتقام . قال سبحانه: "فَمَنْ عَفا وأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لايُحِبُّ الظَّالِمِينَ"( الشورى: 40.). وقال سبحانه:"فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ"( المائدة: 39.) .
وثمة حديث رواه ‏حميد بن عبد الرحمن ‏ ‏عن ‏ ‏أمه أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط القرشية الأموية‏ ‏أن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال لم ‏ ‏يكذب من ‏ ‏نمى ‏ ‏بين اثنين ليصلح ‏، واستند اليه الكثيرون لجواز أن يكذب من يسعي في الصلح على المتخاصمين لكي يصطلحا ، وهو حديث لم يصح عن غيرهذه المرأة ، وقد يكون من الأفضل عدم الأخذ به . فلا بركة في إصلاح يتم بما هو فاسد . وسد هذا الباب قد يكون أفضل من فتحه. أو قصره على مثال واحد : كأن يقول المصلح بين زوجة وبعلها للزوجة إن زوجك يحبك ويريدك وحريص عليك وهو لم يسمع ذلك منه ، ويقول للزوج عن زوجته نفس الشيء فإن ذلك يعد كياسة منه وليس كذبا. بل قد يحبب كل منهما في الأخر ويسرع بعملية الصلح وييسرها. وليس بالضرورة أن يكون قد سمع ذلك من الطرفين فعلا ليكون صدقا فقد يعتبر قد قاله من قبيل الحدس أو الاستنتاج , أما الذي يخشي منه أن يحدث صلح على كذب يمكن أن يقتضح أمره فيما بعد ويعتبر من تمت مصالحته أنه تم خداعه فيعود وينقلب على الصلح ويتعذر بعدها عقد صلح مرة أخرى.
والحالة الوحيدة التي يمكن الإطمئنان بأنه يجوز الكذب فيها هي حالة الحرب وإذا تطلبه غرض خداع العدو وتضليله والتأثير على روحه المعدنية ، فهذا كله من وسائل الحرب المشروعة لتحقيق النصر فيها. ومن غير المسعد من يعمل بهذا الحديث أو يروجه ويستحل به الكذب أن يغدو الكذب ديدنه وسمة لاصقة فيه وعوض أن يستعمله في الإصلاح يتعمله في النميمة والافساد بين المسلمين,

جماعية الأمة ووحدة الأمة والإمامة.
لايعرف مدى صدق الإيمان وقدر تقوى فرد مسلم غير الله سبحانه وتعالي مما قد يجعل علاقة المسلم بربه علاقة شخصية أو فردية ، ولكن الإيمان والاحسان لايتحققان إلا من خلال العمل الحماعي . وإذا نظرنا إلى العبادات المفروضة في الأسلام (الصلاة والصيام والخح) سنجد أن الطابع الجماعي هو الغالب عليها ، فالصلاة جماعة في الإسلام مفضلة على الصلاة الفردية. ولأن الإسلام لم يلزم بصلاة الأوقات الخمس جماعة فقد حرص على أن يكون في كل أسبوع يوما محدد ، هو يوم الجمعة تقام فيه صلاة الظهر جماعة ، ولا تصلح صلاة الجمعة ألا جماعة لايقل عدد المشاركين فيها عن 40 مسلما ومسلمة.وشرع خلال العام صلاتي العيد فرض على المجتمع كله حضورها ، يشارك فيها من لايمنع صلاته مانع شرعي ، ويحضرها من لآيجوز لهم المشاركة فيها مثل المرأة الحائض. والصيام إذ يستطيع كل مسلم أن يصوم أي يوم في السنة فإن جميع المسلمين ملزمون بالصيام معا في شهر واحد في السنة هو شهر رمضان. والحج هو أيضا عبادة جماعية. وفي الإيمان والإحسان وكلاهما مرتبط بالأخر بعلاقة تلازمية ، حيث لا يعتد بإيمان لايتبعه إحسان ولا بإحسان ليس دافعه حسن الإيمان، نرى الخطابالالهي الداعي اليهما موجه دائما للجماعة باستعمال عبارة :«يأيها الذين أمنوا وعملوا الصالحات..» وفي ضرب الأمثلة بمجتمع المؤمنين حيث الجديث المشهور: «مثل المؤمني في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد ، إن اشتكي منه عضو تداعي له باقي الأعضاء بالسهر والحمي “ ونشوب خلاف بين جماعتين من المسلمين هو مرض يجب أن يتداعي له كافة المجتمع حتي يعود التواد والتراحم بينهم ويتم المحافظة على وحدة الجسم من التفكك. ووحذة الأمة ، إن لم تكن من مقاصد الشريعة فهي من مقاصد العقيدة ، ومقاصد العقيدة لم يوليها القدماء عنايتهم كما يجب . وبوصح الأستاذ أحمد الريسوني ذلك فيقول : «العقيدة والشريعة شقيقتان أو هما واجهتان لقضية واحدة ،ولغرض واحد. فكل من العقيدة جزء من الرسالة المحمدية . فالحديث عن مقاصد الشريعة يفترض الحديث عن مقاصد العقيدة. هل أنزلت الشريعة ولها مقاصد وأنزلت العقيدة وليس لها مقاصد؟...لأ طبعا. كل ما في الأمر أن الشريعة من حيث أنها تعالج قضايا متحركة وإشكالات وتحديات ، فالمسلمون اهتموا بالاجتهاد من خلالها ، فاحتاجوا إلى تعليلها والقياس عليها فدخلوا في مقاسدها وعالمها . لكن العقيدة من حيث أنها قضايا تمتاز بالثبات فالعلماء لم يلتفتوا إليها كثيرا من حيث المقاصد. ومن جهة أخرى فإن علم الكلام خدم المسلمين من الناحية العلمية والثقافية لكن كانت له آفات وعاهات ، فهو من بين الأسباب التي صرفت الناس عن مقاصد العقيدة ، وهذا مقام يطول الكلام فيه.(...) والعلم حركة لا تتوقف إلى يوم القيامة ، فلابأس إن تباطأ هذا الموضوع أو أغفل أو قصر في حقه ، لا بأس أن يكون هذا من جظ المتأخرين وفي صحيفة المتأخرين فلا بأس أن ننهض ونعيد النظر ، ولا أٍريد أن أقدم أي أفكار جاهزة ، ولكن فقط أدعو من الناحية المبدئية والمنهجية فأقول : إذا كان للشريعة مقاصد فإن للعقيدة مقاصد يجب أن نبحث عنها ...»
وإذ أتفق مع الأستاذ الريسوني فيما سبق ، فإنني أختلف معه إختلافا منهجيا ، أو لنقل شكليا ، فالعقيدة والشريعة ليستا شقيقتان وإنما العقيدة هي أم الشريعة ، والشريعة ابنتها ، والقول بمقاصد العقيدة يتضمن مقاصد الشريعة أيضا.حتي لو احتاج التعليم المدرسي تمييز الشرع عن العقيدة.ومن مقاصد العقيدة التي توصلت إليها بفضل ونعمة من الله علاوة على مقاصد الشريعة التي حددها الأصوليون ، أو لنقل التي أقترحها كمقاصد للشريعة هي المقاصد الستة التالية:
1- حفظ الأمانة والتي اعتبرها رأس المقاصد أو الأصل التي تتفرع منه .والتي تشمل التوحيد والعبادة وتحكيم الله وطاعته والالتزام بشرعه.
2- حفظ العدل
3- حفظ الإحسان
4-حفظ صلة الرحم أو كما سميتها صلاة الرحم أو الصلاة الوسطي.
5-حفظ الكرامة الإنسانية للمسلم حيا وميتا، ويدخل ضمنها حفظ العرض والحرية وكافة حقوقه المشروعة في حياته. .
6- وحدة الأمة والإمامة والتي يندرج فيها إصلاح ذات البين بين المسلمين حفاطا على وحدتهم.
وهي المقاصد أو من المقاصد التي تحتاج إلى بذل الجهد في تأصيلها وتفصيلها من كتاب الله وسنة رسوله ، ولم يتعرض الأقدمون لغير قشرتها الخارجية دون البحث المفصل في جوهرها.
وأعود إلى موضوعنا لأقول إن عبادات الإيمان والإحسان هي عبادات جماعية قبل أن تكون فردية ، أو تحتاج إلى تغليب مفهومها الجماعي على مفهومها الفردي. ولعل المتصوفة تنبهوا لذلك عندما سنوا الذكر الجماعي ، والذي اعتبره المنتقدون لهم بأنه بدعة. ولو كان بدعة فهي بدعة لايمكن القول فيها غير أنها حسنة ، وهي لا تفترق عن القراءة الجماعية للقرآن التي لا يعترض عليها المنتقدون وهي أيضا ذكر ، ويمكن إذا كان الذكر بأدعية أو ترديد أسماء الله الحسني على نحو جماعي ، فبنفس المنطق يمكن اعتبار قراءة الذكر الحكيم أي القرآن جماعة في مساجد المغرب قبل صلاة الجمعة بدعة أيضا. الابتداع المرفوض فقط هو التطويح في الذكر الذي يشبه الرقص على دقات الطبول والدفوف وأنغام المزمار.والذي يمكن اعتباره طقسا وثنيا في أصله أو شيطانيا
كذلك عند بعض الطرق الموصوفة بالصـوفية. وعموما لم أشارك في حلقات الذكر منذ طفولتي ، ولا أمانع من المشاركة فيها في شيخوختي ، ربما بشروط لاأجد ضرورة لذكرها الآن تفصيلا ، ولكن في المجمل أن يكون الذكر ضمن جماعة من المؤمنين لا يتميز أحد فيهم عن غيره أو يحاط واحد فيهم بأي نوع من القداسة والاهتمام المغالي فيه..
واذا كان الله وحده العالم بما تخفيه الصـدور ، فإن سلوكه في عمل الإحسـان يمكن أن يكشـف عن مدى صدق ايمانه . فالرجل الذي يبني جامعا كبيرا ومهيبا ويكتب على واجهته : بناه المحسن الكبير فلان بن قلان ، فإن هذا المسلك منه رغم تحقق المنفعة الجماعية به ، وأنه عمل يرضي عنه الله حيث يعمر مساجد الله من أمن بالله واليوم الآخر يدل على وجود خلل في إيمان وتقوى هذا المحسن الكبير ، وإن فعل ما لم يفعله سواه من أهل الخير في مدينته. إذا يثير ما كتبه أو حرص على كتابتة شبهة أنه قصد بصنيعه الكبير التكلفة السمعة بين الناس ولم يكن عمله خالصا لوجه الله الذي عنده حسن الثواب.
ولقد شاهدت في حياتي أفرادا محسنين يتحلق حولهم أناس ينتفعون بإحسانهم ولكنهم لا يشاركونهم الإحسان ولايشكلون مع هذا المحسن أو ذاك جماعة محسنة.
لذا – يمكن القول بأن الأصل في عبادات الإيمان والإحسان أو العبادات التي يكون الدافع عليها الإيمان أن تتم بصورة جماعية ، والاستثناء هي أن تتم بصورة فردية عندما لا يتيـسر قيامها ضمن جماعة. ويخضـع هذا الإحسان الجماعي لقوله تعالي : « وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” . ولذا فإن قيام جماعة مؤمنة داخل مجتمع المسلمين تمارس الإيمان والإحسان الجماعي هو عمل طيب ومطلوب ، وأن يكون مقصدها أيضا وهي تضرب المثل بنفسها في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تحول مجتمع المسلمين كله مجتمعا مؤمنا محسنا ، أي أن يغدو المجتمع كله هو حماعة الإيمان والإحسان وليس مجتمعا فيه جماعة مختصة بذلك. بل ويرى الإستاذ أحمد الريسوني ، وهو على حق وبصيرة في ذلك، أن :« الدولة الإسلامية (مع التحفظ على وصف دولة بالأسلامية ، والتاريخ نفسه لايحفظ لنا دولة تستحق أن توصف حتي بأنها كانت دولة مسلمة وليست إسلامية )لا تتولي كل شيئ ، لآنها لوإن تولت كل شيئ أماتت الأمة والمبادرة والحريات والابتكار، فإدا، المجتمع يجب أن يكون حيا يساهم في أمنه واقتصاده وتعليمه (...) وهذه أعمال شعبية وهذا ما نريـده ، أن يكون المجتمع فاعلا يتحمل مسؤوليته ، فإذا كانت الدولة في نفس الفاعلية فهذا هو التمام والكمال . وإذا تصرت لظرف معين ، فإن الشعب سيطبق نسبة كبيرة من الشريعة 0 5% 60 % 80 % ، ولكن بشرط أن الدولة لاتعوقه ، وهو أيضا لا يلحق بها أي ضرر ، لامشكل أمني ولا منافسة ولاشيئ. »٫ وأضيف إلى ما قاله إلى أن تحويل المجتمع إلى مجتمع مؤمن ومحسـن يعتمد على نفسه في طلب أسباب التقدم الحضارى العلمي والانتاجي هو وحده الذي يمكن الشعب من أن يقيم حكومة تلتزم بشرع الله . وغير ذلك فستبقي حكومات الطواغيت إلى ما لا نهاية ولا يستطيع أحدد زحزحتها عن مقاعد السلطة أو التخلص منها واستبدالها ، وإن قام عليها انقلاب من داخلها ، غير من شكلها فسيظل جوهرها استبداديا ظالما متمردا على حكم الشريعة.تغيير الدولة لا يتم بالعنف ولا بالسلم بالعمل في أجهزتها الفاسدة والتي يعتبر الفساد هو سر وجودها واستمرارها، وإنما يتم بتغيير الناس فيها ، وبمنظومة شعبية تضم العاملين خارجها والعاملين فيها بعد ربط الجميع بتلكك المنظومة معلى أساس المنفعة المادية الناتجة عن عمل الإحسـان، وليس في الإحسـان أفضل من عمل اقتصادى يرفع من مستوى معيـشة الناس ومستوى تعليمهم وانتاجيتهم، والمشبعة بالجانب الروحي /الإيماني.أي يجتمع في نشاط الجماعة الدينية الإيمان مع العمل الصالح. أما إذا ما اكتفت الجماعة الدينية في عملها بإطلاق المواعظ وتوزيع الصدقات على بعض المحتاجين في بعض المناسبات ، فإنها قد تحتاج إلى أجيال وقرون لكي تؤتي مواعظها أكلها وقد لا تتحقق أهدافها مطلقا سوى في زيادة عدد الممنتسبين إليها والذين سيظلون أقلية في المجتمع المسلم غير قادرة على عمل شيء ينتشله من واقعه البائس وتخلفه الحضري السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي ،ومن فساد وظلم حكامه. وكانت في ذلك مثال للذين آمنوا ولم يعملوا الصالحات. أو عملوا من الصالحات ما لا يجد فتيلا.»
ويجب أيضا أن يكون المبدأ الحاكم للجماعة الدينية هو وحدة الأمة المسلمة المؤمنة المحسنة.وإذا ما تعددت الجماعات المسلمة في بلدة واحدة أو وطن واحد ، فيجب ألا يمنع تنافس الجماعات في عمل الخيرات على تعاونها معا على البر والتقوى ، لأن هذا التعاون هو مطلب ديني وأمر إلهي.وأن يكون غاية تعاونها هو النهوض بالأمة المسلمة كلها ، مؤمنها وفاسقها ، وإنما تمد يدها للجميع في عملية الإنهاض تلك لا تستثني منهم أحدا ، لكي ترتقي بالأمة في مدارج الإيمان والإحسان بانية بها حضارة مسلمة جديدة.
وعندما تتحول المنافسة بين الجماعات الدينية من تنافس على الخيرات وتعاون عليها فيما بينها إلى صراع على القيادة والزعامة والنفوذ في المجتمع أو على السلطة والمال وتنشب بينها الخلاقات والعصبية الشبه قبلية ، فإن حالها هذا لايدل إلا على أن الفساد قد تسرب إليها ، ويصبح إصلاح ذات البين فرض على المؤمنين فيها ومن خارجها ، واستجابة المتنازعين لجهود الصلح واجب ديني وانصياع لحكم الله ورسوله.وتحكيم الله ورسوله بين المتنازعين هو ما يجب اللجوء إليه وليس ما أفتي به الشيخ فلان من السلف أو الخلف.

إن الحكم إلا لله
“إن الحكم إلا لله ، أمرألا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم “، وليس للمؤمنين إذا ما شجر بينهم خلاف سوى تحكيم كتاب الله وسنة رسوله. وليس ما قال به الإمام فلان أو الإمام فلان ، والذي قال ما قاله قياسا على ما جاء بكتاب الله وسنة رسوله ، إو إعمال آية وترك أخرى في كتاب الله تكملها بدعوى إن إحداهما نسخت الأخرى ومن المستحيل أن بكون في كتاب الله ناسخ أو منسوخ ، لأنه لو كان ثمة آية منسوخة لرفعت من كتاب الله واستبعدت منه عندما أملاه جبريل على رسول الله مجمعا بعد أن كان ينزل عليه منجما. أو عمل الإمام فلان بما اقتضته في نظره المصالح المرسلة في بلاده وزمانه وتغيرت ظروف المكان والزمان في غير مكانه وزمانه أو...أو ...فجميع ما قال به هؤلاء الأئمة في زمانهم ليس من صلب الدين وإنما على هامشه وإن كان متصلا بالدين على نحو ما.ولا يجب الأخذ به أو التعويل عليه ورفعه إلى منزلة حكم الله ورسوله وإن كان العلم به له فائدته من قبيل المعرفة الإضافية أو الثانوية.ولا يجوز رفعه إلى منزلة الكتاب والسنة أو اعتباره استكمالا لهما بينما الله عندما أنزل آخر آية من القرأن قال فيها : «اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”وإضافة ما قاله الإمام فلان ليكون جزءا مكملا للدين فيه تكذيب لله وبالتالي شرك وكفر به.وعلى ذلك لايحق لجماعة أن تتمسك بكلمتها لأنها مالكية وأشعرية وتتمسك المتنازعة معها بكلمتها المختلف عليها لأنها حنبلية أو شافعية أو حنفية أو معتزلية أو تتبع مذهب أل البيت.كل هذه المرجعيات المتسببة في الخلافات بجب أن ترد على اصحابها في مواجهة المرجع الثابت الذي هو كتاب الله وسنة رسوله المؤيدة لما جاء فيه والغير مخالفة له. وكلاهما بلسان عربي مبين ، معجز في بيانه ولكنه غير معجز في فهم معناه ومراده ومقاصده.
لقد كثر في عالم المسلمين منذ زمن بعيد وحتي اليوم الإئمة والمرجعيات السنية والشيعية بينما مفهوم الأمة الواحدة يقتضي ألا يكون للأمة المحمدية المسلمة إماما لها سوى نبيها ورسول الله إليها لكي يهديها سواء السبيل.
إن مفهوم الإمامة له دلالة سياسية أكثر منه دينية . ووحدة الأمة تأبي أن تتوزع الأمة بعد رسول الله على العديد من الإئمة وما ينسب اليهم من مذاهب ويصير بذلك الدين الواحد مجموعة من الإديان ،وهي عموما مذاهب في الاجتهاد والتشريع وليست في أصول العقيدة ، ولايجب أن تكون في الأصول أو مصـدر خلاف عليها.والإمام كمفهوم سياسي يعني القائد أو الأمير الذي تطيعه الأمة في السلم والحرب في غير معصية لله .والأمام في الدين ينحصر فيمن يقود المسلمين في صلاة الجماعة ، وينوب عنهم بين يدي الله.على نحو ما يرى أبوجنيفة.وهي بالتالي إمامة مؤقتة تنتهي بنهاية الصلاة. وإمام قوم في حياته بالمفهوم السياسي أو المفهوم الديني تنتهي إمامته بانتهاء حياته وحلول سواه محله.ولايعقل أن يظل إماما للناس وهو ميت ، فالميت لايؤم أحدا في حكم أو صلاة. والحي أولي بالميت. ويختلف الأمر بالنسبة لرسول الله ، فأمامته السياسية قد انتهت بانتقاله للرقيق الأعلي أما إمامته الدينية فباقية بقاء شهادة ألا اله الا الله وأن محمدا رسول الله ، ولآنه ، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين لا يرقي أحد من البشر إلى مستواه حتي يأخذ مكانه في الإمامة أو مكانته في الدين.وإمامته مستمرة أيضا باستمرار سنته والدين الذي أبلغه والعمل بهما حتي يوم القيامة. وليس في الدين أن يشهد المسلم بأنه لا إله إلا الله وأن لا أمام له سوى مالك أو ابن حنبل أو علي ابن ابى طالب أو غيرهم من عباد الله المسلمين .
قال تعالى:« وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .» (الأنعام:153)

طاعة الله ورسوله :

قال الله تعالى:”وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً” (الأحزاب الآية: 36) ، وكان ما سبق إثارته حول وحدة الأمة وما تتطلبه من إصلاح ذات البين بين المسلمين أفرادا وجماعات وشعوب هو بمثابة تقديم لهذه الأية الكريمة التي تصرح بأنه لايوجد أي خيار أمام المسلم في طاعة الله إلا أن يرضي بما قضي به الله ورسوله.كثيرة هي الآيات التي تحث على طاعة الله ورسوله . ففي سورة النسـاء يقول سبحانه وتعالى: “يا أيُّها الَّذين آمَنُوا أطيعوا الله وأطيعوا الرَّسولَ وأُولي الأمرِ منكُم فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى الله والرَّسولِ إن كنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخِرِ ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً » (النساء:59).
ويقول أيضاً: “ومن يُطع الله والرَّسولَ فأولَئِـكَ مـعَ الَّذيـن أنعَـمَ الله عليهِم من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالِحينَ وحَسُنَ أُولئِكَ رفيقاً * ذلك الفضلُ من الله وكفى بالله عليماً »(النساء.:69-70).
قول الله تعالى: “قُل إن كنتُم تُحبُّونَ الله فاتَّبِعُوني يُحبِبكُمُ الله ويَغفِر لكم ذُنُوبَكُم والله غَفُورٌ رحيمٌ * قُل أطِيعُوا الله والرَّسُولَ فإن تَوَلَّوا فإنَّ الله لا يُحِبُّ الكَافِرِينَ*» (أل عمران:31و32 )، فمن الآية الكريمة يتضح أمران:-
الأول: أن طاعة الله وطاعة الرسول أمران متلازمان، فيقول سبحانه في سورة النساء: “من يُطعِ الرَّسولَ فقد أطاعَ الله ومن تَولَّى فما أرسلناكَ علَيهِم حفيظاً". فطاعة الرسول هي طاعة لله عزَّ وجل ومعصيته معصية لله، لأن أوامره ما هي إلا وحي من الله وعمل بكتابه الكريم حيث يقول الله تعالى “وما يَنْطقُ عن الهوى * إن هوَ إلاَّ وحيٌ يُوحى * علَّمهُ شديدُ القُوى” (النجم : 3ـ5).
الأمر الثاني: والهام هو أن حب المؤمن لربه ولنبيه هو السبيل للطاعة، والحب الحقيقي الصادق يعني أن يكون العبد مطيعاً لله في السر والعلن، ويكون هواه تبعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال سبحانه وتعالى :« وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا »( سورة الحشر: 7 )

الخشوع عند قراءة القرآن:
يقول الستاذ سيد قطب رحمه الله :« إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم .»..إنها الارتعاشة الوجدانية التي تنتاب القلب المؤمن حين يذكر بالله في أمر أو نهي؛ فيغشاه جلاله، وتنتفض فيه مخافته؛ ويتمثل عظمة الله ومهابته، إلى جانب تقصيره هو وذنبه، فينبعث إلى العمل والطاعة... أو هي كما قالت أم الدرداء - رضي الله عنها - فيما رواه الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أم الدرداء قال: " الوجل في القلب كاحتراق السعفة، أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى. قالت: إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك. فإن الدعاء يذهب ذلك "..
إنها حال ينال القلب منها أمر يحتاج إلى الدعاء ليستريح منها ويقر! وهي الحال التي يجدها القلب المؤمن حين يذكر بالله في صدد أمر أو نهي؛ فيأتمر معها وينتهي كما يريد الله، وجلا وتقوى لله.
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً .
والقلب المؤمن يجد في آيات هذا القرآن ما يزيده إيماناً، وما ينتهي به إلى الاطمئنان.. إن هذا القرآن يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، ولا يحول بينه وبينه شيء إلا الكفر الذي يحجبه عن القلب ويحجب القلب عنه؛ فإذا رفع هذا الحجاب بالإيمان وجد القلب حلاوة هذا القرآن، ووجد في إيقاعاته المتكررة زيادة في الإيمان تبلغ إلى الاطمئنان.. وكما أن إيقاعات القرآن على القلب المؤمن تزيده إيماناً، فإن القلب المؤمن هو الذي يدرك هذه الإيقاعات التي تزيده إيماناً.. لذلك يتكرر في القرآن تقرير هذه الحقيقة في أمثال قوله تعالى:" إن في ذلك لآيات للمؤمنين ".

" الذين يقيمون الصلاة "..
يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله :وهنا نرى للإيمان صورة حركية ظاهرة - بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية باطنة - ذلك أن الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل. فالعمل هو الدلالة الظاهرة للإيمان التي لا بد من ظهورها للعيان، لتشهد بالوجود الفعلي لهذا الإيمان.
وإقامة الصلاة ليست هي مجرد أدائها. إنما هي الأداء الذي يحقق حقيقتها. الأداء الكامل اللائق بوقفه العابد في حضرة المعبود - سبحانه - لا مجرد القراءة والقيام والركوع والسجود والقلب غافل! وهي في صورتها الكاملة تلك تشهد للإيمان بالوجود فعلاً.

الإنفاق من مال الله على ما يرضي الله:
طالما أن الرزق من عند الله ، فإن المال ماله ، ومن رزقه به مفوض عن الله في أنفاقه في طاعته وليس في ما يخالف أوامره .الانفاق في سبيل الله من أعظم وسائل تقوية التكافل الاجتماعى في الإسلام ا لذلك حبب الله إلى المؤمنين أنفاق المال الذي رزقهم به فيما ينفعهم وينفع الناس أيضا ، قال تعالي :
رغب الله تعالى عباده المؤمنين في البذل والإنفاق ووعدهم على ذلك أجراً عظيماً وبيّن لهم فضل عملهم هذا فقال تعالى: “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ “ (البقرة:261) .وقال تعالى: “مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّـهُ يَقْبِـضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْـهِ تُرْجَـعُونَ «(البقرة:245). والإنفاق في سبيل الله يزكي النفس ويطهّرها من الأنانية اوالأثرة اوالبخل ، وهو أيضاً تحرير للنفس من العبودية لغير الله تعالى، وإرتقاء بها حيث عوض أن يكون في خدمة ماله يكون المال هو الذي في خدمته ,وصدق الله العظيم إذ يقول: “خُذْ مِـنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا” (التوبة:103). والإنفاق في سبيل الله هو في الحقيقة حفظ للمال وزيادة له وليس نقصاناً له واتلافاً كما قد يظن البعض لقوله تعالى:« وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُـهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِيـنَ»(سبأ:39) قول تعالى: « الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” [البقرة:274].وقال :“وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون “(البقرة : 272 ).وقال :" ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وآبل فطل والله بما تعملون بصير " ( البقرة ": 265) .
إن مصدر أموالهم التي ينفقونها ابتغاء مرضاة الله هو الله وعند ما ينفقونها في سبيله يؤجرهم الله على إنفاقهم لها في سبيله بأكثر من قيمة ما أنفقوا فأموالهم بذلك تنمو ولا تنقص وما ينفقون من خير يوف اليهم وهم بذلك لايظلمون بالآنفاق في الخيرات مما رزقهم به الله وأنعم به عليهم. يقول تعالى: « وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ “ (سبأ:39) ويقول : « ما نقصت صدقة من مال. بل تزده. بل تزده “(رواه مسلم).
ويروي أبو هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفا ". "، وعنه أن رسول الله قال:" قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم ينفق عليك "

وعندما ينفق المسلم من طيب ماله ولا يقبل الله إلا حلالاً طيباً فيجب عليه أن يعرف أن ذلك مدخر له عند ربه فعن عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي : " ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: بقي كلها غير كتفها "رواه الترمذي. "
والانفاق في سبيل الله وسيلة لنيل مغفرة الله "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ...."(آل عمران:133-134)، وقال : "وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَـاهُمْ سِـرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِـكَ لَـهُمْ عُقْبَى الدَّارِ*جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ..الآية"(الرعد22-23)
وهو جهاد بالمال إن عز الجهاد بالنفس ، قال تعالي: “ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ”(الحجرات:15).
والانفاق ليس دليلا على الايمان لولم تكن نية المنفق خالصة لوجه لله ، ولم يكن يستهدف منه سوءا ظاهره البر والاحسان وباطنه غير ذلك، قال تعالي : " ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم * ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم " (التوبة : 98 ـ 99 ).وثمة حديث منسوب للنبي يقول:« قد يعمل أحدكم عمل أهل الجنة وهو من أهل النار وقد يعمل أحدكم عمل أهل النار وهو من أهل الجنة” وفي قصى الخضر وموسي نجد أن موسي لم يستطع معه صبرا لأنه ظن أن عمله عمل أهل النار حتي بين له الخضر مالم يستطع له صبرا.

والممسكون يعطلون منفعة المال ونمائه وهم بامساكهم يحرمون أنفسهم ويجمعون لغيرهم ممن يأتي بعدهم ، فيهلكون لهم ما جمعوه وحرصوا عليه ، ولا ينالهم من إمساكهم له خيرا. روى البخاري ومسلم عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: " هم الأخسرون ورب الكعبة "، فقلت: فداك أبي وأمي من هم؟ قال: " هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم ".ورأى الأحنف بن قيس في يد رجل درهماً، فقال: « لمن هذا؟ » قال: لي، قال: « ليس هو لك حتى تخرجه في أجر أو اكتساب شكر”٫

ويقول تعالي :"هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (محمد:38).وينبهنا إلى أن الشيطان في وسوسته للناس يخوفهم من الانفاق حتي لا يتحولوا إلى فقر بعد غني ، فيقول لنا سبحانه وتعالي : "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ "(البقرة:268).
ويرى الدكتور وجدي غنيم "إن الإنفاق في سبيل الله ليس مقتصرا على المال وحـسب، فهناك أناس وهبهم الله مواهب ونعم عديدة منها الفكر والوقت والجهد وغيرها من الأعمال، التي تقوم مقام الإنفاق المالي، "داعياً بذات الوقت المجتمع إلى التعاون والتعاضد ومساعدة الفقراء والمساكين والأرامل .ويتفق قوله هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم من أن : «الكلمة الظيبة صدقة”.
ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله : «ومما رزقناهم ينفقون "..في الزكاة وغير الزكاة.. وهم ينفقون " مما رزقناهم ".. فهو بعض مما رزقهم الرازق.. وللنص القرآني دائماً ظلاله وإيحاءاته. فهم لم يخلقوا هذا المال خلقاً. إنما هو مما رزقهم الله إياه - من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى - فإذا أنفقوا فإنما ينفقون بعضه، ويحتفظون منه ببقية. والأصل هو رزق الله وحده!. ويقول في تفسيره لآية مماثلة في سورة البقرة:«ومما رزقناهم ينفقون ». . فهم يعترفون ابتداء بأن المال الذي في أيديهم هو من رزق الله لهم ، لا من خلق أنفسهم ؛ ومن هذا الاعتراف بنعمة الرزق ينبثق البر بضعاف الخلق ، والتضامن بين عيال الخالق ، والشعور بالآصرة الإنسانية ، وبالأخوة البشرية . . وقيمة هذا كله تتجلى في تطهير النفس من الشح ، وتزكيتها بالبر . وقيمتها أنها ترد الحياة مجال تعاون لا معترك تطاحن ، وأنها تؤمن العاجز والضعيف والقاصر ، وتشعرهم أنهم يعيشون بين قلوب ووجوه ونفوس ، لا بين أظفار ومخالب ونيوب !
والإنفاق يشمل الزكاة والصدقة ، وسائر ما ينفق في وجوه البر . وقد شرع الإنفاق قبل أن تشرع الزكاة ، لأنه الأصل الشامل الذي تخصصه نصوص الزكاة ولا تستوعبه . وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسناده لفاطمة بنت قيس إن في المال حقا سوى الزكاة . . وتقرير المبدأ على شموله هو المقصود في هذا النص السابق على فريضة الزكاة
والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك . . وهي الصفة اللائقة بالأمة المسلمة ، وارثة العقائد السماوية ، ووارثة النبوات منذ فجر البشرية ، والحفيظة على تراث العقيدة وتراث النبوة ، وحادية موكب الإيمان في الأرض إلى آخر الزمان . وقيمة هذه الصفة هي الشعور بوحدة البشرية ، ووحدة دينها ، ووحدة رسلها ، ووحدة معبودها . . قيمتها هي تنقية الروح من التعصب الذميم ضد الديانات والمؤمنين بالديانات ما داموا على الطريق الصحيح . . قيمتها هي الاطمئنان إلى رعاية الله للبشرية على تطاول أجيالها وأحقابها . هذه الرعاية البادية في توالي الرسل والرسالات بدين واحد وهدى واحد . قيمتها هي الاعتزاز بالهدى الذي تتقلب الأيام والأزمان ، وهو ثابت مطرد ، كالنجم الهادي في دياجير الظلام .
تلك هي الصفات التي حدد الله بها - في هذا المقام - الإيمان. وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله؛ والاستجابة الوجدانية لذكره؛ والتأثر القلبي بآياته؛ والتوكل عليه وحده؛ وإقامة الصلاة له، والإنفاق من بعض رزقه..
وهي لا تمثل تفصيلات الإيمان - كما وردت في النصوص الأخرى - إنما هي تواجه حالة واقعة.. حالة الخلاف على الأنفال وفساد ذات البين من جرائها.. فتذكر من صفات المؤمنين ما يواجه هذه الحالة. وهي في الوقت ذاته تعين صفات من فقدها جملةً لم يجد حقيقة الإيمان فعلاً. بغض النظر عما إذا كانت تستقصي شروط الإيمان أو لا تستقصيها. فمنهج التربية الرباني بالقرآن هو الذي يتحكم فيما يذكر من هذه الشروط والتوجيهات في مواجهة الحالات الواقعية المختلفة. ذلك أنه منهج واقعي عملي حركي، لا منهج نظري معرفي، مهمته بناء (نظرية) وعرضها لذاتها!
وعلى نفس القاعدة يجيء التعقيب الأخير:" أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم درجات عند ربهم، ومغفرة، ورزق كريم "..فهذه الصفات إنما يجدها في نفسه وفي عمله المؤمن الحق. فمن لم يجدها جملة لم يجد صفة الإيمان. وهي في الوقت ذاته تواجه الحالة التي تنزلت فيها الآيات.
. ومن ثم تواجه الحرص على الشهادة بحسن البلاء، بأن هؤلاء الذين يجدون هذه الصفات “ لهم درجات عند ربهم ».. وتواجه ما وقع في ذات البين من سوء أخلاق - كما قال عبادة بن الصامت - بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم “ مغفرة «.. وتواجه ما وقع من نزاع على الأنفال بأن الذين يجدون هذه الصفات لهم عند ربهم “ رزق كريم ».. فتغطي الحالة كلها، كل ما لابسها من مشاعر ومواقف. وتقرر في الوقت ذاته حقيقة موضوعية؛ وهي أن هذه صفات المؤمنين، من فقدها جملة لم يجد حقيقة الإيمان." أولئك هم المؤمنون حقاً "...

ويضيف الأستاذ سيد في شرحه لسورة الأنفال:« وقد كانت العصبة المسلمة الأولى تُعلم أن للإيمان حقيقة لا بد أن يجدها الإنسان في نفسه، وأنه ليس الإيمان دعوى، ولا كلمات لسان، ولا هو بالتمني.. قال الحافظ الطبراني: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا أبو كريب، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد السكسكي، عن سعيد ابن أبي هلال، عن محمد بن أبي الجهم، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أنه " مر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " كيف أصبحت يا حارث؟ " قال: أصبحت مؤمناً حقاً. قال: " انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ نهاري. وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. فقال: " يا حارث. عرفت فالزم ".. ثلاثاً... " ولقد ذكر هذا الصحابي الذي استحق شهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالمعرفة من حال نفسه، ما يصور مشاعره ويشي بما وراء هذه المشاعر من عمل وحركة. فالذي كأنه ينظر إلى عرش ربه بارزاً، وينظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتضاغون فيها، لا ينتهي إلى مجرد النظر. إنما هو يعيش ويعمل ويتحرك في ظل هذه المشاعر القوية المسيطرة التي تصبغ كل حركة وتؤثر فيها. ذلك إلى جانب ما أسهر ليله وأظمأ نهاره، وكأنما هو ناظر إلى عرش ربه بارزاً...
إن حقيقة الإيمان يجب أن ينظر إليها بالجد الواجب، فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان، ومن ورائها واقع يشهد شهادة ظاهرة بعكس ما يقوله اللسان! إن التحرج ليس معناه التميع! والشعور بجدية الحقيقة الإيمانية أوجب؛ والتحرج في تصورها ألزم. وبخاصة في قلوب العصبة المؤمنة التي تحاول إعادة إنشاء هذا الدين في دنيا الواقع، التي غلبت عليها الجاهلية، وصبغتها بصبغتها المنكرة القبيحة!
بعد ذلك يأخذ سياق السورة في الحديث عن الموقعة التي تخلفت عنها تلك الأنفال التي تنازعوا عليها، وساءت أخلاقهم فيها - كما يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه في خلوص وصراحة ووضوح - ويستعرض مجمل أحداثها وملابساتها، ومواقفهم فيها، ومشاعرهم تجاهها.
.. فيتبين من هذا الاستعراض أنهم هم لم يكونوا فيها إلا ستاراً لقدر الله؛ وأن كل ما كان فيها من أحداث، وكل ما نشأ عنها من نتائج - بما فيها هذه الأنفال التي تنازعوا عليها - إنما كان بقدر الله وتوجيهه وتدبيره وعونه ومدده.. أما ما أرادوه هم لأنفسهم من الغزوة فقد كان شيئاً صغيراً محدوداً، لا يقاس إلى ما أراده الله لهم، وبهم، من هذا الفرقان العظيم في السماوات وفي الأرض. ذلك الذي اشتغل به الملأ الأعلى إلى جانب ما اشتغل به الناس في الأرض، وما اشتغل به التاريخ البشري على الإطلاق.. ويذكرهم أن فريقاً منهم واجه المعركة كارهاً؛ كما أن فريقاً منهم كره تقسيم الأنفال وتنازع فيها؛ ليروا أن ما يرونه هم، وما يكرهونه أو يحبونه، ليس بشيء إلى جانب ما يريده الله سبحانه ويقضي فيه بأمره، وهو يعلم عاقبة الأمور.».

No comments: