Wednesday, December 16, 2015

التفكير الاستراتيجي


التفكير الاستراتيجي


      تحتاج كل دولة الى تحقيق أهداف استراتيجية لها تعمل على تحقيقه خلال فترة زمنية تقدرها غالبا ما تكون بعيدة المدى وفي المستقبل المنظور لكي تتقدم وتحتل موقعا متميزا بين الأمم.ويتم تحديد الهدف المنشود ومخططات العمل لتحقيقه مستقبلا عن طريق التفكير الاستراتيجي . أي التفكير لتحقيق أهداف على المدى الطويل أو المتوسط الأمد.
ويتناول التفكير الاستراتيجي المجالات الحيوية الهامة التي يتم تحديد هدف لك منها تعمل الدولة إلى تحقيقه لتلبية احتياجاتها الجيواقتصادية والدفاعية بما يضمن تحسين أحوال شعبها في المستقبل وحماية وجوده وأمنه. ويستفاد في تلك الأهداف من قوله تعالي: "الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف". وهو ما بجعل التنمية الأقتصادية ذات أولوية يليها مباشرة الاحتياطات الأمنية التي يفرض كل منها ثلاثة عوامل هي : المكان والزمان والإنسان ، وثلاثتها تكون ما يمكن تسميته بالمثلث الاستراتيجي.  وتأتي السياسة المرتبطة بالجغرافيا ،أو التفكير الجيوسياسي في خدمة كل من الاقتصاد والأمن.

ويقول أكرم سالم في مقال منشور له بموقع الحوار المتمدن عن التفكير:"ان التفكير الاستراتيجي مكون معرفي يرتبط ويتبادل التأثير مع الادراك والتعلم والذكاء والوعي الاستراتيجي وما ينتج عنها من خيال وحدس وتصور استراتيجي . فضلا عن الحاجة الى تصورات استراتيجية بأعتبارها معطيات تغذي العقل الاستراتيجي وتتفاعل مع ما تختزنه الذاكرة بعيدة الأمد من خبرات وقدرات لخلق الابداع والتمثيل لسيناريوهات تكون اكثر انسجاما مع حالة تنوع المواقف الاستراتيجية التي تواجه ذلك العقل. . 
وقد عد التصور الاستراتيجي واحدا من مداخل التخطيط والمعتمد على استخدام نظام السيناريوهات ذات العلاقة المباشرة بتحليل بيئة الأعمال ، وبناء المركز التنافسي وتطوير خيار الادارة كونها مترابطة مع بعضها . ويمتد التصور الاستراتيجي ليشمل عمليات المنظمة بأعتباره يصف ما ينبغي ان تكون عليه المنظمة(الدولة) في نهاية عشرين سنة قادمة مثلا ويتلازم استخدام قائمة التصور مع الاقتدار المتميز التي تبذل به الجهود لتحديد طرق تحقيق الميزة التنافسية وتلعب دورا حيويا فيه .
 
وقد عرف التصور الاستراتيجي بانه تصور استراتيجية او مجموعة استراتيجيات المستقبل ، ويحقق ذلك امثلية استراتيجية المنظمة(الدولة) فهو يهيء تصورا عن توجه وغرض كامن في الاستراتيجيات والانشطة الاستراتيجية . واعتبر خلق تصورات استراتيجية من احدى مهام الادارة الاستراتيجية بأعتبارها نظاما مصمما لمساعدة الادارة في تقدير وصنع القرارات الاستراتيجية ، اضافة الى وضع تصورات استراتيجية
. 

أولا : التفكير الجيواقتصادي والتنمية الاقتصادية:
فإذا أخذنا التنمية الاقتصادية مثلا وفكرنا فيها في إطار المثلث الاستراتيجي سنجد أن العوامل الثلاثة السابقة تحكم تفكيرنا وتحدد اتجاهاته وبالتالي أهدافه على النحو التالي:
أـ المكان:
أهم ما يفرضه المكان هو إمكاناته الاقتصادية وما يتطلبه التوسع الانتاجي في الزراعة والصناعة وخاصة استغلال الموارد الطبيعية المتاحة ومدى كفايتها وكيفية زيادتها في حالة قصورها عن تلبية احتياجات وآفاق التنمية.ومن هذه الموارد : الماء والأرض الصالحة للزراعة والثروات المعدنية والطاقة وطبيعة الأرض وتضاريسها وإمكانية إقامة البنيات الأساسية التي يتطلبها الانتاج والنقل والإسكان وغيرها من المرافق الضرورية.
وقصور المكان عن الوفاء بتلك الاحتياجات سواء في الحاضر أو المستقبل يتطلب أفضل استثمار للموقع الجغرافي ، سواء في خدمة الاقتصاد أو في خدمة وسائل الدفاع عن المكان أيضا إذا ما تعرض لاعتداءات خارجية محتملة في المستقبل.
يتطلب الأمر هنا التوسع في المكان بما يتيح تغطية النقص المحتمل في إمكاناته مستقبلا، وتحديد أبعاد هذا التوسع. وكانت الدول القوية تسعي للاستعمار المباشر أو غير المباشر لتحقيق هذا الغرض حتي انتهاء الحرب العالمية الثانية ثم استبدلت وسائل الاستعمار القديمة بوسائل حديثة تؤدي ذات الغرض وتحقق نفس الأهداف وخاصة للحصول على المواد الأولية التي يحتاجها اقتصادها ولاتتوفر لديها.
ومن الوسائل الجديدة التي تم اللجوء إليها هي سياسة ما يعرف بالاعتماد المتبادل وقد طبقتها روسيا في المناطق التي هيمنت عليها من قبل في آسيا وأوروبا. وذلك بربط تلك الدول بعلاقات اقتصادية أو ارتباطات يصعب عليها الفكاك منها. وتأخذ سياسة الاعتماد المتبادل أشكالا شتى تحكمها الظروف والفرص المتاحة .
كما يمكن أن يتحقق الاعتماد المتبادل بين الدولة ودول الجوار على نحو أفضل وأنفع وأسلم عن طريق مايمكن تسميته بالتنمية المشتركة بين مجموعة دول يجمعها نطاق جغرافي واحد ، وهو ما يعرف سياسيا حاليا بالوحدة الاقتصادية عبر حدود الدول المتجاورة بما يحقق مصالح جميع تلك الدول في آن واحد ويسهم في تقدمها معا وبناء مستقبل مشترك لها.
هنا لاينحصر التفكير الاستراتيجي اقتصاديا في مكان الدولة وإنما فيما هو أوسع مكانيا ليشمل أمكنة متجاورة لدول مختلفة تحتفظ كل منها بكيانها السياسي المستقل.
وقد تنبه ملوك مصر زمن الأسر المالكة الفرعونية إلى أن المجال الاقتصادي لمصر لايقتصر على مساحة المملكة وإنما يضم جنوبا كل مايلي حدودها الجنوبية حتى بحيرة فيكتوريا التي يأتي منها النيل وكذلك كل ما يمكن الوصول اليه بحرا من سواحل البحر الأحمر حتى الصومال أو بلاد بونت كما كانت تسمي. ودون أن يعني ذلك السيطرة السياسية أو العسكرية على تلك المناطق الخارجة عن مساحة الدولة المصرية وإنما عن طريق علآقات اقتصادية مفيدة لمختلف الأطراف وكان الاهتمام الرئيس يرتكز على التجارة البينية.
وعندما اعتمد محمد على باشا على مستشارين أجانب يبدو أنهم درسوا جيدا التاريخ المصري القديم أشاروا عليه بتحقيق هذه الاستراتيجية فسعى الى مد نفوذ مصر في أفريقيا جنوبا حتى بحيرة فيكتوريا وأيضا على سواحل البحر الأحمر الغربية لتشمل سواحل السودان وإريتريا حتى شمال الصومال.
وبعد هزيمة محمد على التي انتهت اليها مغامرته الأسيوية في معركة نوارين البحرية واضطراره إلى الانكماش داخل حدود مصر الحالية وإن تم الاحتفاظ بالسودان وسواحل اريتريا ثم خسارتهما معا فيما بعد لم تحدد الحكومات المصرية بعده أي أهداف استراتيجية لها في المجال الجغرافي.وحاول عبد الناصر أن يستبدل الوحدة مع السودان التي كان المسبب الرئيس في انفكاكها بوحدة مع سوريا لم تصمد سوى بضع سنوات وانتهت كما فشلت كل محاولات إقامة وحدة عربية سياسية أو اقتصادية حتى الآن ومن غير المتوقع أن تنجح أي محاولات أخرى مستقبلا لعوامل كثيرة قد يكون في مقدمتها وجود إسرائيل في قلب المنطقة والتي تم زرعها خصيصا للحيلولة دون وحدة شعوب المنطقة وترى الدول الاستعمارية الأخرى بأن من مصالحها استمرار تلك الدولة في المنطقة لتقوم بدورها المرسوم لها من قبل بكفاءة تامة.
 وحاليا تعتبر الظروف مناسبة لتحقيق تنمية اقتصادية مشتركة مع دول حوض النيل وشرق أفريقيا دون أن يعني ذلك وجود عقبات كثيرة ولكن هذه العقبات يمكن التغلب عليها حين يتم دراستها وأيجاد الحلول اللازمة للتخلص منها وخاصة في الجانب الثقافي والإنساني.

بـ ـ الزمان:.
بمرور الزمن تتغير أشياء كثيرة يمكن أن تشكل كل منها عقبة في مواجهة تحقيق الأهداف الاستراتيجية للدولة . ومنها تغير العلاقات الدولية والارتباط بالتبعية والضغوط الخارجية وغيرها فضلا عن تطور تقنيات الانتاج وما يتطلبه ذلك من استيعاب التقنيات الجديدة فيه واستثمارها لصالح الانتاج ، وهناك أيضا السياسات الاقتصادية والمالية التي فرضتها اوضاع الاقتصاد الدولي وظهور العولمة والنيوليبرالية وتضخم وهيمنة الشركات المتعدية الجنسية وضغوط الدول المالكة لها والمستفيدة منها والتي تصل الى حد شن الحروب الدولية لحماية مصالحها.
مثال للتقنية الانتاجية أنه حين فكرت مصر في عهد عبدالناصر التحول الى دولة صناعية والبدء في الصناعات الثقيلة الأساسية وفي مقدمتها صناعة الصلب، توجهت مصر نحو إنشاء مصنع للحديد والصلب لاستغلال ما لديهامن خامات للحديد شرق أسوان وفي الواحات البحرية وحاولت الحصول على مصنع حديث من شركة ديماج الألمانية إلا أن الدول الغربية مارست ضغوط على الشركة الألمانية فسحبت عرضها، واضطرت مصر الى اللجوء للأتحاد السوفييتي التي وجدها فرصة للتخلص من مصانعه ذات التقنيات القديمة سواء الخاصة بالحديد والصلب الذي يعتمد على فحم الكوك وصدرتها الى مصر في حين أن التقنية الحديثة لاستخلاص الصلب كانت تعتمد على الأفران الكهروجينية التي ينخفض فيها مصاريف الإنتاج الى النصف.
وترتب على التقدم العلمي في مجال الأليكترونيات إلى إمكانية إدارة المصانع اليكترونيا وتشغيل الآلات بأجهزة الكمبيوتر مما يحد من أجور العمالة ومصاريف الإنتاج. كما تدخلت الأجهزة الأليكترونية أيضا في تشغيل ماكينات الري المحوري في الزراعة كما صارت ذات أهمية كبرى في الإدارة والاتصالات و مجالات عديدة أخرى.
وعندما نضبت الثروات الطبيعة أو أوشكت في الولايات المتحدة الأمريكية وصارت المنتجات الصناعية الأمريكية التقليدية غير قادرة على المنافسة في الأسواق الخارجية ، نصح الخبراء الاستراتيجيون الأمريكيون حكومتهم بالتحول من تلك الصناعات الى صناعات جديدة إليكترونية وبيولوجية يتمتع فيها الإنتاج الأمريكي بمزايا نسبية ناتجة عن تقنيات جديدة تمتلكها وخبرة إنتاجية مع نصائح أخرى في مجال التجارة خاصة في مجالات الأدوية والورق وغيرها والعمل على احتكار الصناعات والتجارة في تلك المجالات مع فرض ضغوط على الدول الصغيرة لفتح المجالات الخدمية أمام الشركات الأمريكية المتعدية للحدود وحققت تلك السياسة الأمريكية نجاحا اقتصاديا كبيرا في هذا التوجه الجديد ، لكنه فرض قيودا على الدول التي مازالت في طور النمو. وقد شاهدنا قصف الطائرات الأمريكية لمصنع الشفاء بالسودان بحجج واهية واتهامات كاذبة لأنه كان يصنع الأدوية البيطرية التي تحتاجها الدول الأفريقية مما يحد من احتكار الشركات الأمريكية للدواء على مستوى العالم.
الحديث في هذا الشأن سيطول ولذا يتم الاكتفاء بما تم ذكره أو الإشارة اليه آنقا وننتقل الى العنصر الثالث وهو الأنسان.
جـ ـ : الإنسان.
حدد فقهاء المسلمين القدامي هدف السياسة التي وصفوها بالسياسة الشرعية بأنه : حسن تدبير معاش الناس. وهو ما يعني إن أي سياسة لدولة لاتحقق هذا الهدف تخرج عن مفهوم السياسة. وإذا بحثنا سياسة كل الدول المتقدمة في العالم سنحدها تدور حول تحقيق معيشة أفضل للسكان وتحقق ذلك بنسب مختلفة حسب القوى المسيطرة اقتصاديا وبالتالي سياسيا في الدولة. وتستهدف النظم السياسية الديموقراطية ضمان تحقيق ذلك بواسطة حكومات تمثل الشعب وتدافع عن مصالحه وتحسين أحواله وتتولي المجالس النيابية أيضا المراقبة للحكومات بواسطة ممثلي الشعب المنتخبين فيها.
وقد اهتمت كل الدول المتقدمة بالتعليم وتقديم الخدمات لشعوبها بالقدر الكافي الذي يؤهل تلك الشعوب لخدمة التنمية الاقتصادية الإنتاجية التي تزيد من ثروة الدولة وتساعدها على المحافظة على أمنها بما تنتجه من أسلحة ومعدات دفاعية وتحافظ على استقلالها وترهب عدوها فلايجرأ على مهاجمتها أو النيل منها.

ثانيا : التفكير الجيو أمني أو الدفاعي:
أ ـ المكان:
إذا نظرنا الى الخريطة المصرية سنجد أن للدولة حدودا بحرية على طول البحرين : الأبيض والآحمر طويلة وحدودا برية مع فلسطين المحتلة شرقا ومع ليبيا غربا ومع السودان جنوبا ، وكل هذه الحدود في حاجة الى دفاعات جوية وبحرية وبرية متقدمة وفقا لتقدم التسليح لدى القوى المعادية.
كما تحتاج حماية الدولة أيضا الى ما يعرف بالعمق الاستراتيجي وهو ما يعطي أهمية كبرى لدول الجوار والمتمثلة في السودان جنوبا وفي ليبيا غربا. أما في الشرق وخاصة شرق شبه جزيرة سيناء فإن وجود فلسطين المحتلة ودولة إسرائيل المحتلة لها يمثل مصدر تهديد وعازل جعرافي بين مصر وبين دول المشرق العربي.
وعندما نجد أنه في حرب 1973 مع اسرائيل وحدوث ما عرف بثغرة الدفرسوار التي مكنت الجيش الاسرائيل من احتلال الضفة الغربية لقناة السويس ما بين مدينتي الإسماعيلية شمالا والسويس جنوبا لم يخف لنجدة مصر ودعم قواتها ودفاعها سوى القوات المدرعة الجزائرية وهو ما يفيد بأن العمق الاستراتيجي المصري غربا يتجاوز ليبيا الى الجزائر. ولذا فإن فتنة كرة القدم التي أثارها مذيع مصري وشاركت فيها السلطات الحاكمة في البلدين تعتبر من مهددات الأمن القومي المصري في الأفق الاستراتيجي وتعد في خدمة القوى المعادية للبلاد وليست في صالح أي من الشعبين المصري والجزائري.
وعندما يخبرنا التاريخ أيضا بأن شبه جزيرة سيناء باعتبارها شبه خالية من السكان هي البوابة الشرقية للبلاد التي تتم مهاجمتها منها من القوى المعادية لها في أغلب الأحيان ، فإن تعمير سيناء بالسكان وتسليح هؤلاء السكان للمشاركة في الدفاع عنها إلى جانب القوات المسلحة المصرية يعد بالتأكيد في صالح الأمن القومي المصري وليس ضده. كما أن معاهدة كامب ديفيد المعيبة وما قررته من أوضاع تقسم سيناء الى مناطق منزوعة السلاح وأخرى مسموح بها بأسلحة خفيفة وثالثة هي المصرح بها بوجود قوات مسلحة بها تفرض على المفكر الاستراتيجي بأن يضع نصب عينيه تعمير سيناء بسكان مسلحين لحمايتها مع استمرار ذلك حتى لو تمكنت الدولة المصرية من تعديل تلك المعاهدة أو التخلص منها.
وعلى الرغم من أنه كلما استعادت مصر شبه جزيرة سيناء بعد احتلال إسرائيل لها كان الإعلام المصري يكثر الحديث عن تعميرها ، فإن هذا التعمير لم يتم الشروع فيه قط وكل ما تم في شمالها الغربي هو استصلاح واستزراع 300000فدان في سهل الطينة جنوب شرق بورفؤاد وتم توزيع الأراضي على نحو لايسمح بزيادة السكان المصريين فيه ، بل تحولت لمزارع لتزويد أسرائيل باحتياجاتها من الخصر والفواكه والمواد الغذائية.
وما يعرف حاليا بمشروعات محور القناة سبق تقريرها خلال حكم محمد حسني مبارك وبدأ الشروع في تنفيذها بالفعل من قبل بعض المستثمرين المصريين إلا أن الحكومة المصرية عادت وأوقفت تلك المشروعات بدون مبرر. ولقد صدق من قال في إسرائيل بأن حسني مبارك كان يمثل كنزا استراتيجيا لإسرائيل فكل سياساته الداخلية كان في خدمة الأهداف الاستراتيجية الصهيونية في المنطقة بصفة مباشرة أو غير مباشرة وسواء كان على دراية بذلك أم يجهله.
لقد كان القتال الذي نشب بين مجموعات شعبية مصرية وبين قوات الاحتلال البريطاينية في قنال السويس أوائل الخمسينيات على إثر إلغاء مصطفي النحاس باشا لمعاهدة 1936من العناصر الهامة التي ساهمت في نجاح مفاوضات جلاء هذه القوات عن مصر في عهد عبدالناصر، كما كان للمقاومة الشعبية المسلحة في بورسعيد على إثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 من عوامل عدم امتداد قوات الغزو جنوبا غرب القناة وانسحابها فيما بعد ، كما كان لمقاومة أهل السويس للغزو الاسرائيلي للمدينة عام 3 197سبب عدم استيلاء تلك القوات على المدينة. إن هذا يوضح أهمية وجود مقاومة شعبية مسلحة في المناطق الحيوية بمصر والعمل على زيادتها كما وكيفا لحمايتها وخاصة في سيناء وشرق وغرب قناة السويس.
وعندما نشهد كيف استطاعت المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من الصمود أمام محاولات إسرائيل بقواتها إعادة احتلال القطاع وتكبيدها خسائر بشرية جعلتها تطلب وقف القتال وفيما بعد التفاوض مع حكومة القطاع على هدنة طويلة الأمد ، ومقارنة الوضع في الفطاع بمثله في الضفة الغربية المحتلة ، فإن التفكير الاستراتيجي في مجال الدفاع يتطلب مساعدة القطاع على مواصلة الصمود وليس المشاركة في حصاره وتجويع سكانه لكي يثورون على حكومته لأنها تساند جماعة الإخوان المسلمين في مصر أو انبثقت عن فرع للجماعة في غزة وأن يصرح بذلك أحد قيادات المخابرات المصرية وفق ما نشرته بعض وسائل الإعلام . كما يعلن مؤخرا رسميا من أن الحكومة المصرية تأمل في عودة السلطة الفلسطينية في رام الله رغم أنها سلطة وهمية أو شكلية الى قطاع غزة وكأنها تريد بذلك عودة اسرائيل للقطاع سلما بعد أن عجزت عن احتلاله بالحرب. ولذا فإن التفكير الاستراتيجي للأمن القومي يجب ألا يخضع للصراعات السياسية المحلية ولاللأهواء ولنزعات المحبة والكراهية وإنما يعتمد على أسس علمية ومن هذه الأسس الدروس المستفادة من التاريخ المعاصر والقديم.
وأيضا المحافظة على العمق الاستراتيجي لم يكن ليسمح للتآمر على وحدة واستقرار السودان بدافع الانتقام منه لمشاركة فردين من المخابرات السودانية في محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المصري .

ب ـ الزمان:
بعد أن شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربا إليكترونية على العراق تعلمت باقي الدول الأخرى أن الحرب بالوسائل القتالية التقليدية أو القديمة لم تعد ذات جدوى وسعت الى امتلاك التقنيات الجديدة وكانت إسرائيل الأقدر على الحصول على التقنيات الأمريكية واقتضت مصالحها أن تسربها الى الصين . ونفس الشيء قامت به دول كبرى أخرى. ولذا فإن التفكير الاستراتيجي في مجال الدفاع الوطني أو الأمن القومي لايمكنه تجاهل هذا التطور والتغيير النوعي في وسائل القتال والدفاع وعليه أن يعد الدولة والسعي الى حمايتها وفق تلك المستجدات وألا يتمسك بالوسائل القديمة التي قلت فاعليتها وصارت محدودة في مواجهة التطورات الحديثة لمعدات ووسائل الحرب وبالتالي الدفاع.

ج ـ الإنسان:
لو ظل الجيش المصري على ماكان عليه عام 1967 لما استطاع أن يستولي على خط بارليف ويقضي على فاعليته ويحقق مكاسب عسكرية في حرب 1973 وإن كان وجود قيادة سياسية عليا مترددة وغير خبيرة في الشؤون العسكرية ، وتغلب العناصر السياسية على العسكرية لحقق الجيش المصري مكاسب هامة على الأرض ولكانت مفاوضات السلام بعد ذلك أيسر على الجانب المصري وأفضل نتائح ولما كانت معاهدة كامب ديفيد المعيبة وتداعياتها المستمرة حتى اليوم.
ولقد كان أهم تغيير شهده الجيش هو اعتماده في تكوينه على المجندين من ذوى المؤهلات العليا والمتوسطة وتدريبهم جيدا استعدادا للحرب.
وبعد معاهدة كامب ديفيد سنجد أن الجيش لم يعد حريصا على تكثيف نوعية المقاتلين وصار همه أن يزيد من عدد المجندين وليس من كفاءتهم وصار المرء يسمع عن مجند جامعي يتم تدريبه على استعمال الأسلحة الفردية لعدة أسابيع ثم توزيعه على المحافظات لاستخدامه في الحراسة الى جانب قوات الأمن التابعة للداخلية.
كما أن تطور أساليب ووسائل الحرب الحديثة تحتاج إلى تطوير التعليم وتحديثه بما ييسر وجود مقاتلين يمكنهم استخدام الوسائل والمعدات والأجهزة الحديثه سواء في تشغيلها أو صيانتها فضلا عن النهوض بالحث العلمي لتطوير تلك المعدات وتصنيعها محليا بقدر الإمكان وتطوير الاقتصاد بما يؤمن للدولة موارد مالية كثيفة تغنيها تماما عن تسول القروض الأجنبية وتحمي بذلك استقلالية أمنها وسياساتها كلها .
يتطلب أيضا المحافظة على العامل البشري القادر على حماية الدولة عدم توريط القوات المسلحة في نزاعات خارجية إرضاء للدائنين أو للضغوط الخارجية وخاصة في دول المشرق أو المغرب العربي ، ففي ذلك تشتيت للقوات التي قد تحتاجها الدولة للدفاع عن أمنها القومي المحلى لو تعرضت لغدر مفاجئ من عدو لها.

ثالثا : التفكير الجيوسياسي:
أ ـ المكان:
سبق أن أوضحت أن السياسة قوامها تدبير معاش الناس وأمنهم ، وهي بالتالي في خدمة اقتصاد الدولة والدفاع عنها ، وليست وفق هذا صراع على حيازة السلطة من أجل الاستئثار بريعها لصالح أقلية فيها دون غالبية الشعب.
ومصر تتمتع من حيث المكان بموقع فريد يتوسط العالم ووجود قناة السويس كشريان للملاحة والتجارة الدولية له أهمية كبيرة يمكنها إن استثمرت الموقع من تحقيق مكاسب مادية كبيرة.وعلى سبيل المثال فإن النهضة الصناعية التي أقامتها الصين في ساحلها الشمال الشرقي يهيء موقع قناة السويس في مصر ، سواء شرق القناة في سيناء أم غرب القناة وامتداده في محافظتي الدقهلية والشرقية لعمل نفس الشئ مع تحقيق مكاسب مادية أكبر بسبب الموقع.
وجود مصرأيضا على رأس دول حوض النيل في الشمال يعطيها مزايا استراتيجية كما بينت من قبل اقتصاديا وأمنيا ، ولذا يجب أن تتم صياغة سياستها جنوبها بما يحقق منافع متبادلة مع دول لاغنى لها عنها اقتصاديا وأمنيا. ولايمكنك أن تكسب ود دولة بما يحقق منافع لك إن لم تكن سياستك تحقق مكاسب لها أيضا ، أما إذا كانت سياستك قصيرة النظر أو تتسم بالأنانية وكل همها تصدير منتجات مخالفة للمواصفات الدولية للجودة فقد تكسب مؤقتا ولكنك الخاسر الأكبر على المدى البعيد حين يستطيع المستورد الحصول على  ما يحتاجه وبجودة أفضل وبنفس السعر.
ولقد حرصت مصر خلال حكم مبارك على الدخول في منظمات إقليمية كثيرة ، وكذلك على عقد اتقاقيات اقتصادية مع العديد من الدول الأفريقية ولم تستفد منها ما كانت تطمح اليه ومنها ما لم تستفد منه نهائيا أو كان غرمها أكثر من نفعها.
بالطبع فإن أهم الدول هي دول الجوار أو ما يمكن أن تشكل معها وحدة اقتصادية متينة تحقق المصالح والمنافع المتبادلة ، والحقيقة أن مصر وكل تلك الدول تعد حاليا في نظر المنظمات الدولية من الدول الفاشلة بسبب ما تنتهجه من سياسات محلية وإقليمية ودولية خاطئة أو غير مستنيرة ومضارها أكثر من منافعها.وكثير من هذه السياسات إن لم تكن كلها تخضع لأأهواء الحكام ومصالحهم أكثر من المصالح الاستراتيجية التي يتطلبها التفكير الاستراتيجي المبني على العلم.

ب ـ الزمان:
نحن في زمن لاتحترم فيه الدولة الضعيفة التي تمسك بذيل دولة أقوى حتي لو كانت تاريخيا معادية لها، أو تتبع سياسات عشوائية غير واعية يمصالحها الحيوية أو ذات سمعة سيئة محليا ودوليا فيما يتعلق باتباعها النهج الديموقراطي أو الحفاظ على حقوق الإنسان فيها وعدم انتهاكها ، فمثل هذه الدولة لاتحترم من الدول الأخرى ويتم التلاعب بها وخلق الأزمات لديها لتيسير هذا التلاعب وحرمانها من كل فرص التقدم، كما أن مثل تلك الدول الفاشلة وفقا للفكر الحديث غير مضمون استقرارها ودوام حالها وستظل معرضة دائما لانتفاضات وثورات محلية هوجاء تطيح بها وتنشر في أرجائها الفوضي والدمار. وانتفاضات الشعوب في شرق المتوسط وبعض دول شمال أفريقيا مثل مصر وليبيا وتونس أكبر دليل وشاهد على ذلك وإن كانت أجهزة الدولة الفاشلة قد تمكنت من السيطرة على تلك الانتفاضات وإعادة إنتاج أنظمة  الحكم قبلها مرة أخرى فإن ذلك ليس دليلا على أن كل الانتفاضات مستقبلا ستفشل ويكون لها نفس المصير ، فالمنتفضون مستقبلا سيعون الدرس وقد لايسمحون بتكرار الفشل مهما كان الثمن.

ج ـ الإنسان:
إن السياسات الخاصة بالدول التي يمكن وصفها بالأمنية أو البوليسية كل همها هو المحافظة على الحكم والامتيازات والمصالح الفردية أو الفئوية للأقلية المسيطرة على الحكم . وعوض بناء المدارس يتم بناء المزيد من السجون للخصوم السياسيين أو المعارضين للسياسات القائمة أو من يشكلون في تفكير الحكام خطرا مستقبلا على حكمهم حتى لو كان ذلك ليس أكثر من أوهام تسيطر على عقولهم. والتوجه نحو قتل وتعذيب وقمع الخصوم وتقييد الحريات وممارسة الانتهاكات يخلق المزيد من المعارضين الجدد مستقبلا والذين تحركهم الرغبة في الثأر لآبائهم أو حتى أجدادهم الذين يرون أنهم حرموا منهم بالقتل أو السجن أو تعرضوا للتعذيب لأنهم كانوا على حق في تصورهم حتى لو كان هؤلاء الذين يثأرون لهم من الضالين.
كل دول العالم الديموقراطية فيها أحزاب سياسية محدودة العدد تتصارع سلميا على الحكم في الظاهر وفي العمق على كيفية تدبير معاش المواطنين على نحو أفضل ، وهي لاتحصل على الحكم بقوة السلاح ولا بنشر المدرعات وإنما برضى المواطنين على سياساتها الا قتصادية والأمنية واستبدال حكومة بحكومة إن فقدت التأييد الشعبي.
ولم يحدث في تاريخنا المعاصر دولة أمنية استطاعت أن تقيم دولة ناجحة ولكن كلها نجحت فقط في إقامة دولا فاشلة في نظر باقي دول العالم . وإذا نحينا مصر جانبا ، سنجد ما يشهد على ذلك في دولة المخابرات بالجزائر ودولة الإقطاع في المغرب ودولة الإنقاذ في السودان ودولة القذافي في ليبيا وزين العابدين بن على في تونس وبشار الأسد في سوريا وصدام حسين ومن بعده في العراق ...الخ وينطبق عليها جميعا المثل المصري القائل : لاتعايرني ولا أعايرك فالهم طائلني وطايلك.. إذ ما ينطبق عليها ينطبق في الواقع على مصر أيضا منذ انهاء النظام الملكي حتى اليوم.
لايمكننا التنكر للحقائق ولما شاهدناه وعشناه بسبب طغيان صوت المنافقين والمنتفعين أو الخوف منهم ومن عبثهم وهطلهم.
الصراع على الحكم في كل الدول الفاشلة ليس صراعا سياسيا وإنما هو خلاف في الكثير من الأحوال على الغنائم التي يوفرها الحكم والسلطة وفسادهما للمتصارعين ، أما الصراع في السياسة يكون دائما سلمي ويستهدف مصالح كل الشعب والدولة وليس مصالح من يتقلدون السلطات وحدهم.
أكبر مساوئ هذا النوع من الصراع هو تقسيم الأمة وتفتيت وحدتها بينما أهم ما تحتاجه من أجل التقدم وتحقيق ازدهارها وأمنها هو وحدتها وتماسكها. والمشكلة هنا هو عدم التزام المتصارعين الذين ينتهجون الإرهاب سبيلا مع بعضهم البعض إن حكم فريق منهم بالسياسة وبالتفكير الاستراتيجي فيها. وعندما نجد في الدين ملل ونحل وجماعات شتي يفترض أن دينها واحد وكلها ملتزم به فإن ذلك وتداعياته يمكن إرجاعها لسوء التعليم في المدارس الحكومية والمدارس الخاصة التي تخضع لنفس المناهج ، ونفس الشيء يمكن قوله على باقي المتصارعين من أجهزة الدولة الأمنية.
إن من يقتل في مصر من العسكريين والمدنيين نتيجة هذا الصراع العبثي أو الارهابي كان يمكن تفاديه والحفاظ على وحدة الأمة المصرية ، وجميع الضحايا وما يتركونه خلفهم من أرامل وثكالى وأيتام يعد خسارة فادحة للنسيج الإنساني في مصر. ونفس الشيء يمكن قوله على انتشار مظاهر الفساد والثراء الغير مشروع والصناديق الخاصة التي أقيمت لتمويله وكذلك انتشار الأوبئة وعلى رأسها مرض الكبد وتلوث البيئة ومكوناتها من تربة ومياه وهواء بما يساعد على انتشار الأمراض المهلكة وتدهور الخدمات الصحية التي تقدمها المستشفيات فضلا عن غلاء الأدوية الخاصة بتلك الأمراض القاتلة وموت الكثيرين لعدم قدرتهم على علاجها ، كل ذلك يدمر النسيج الانساني المصري ولايجعله صالحا لتحسين أوضاع الشعب المعيشية أو حماية البلد من الأخطار المحيقة بها ومن الأزمات التي تعصف بها
التفكير الاستراتيجي في السياسات الرشيدة يجب أن يتناول ضمن أولوياته ما يعرف عالميا حاليا بالتنمية الانسانية والذي تم تزييفها في مصر بظهور ما يسمى بالتدريب على التنمية البشرية وهو ليس أكثر من دجل يرتدي ثوبا علميا زائفا.
بعد انتهاء الحرب الكورية أمسك العسكريون في كوريا الجنوبية بالحكم لاللبقاء فيه أو السيطرة عليه وإنما لإعادة بناء الدولة وفق النموذج الياباني وإقامة الديموقراطية فيه والتي سلموها زمام الحكم فصارت كوريا الجنوبية اليوم في طليعة الدول الرأسمالية. وبعد انتهاء الحرب الأهلية التي قادها الملكيون بزعامة فرانكو، قام فرانكو بإعادة النظام الملكي ضمن حكم ديموقراطي يملك فيه الملك ولايحكم وازدهرت الأوضاع في أسبانيا إلى أن حاقت بها الأزمة المالية الأخيرة نتيجة عدم ضبط الحكومة لسياستها الاقتصادية ومواصلة إقامة المشروعات السياحية رغم تشبع السوق بها وهو ما حدث مثله وعلى نحو أفدح أثرا في اليونان.
ليس مهما أن يحكم البلد رجل ذو خلفية عسكرية أو مدنية أو حتى رجل يغلب الدين على ثقافته ولكن المهم أن يعرف الحاكم على نحوجيد وأيا كانت خلفيته كيف يحدد الأهداف الاستراتيجية للبلد التي يكفل تحقيقها ازدهار وأمن الدولة حكومة وشعبا.
إن هذا هو ما يمكنني قوله بمناسبة ذكرى اليوم الذي ولدت فيه عام 1937 وأيضا ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان . ولست معارضا أومناهضا لأية حكومة ويمكن اعتبار كل ما سبق وصية مودع بلغ من العمر ما جعله يضيق به ويتمني أن يقدر الله نهايته في أقرب الآجال.
فوزي منصور
 2015-12-12












Sunday, May 4, 2014

حول المكر والكيد والخداع في السياسة والحياة





قد يكون للعمل المحسوب على بعض أنواع الفجور وجهان:
المكر والكيد والخداع والكذب والنفاق والمداهنة والتحايل والدجل والتضليل والشعوذة ...كلها صفات ذميمة لمن يتخلق بها ، وهي من صنف واحد ، إذ تعد من أعمال السوء والفجور والخبث والشر.ولكنها ليست مترادفات في المعني، فليس في اللغة مترادفات ، وإنما كل لفظ يؤدي معني محدد ، يصف فيها حالة ما.

وكل هذه الصفات الذميمة  نهى عنها الله ورسوله . وتوعد الله أصحابها بالعقاب والعذاب وسوء المآب. ورغم أنها كذلك ، فسنجد أن الكثير منها أجيز استعماله للمؤمنين في حالة الحرب. وقيل "إن الحرب خدعة"، فكيف يحق للمؤمنين وهم أهل التقوي استعمال تلك الأساليب المذمومة؟ ونجد أيضا في القرآن الكريم قوله تعالى : "يمكرون ويمكر الله بهم ، والله خير الماكرين" ، ونجد أيضا : "يكيدون كيدا ، وأكيد كيدا ، فمهل الكافرين ، أمهلهم رويدا".
فما معني أن الله يمكر بالماكرين ، ويكيد للكائدين كيدا؟..إن مكر الله وكيده هنا هو بمثابة إظهار قوته وقدرته ومعاملة الماكرين والكائدين بكيد لهم ومكر بهم من جنس فعلهم  لايستطيعون له صدا ولاردا ولا منجاة لهم مما يصيبهم ويعتبر من قبيل القصاص منهم ،وهو لذلك يعد من أعمال الخير وليس شرا، . ولذا يصف الله  نفسه بأنه "خير الماكرين" ومكره هنا مثل القصاص في الجرح ومن  القتل الذي أحله ،  ويسقي الكافرين والمنافقين من نفس السم الذي سقوه لعباده ، قصاصا لهم منهم ..

والحرب في الدين والتي قد تتطلب الخداع والكيد لا تكون بين فئتين من المؤمنين وإنما تكون بين المؤمنين ومن يعادونهم من أهل الكفر . والمؤمنون باستعمال الخديعة والكيد إنما يعاملون أعداءهم بالمثل لكي تكون لهم الغلبة عليهم. والله يكون هنا مع المؤمنين ويدافع عنهم ويدعمهم ويناصرهم وينصرهم على عدوهم. أما إذا نشبت في فتنة بين طائفتين من المؤمنين وجب العمل على إصلاح ما بينهما، وعدم الانضمام لأي منهما ضد الأخرى الا إذا رفضت إحداهما الإصلاح وأصرت على البغي والعدوان.

 يمكن فهم ذلك أيضا من بعض الأمثلة التي يمكن للفعل الواحد أن يكون  في حالة له أن  من الآثام والمحرمات و السوء والفجور ، وفي حالة أخرى يعد من أعمال البر والتقوى
والإحسان ومن الأعمال الصالحات والتي يثاب علىها  العبد من ربه. من ذلك مثلا أن تحرش رجل بامرأة لا تحل له ، أو تحرش امرأة برجل  لا يحل لها، يعد عملا من أعمال الفسوق والفجور ، بينما لو أتي نفس الفعل زوج مع زوجته، أو زوجة مع زوجها، لكان ذلك لا غبار عليه ، بل محبذ ومطلوب. ونفس الشيء إذا مس رجل امرأة غريبة لا تحل له، كان ذلك زنا ومن الفحش والفجور وكبائر الآثام ، بينما إذا مس زوجته أحتسب  ذلك من التقوى ومن الصالحات التي يثاب عليها، مثلما ورد في حديث للنبي محمد صلى الله عليه وسلم . بل إذا هجر الرجل زوجته ، أو هجرت الزوجة زوجها ، كان ذلك الهجر بالنسبة للهاجر إثما يعاقب عليه. والفعل في هذه الحالة وتلك ، واحد في شكله ، ولكنه مختلف في مضمونه وسياقه وجوهره. ونفس الشيئ بالنسبة للقتل ، فقد حرم الله قتل النفس بغير حق، وإذا التقى المسلمان بسييفهما فالقاتل والمقتول في النار، ولا يمكن أن يعتبر أي منهما إذا ما قتل : شهيدا. ويختلف الأمر إذا كان القتل قصاصا من القاتل من أهل من قتل ، أو من الحاكم نيابة عنهم، فهو يعد إذعانا لما أمر به الله وبالتالي من أعمال التقوى.

وفي ذات الوقت فإن المكر والغش والنصب والاحتيال والخداع في الحكم والسياسة ليس لهم سوى وجه واحد وهو الفسوق والفجور والسوء وخيانة الأمانة والعقد الاجتماعي مع الشعب ، حيث  تحتمل السياسة الحسنة و الرشيدة تلك الخصال السيئة والمنافية للدين ومكارم الإخلاق. ولا يمكنها الاستعانة بها في عمل خير أو بر وإحسان. ونفس الشيء حين يتم استعمالهم في الحياة العامة بقصد أكل أموال الناس بالباطل ، أو إلحاق الضرر بالغير.
وقد أجاز بعض الفقهاء الكذب في حالات معينة منها إصلاح البين بين الزوجين ولكنني لا أوافقهم فيما ذهبوا إليه، فلايجوز الكذب بدعوى الإصلاح لأنه يفقد صاحبه مصداقياته وعندما يحله في أمر حسن فقد يلجأ اليه في غير ذلك إن اعتاد عليه.

هل المحتال أذكي ممن يحتال عليه؟
الشائع لدينا أنه إذا تعرض إمرؤ للنصب عليه وذهب ليشكو من نصب عليه ، يقال له : "إن القانون لا يحمي المغفلين". وهو ما يفهم منه أن ضحية النصب يعد من المغفلين، إلا أنه ليس كل غافل بالضرورة غبي ، فثمة فرق  بين الغفلة والغباء، فعكس الغفلة هو الفطنة وليس الذكاء ، وقد يكون الذكاء حاضرا لدى شخص الذي تم النصب عليه  بينما الفطنة غائبة عنه لسبب ما ، ومن أسباب غياب فطنة الذكي التي تيسر خداعه :حسن الثقة  بالناس فالرجل الطيب يظن كل الناس مثله، أو يأتيه رجل من أقاربه ومن ذوي رحمه طالبا مساعدته ، فتدفعه الشهامة لذلك ويستبعد السوء عن قريبه ، بينما قريبه هذا يزمع استغلاله ولا يهمه غير نفسه أو أن يكون تحت تأثير حالة نفسية من حالات القلق أو الاكتئاب تحجب الرؤية الصحيحة عنه مهما بلغ ذكاءه ، وليس على المريض حرج  ، فيتم الاحتيال عليه ممن قد يكون أقل منه ذكاء.

ومن الطبيعي أن النصاب يستهدف غالبا الأغبياء لأن النصب عليهم أيسر منالا ، ولكنه قد يستهدف بمكره وحيلته من هو أكثر منه علما وذكاء لكي يشعر بأنه تفوق عليه ، وغلبه ، وأثبت أنه أذكي منه .فإن نجحت عملية النصب ، فإن ذلك لا يكون نتيجة قلة ذكاء الضحية وإنما نتيجة غفلة عارضة ألمت به ، غاب عنه فيها الحذر، ولم يكن العقل فيها متفتحا وصحوا. وقد وصف المؤمن بأنه كيس فطن ، أي يتصرف بروية وحكمة وفطنة، لأن المؤمن المعتمد على الله والذي اطمئن قلبه بذكر الله ، لا تصاب نفسه بعوارضها وأمراضها، فلا تغيب فطنته الا في حالات قدرها الله عليه لكي يمتحن صبره وحلمه وصدق إيمانه ، والله ينتقم له بعد ذلك، ويعاقب من احتال أو نصب أو كذب عليه أو خدعه وأضر به.
ويقول المتنبي :
إن أنت أكرمت الكريم ملكته  ، وإذا أنت أكرمت اللئيم تمردا
والكرم لا يكون إلا من الكرماء، وقد تغيب فطنة الكريم فيكرم اللئيم وهو غير فطن للؤمة ، ولا يتبين له لؤمة إلا بعد أن يظهر رد فعله لإكرامه له.

نقص المعرفة لدى الضحايا من أهم ما يسقطهم في شباك النصابين:
وليس الغباء ومرض النفس فقط ما يمكنان  المحتال والنصاب من خداع ضحاياه ، ولكن جهل الضحايا أيضا ونقص مالديهم من معرفة وعلم  يعد سببا هاما يحول بينهم وبين الكياسة والفطنة اللتان يحصنانهم من الوقوع في أحابيل النصابين والمحتالين والدجالين .

وفي علم الاجتماع والسياسة نجد ذكر للكاريزما التي قد تكون لدي فرد ما فتؤهلة للقيادة ويسحر الناس بكلامه ودعاويه وأكاذيبه وخداعه. هذه الكاريزما لا تعمل عملها الا مع الجهلة الذين تنقصهم المعرفة والمعلومات والخبرة،  و انعدم لديهم الوعي أو تم تزييف وعيهم ، أي تم تضليله ، وتغيب الفطنة لديهم نتيجة ذلك فيكونون عرضة للخداع والتضليل. وكم من حكام حكموا شعوبا تتكون من ملايين الأنفس وهؤلاء الحكام بدون علم أو ثقافة أو فكر أو ذكاء ، ولكن شعوبهم في وافع الأمر ليسوا أحسن منهم حالا في ذلك، ومن هنا تأتي مقولة : "مثلما تكونون يولى عليكم"، فالشعب الحسن التعليم والثقافة والمالك للوعي الصحيح، يكون فطنا وكيسا ولايقبل أن يحكمه هؤلاء مهما تسلحوا بقوى مادية أو معنوية مساندة لهم.وترجح كفتهم ، ولو مؤقتا، في ميزان القوى.
إن قوام السياسة وهدفها هو : حسن تدبير معاش الناس، وعندما يختار الشعب حاكما له دون أن يتأكد من قدرته على حسن تدبير معاشه، وفشل فيما بعد الحاكم في ذلك ، فيجب على الشعب ألا يلوم غير نفسه، وتسري عليه وقتها عبارة : إن القانون لا يحمي المغفلين.

وما كنا نراه من جماهير تملأ الشوارع وهي تهتف لمستغلها والمستبد بها : بالروح والدم نفديك يازعيم، ليست غير دليل قوى على أن هذه الجماهير الغفيرة فاقدة لوعيها ، وغائب عنها الفطنة والكياسة..والكثير من الحكام ، بمن فيهم من كانت له شعبية طاغية ، وله حسنات تحسب له وسيئات تؤخذ عليه كانوا في الواقع بلاعلم أو ثقافة أو فكر ، وأضروا شعوبهم أكثر من نفعهم لها، ويدل على ذلك ليس ما تحقق من معلومات صحيحة عنهم فقط ، وإنما من سوء ما اتبعوه من سياسات وما أفرزه السيئ منها من نتائج وخيمة طويلة المدى. ولقد كنت مخدوعا في واحد يعد من أبرزهم في مطلع شبابي حتى أتيح لي بالصدفة أن أدخل مكتبة استراحة مخصصة له، فإذا كل ما تحتويه قصص بوليسية من انتاج أجاتا كريستي وغيرها، ولايوجد فيها أي كتاب في السياسة أو العلاقات الدولية أو الاقتصاد والتنمية أو التنظيم والإدارة ،أو اي من العلوم الانسانية التي يفترض أن يكون الحاكم لديه ولو بعض الاهتمام بالاطلاع عليها والاستفادة منها ، ثم جاءت بعد ذلك شهادة أحد من لازموه وشاركوه الحكم لكي تؤكد عدم اهتمامه بالثقافة وإذا استعان بمثقف فلكي يكون في خدمته فقط.
 وأيضا موقفه ممن حاول نصحه فأزعجه وأغضيه النصح وأمر بطرده..أدركت وقتها، وإن بعد حين ، أنه لو لم يكن أغلبية الشعب من الأميين وأشباه الأميين ممن لا وعي ولا علم لهم ولا رأي سليم ، ما انخدعوا فيه،  ولما هتفوا له، أو أمكنه الاستقرار في حكمه لهم ، وإن  أن هذا لم يمنع بعض حسناته ، التي هي أفضل ممن جاؤا بعده وليس لهم مثلها ، بل لم يتركوا خلفهم حسنات لهم ذات قيمة ، وإنما ابتليت الدولة بالفقر والتخلف والأزمات والمصائب ،وانتشر فيها الفساد والجرائم ، وسقطت في التبعية والمهانة. وصارت أكثر من ذلك عاجزة عن حماية أمنها واستقرارها وضمان سلامتها ووجودها في عداد الدول الناجحة أو القوية التي لها احترام ومهابة على المدى البعيد .

كيف تتحقق  للشعب حصانة من الدجالين :
لقد كتبت قبل فترة مقالا عنوانه : "الدجالون" ونشرته في مدونتي، وكنت أعني من يمارسون الدجل في الدين أو السياسة على جماهير شعبهم ويخدعونهم لكي يتمكنون من التسلط عليهم واستغلالهم في تحقيق طموحاتهم الذاتية، وليس من دوافعهم مصالح تلك الجماهير أو تحقيق الخير لهم. وقلت فيه : وإذا كان أكثر الدجالين يستخدمون الدين طلبا للسلطة والسيادة والثروة فقد شاهدنا فى زماننا دجالين يتخذون من قيم ومبادئ السياسة وغيرها وسيلة لهم لاستقطاب الأتباع وتحقيق هوى النفس ويتمكنون من خداع ملايين البشر ، ويستغلون جهلهم للتمكن من إغوائهم وخداعهم وتسخيرهم في خدمة أهدافهم ، والتي لاتختلف عن أهداف دجالي الدين ، أي السلطة والنفوذ والثروة.

والمشكلة في هذه الحالة ليست في الدجال وحده وإنما في هؤلاء الذين ينخدعون فيه ويتمكن منهم ، ويسلبهم عقولهم ، وبفتنهم بمكره وخداعه. وسيظل الشعب عرضة للسقوط في فخاخ هؤلاء الدجالين ما لم يتلق تعليما جيدا يناسب العصر وإعلاما جيدا ويتيسر له الحصول على المعلومات الصحيحة، ويعلي التعليم الجيد  قيمة العقل ويحفز على التفكير والإبداع وليس النقل والتلقين والحفظ.

 وقتها أيضا يستطيع الشعب الصالح اختيار الحاكم الصالح الرشيد له عن بينة من بين المرشحين لتولي حكمه ،ولايتمكن الحاكم ، أيا كان بعد انتخابه، من خداعه وتضليله وحرمانه  من حقوقه المشروعة .

إن الديموقراطية تتحقق حين يستطيع الشعب أن يختار من يمثله ومن يحكمه عن بينة ومعرفة ، فإذا فقد تلك الكياسة ، فسيصبح نهبا وأداة طيعة في خدمة النصابين والدجالين ولن يكون لوسائل مثل  تعددية حزبية أو انتخابات أن تحقق الغرض من  الديموقراطية. وإنما يحقق الديموقراطية الالتزام بما يحقق هدفها والغرض منها.
 وعندما يستثمر الحاكم هؤلاء الذين حسن تعليمهم كثروة بشرية بإمكانها صنع وإنماء الثروة المادية والقوة المعنوية في الدولة ، وليس كعبء على الدولة ستتقدم الدولة وتنتهي مشاكلها ومشاكل الشعب معا. وقد ذكرت في مقال : " الدجالون " أيضا:
"وقد يكون من أهم الأسئلة التي تقرض نفسها في زماننا هو سؤال : كيف نحمي الشعوب من الدجالين؟..
قد تكون الإجابة سهلة بأن حمايتهم لا تتحقق بغير تمكينهم من المعارف الصحيحة والعلمية التي يسهل إثبات صحتها والبرهنة على تلك الصحة، إلا أن الصعب هو كيف يمكن أن يتحقق ذلك عمليا؟..وقد يقول قائل : إن تحقق ذلك يقتضي إصلاح وتطويو مناهج وأساليب التعليم، وهو محق في ذلك، ولكن كيف يتحقق ذلك؟ومن الذي سيعهد إليهم بإصلاح التعليم وفي ظل أي نظام حكم ؟..لقد اطلعت في مصر على منهج أحد العلوم ووجدته قد تطور كثيرا بالمقارنة بما درسته منه قبل حوالي ستين عاما، ولكنني شككت في أن يكون قد تم تطوير المدرس الذي سيدرسه وإعادة تأهيله بحيث يسهل عليه تعليمه لتلاميذه. وتداعي في هذا الشأن ما قرأته عن تجربة دولة فنلندا حين قررت تطوير مناهج التعليم فيها وأخضعت المدرسين لديها لدورة تكوين  تمكنهم من تدريس العلوم الحديثة .وكل الظروف تؤكد صعوبة تحقيق مثل ذلك في مصر، إن لم نقل استحالة ذلك ، إن ظلت الأمور على ماهي عليه حاليا. ولم تتغير بحيث يكون مناخ العمل أكثر صلاحية مما هو عليه الآن.

والمشكلة في حكم الدجالين تأتي من صعوبة التخلص منهم أيضا إذ يحصنون مواقعهم بتحالفات بينهم وبين كبار العاملين في مؤسسات الدولة ومع كبار رجال الأعمال من المحليين والأجانب بالإضافة إلى السيطرة على وسائل الإعلام واستغلالها في تزييف الوعي والتضليل. وبحيث يعطون هؤلاء من المنافع والمزايا المادية ما يجعلهم شديدي الحرص على بقاء الدجالين في الحكم خوفا على ضياع المكاسب التي تحققت لهم منهم إذا ما حكم سواه وأراد استرداد أموال وموارد الشعب التي تم نهبها خلال حكم الدجالين واللصوص، أي أن الدولة في الواقع يسيطر عليها مجموعات من عصابات السرقة والنهب تكون معا مافيا واحدة يصعب التخلص منها.
فوزي منصور


Friday, May 2, 2014

المسيح في الإسلام: نبي مبعث أم نبي مرسل ؟


   

ذكر القرآن عددا  من الأنبياء ، وكان  أغلبيتهم أنبياء بعثهم الله إلى قوم فسدت عقيدتهم الدينية لإصلاحها ، وأورد القرآن بأن البعض من الأنبياء  كان نبيا ورسولا بعثه الله الى العالمين بديانة بها تشريعات وأحكام يلتزمون بها  ، وليس إلى أقوام محددين ، لم يكن لديهم دين أولتجديد ديانتهم.

 ولآن الله واحد ، فإنه لايتوقع منه أن تختلف ديانات الرسل , إنما يخدمون جميعا الدين الواحد الذي أوحي الله به إلى الأنبياء . ولذا قال تعالى : إن الدين عند الله الإسلام، وهذه العبارة تشمل الدين منذ جاء به آدم عليه السلام حتي بوم القيامة، وإن اختلفت أسماء الديانات التي جاء بها الأنبياء المرسلون. وقد تختلف بعض التفاصيل في تلك الديانات ولكن جوهرها واحد.

وجميع الأنبياء كان الله يوحي إليهم ،ومنهم من لم يكن رسولا وآتاه الله كتابا منزلا اليه ، وقد ذكر في القرآن أن الله آتي النبي داوود زبورا، وقد يكون سفر المزامير في العهد القديم هو ذلك الزبور ، وقد يكون سفرا آخر. وقال تعالي : ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن (رَّسُولٍ) وَلَا (نَبِيٍّ) إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّـهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّـهُ آيَاتِهِۗ وَاللَّـهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (الحج: 52) .وعندما أتحدث عن المسيح في الإسلام ، فإني أتحدث كمسلم يناقش أمرا ورد ذكره في القرآن الكريم، وهو بالتالي يخص الإسلام والمسلمين، ولاعلاقة للإخوة المسيحيين به ، ولايعد تدخلا في شــأن عقيدتهم الدينية.

وقد ذكر الله في سورة الأنعام عددا من الأنبياء المبعوثين والأنبياء الرسل . فقال تعالي : " وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ" (الأنعام: 82-86). وأرجح أن الأنبياء الرسل منهم هم نوح وموسي ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد لوحظ أن النبي موسى ذكر في القرآن الكريم 136 مرة بينما لم يذكر النبي محمد بالأسم سوى ربعة مرات 4
 أربع مرات .

وقد قرأت لأحد الباحثين أن مهمة النبي أن ينبئ الناس- كل الناس- بما أنبئه الحق سُبحانه تعالى من أنباء، كأنباء الغيب، وأخبار الخلق، والآيات الكونية، والقصص القرآني. وهذه الأنباء ليس بها  الجانب التشريعي الذي يميز الديانة. ونجد الله تعالى يقول في القرآن الكريم مصداقا لذلك : "نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم (الحجر: 49) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيم: (الحجر: 51) ويقول :"هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ" (الشعراء: 221) ويقول :"ونَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْۖ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَر""(القمر:22).ويقول:"وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّـهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَـٰذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (التحريم ) وقوله :"قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَٰلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّـهِۗ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ "(آل عمران: 15).

ولا يغير من ذلك أن ما دعاني وحفزني  على كتابة المقال للمسلمين ما نسب للأنبا شنوده ،بابا الأقباط الأرثوذكس المصريين الراحل من قوله ، قبيل وفاته،بإن المسيح كان يهوديا. وهي تصادق على ما قال ولا تناقضه أو تخالف  مقولته. ولكي تتضح الصورة للمسلمين.

 و بإستعمال المنطق سنجد أنه يترتب على مقولة أن المسيح كان يهوديا  أن المسيح لم يرسل للعالمين لهدايتهم لدين لم يعد قائما ، وإنما أرسل لبني أسرائيل لإصلاح وتقويم دينهم الموجود لديهم والذي يتبعه المسيح وكافة اليهود . وبالتالي تعتبر تعاليمه بمثابة ثورة تصحيحية للدين الذي جاء به النبي المرسل موسى عليه السلام ، والذي عرف من بعده باليهودية. ويفسر ذلك ضم التوراة وأسفار العهد القديم إلى جانب الأناجيل في الكتاب المقدس . فكيف إذن يمكن تفسير وجود ديانة منتشرة في العالم بإسم المسيحية؟.هذا إذن ما أريـد توضيحه للمسلمين أيضا.

وبالنسبة للقرآن والمسلمين ،فإن موسى جاء بما يتفق مع الديانة التي كان عليها النبي إبراهيم، والنبي إبراهيم لم يكن يهوديا أو نصرانيا ، وإنما يدين بديانة الإسلام وهو الذي أعطاها هذا الإسم حين سمى أتباعه بالمسلمين. فلم يكن إبراهيم يهوديا أو نصرانيا. والثورة التصحيحية للديانة اليهودية التي كلف الله بها المسيح ، هي مماثلة لثورة مارتن لوثر على الكاثوليكية والتي ترتب عليها ظهور البروتستانتيه في أوروبا وانتقالها منها إلى أمريكا الشمالية وغيرها من بلدان العالم.

هل كان المسيح يهوديا؟

 ..بالتأكيد أن أم المسيح عليه السلام :  السيدة مريم التي تعتبر في الإسلام سيدة نساء العالمين ، ولها سورة في القرآن باسمها، بالإضافة في ذكر مطول لها في سورة آل عمران ، وكذلك النبي زكريا الذي رباها، كانا على الديانة اليهودية ، وكان مجتمع فلسطين يهوديا، وقد عمده النبي يحي بن زكريا والذي عرف لذلك ب "يوحنا المعمدان"في نهر الأردن حسب الديانة اليهودية، وبالتالي لايمكن للمسيح إلا أن يكون يهوديا.

وطالما المسيح يؤمن أيضا بالتوراة وبالأسفار التي جمعت مع التوراة فيما يعرف حاليا بالعهد القديم ، فلا يتصور أن يخرج عنها ، أو يرتد عن ديانته، ويؤسس ديانة جديدة. ونجد أن هذا يؤيده أيضا ما ورد في الأناجيل من أنه حين دخل أورشليم ، أي القدس، وخرج الناس لاستقباله ، وقالوا له: إهدنا يامعلم ، أجابهم : أنا لم أبعث إليكم وإنما بعثت لكي أهدي خراف بني إسرائيل الضالة. وهذا يعني أن الشعب اليهودي لم يكن ضالا من تلقاء نفسه وإنما المسؤول عن ضلاله هم بنو إسرائيل ، فإن هداهم المسيح للحق ، أو فند مقولاتهم الضالة، وعارض سلوكياتهم المنحرفة ، فاهتدوا ، إهتدى باقي الشعب اليهودي بالتبعية.

 والمقصود ببني إسرائيل هنا هم :"الفريسيون "، كهنة اليهود  الذين احتكروا الهيكل أو المعبد وتأويل وتفسير الديانة اليهودية لليهود ،وتحريف كلمات الكتب المقدسة وضم اليها ما ليس منها مما كتبته أيديهم وادعوا أنه من عند الله، والله لم ينزله على أحد من أنبياء بني أسرائيل. كما حولوا الهيكل من محل عبادة إلى سوق تجاري يبيعون فيه السلع . وقد ذهب اليهم المسيح وحيدا وطردهم من الهيكل وخافوا من التعرض له بسوء ، فجمعوا بضاعتهم وانصرفوا منه أذلاء مرغمين ، وامتلأت قلوبهم في نفس الوقت حقدا عليه. وكان سبب خوفهم منه علمهم بأن المسيح أعلمه الله بما خفي من أمرهم وخطاياهم ، ولذا عندما حاولوا إحراج المسيح عندما أخبر مريم المجدلية بأن الله غفر لها خطاياها، حاولوا رجمها حسبما تقضي به ديانتهم ، فقال لهم المسيح : من لم يكن منكم بخطيئة (أي مثلها) فليرم بأول حجر، فانصرف الجميع ولم يجرأ أحد أن يمسها بسوء.

ونجد القرآن يذكر المسيح عيسى بن مريم كنبي يوحي اليه وليس كرسول جاء  بديانة جديدة أرسله الله للعالمين يها ، فيقول على لسان المسيح : "إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا "، ولم يقل وجعلني رسولا. بينما جاء في ذكر النبي محمد قوله تعالي : " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (الأحزاب: 40).

وكان المؤرخ كمال صليبي يرى أن من يعرفون ببني أسرائيل ليسوا كلهم من سلالة النبي يعقوب والد النبي يوسف والذي كان يعرف أيضا باسرائيل ، أي عبد الله. وأنه حين خرج بنو اسرائيل من مصر وعادوا إلى موطنهم بعد وفاة النبي يوسف خرج مع كل واحد من الأسباط الإثني عشر ، وهم سلالته وإخوته، نفر من عبيدهم وخدامهم كانوا يعملون لديهم في رعي أغنامهم وإبلهم . وهؤلاء صاروا يعرفون هم وأسيادهم الأسباط من سلالة يعقوب ب "بني إسرائيل " أو ربما ،كما يظن كمال صليبي،كان لهؤلاء العبيد والخدم من سلالة رجل آخر غير يعقوب يدعي أيضا إسرائيل. فأطلق على الجميع لفظ: بني أسرائيل. وقد يكون هؤلاء ممن تولوا الكهانة خلال الأسر البابلي ، وتولاها أيضا من بقي منهم في أورشليم ممن  أفلتوا من الأسر والترحيل ،  خاصة وأنه يوجد لدي اليهود تلمودان مختلفان يفسران التوراة ، واحد تمت كتابته في بابل أثناء الأسر ،والآخر تمت كتابته في أورشليم. ولما كان كل الأنبياء بعد موسي من سلالة النبي  يعقوب عليه السلام ، وليس من سلالة هؤلاء الذين انتسبوا إلى العبيد أو الخدم الذين خرجوا مع أبناء يعقوب من مصر، فكان الآخرون ينقمون عليهم ويقتلونهم بغير حق ، أو يتآمرون على قتلهم. وقد دفع يوحنا المعمدان حياته ثمنا لمعارضته زواج ملك اليهود من زوجة شقيقه واعتبره محرما، فحقدت عليه الزوجة وظلت تغري زوجها بقتله ، حتي تمكنت في النهاية من أن يقدم لها رأسه هدية كما شاءت، ثم أغرى بتواسرائيل الملك بأن يقتل المسيح ويصلبه وعندما وجدوه مترددا حفزوه بالقول : أقتله ودمه علينا وعلى أولادنا، أي أنهم يتحملون ذنب قتله ويعفونه منه، ففعل.

وعندما أعلم الله المسيح بكيد اليهود له ، وموافقة الملك على قتله، جمع تلاميذه من الحواريين فيما عرف بالعشاء الأخير وكلفهم بنشر دعوته وما علمه لهم من تعاليم خلال السنوات الثلاث الأخيرة من حياته والتي كان كل ما ينطق به فيها ويتلف بالدين من كلام الله الذي أوحاه إليه ، أي من الإنجيل. وبذلك يعتبر الإنجيل مصدقا لما جاء في التوراة ومصححا لما حرفه بنو إسرائيل منها.

الديانة المسيحية المعتمدة على رسائل بولس:
بعد أن استجاب ملك اليهود لإلحاح بني أسرائيل عليه لكي يقتل المسيح ويصلبه ، إدعى رجل يهودي من بلاد الشام أن المسيح ظهر له كنور في السماء حين كان ماشيا في البرية ذات مساء وكلفه بأن يحل محله في نشر الديانة المسيحية.

 وما لا يقبله العقل أن يكلف المسيح تلآميذه الذين تعهد تعليمهم تعاليمه لثلاثة سنوات متتالية ، وهم الذين يرجع اليهم الفضل في بقاء أقواله حتي اليوم فيما كتبوه منها في الأناجيل المنسوبة إليهم ، ثم يتجاوزهم ويظهر ليلا إلى رجل يهودي من قطاع الطرق لم يسبق له أن رأي المسيح في حياته ، وإن كان يعاصره، ليكلفه بأن يحل محله بعد صلبه، هذا الرجل الذي عرف فيما بعد بالقديس بولس ، بعد أن غير أسمه من شاؤول إلى بولس، وراح يرسل الرسائل إلى أهل مناطب بالشام متضمنة تعاليم لم يقل بها أو بمثلها المسيح عليه السلام.

 ومع ذلك فإن ما دعا إليه بولس ، وتبناه إمبراطور الروم بعد أن تنصر، هو الذي  يشكل معظم ما في المسيحية الكاثوليكية المنتشرة في العالم اليوم والتي يقول الفاتيكان بأن أتباعها يصل عددهم إلى ما يربوا على المليار ونصف نسمه ، هذا بخلاف البروتوستانت والأرثوذكس، ولأن البروتوستانتيه خرجت من عباءة الكاثوليك، واقتبس الأرثوذكس الكثير من الكاثوليكية ، وتم ضم رسائل بولس إلى أهل الشام إلى الكتاب المقدس، فإن الديانات المسيحية المنتشرة اليوم يمكن القول بأنها تعود إلى ما كتبه بولس الذي كان إسمه شاؤول، أكثر مما تعود إلى تعاليم المسيح عليه السلام ، سواء ما حرمه على أتباع المسيح مما لم يرد له ذكر في الأناجيل ، أو في التنظيم الكنسي ، وفي اعتبار الكنيسة لها خصائص المسيح وسلطته والذي تجسده ما يعرف حاليا بالأسرار السبعة للكنيسة والتي منها التعميد والاعتراف والكهنوت والتناول والزيجوت ...الخ علما بأن الزواج على مدى قرون عديدة كان يتم خارج الكنيسة وكان يعترف به زواجا شرعيا غير مخالف للدين ، ثم قررت الكنائس في القرون الأخيرة ضمه الى واجباتها، واعتبار أن ما يتم خارجها لايعد زواجا دينيا وصارت الخطوبة أو الجبنيوت يتم في الكنائس وكذلك الزفاف أو الإكليل لكي تعترف الكنيسة بصحة الزواج.وإن كانت قد بذلت محاولات للتوفيق بين أقوال بولس وأقوال المسيح. فتم تأويل كلمات للمسيح لكي تتفق مع ما ذهب اليه بولس في رسائله ، ومنها تحريم الطلاق ومنعه ، واعتبار زواج المطلق أو المطلقة بعد طلاقهما بمثابة زنا. وغير ذلك ، كما دعا الى مخالفة اليهود فيما اتصفوا بالالتزام به مثل ختان الذكور وخلافه. هو بدعوته تلك أسس ديانة جديدة مخالفة للديانة اليهودية ، التي لم يأت المسيح لإلغائها وإنما لإصلاح ما أفسده بنوإسرائيل منها.

ما الذي حفز شاؤول أو المعروف حاليا ببولس الرسول ، الادعاء بأن المسيح أرسله الى العالم نيابة عنه، ولم أقدم على ذلك ووضع ديانة جديدة مخالفة للديانة اليهودية التي كان يدين بها؟. بالطبع نحن لا نعرف سبب ذلك ولكن يمكن أن نتكهن به من قبيل الظن ، الذي قد يكون صحيحا وقد لا يكون.

من قبيل الظن احتمال أن يكون بولس قد خشي على الديانة اليهودية من انتشار تعاليم المسيح فتدخل لإفساد تعاليم المسيح ولكي تظهر تعاليمه  وكأنها انحراف عن الديانة اليهودية أو ارتداد عنها فلا يتحول اليها اليهود الذين كانت ديانتهم قد انتشرت وقتها انتشارا واسع النطاق في شرق المتوسط و شمال أفريقيا و شبه الجزيرة العربية وهضبة الحبشة،. أي أنه كان يدافع عن يهوديته ويحول دون انصراف المتهودين عنها إلى تعاليم المسيح.وأخراج تلك التعاليم من حقيقة إنها إصلاح لليهودية لكي تبدو كديانة مخالفة لليهودية ولذا سنلاحظ أن رسائلة اهتمت اهتماما كبيرا بعدم تقليد اليهود في شيئ من أمورهم التي تعتبر من عقيدتهم وأعرافهم وتقاليدهم. لكي يتحقق الاختلاف عن اليهودية وهو ما لم يدع اليه المسيح في حياته، ولم يلقنه قط لتلاميذه. ولعله كان يأمل من ذلك أن ينفر اليهود من تلك التعاليم وأن يتمسكوا بديانتهم التي كانوا عليها قبل ظهور المسيح ، دون التأثر بتعاليمه تلك التي جاء بها وتسببت في قتله، ويتم أيضا تصوير قتله وصلبه بواسطة اليهود بأنه عقابا على ارتداده عن ديانتهم. إذن مكر بولس ومكر الله به وهو خير الماكرين ، أو كما يقال لدينا : العبد في تفكير والرب في تدبير، وقد   أراد الله أن يفسد ما  أراده بولس ومن اتبعه وأن تنتشر تعاليم المسيح وإن اختلطت بما كتبه بولس في العالمين  ، بينما تنكمش اليهودية وتنحسر. واليوم    نجد أنه في مقابل أكثر من مليار ونصف مسيحي في العالم ، لايصل عدد يهود العالم الى عشرين مليون يهودي، ربعهم تجمع  في فلسطين بعد الاستيلاء على أراض وممتلكات  أهلها وطردهم منها. كما أنه لو لم  تتحول مملكة الخزر إلى اليهودية ربما كانت اندثرت الديانة اليهودية  من العالم أجمع.

 وفي تاريخ المسلمين ، سنجد أن رجلا من أصل فارسي كان يعمل في خدمة الحاكم بأمر الله الفاطمي اقتدى بتجربة بولس وراح يرسل رسائل الى سكان جبل الدروز تحمل عقيدة جديدة وكان يختمها بخاتم الخليفة كأنها صادرة منه، وتكونت نتيجة ذلك العقيدة الدرزية الموجودة حتي اليوم والتي يعتبرها أصحابها ديانة خاصة بهم غير مقيدة لا بالدين الإسلامي أو غيره من الأديان، بل تعتبر خلاصة الإسلام والمسيحية واليهودية ، ونفس الشيئ عمله بهاء الدين صاحب الديانة البهائية ، وآخرون في الهند من المسلمين اتبعوا نفس السبيل. واخترعوا مذاهب خرجت في الواقع عن الدين الإسلامي وتعتبر ديانات وضعية مغايرة له، ومناقضة له أيضا في الكثير من تعاليمه وأحكامه التي تم تنحيتها عن الدين ونبذها. ولذا لا يجب أن يأخذ المسلمون في اعتبارهم كل ما ينسب الى بولس أو يعتبرونه من الديانة التي كان عليها المسيح أو له علاقة بتعاليمه. ولا يلزمهم اهتمام أتباع المسيح به ، أو تقديسهم له. ويجب أن يتفهم المسيحيون ذلك.

لمن تنسب الديانة؟

تنسب الديانة للديان ، أي لله الذي أوحي بها لرسوله ، وليس على الرسول سوى تبليغها، ونجد في القرآن الكريم قوله تعالى :  " أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ، إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ "(المائدة:67).
وقوله تعالى : "فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ " (التغابن: 12)
وقوله : "فإنما عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ"(آل عمران: 20)
وقوله :"فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ " (المائدة: 92)
وقوله :وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ (الرعد: 40)
وقوله :"َإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ" (النحل: 82).
 ولذا لا يقال عن ديانة اليهود الموسوية أو ديانة المسلمين : المحمدية ، وبالنسبة للمسيحية سنجد القرأن الكريم يسميها النصرانية ويسمي من يعتنقونها بالنصارى ، وثمة من يقول بأن النصارى نسبة لقرية أو مدينة الناصرة في فلسطين ولكن الأرجح أن المقصود بالنصاري هو : أنصار المسيح ومن ناصروه واتبعوا تعاليمه وهداه.

وأغلب ظني أنه لا يوجد تحريف في كلام المسيح الموجود في الأناجيل ، واختلافها يرجع إلى أن كل حواري ممن تنسب اليهم الأناجيل كتب ما سمعه من المسيح حين كان حاضرا معه، إذ أن بعضهم كان يتغيب عن مرافقة المسيح. وهناك ما يوحي أيضا بأن الحواري كان ينقل عن المسيح ما يتذكره أو حفظه وكان أكثر ما يتذكره هو ما يتفق مع طباعه واهتماماته الشخصية. فضلا عما يكون قد سقط من ذاكرة الرواة الذين نقل عنهم كتبة الأناجيل ، وكذلك ما يكون قد نتج عن الترجمة من لغة إلى أخرى. وإيمان المسلمين بالله وملائكته ورسله وكتبه...ألح ، يلزمهم باتباع تعاليم المسيح التي تتفق مع ما جاء بالقرآن الكريم وسنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ولا تخالفهما في شيئ.

وقد علم اليهود ، فيما بعد ، أن المسيح المبشر به في كتبهم هو ذلك الذي تآمروا عليه وسعوا الى قتله وصلبه ، فزاد نقمتهم عليه على أساس أنهم سألوا المسيح عما أذا كان واحدا من ثلاثة ورد ذكرهم في كتبهم المقدسة فأنكر وكان منهم المسيح في ظنهم ، فاعتبروه كذب عليهم وهو في الحقيقة لم يكذب ، لأنه من الثلاثة ذكروا مسيا ومعناها الحمد وفي تصورهم أن مسيا هو المسيح بينما المقصود به هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى فيهم:" لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [  المائدة)

وأن يكون المسيح يهوديا وبعث لإصلاح اليهودية فتأمر عليه اليهود، لا يعني أن أتباع المسيح اليوم لهم علاقة باليهود أو منهم ، فلديهم من تعاليم المسيح في الأناجيل ما يغنيهم عن الديانة اليهودية التي لم يتمكن المسيح من إصلاحها بسبب مكر اليهود يه. والحقيقة أن المسلمين ودينهم أقرب الى تعاليم المسيح من الديانة اليهودية لو يعلمون. ودين المسلمين والقرآن المنظم لدينهم يعلى من شأن المسيح وأمه ويكرمهما غاية التكريم . وهو ما يتطلب منهم ، من قبيل الإنصاف، إعادة النظر والتفكير في هذا الأمر وبناء علاقات أفضل مع المسلمين يتبادلون معهم فيها: المحبة والاحترام والتقدير.
وقد جاء في القرآن الكريم فيمن يطيعون الله ورسله وأنبياءه قوله تعالى :" وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَأَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعْ اللَّه وَالرَّسُول فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ " ، وهو قول ينطبق على المسلمين وأتباع المسيح معا من المؤمنين.

فوزي منصور