Thursday, March 27, 2008

الأمانة التي لم تجد من يراعيها

الأمانة...التي لم تعد تجد من يراعيها

-

الأمانة أم المقاصد الكليةالضرورية:

حدد علماء أصول الدين مقاصد الشريعة الكلية والضرورية في خمس هم حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. وكلها نعم أنعم الله بها علي الإنسان وهي أيضا أمانات ائتمنه الله عليها مما أوجب عليه حفظها .إذا الأمانة هي أم المقاصد وكلية الكليات وضرورة الضروريات منها . قال تعالي:" "يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون".

وإذا راجعنا الوصايا العشر الذي جاء بها النبي موسى والتي وردت في سفري خروج 1:20-17 وتثنية 6:5-21 كالآتي:

(1) "لا يكن لك آلهة أخري أمامي".

(2) "لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة ما مما في السماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأني أنا الرب إلهك اله غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي، وأصنع إحسانا إلي ألوف من محبي وحافظي وصاياي".

(3) "لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا، لأن الرب لا ببريء من نطق باسمه باطلا".

(4) "اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك.

(5) "أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك علي الأرض التي يعطيك الرب إلهك".

(6) "لا تقتل".

(7) "لا تزن".

(8) "لا تسرق".

(9) "لا تشهد علي قريبك شهادة زور".

(10) "لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك، ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيئا مما لقريبك".

و عندما سئل المسيح عن أعظم وصية في االوصايا العشر, أجاب : " أحبب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل عقلك. هذه هي أول وأعظم وصية. والثانية مثلها, أحبب جارك كنفسك. كل الأنبياء تمسكوا بهاتين الوصيتين."

سنجدها كلها أمانات تستدعي الحفظ ونفس الشيء في تعاليم المسيح التي أوردها كتبة الأناجيل وهنك أيضا الوصايا العشر الواردة في سورة ألأنعام، والتي يقول فيها الله سبحانه وتعالي:

* " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .

* وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا .

* وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ .

* وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .

* وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (151)

* ولا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ .

* أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا.

* وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.

* وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ .(152)

* وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ.

* وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153).". وأيضا في التراث الديني للفراعنة المتمثل أساسا في كتاب الموتى ..سنجد أن كل هذه الأديان تتحدث عن أمانات مطلوب من الناس حفظها بل مطلوب في الإسلام ما هو أكثر من حفظها وهو رعايتها حيث يقول الله في وصف المؤمنين :" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا إيمان لمن لا أمانة له" ويمكن القول قياسا عليه بأنه لا أمانة أيضا لمن لا إيمان له فالإيمان والأمانة متلازمان يشترط لوجود أحدهما وجود الآخر معه.والأمانة والأمن والإيمان تنتمي إلى أصل لغوي واحد.

وأداء الأمانة وعدم خيانتها يقتضي العدل في الحكم وفي التعامل مع الناس والمخلوقات ويقتضي أيضا أعمال التراحم في شتي صوره والإحسان في القول والعمل ولذا فان العدل والتراحم والإحسان تعد أيضا مقاصد كلية وضرورية . فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أنس : «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له".

الأمانة التي حملها الإنسان:

قال الله تعالي : " انا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا" (الاحزاب 725). فماهي تلك الأمانة ؟.


كنت كلما قرأت هذه الآية أو صادفتها واردة في مقالة أو كتاب علي سبيل الاستشهاد أجد نفسي في مواجهة نفس السؤال: أي أمانة تلك التي ألزم الإنسان نفسه بها فظلمها بجهله أي بقلة علمه أو كثرة غروره؟ .وكانت مراجعتي لما اجتهد فيه المفسرون أجده لا يتفق منطقيا مع بنية نص الآية وتركيبها والسياق الواردة فيه.فمن قائل إنها العقل أو الدين فيكون قد قصرهما علي الإنسان وحده بينما يخبرنا القرآن عن الجن مثلا بما ينبئ بأن لهم عقول ودين. بل نجد في قصة النبي سليمان والهدهد ما يمكن الاستنتاج منه بأن للطيور عقولها ودينها ، و أ ن تسبح كل المخلوقات بحمد الله كما، أخبرنا سبحانه ، فإنه يعني أن كلها علي صراط الدين المستقيم.

ومن قال بأنها الاستخلاف في الأرض يمكن الرد عليه أن الاستخلاف تقرر مع بدء خلق الإنسان في قوله تعالي : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." وبذا يكون الاستخلاف مهمة إلزامية لا يملك الإنسان الخيرة فيها ليقبلها أو يرفضها. وبذلك لا يكون الاستخلاف هو المقصود بالأمانة هنا. ولو أنها قد تكون مرتبطة به.

وحسب بنية نص الآية سنجد أن تلك الأمانة لم تعرض علي الإنسان مثلما عرضت علي غيره وإنما هو طلبها دون أن تعرض عليه ، وألزم بها نفسه ظالما نفسه بذلك وجاهلا بتبعتها ومسؤوليتها ومكابرا في قدرته علي حملها على النحو الذي فهمه البعض من الآية. ويمكن القول أن الإنسان لم يفعل ذلك إلا طمعا في مكاسب سيجنيها من حمله هذه الأمانة، والوفاء بمتطلباتها . فالجهل هنا يحمل معني الاندفاع والنزق وعدم التبصر وهو ما يلازم غالبا الطمع في شيء.

ولفظ الإنسان يطلق علي الفرد كما يطلق علي المجموع وعلي الجنس ويستغرق الأجيال من الجنس الإنساني منذ ظهوره علي الأرض إلى يوم أخر أجياله عليها. ويعني النص في هذه الحالة أن الإنسان، فردا كان أو جماعة، لم يقم بإلزام نفسه وحده بالأمانة وإنما ألزم بها ذريته أيضا وهي مازالت في ظهور أبائها . تماما مثلما قال اليهود وهم يحرضون الحاكم الروماني علي قتل المسيح : اقتله ودمه علينا وعلي أولادنا من بعدنا. وهنا يتجلي معني ظلوما جهولا علي نحو آخر فقد يكون من طلب تحميله الأمانة لم يظلم نفسه بها لأنه كان قادرا علي الوفاء بمتطلباتها ومسؤولياتها. ولم يكن جهولا بطلبه إياها، طالما كل ما سيترتب عليها في استطاعته القيام به ، ولكنه كان ظلوما لأنه حملها من سيأتي من بعده .وهو لا يدري إذا ما كان له قدرته وجلده علي تحملها . وأنه سيقبل بها ويفي بالتزاماتها. وجهولا لأنه اعتبر أن طاعة خلفه لها مضمونة ومؤكدة .وهذا ما يعد بمثابة جهالة وغرور ومكابرة منه.ولو أنه يستفاد من الآية ضمنا مسؤولية السلف عن تصرفات الخلف أيضا . أي مسؤولية الآباء عن حسن تعليم وتربية أولادهم حتى يؤدون أمانتهم علي أحسن وجه . ومسئولية الحاكم أيضا لآن الحاكم ولي من لا ولي له ومسئول عنه . ويتضح هنا أن الأمانة مسؤولية ويترتب عليها مسؤوليات ممتدة في الزمان والمكان. ومن ثم جاء قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.

وقيل الأمانة هي الروح ولكننا نجد أن لكل ذي حرة رطبة روح.وبذلك يشترك الإنسان فيها مع كل الحيوانات وجميع الكائنات الحية اذ اعتبرنا أن نسمة الحياة هي الروح، فان كل خلية حية في النباتات أو الحيوانات تكون ذات روح بل ذرات الجماد أثبت العلم الحديث بأنها تمتلئ بالحركة بداخلها وليست جامدة أو ساكنة كما تبدو لأعيننا. واذا افترضنا أن الإنسان هو وحده الذي نفخ الله فيه من روحه بينما باقي الكائنات الحية دبت فيها الحياة بكلمة : كن فيكون ، فان منح الله الإنسان روحه كان مع بدء الخلق . وبذلك لم يكن قد عرضت عليه الأمانة أو في وضعية القبول لحملها أو الامتناع عنه . اذا لايمكن أن تكون الروح هي المقصودة بالأمانة في الآية الكريمة.

ويطلق أيضا علي الوديعة والعارية لفظ الأمانة وفي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).وربما اعتبرت الروح أمانة بمعني أنها وديعة أو عارية مستردة بالموت.ولكن يظل هذا المعني ثانويا أو عرضيا للأمانة. وليس المعني الأصلي والجوهري المقصود.إذ أنه في حالة التعويل عليه سنظل في حاجة الي اكتشاف الوديعة أو العارية التي أؤتمن عليها الإنسان دون غيره أو طلب أن تعلق ذمته بها إلى أن يؤديها أو يردها أو يحافظ عليها دون تفريط فيها.ونكون بذلك فد عدنا إلى نقطة البدء.

وتعني الآمانة في لغة القرآن حق الغير وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: "إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها وإذا حَكمتم بين النَّاس أن تحكُموا بالعدلِ إنَّ الله نِعِمَّا يَعظُكُم به إنَّ الله كان سَميعاً بَصيراً( النساء -58)" فالأمانات هنا هي حقوق الغير سواء حقوق رتبها لهم الشرع أو ودائع لهم أو ما شابه ذلك.ويمكن أن نستنتج من هذا المعني أن الأمانة التي نبحث عنها هي حق من حقوق الله علي الإنسان عليه أن يؤديه له. ويعزز ذلك قوله صلي الله عليه وسلم:": «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له».

ورغم ظهور هذه المعاني العارضة في طريق البحث عن ما هي الأمانة؟ فنحن لم نصل إلى معناها بعد ولا مفر من مواصلة التفتيش عنه.

وقد قال بعض الفقهاء أيضا أن الأمانة هي التكاليف من أوامر ونواه وحلال وحرام ومنهم فخر الدين الرازي والذي عرف التكليف بأنه الأمر بخلاف ما في الطبيعة، و أن هذا النوع من التكاليف ليس في السماوات ولا فى الأرض لأن الأرض والجبال والسماء كلها على ما خلقت عليه، الجبل لا يطلب منه السير في والأرض لا يطلب منها الصعود، ولا السماء الهبوط، ولا في الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء، لكن ذلك لهم كالأكل والشرب فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه. وهكذا يفرق الفخر الرازي بين الإنسان وغيره من المخلوقات بالتكليف حيث يجعل التكليف خاص بالإنسان وأن كل المخلوقات غير الإنسان أمر الله لها موافق لماهيتها وطبيعتها. إلا أنني ألاحظ أن الأمانة لابد أن تكون شيئا ثابتا أبد الدهر لا يتغير ولا يتحول بينما التكاليف لم تكن ثابتة في الأديان وإنما عرضة للتغيير . صحيح أنه في كل دين كانت الصلاة والصيام والزكاة حاضرة ولكنها تختلف في أشكالها ومواقيتها ولم يكن ثابتا سوى القيم الدينية والأخلاقية ولحق التغيير أيضا بعض الحلال والحرام لرفع العنت أو تغيير الظروف التي اقتضت كل منهما. ومن ناحية أخرى ما كانت السماوات والأرض والجبال لتخرج عن طاعة الله، وإنما كلها تعمل وفق أوامره ومشيئته ، ووفق الوظائف التي خصصت لها . وكل ماخلقه الله يسبح بحمده وإن لم نفقه تسبيحه أو ندركه. والملائكة لا تعصي لله أمرا وما خلق الله الجن والإنس إلا ليعبدوه ، ولذا يمكن القول إن الإنسان وحده لا يختص بالتكاليف وإن اختلفت نوعياتها عما كلف الله به غيره.

وقال الزمخشرى بأن المراد بالأمانة هو الطاعة وأنه يراد بها الطاعة لأن الطاعة لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز، وأما حمل الأمانة، فمن قولك فلان حامل الأمانة أو محتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته وتخرج عن عهدته. وهو هنا يلجأ للتفسير بالمجاز بعد أن أعياه فهم ظاهر اللفظ ولكنه لايوضح كيف يكون عرضها ولو علي سبيل المجاز علي من لم يخرج عن طاعة الله قط.

أما الفيروزبادى فقال:" فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان"، أى أبين أن يخنها وخانها الإنسان قال والإنسان هنا هو الكافر والمنافق ففسر حمل بمعني خان وبالتالي فان الامتناع انصب علي خيانة الأمانة وليس قبولها بينما نلاحظ أن لفظ الإنسان جاء في الآية عاما ولو أريد به التخصيص بالكافر أو المنافق لجاء ذلك واضحا.

ولعل أفضل ما قرأت في هذا الشأن: " أن معرفة الخاصية التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات هي التي تقودنا إلى معرفة الأمانة التي انفرد وحده بقبولها ومعرفة الأمانة تقودنا بدورها إلى معرفة أهم حقائق الوجود الإنساني.
إذاً ما هي ميزة الإنسان التي لا يشاركه فيها غيره من المخلوقات ت ليكون هو الخليفة في الأرض؟
إجابة هذا السؤال تعرفنا ماهية الأمانة التي تميز بها الإنسان،ويمكننا أن نمسك بأول خيط في تعريف الأمانة بمعرفة المعروض عليهم هذه الأمانة، من أبى أن يحملها، ومن حملوها، أما من أبي حملها أولهم تلك السماوات الرحبة المرفوعة بغير عمد ترونها، الأشد خلقا من الإنسان" أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا "(النازعات27) .وثانيهما الأرض التي تحمل الإنسان وصلب الصخور وشاهق الجبال والمباني والمساكن، والبحار والمحيطات وما فيها جميعا." أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رواسي وَجَعَلَ بَينَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يعْلَمُونَ (النمل61) وعرضت على الجبال التي تأخذ الأبصار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: وَمِنَ الْجِبَالِ" جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "فاطر27" .لم تكن جمادية هذه المخلوقات هي مناط العبرة في العجز عن حمل الأمانة، كما ذهب متأولون.
ولكن العبرة ومناطها في ضخامة أجرامها وطاقتها على الحمل والتحمل: .
كل هذه القدرات على الحمل لم تسعف هذه المخلوقات على أن تحمل الأمانة المعروضة، قدرتها على الحمل قائمة وغير منكورة، ومع ذلك أبت كلها أن تحمل الأمانة، بل وأشفقت من حملها فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وبقيت كما خلقت، وكما ارتضت لنفسها، بقيت مخلوقات مسخرة وعرضت على الجبال التي تأخذ الأبصار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: وَمِنَ هنا تبدو أول وأهم ملامح الأمانة التي رفضت تلك المخلوقات المسخرة أن تحملها، إنها مخلوقات أرادت بإشفاقها من حمل الأمانة ألا تخرج من طبيعة تكوينها التسخيري، أي أنها رفضت إلا أن تكون مُسخرة، رفضت أن تكون حرة تفعل ما تشاء، وتحاسب على ذلك بأعدل الجزاء. رأت نجاتها في تسخيرها، فأشفقت من الأمانة أن تحملها، رأت نجاتها في ألا تكون حرة الإرادة، فأبت أن تحمل ما عرض عليها، أبت تلك الحرية التي تضعها في محنة الابتلاء، أبت مسؤولية الاختيار، لأنها عرفت أنها داخلة في اختبار وابتلاء أن يكون لها حرية الفعل، ويكون عليها جزاء العمل. فرغبت عن الاختبار، ورغبت في أن تكون مُسيرة، وذلك أفضل لها ألا تفي بحق المسؤولية، وذلك أفضل لها ألا تقوم بواجبات الإرادة الحرة فأشفقت منها، وأبت أن تحملها، قبلت التسخير ورفضت الحرية. هي الحرية التي أشفقت منها تلك المخلوقات الكبيرة، هي الحرية التي أبت السماوات والأرض والجبال وما كان مثلها من مخلوقات أن تحملها، وحملها الإنسان، وهو من هو فى ضآلة جرمه ومحدودية طاقته، حمل الأمانة، فكان أن سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض، تكريما له على قبوله الأمانة، وإعدادا له لخلافة الله في الأرض.
وأصبح الإنسان مسئولا عن عمله، يحاسب عليه ثوابا وعقابا، ولا يحمل أحد عنه تبعة مسعاه، أبى الإنسان التسخير وتحمل تبعية الحرية والاختيار، قبل الإنسان مخاطر الابتلاء وعثرات الجهل، وفتح ربه أمامه أبواب التوبة فيتعثر ويخطئ ويتعلم من تجربته ويهتدي إلى سواء السبيل، حمل الإنسان الأمانة، فحمل جوهر إنسانيته: الحرية، لو قبل التسخير كما فعلت السماوات والأرض والجبال وكل من قبل التسخير، لو أنه فعل مثل ما فعلوا، لأعفاه ذلك من المسؤولية والحساب.
فالحرية تقابلها المسؤولية.، والتسخير يقابله الإعفاء من أية مسؤولية، الحرية يقابلها التكليف، والتسخير يقابله الامتثال، الحرية يقابلها الابتلاء، التسخير تقابله الطاعة، حمل الإنسان الأمانة، فحمل إنسانيته، وحمل حريته، حمل مسؤوليته، حمل ابتلاءه، وحمل تكاليفه، وما فتئ أن عصى ربه وغوى، وندم وتاب، وتاب عليه ربه فهدى، وأهبط إلى ساحة الابتلاء والتكليف حاملا أمانته، حريته معه واستخلف الإنسان في الأرض، بقدر الله، وبأهليته للمسؤولية وبما تلقيه عليه من تبعات جسام أعفيت منها كل الكائنات الأخرى."

إذن يستخلص من الرأي السابق أن الأمانة هي الحرية التي منحت للإنسان دون سواه من المخلوقات التي ظلت مسخرة ولكن ألم تمنح هذه الحرية للإنسان من بداية خلقه؟الم يدخل الله آدم وزوجه الجنة ولم يقيد حريتهما إلا في شيء واحد وهو شجرة طلب منهما ألا يأكلا منها؟ إن الرأي الأخير رغم ما يتضمنه من إغراء بالتوقف عنده والاكتفاء به يجب ألا نستجيب للإغراء وأن نواصل الاستمرار في البحث لعله يصل بنا إلى ما هو أقرب رشدا.

ولقد جاء ذكر الأمانة أيضا في القرآن بصيغة الجمع في قوله تعالي: "يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون " وفي قوله تعالى فى وصف المؤمنين : "والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون "وقد نتوصل الي أن الأمانة التي نبحث عن معناها هي الأم التي تتفرع عنها أمانات كثيرة.

السياق الذي وردت فيه الآية :

مالم نبحث فيه حتي الآن هو السياق الذي وردت فيه الآية ضمن سورة الأحزاب والذي يبدأ من قوله تعالي : " يسألك الناس عن الساعة قل إن علمها عند الله ، ومايدريك لعل الساعة تكون قريبا" (الاية63) ثم تتوالي الآيات من 64-68 تتحدث عن عذاب أهل السعير الذين عصوا الله ورسوله وأطاعوا سادتهم وكبرائهم فأضلوهم السبيل ، ثم تتوجه الآيات 69و70 بالنصح للمؤمنين ثم تأتي الآية71 لتبشرهم بالفوز العظيم لمن يطع الله ورسوله وبأن الله جزاء طاعتهم يصلح لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم . بعد ذلك مباشرة تأتي الآية72 التي تتحدث عن الأمانة.وبعدها مباشرة تأتي آخر آية في سورة الأحزاب تقول: " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله علي المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما"

من هذا السياق يمكننا أن نستنتج أن الآية 72 يرتبط معني الأمانة فيها ارتباطا وثيقا بقيام الساعة وما يعقبها من حساب وعقاب وثواب. وأن ما سيحاسب عليه الإنسان متعلق كله برعايته للأمانات وحملها على خير وجه ، وبما تقتضيه طاعة الله وحفظ وصاياه.

وتطلعا لمزيد من الهدى سنبحث عن سياق آخر جاء فيه ذكر الأمانة في سورة " المؤمنون" التي عدد الله فيها صفات المؤمنين من بداية السورة وجاء ضمنها :" والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون" ثم يتم وصف المؤمنين عقب ذلك بأنهم"أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" . ثم يأتي الحديث عن الخلق حتى الآية14 لكي يذكر بعده : "ثم انكم بعدذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون" ثم ينتهي هذا السياق لكي تنتقل السورة منه إلى سواه. ويذكرنا هذا بما ورد في سورة الملك: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا".

تتعزز معلوماتنا الآن بأن الأمانة والأمانات ترتبط بالموت والبعث يوم القيامة والحساب والعقاب والثواب وبما هي التزام ومسؤولية وحق علي مؤديها مستحق الأداء لصاحب الحق. وأن صاحب الحق هنا هو الله سبحانه وتعالي .ودون أن يمنع ذلك من وجود أصحاب حق في الأمانة يكون القيام بواجبها نحوهم بمثابة وفاء بحق الله فيها. وأول ما يرد علي الخاطر ويتفق مع بنية الآية أن تكون هذه الأمانة أو الأمانات عهد التزم به الإنسان وحق عليه الوفاء به ومرتبط أيضا بالإيمان حيث يوجد حديث للنبي صلي الله عليه وسلم رواه أحمد وابن حِبَّان عن أنس عن النبي يقول فيه: لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له". فالأمانة إذن قد تكون عهدا علي الإنسان المؤمن يلتزم برعايته والوفاء به لكي يكون جديرا بدخول الجنة خالدا فيها جزاء حفظه وأدائه الأمانة أو يعاقب على عدم وفائه بالعهد بأن يكون من أصحاب السعير .

ويمكن أن يتطور استنتاجنا الآن إلي احتمال أن يكون آدم عليه السلام قد قدم عهدا لله سبحانه وتعالي يلزمه ويلزم ذريته من بعده ، هو في نفس الوقت بمثابة أمانة في أعناقهم يلتزمون بالوفاء بها لك يمكن لآدم وزوجه أن يعودا إلي الجنة وأن يأخذوا معهم أبناءهم وحفدتهم وذريتهم.بعد أن طردا منها من قبل بعد أن أزلهما الشيطان وعصيا ربهما. وقد يكون هذا العهد هو الكلمات التي علمه الله آدم ليتوب عليه.وأن الله سبحانه وتعالي تقبل منهما هذا العهد لكي يكون بإمكانهما العودة إلي الجنة ومعهما ذريتهما بشرط التزامهما وذريتهما بالعهد.وهو ما يتم التحقق منه عبر مسلسل الموت والبعث والحساب . فمن راعي أمانته وعهده دخل الجنة. وبرحمة من الله كلما نسيت أمة منهم العهد أرسل الله لهم رسولا ليذكرهم وأخذ العهد علي الرسول أيضا والذي يأخذ بدوره العهد علي أتباعه فيما يعرف بالبيعة في الإسلام.ويعزز ذلك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: يا آدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يا رب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها".

الأمانة إذن بهذا المعني هي عنوان دال علي عقد معاوضة بين الإنسان وخالقه يحدد التزام الطرفين والجزاءات المترتبة علي الإنسان في حالة الإخلال به . ويمكن لنا أن نستنتج أيضا أن ما عرض علي السموات والأرض والجبال كان البعث بعد الموت والخلود من بعده في الجنة أو النار بشروط ذلك التي هي العهد الذي قبل به آدم .وبذلك يتسق التفسير مع بنية النص وجميع مفرداته وسياقه سواء في سورة الأحزاب أو ما يماثله في سورة "المؤمنون".

فإذا دمرت الأرض ودكت الجبال دكا وانهار نظام الفلك في السماوات فانه لن يتم بعث مايموت من أنظمة كونيةأو كائنات حية أخرى غير الإنسان. دون أن يمنع ذلك من احتمال إنشاء غيرها مثلما أنشأها الله أول مرة وهو علي كل شيء قدير ، أما الذي سيواجه وحده البعث بعد الموت وما بعد البعث فهو الإنسان وحده.

العهد والميثاق:

هنا أيضا يجب علينا النظر فيما جاء في أية يبدو أن لها علاقة بما نحن بصدده ، يقول فيها المولي عزوجل:" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (سورة الأعراف الآيات من172-174)وقد أثير جدل كثير حول تفسير الآية واعتمد معظم المفسرين علي الآية روايات متشابهة منسوبة لعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأبو هريرة مع إقرارهم بضعفها وفحواها أن الله أخرج من ظهر آدم ذريته أو صور ذريتهم وأشهدهم علما بأن الآية تحدثت عن بني آدم وليس عن آدم نفسه وبني آدم يحتمل أن يكونوا أبناء آدم في حياته الذين اشتركوا معه في تقديم العهد أو الميثاق لربهم والذي أضحي أيضا بمثابة أمانة في أعناقهم وأعناق ذريتهم ولكن الأرجح من ذلك أن المقصود هم الأنبياء الذين كانوا بمثابة الدر في السلالة وأخذ منهم العهد وهذا هو الأقرب إلي ألفاظ الآية والذي تعززه آيات أخرى من كتاب الله وباعتبار أن القرآن يفسر بعضه.فقد ورد في نفس سورة الأحزاب-الآية7- قوله تعالي :"وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا"(الأحزاب:7)،.. فالميثاق إذن مأخوذ من آدم والنبيين والذين هم الدرر في سلالته.

يمكن لنا أيضا أن نستنتج من ذكر لفظ الأمانة مفردا في سورة الأحزاب بينما الأمانات في سورة:" المؤمنون" مقترنة بالعهد بصيغة الجمع بأن لفظ أمانات بصيغة الجمع هو تفصيل للعهد والأمانة بمعني أن كل بند في العهد هو أمانة في حد ذاته وبذلك تكون الأمانة في سورة الأحزاب هي جماع الأمانات المشار إليها في "المؤمنون" وبالتالي تكون كلمة تعني جمع الجمع وليست لفظا مفردا.

وإذا طبقنا علم النفس سنجد أنه من المنطقي أن يطمع آدم بعد أن تاب عليه ربه العودة إلى الجنة هو وزوجه ومعه بنيه وبناته بعد أن أمسى رب عائلة كبيرة وأن يطالب أيضا بالخلود فيها الذي كان تعلقه به سببا في خروجه من الجنة بعد أن أوهمه الشيطان بأن الشجرة التي منعهم الله عن الاقتراب منها هي الشجرة التي تهب من يأكل ثمارها الخلد.

وإذا استعنا بالتاريخ والأنثروبولوجيا نستطيع أن نفهم اهتمام الفراعنة البالغ بالبعث والحياة بعد الموت إذا ما أخذنا في الاعتبار أن آدم وبنيه استقروا في أدوميا بفلسطين .وأن العماليق من سلالته المباشرة قد حكموها. وأمكننا فهم أيضا تقديس الأسلاف عند القبائل الأفريقية المؤسس علي أن أرواحهم تراقب تصرفاتهم في الدنيا والتزامهم بالسلوك القويم واعتبار هذه المظاهر انعكاسات أو تداعيات أو بقايا ثقافات وعقائد قديمة متصلة بما كان عليه أدم وبنيه وجاء به الأنبياء والمرسلون من بعده.

لقد جاء الخلط أو الخطأ في التفسير للآية:" واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم..." من فهمهم لعبارة "من ظهورهم " وكان الأولي بهم فهمها علي أساس أنها تعني منذ ظهورهم علي وجه الأرض فذاك الفهم المقبول في لغة العرب ييسر عليهم إدراك المعني ولايجعلهم يحولون ما يمكن إدراكه بالعقل إلى عمل غيبي أقرب إلى الخرافة منه إلى الغيب ويدعمونه بأحاديث ضعيفة أو موضوعة ويقولون هذا ما فسرت به السنة.

هل كان الإنسان إنسانا قبل حمله الأمانة :

فسر مفسرون آية : " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض ......" بأن الإنسان وصف فيها بأنه ظلوم ، جهول لأنه قبل ما لم يقبله ما هو أشد منه قوة . وقد تمت مسايرتهم في تفسيرهم فيما سبق . والتفسير الأصح من ذلك فيما أرى – والله أعلم – هو أن الإنسان كان قبل حمله الأمانة ظلوما جهولا . وهذا يتفق مع تاريخ البشرية ، فالبشر موجودون على ظهر الأرض منذ مائة ألف عام أو أكثر بينما ظهر الإنسان العاقل في منطقة ما بالشرق الأدنى قبل عشرة أو خمسة عشر ألف عام فقط . ولم يتكون المجتمع الإنساني العاقل إلا بعد ظهور الإنسان الأول ، أي : آدم عليه السلام . ولذا قالت الملائكة بأنه خلق آدم وجاعل منه خليفة في الأرض : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ، ونقدس لك ..."وهم بذلك يتحدثون عن خبرتهم بالبشر الذين كانوا في الأرض وقتذاك ويفعلون ذلك.ويعزز ذلك ما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: يا آدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يارب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها".

ويعني هذا أن الإنسان الذي مازال يحمل الأمانة ويحافظ عليها لا يمكن أن يفسد في الأرض أو يسفك الدماء فيها . وأن الذين فعلوا ذلك والذين يفعلونه الآن هم ممن تخلوا عن أماناتهم وعادوا إلى زمن الجاهلية الأولي السابق على ظهور الإنسان الأول ، أي النبي أدم ، جد الإنسانية الأكبر. وأتصور أن هذه الجاهلية الأولي هي التي كان يقصدها الأستاذ سيد قطب رحمه الله ، والذي يكفي في زمانه للقول بعودتها ما تم سفكه من دماء الملايين من البشر في الحربين العالميتين الأول والثانية وما تبعهما من حروب إقليمية أو ثنائية. وكذلك حروب أنظمة الحكم المستبدة لشعوبها التي يتم فيها بإهدار حقوق الإنسان ونهب الثروات ، وما تنشره من فساد في مجتمعاتها كأداة للسيطرة بما يعد بمثابة عودة إلى الجاهلية الأولى. ونبذ الجاهلية الأولي لا يقف عند تطبيق الشرائع السماوية فقط وإنما بأن يعاد للإنسان إنسانيته. وإن يكون عالما وعادلا معا وليس عالما وظالما. وبالتزود بالمعرفة الصحيحة و العميقة بالله، والاهتداء إلى نواميسه في مخلوقاته، فيطيعه الطاعة الكاملة ، ويعمل بما أوصاه به على لسان النبيين .ومع التزام الإنسان الحق والعدل يتحقق المجتمع الآمن الذي يعمه الخير والمحبة والسلام. ويعود الانسان الي إنسانيته التي بها كرمه الله وفضله على كثير في العالمين. قال سبحانه: "ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُمْ في البرِّ والبحر ورزقناهُمْ من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُمْ على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً" (17 الإسراء آية 70).

. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس : «لا تزال هذه الأمَّة بخير، ما إذا قالت صدقت، وإذا حكمت عدلت، وإذا استُرحمت رحمت» (أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده وأبو يعلى الموصلي في مسنده أيضاً).وقال : «إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن ـ وكلتا يديه يمين ـ الَّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا» (رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص ).

الخلاصة :

الأهم من إثبات ما أثبته هو ما يمكن استخلاصه منه وهو جرد الأمانات مع كثرتها ومعرفة مدي التزامنا برعاية كل منها. اذ أن محاسبة النفس بالنقد الذاتي اليوم هو الذي ينجيها عند حساب الله لها غدا. وقبل أن يفوت الأوان ويتعذر الاستدراك. وعلي سبيل المثال فان الأبوين لا يتحملان المسؤولية عن نفسيهما فقط ، وإنما أيضا عن أبنائهم وبناتهم ونسلهم،وكلهم أمانة يسألون عنها وأنه إذا كانت "كل نفس بما كسبت رهينة "فان كل نفس ستسأل عن الوفاء بالأمانة أو خيانتها.وقد اعتبر القرآن أن الإخلال بالأمانة خيانة لله ورسوله. قال تعالى: "يا أيُّها الَّذين آمنوا لا تخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون"

وأداء ورعاية الأمانة هو فرض عين علي كل فرد وليس فرض كفاية يغنيه عنه أداء غيره له.وهو أيضا فرض جماعي علي المجتمع الإنساني عامة والمسلم خاصة لا يمكن للمجتمع أن يتحلل من مسؤوليته عن ذلك. ولذا فإن أداء الأمانة ورعايتها يمتد داخل الدين إلي مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والإعلام والبيئة والتعليم ... أي جميع مجالات الحياة. ويتحمل الحاكم والمحكوم معا مسؤولية الأمانة وإشاعتها في المجتمع لتكون إطارا حاكما لحركته وثقافته وعاداته وتقاليده ويحاسب الحاكم والمحكوم عليها في الأرض مثلما يحاسبون عليه في السماء طالما أن التفريط في الأمانة هو في دين الأمة خيانة.ولذا جاء الآمر"وأدوا الأمانات إلي أهلها" أمرا عاما يتم بمقتضاه إعطاء كل ذي حق حقه كاملا غير منقوص وبما يرضي الله ويتفق مع العدل وشرعية الأمانة.

فالعالم يجب أن يعلم الناس مما علمه الله وألا يكون قد خان الأمانة والميسور الحال يجب أن ينفق في سبيل الله من المال الذي استخلفه اله عليه و إلا يكون قد خان الأمانة والقاضي عليه أن يحكم بما أمر الله به من عدل وإلا يكون قد خان الأمانة....الخ. وتتعدد السلوكيات التي تتطلبها الأمانة بما لا يتسع المجال هنا لحصرها. وحديث الرسول : "لا يمان لمن لا أمانة له " يجعل وجود الأمانة معيارا للتفرقة بين الإيمان والكفر . إذ لا يمكن أن يحسب الحاكم الذي فرط في مصالح الشعب أو اختلس المال الذي أو تمن عليه أو تنازل عن حقوق الشعب للأجانب مقبل عرض من أعراض الدنيا وكذلك القاضي المرتشي الذي حكم ظلما بعلم منه وعمد ..لا يمكن حسبان هذا أو ذاك من المؤمنين.

ولأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فيما روي عنه :" لا يزال الخير في أمتي إلي يوم القيام’" فسنجد هنا وهناك قلة من الناس هم الذين لأماناتهم راعون أما الأكثرية حكاما ومحكومين فقد نعثر علي بقايا الأمانة عالقة في نعالهم من كثرة ما داسوا عليها بها..وكان الله للخائنين خصيما وبهم عليما.

فوزي منصور

Fawzym2@gmail.com

Fawzy_mansour@hotmail.com

نشرت هذه المقالة لأول مرة في يومية "أنوال المغربية"يوم 18أكتوبر 1994بعنوان : "الأمانة والمسئولية " وقد أدخل عليها هنا بعض التحسينات وتم التوسع فيها..

.

No comments: