Wednesday, June 20, 2007

الأمانة

*الأمانة
الأمانة أم المقاصد الكليةالضرورية
حدد علماء أصول الدين مقاصد الشريعة الكلية والضرورية في خمس هم حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل. وكلها نعم أنعم الله بها علي الانسان وهي أيضا أمانات ائتمنه عليها مما أوجب عليه حفظها .اذا الامانة هي أم المقاصد وكلية الكليات وضرورة الضروريات منها . واذا راجعنا الوصايا العشر الذي جاء بها النبي موسى : لاتكذب ، الاتقتل ، لاتسرق ، لاتشتهي زوجة جارك....الخ سنجدها كلها أمانات تستدعي الحفظ ونفس الشيء في تعاليم المسيح التي أوردها كتبة الأناجيل وأيضا في التراث الديني للفراعنة المتمثل أساسا في كتاب الموتي ..سنجد أن كل هذه الأديان تتحدث عن أمانات مطلوب من الناس حفظها بل مطلوب في الاسلام ماهو أكثر من حفظها وهو رعايتهاحيث يقول الله في وصف المؤمنين :" والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لاايمان لمن لاأمانة له" ويمكن القول قياسا عليه بأنه لاأمانة أيضا لمن لاايمان له فالإيمان والامانة متلازمان يشترط لوجود أحدهما وجود الآخر معه.والأمانة والأمن والإيمان تنتمي الي أصل لغوي واحد.
وأداء الأمانة وعدم خيانتها يقتضي العدل في الحكم وفي التعامل مع الناس والمخلوقات ويقتضي أيضا اعمال التراحم في شتي صوره والاحسان في القول والعمل ولذا فان العدل والتراحم والاحسان تعد أيضا مقاصد كلية وضرورية .

الأمانة التي حملها الإنسان:
قال الله تعالي : " انا عرضنا الأمانة علي السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوما جهولا" (الاحزاب 725). فماهي تلك الأمانة ؟.

كنت كلما قرأت هذه الآية أوصادفتها واردة في مقالة أو كتاب علي سبيل الاستشهاد أجد نفسي في مواجهة نفس السؤال: أي أمانة تلك التي ألزم الانسان نفسه بها فظلمها بجهله أي بقلة علمه أو كثرة غروره؟ .وكانت مراجعتي لما اجتهد فيه المفسرون أجده لايتفق منطقيا مع بنية نص الآية وتركيبها والسياق الواردة فيه.فمن قائل إنها العقل أو الدين فيكون قد قصرهما علي الانسان وحده بينما يخبرنا القرآن عن الجن مثلا بما ينبؤ بأن لهم عقول ودين بل نجد في قصة النبي سليمان والهدهد مايمكن الاستنتاج منه بأن للطيور عقولها ودينها ، وأ ن تسبح كل المخلوقات بحمد الله كما أخبرنا فإنه يعني أن كلها علي صراط الدين المستقيم.

ومن قال بإنها الاستخلاف في الأرض يمكن الرد عليه أن الاستخلاف تقرر مع بدء خلق الانسان في قوله تعالي : واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..." وبذا يكون الاستخلاف مهمة الزامية لايملك الانسان الخيرة فيها ليقبلها أو يرفضها وبذلك لايكون الاستخلاف هو المقصود بالأمانة هنا.

وحسب بنية نص الأية سنجد أن تلك الأمانة لم تعرض علي الانسان مثلما عرضت علي غيره وانما هو طلبها دون أن تعرض عليه وألزم بها نفسه ظالما نفسه بذلك وجاهلا بتبعتها ومسؤليتها ومكابرا في قدرته علي حملها . ويمكن القول أن الانسان لم يفعل ذلك الا طمعا في مكاسب سيجنيها من حمله هذه الامانة والوفاء بمتطلباتها فالجهل هنا يحمل معني الاندفاع والنزق وعدم التبصر وهو مايلازم غالبا الطمع في شيء.

ولفظ الانسان يطلق علي الفرد كما يطلق علي المجموع وعلي الجنس ويستغرق الأجيال من الجنس الانساني منذ ظهوره علي الأرض الي يوم أخر أجياله عليها. ويعني النص في هذه الحالة أن الانسان، فردا كان أوجماعة، لم يقم بالزام نفسه وحده بالأمانة وانما ألزم بها ذريته أيضا وهي مازالت في ظهور أبائها . تماما مثلما قال اليهود وهم يحرضون الحاكم الروماني علي قتل المسيح : اقتله ودمه علينا وعلي أولادنا من بعدنا. وهنا يتجلي معني ظلوماجهولا علي نحو آخر فقد يكون من طلب تحميله الأمانة لم يظلم نفسه بها لآنه كان قادرا علي الوفاء بمتطلباتها ومسؤلياتها ولم يكن جهولا بطلبه اياها طالما كل ماسيترتب عليها في استطاعته القيام به ، ولكنه كان ظلوما لأنه حملها من سيأتي من بعده وهو لايدري اذا ماكان له قدرته وجلده علي تحملها وأنه سيقبل بها ويفي بالتزاماتها وجهولا لأنه اعتبر أن طاعة خلفه لها مضمونة ومؤكدة وهذا مايعد بمثابة جهالة وغرور ومكابرة منه.ولو أنه يستقاد من الأية ضمنا مسؤلية السلف عنه تصرفات الخلف أيضا . أي مسؤولية الآباء عن حسن تعليم وتربية أولادهم حتي يؤدون أمانتهم علي أحسن وجه ومسئولية الحاكم أيضا لآن الحاكم ولي من لاولي له ومسؤول عنه . ويتضح هنا أن الأمانة مسؤولية ويترتب عليها مسؤوليات ممتدة في الزمان والمكان ومن ثم جاء قول رسول الله صلي الله عليه وسلم : كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
وقيل الأمانة هي الروح ولكننا نجد أن لكل ذي حرة رطبة روح.وبذلك يشترك الانسان فيها مع كل الحيوانات وجميع الكائنات الحية اذ اعتبرنا أن نسمة الحياة هي الروح فان كل خلية حية في النباتات أو الحيوانات تكون ذات روح بل ذرات الجماد أثبت العلم الحديث بأنها تمتلئ بالحركة بداخلها وليست جامدة أو ساكنة كما تبدو لآعيننا. واذا افترضنا أن الانسان هو وحده الذي نفخ الله فيه من روحه بينما باقي الكائنات الحية دبت فيها الحياة بكلمة : كن فيكون ، فان منح الله الانسان روحه كان مع بدء الخلق وبذلك لايكون قد عرضت عليه الامانة أو يكون في وضعية القبول لحملها أو الامتناع عنه . اذا لايمكن أن تكون الروح هي المقصودة بالأمانة في الآية الكريمة.

ويطلق أيضا علي الوديعة والعارية لفظ الأمانةوفي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:«أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (رواه أحمد وأصحاب السنن).وربما اعتبرت الروح أمانة بمعني أنها وديعة أو عارية مستردة بالموت.ولكن يظل هذا المعني ثانويا أو عرضيا للآمانة وليس المعني الاصلي والجوهري المقصود.اذ أنه في حالة التعويل عليه سنظل في حاجة الي اكتشاف الوديعة أو العارية التي أؤتمن عليها الانسان دون غيره أو طلب أن تعلق ذمته بها الي أن يؤديها أو يردها أو يحافظ عليها دون تفريط فيها.ونكون بذلك فد عدنا الى نقطة البدء.

وتعني الآمانة في لغة القرآن حق الغير وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعاليفي سورة النساء: {إنَّ الله يأمرُكُم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلها وإذا حَكمتم بين النَّاس أن تحكُموا بالعدلِ إنَّ الله نِعِمَّا يَعظُكُم به إنَّ الله كان سَميعاً بَصيراً(58)} فالآمانات هنا هي حقوق الغير سواء حقوق رتبها لهم الشرع أو ودائع لهم أو ماشابه ذلك.ويمكن أن نستنتج من هذا المعني أن الآمانة التي نبحث عنها هي حق من حقوق الله علي الانسان عليه أن يؤديه له. ويعزز ذلك قوله صلي الله عليه وسلم:" فيما يرويه أحمد وابن حِبَّان عن أن : «لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له».


ورغم ظهور هذه المعاني العارضة في طريق البحث عن ماهي الامانة؟ فنحن لم نصل الى معناها بعد ولامفر من مواصلة التفتيش عنه.

وقد قال بعض الفقهاء أيضا أن الأمانة هي التكاليف من أوامر ونواه وحلال وحرام ومنهم فخر الدين الرازي والذي عرف التكليف بانه الأمر بخلاف ما فى الطبيعة، و أن هذا النوع من التكاليف ليس فى السماوات ولا فى الأرض لأن الأرض والجبال والسماء كلها على ما خلقت عليه، الجبل لا يطلب منه السير فى والأرض لا يطلب منها الصعود، ولا السماء الهبوط، ولا فى الملائكة وإن كانوا مأمورين منهيين عن أشياء، لكن ذلك لهم كالأكل والشرب فيسبحون الليل والنهار لا يفترون كما يشتغل الإنسان بأمر موافق لطبعه. وهكذا يفرق الفخر الرازى بين الإنسان وغيره من المخلوقات بالتكليف حيث يجعل التكليف خاص بالإنسان وأن كل المخلوقات غير الإنسان أمر الله لها موافق لماهيتها وطبيعتها. الا أنني ألاحظ أن الامانة لابد أن تكون شيئا ثابتا أبد الدهر لايتغير ولايتحول بينما التكاليف لم تكن ثابتة في الأديان وانما عرضة للتغيير . صحيح أنه في كل دين كانت الصلاة والصيام والزكاةحاضرة ولكنها تختلف في أشكالها ومواقيتها ولم يكن ثابتا سوى القيم الدينية والاخلاقية ولحق التغيير أيضا بعض الحلال والحرام لرفع العنت أو تغيير الظروف التي اقتضت كل منهما. ومن ناحية أخرى ماكانت السماوات والأرض والجبال لتخرج عن طاعة الله، وانما كلها تعمل وفق أومامره ومشيئته ، ووفق الوظائف التي خصصت لها . وكل ماخلقه الله يسبح بحمده وإن لم نفقه تسبيحه أو ندركه. والملائكة لاتعصي لله أمرا وماخلق الله الجن والانس الا ليعبدوه ، ولذا يمكن القول إن الإنسان وحده لايختص بالتكاليف وإن اختلفت نوعياتها عما كلف الله به غيره.

وقال الزمخشرى بأن المراد بالأمانةهو الطاعة وأنه يراد بها الطاعة لأن الطاعة لازمة الوجود كما أن الأمانة لازمة الأداء وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز، وأما حمل الأمانة، فمن قولك فلان حامل الأمانة أو محتمل لها، تريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته وتخرج عن عهدته. وهو هنا يلجأ للتفسير بالمجاز بعد أن أعياه فهم ظاهر اللفظ ولكنه لايوضح كيف يكون عرضها ولو علي سبيل المجاز علي من لم يخرج عن طاعة الله قط.

أما الفيروزبادى فقال:" فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان"، أى أبين أن يخنها وخانها الإنسان قال والإنسان هنا هو الكافر والمنافق ففسر حمل بمعني خان وبالتالي فان الامتناع انصب علي خيانة الامانة وليس قبولها بينما نلاحظ أن لفظ الانسان جاء في الاية عاما ولو أريد به التخصيص بالكافر أو المنافق لجاء ذلك واضحا.

ولعل أفضل ماقرأت في هذا الشأن: " أن معرفة الخاصية التى يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات هى التى تقودنا إلى معرفة الأمانة التى انفرد وحده بقبولها ومعرفة الأمانة تقودنا بدورها إلى معرفة أهم حقائق الوجود الإنسانى. إذاً ما هى ميزة الإنسان التى لا يشاركه فيها غيره من المخلوقا ت ليكون هو الخليفة فى الأرض؟ إجابة هذا السؤال تعرفنا ماهية الأمانة التى تميز بها الإنسان،ويمكننا أن نمسك بأول خيط فى تعريف الأمانة بمعرفة المعروض عليهم هذه الأمانة، من أبى أن يحملها، ومن حملوها، أما من أبي حملها أولهم تلك السماوات الرحبة المرفوعة بغير عمد ترونها، الأشد خلقا من الإنسان أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا "النازعات27" .وثانيهما الأرض التى تحمل الإنسان وصلب الصخور وشاهق الجبال والمبانى والمساكن، والبحار والمحيطات وما فيها جميعا." أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِى وَجَعَلَ بَينَ الْبَحْرَينِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يعْلَمُونَ (النمل61) وعرضت على الجبال التى تأخذ الأبصار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "فاطر27" لم تكن جمادية هذه المخلوقات هى مناط العبرة فى العجز عن حمل الأمانة، كما ذهب متأولون. ولكن العبرة ومناطها فى ضخامة أجرامها وطاقتها على الحمل والتحمل: . كل هذه القدرات على الحمل لم تسعف هذه المخلوقات على أن تحمل الأمانة المعروضة، قدرتها على الحمل قائمة وغير منكورة، ومع ذلك أبت كلها أن تحمل الأمانة، بل وأشفقت من حملها فَأَبَينَ أَن يحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وبقيت كما خلقت، وكما ارتضت لنفسها، بقيت مخلوقات مسخرة وعرضت على الجبال التى تأخذ الأبصار بشموخها وصلابتها ورسوها ورسوخها: وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ "فاطر27" هنا تبدو أول وأهم ملامح الأمانة التى رفضت تلك المخلوقات المسخرة أن تحملها، إنها مخلوقات أرادت بإشفاقها من حمل الأمانة ألا تخرج من طبيعة تكوينها التسخيرى، أى أنها رفضت إلا أن تكون مُسخرة، رفضت أن تكون حرة تفعل ما تشاء، وتحاسب على ذلك بأعدل الجزاء. رأت نجاتها فى تسخيرها، فأشفقت من الأمانة أن تحملها، رأت نجاتها فى ألا تكون حرة الإرادة، فأبت أن تحمل ما عرض عليها، أبت تلك الحرية التى تضعها فى محنة الابتلاء، أبت مسؤولية الاختيار، لأنها عرفت أنها داخلة فى اختبار وابتلاء أن يكون لها حرية الفعل، ويكون عليها جزاء العمل. فرغبت عن الاختبار، ورغبت فى أن تكون مُسيرة، وذلك أفضل لها ألا تفى بحق المسؤولية، وذلك أفضل لها ألا تقوم بواجبات الإرادة الحرة فأشفقت منها، وأبت أن تحملها، قبلت التسخيرورفضت الحرية.
هى الحرية التى أشفقت منها تلك المخلوقات الكبيرة، هى الحرية التى أبت السماوات والأرض والجبال وما كان مثلها من مخلوقات أن تحملها، وحملها الإنسان، وهو من هو فى ضآلة جرمه ومحدودية طاقته، حمل الأمانة، فكان أن سخر الله له ما فى السماوات وما فى الأرض، تكريما له على قبوله الأمانة، وإعدادا له لخلافة الله فى الأرض. وأصبح الإنسان مسئولا عن عمله، يحاسب عليه ثوابا وعقابا، ولا يحمل أحد عنه تبعة مسعاه، أبى الإنسان التسخير وتحمل تبعية الحرية والاختيار، قبل الإنسان مخاطر الابتلاء وعثرات الجهل، وفتح ربه أمامه أبواب التوبة فيتعثر ويخطئ ويتعلم من تجربته ويهتدى إلى سواء السبيل، حمل الإنسان الأمانة، فحمل جوهر إنسانيته: الحرية، لو قبل التسخير كما فعلت السماوات والأرض والجبال وكل من قبل التسخير، لو أنه فعل مثل ما فعلوا، لأعفاه ذلك من المسؤولية والحساب. فالحرية تقابلها المسؤولية.، والتسخير يقابله الإعفاء من أية مسؤولية، الحرية يقابلها التكليف، والتسخير يقابله الامتثال، الحرية يقابلها الابتلاء، التسخير تقابله الطاعة، حمل الإنسان الأمانة، فحمل إنسانيته، وحمل حريته، حمل مسؤوليته، حمل ابتلاءه، وحمل تكاليفه، وما فتئ أن عصى ربه وغوى، وندم وتاب، وتاب عليه ربه فهدى، وأهبط إلى ساحة الابتلاء والتكليف حاملا أمانته، حريته معه واستخلف الإنسان فى الأرض، بقدر الله، وبأهليته للمسؤولية وبما تلقيه عليه من تبعات جسام أعفيت منها كل الكائنات الأخرى."

إذن يستخلص من الرأي السابق أن الأمانة هي الحرية التي منحت للانسان دون سواه من المخلوقات التي ظلت مسخرة ولكن ألم تمنح هذه الحرية للانسان من بداية خلقه؟الم يدخل الله آدم وزوجه الجنة ولم يقيد حريتهما الا في شيئ واحد وهو شجرة طلب منهما الايأكلا منها؟ إن الرأي الاخير رغم مايتضمنه من اغراء بالتوقف عنده والاكتفاء به يجب الا نستحيب للاغراء وأن نواصل الاستمرار في البحث لعله يصل بنا الي ماهو أقرب رشدا.
ولقد جاء ذكر الأمانة أيضا في القرآن بصيغة الجمع في قوله تعالي: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لاتخونوا الله والرَّسولَ وتخونوا أماناتِكُمْ وأنتم تعلمون " وفي قوله تعالى فى وصف المؤمنين : والذين هم لأمانتهم وعهدهم راعون "وقد نتوصل الي أن الأمانة التي نبحث عن معناها هي الأم التي تتفرع عنها أمانات كثيرة.
السياق الذي وردت فيه الآية :
مالم نبحث فيه حتي الآن هو السياق الذي وردت فيه الآية ضمن سورة الآحزاب والذي يبدأ من قوله تعالي : " يسألك الناس عن الساعة قل إن علمها عند الله ، ومايدريك لعل الساعة تكون قريبا" (الاية63) ثم تتوالي الآيات من 64-68 تتحدث عن عذاب أهل السعير الذين عصوا الله ورسوله وأطاعوا ساداتهم وكبرائهم فأضلوهم السبيل ، ثم تتوجه الآيات 69و70 بالنصح للمؤمنين ثم تأتي الآية71 لتبشرهم بالفوز العظيم لمن يطع الله ورسوله وبأن الله جزاء طاعتهم يصلح لهم أعمالهم ويغفر لهم ذنوبهم . بعد ذلك مباشرة تأتي الآية72 التي تتحدث عن الأمانة.وبعدها مباشرة تأتي آخر آية في سورة الأحزاب تقول: " ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله علي المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما"
من هذا السياق يمكننا أن نستنتج أن الاية 72 يرتبط معني الأمانة فيها ارتباطا وثيقا بقيام الساعة ومايعقبها من حساب وعقاب وثواب.
وتطلعا لمزيد من الهدى سنبحث عن سياق آخر جاء فيه ذكر الآمانة في سورة " المؤمنون" التي عدد الله فيها صفات المؤمنين من بداية السورة وجاء ضمنها :" والذين هم لآماناتهم وعهدهم راعون" ثم يتم وصف المؤمنين عقب ذلك بأنهم"أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" . ثم يأتي الحديث عن الخلق حتي الآية14 لكي يذكر بعده : "ثم انكم بعدذلك لميتون ثم انكم يوم القيامة تبعثون" ثم ينتهي هذا السياق لكي تنتقل السورة منه الي سواه. ويذكرنا هذا بماورد في سورة الملك: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا".
تتعزز معلوماتنا الان بأن الأمانة والأمانات ترتبط بالموت والبعث يوم القيامة والحساب والعقاب والثواب وبماهي التزام ومسؤولية وحق علي مؤديها مستحق الأداء لصاحب الحق وأن صاحب الحق هنا هو الله سبحانه وتعالي ودون أن يمنع ذلك من وجود أصحاب حق في الامانة القيام بواجبها نحوهم يكون بمثابة وفاء بحق الله فيها. وأول مايرد علي الخاطر ويتفق مع بنية الاية أن تكون هذه الأمانة أو الأمانات عهد التزم به الانسان وحق عليه الوفاء به ومرتبط أيضا بالايمان حيث يوجد حديث للنبي صلي الله عليه وسلم رواه أحمد وابن حِبَّان عن أنس عن النبي يقول فيه: لاايمان لمن لاأمانة له ولادين لمن لاعهد له". فالأمانة اذن قد تكون عهدا علي الانسان المؤمن يلتزم برعايته والوفاء به لكي يكون جديرا بدخول الجنة خالدا فيها جزاء حفظه وأدائه الأمانه أو يعاقب على عدم وفائه بالعهد بأن يكون من أصحاب السعير .
ويمكن أن يتطور استنتاجنا الآن الي احتمال أن يكون آدم عليه السلام قد قدم عهدا لله سبحانه وتعالي يلزمه ويلزم ذريته من بعده ، هو في نفس الوقت بمثابة أمانة في أعناقهم يلتزمون بالوفاء بها لك يمكن لآدم وزوجه أن يعودا الي الجنة وأن يأخذوا معهم أبناءهم وحفدتهم وذريتهم.بعد أن طردا منها من قبل بعد أن أزلهما الشيطان وعصيا ربهما وقد يكون هذا العهد هو الكلمات التي علمه الله آدم ليتوب عليه.وأن الله سبحانه وتعالي تقبل منهما هذا العهد لكي يكون بامكانهما العودة الي الجنة ومعهما ذريتهما بشرط التزامهما وذريتهما بالعهد.وهو مايتم التحقق منه عبر مسلسل الموت والبعث والحساب . فمن راعي أمانته وعهده دخل الجنة. وبرحمة من الله كلما نسيت أمة منهم العهد أرسل الله لهم رسولا ليذكرهم وأخذ العهد علي الرسول أيضا والذي يأخذ بدوره العهد علي أتباعه فيما يعرف بالبيعة في الاسلام.ويعزز ذلك حديث رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال الله تعالى لآدم: ياآدم، إني عرضت الأمانة على السموات والأرض، فلم تطقها فهل أنت حاملها بما فيها، فقال: وما فيها يارب؟ قال: إن حملتها أُجرت، وإن ضيَّعتها عُذِّبت، فاحْتَمَلَها بما فيها، ولم يلبث في الجنَّة إلا قدر ما بين الصَّلاة الأولى إلى العصر، حتَّى أخرجه الشيطان منها".
الأمانة اذن بهذا المعني هي عنوان دال علي عقد معاوضة بين الانسان وخالقه يحدد التزام الطرفينوالجزاءات المترتبة علي الانسان في حالة الاخلال به . ويمكن لنا أن نستنتج أيضا أن ماعرض علي السموات والأرض والجبال كان البعث بعد الموت والخلود من بعده في الجنة أو النار بشروط ذلك التي هي العهد الذي قبل به آدم .وبذلك يتسق التفسير مع بنية النص وجميع مفرداته وسياقه سواء في سورة الأحزاب أو مايماثله في سورة "المؤمنون".
فاذا دمرت الارض ودكت الجبال دكا وانهار نظام الفلك في السماوات فانه لن يتم بعث مايموت من أنظمة كونيةأو كائنات حية أخرى غير الانسان. دون أن يمنع ذلك من احتمال انشاء غيرها مثلما أنشأها الله أول مرة وهو علي كل شيء قدير ، أما الذي سيواجه وحده البعث بعد الموت ومابعد البعث فهو الانسان وحده.
العهد والميثاق:
هنا أيضا يجب علينا النظر فيما جاء في أية يبدو أن لها علاقة بما نحن بصدده ، يقول فيها المولي عزوجل:" وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (سورة الأعراف الآيات من172-174)وقد أثير جدل كثير حول تفسير الاية واعتمد معظم المفسرين علي ثلاية روايات متشابهة منسوبة لعبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وأبوهريرة مع إاقرارهم بضعفها وفحواها أن الله أخرج من ظهرهر آدم ذريته أو صور ذريتهم وأشهدهم علما بأن الاية تحدثت عن بني آدم وليس عن آدم نفسهوبني آدم يحتمل أن يكونوا أبناء آدم في حياته الذين اشتركوا معه في تقديم العهد أوالميثاق لربهم والذى أضحي أيضا بمثابة أمانة في أعناقهم وأعناق ذريتهم ولكن الارجح من ذلك أن المقصود هم الآنبياء الذين كانوا بمثابة الدر في السلالة وأخذ منهم العهد وهذا هو الاقرب الي ألفاظ الآاية والذي تعززه آيات أخرى من كتاب الله وباعتبار أن القرآن يفسر بعضه.فقد ورد في نفس سورة الأحزاب-الآية7- قوله تعالي :{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}[الأحزاب:7]،.. فالميثاق اذن مأخوذ من آدم والنبيين والذين هم الدرر في سلالته.
يمكن لنا ايضا أن نستنتج من ذكر لفظ الأمانة مفردا في سورة الآحزاب بينما الأمانات في سورة:" المؤمنون" مقترنة بالعهد بصيغة الجمع بأن لفظ أمانات بصيغة الجمع هو تفصيل للعهد والأمانة بمعني أن كل بند في العهد هو أمانة في حد ذاته وبذلك تكون الأمانة في سورة الأحزاب هي جماع الأمانات المشار اليها في "المؤمنون" وبالتالي تكون كلمة تعني جمع الجمع وليست لفظا مفردا.
واذا طبقنا علم النفس سنجد أنه من المنطقي أن يطمع آدم بعد أن تاب عليه ربه العوده الي الجنة هو وزوجه ومعه بنيه وبناته بعد أن أمسى رب عائلة كبيرةوأن يطالب أيضا بالخلود فيها الذي كان تعلقه به سببا في خروجه من الجنة بعد أن أوهمه الشيطان بأن الشجرة التي منعهم الله عن الاقتراب منها هي الشجرة التي تهب من يأكل ثمارها الخلد.
واذا استعنا بالتاريخ والانثروبولوجيا نستطيع أن نفهم اهتمام الفراعنة البالغ بالبعث والحياة بعد الموت اذا ماأخذنا في الاعتبار أن آدم وبنيه استقروا في أدوميا بفلسطين علي حدودها وأن العماليق من سلالته المباشرة قد حكموها. وأمكننا فهم أيضا تقديس الأسلاف عند القبائل الأفريقية المؤسس علي أن أرواحهم تراقب تصرفاتهم في الدنيا والتزامهم بالسلوك القويم واعتبار هذه المظاهر انعكاسات أو تداعيات أوبقايا ثقافات وعقائد قديمة متصلة بما كان عليه أدم وبنيه وجاء به الانبياءوالمرسلون من بعده.
لقد جاء الخلط أو الخطأ في التفسير للآية:" واذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم..." من فهمهم لعبارة "من ظهورهم " وكان الأولي بهم فهمها علي أساس أنها تعني منذ ظهورهم علي وجه الأرض فذاك الفهم المقبول في لغة العرب ييسرعليهم ادراك المعني ولايجعلهم يحولون مايمكن ادراكه بالعقل الي عمل غيبي أقرب الي الخرافة منه الي الغيب ويدعمونه بأحاديث ضعيفة أو موضوعة ويقولون هذا مافسرت به السنة.
الخلاصة :
الأهم من اثبات مأثبته هو مايمكن استخلاصه منه وهو جرد الأمانات مع كثرتها ومعرفة مدي التزامنا برعاية كل منها. اذ أن محاسبة النفس بالنقد الذاتي اليوم هو الذي ينجيها عند حساب الله لها غدا وقبل أن يفوت الأوان ويتعذر الاستدراك. وعلي سبيل المثال فان الابوين لايتحملان المسؤولية عن نفسيهما فقط وانما أيضا عن أبنائهم وبناتهم ونسلهم وكلهم أمانة يسألون عنها وأنه اذا كانت "كل نفس بما كسبت رهينة "فان الوفاء بالأمانة أو خيانتها,حيث اعتبر القرآن الاخلال بها خيانة، يدخل في اطار ماكسبت النفس من خير أو اكتسبت من سوء . وأداء ورعاية الأمانة هو فرض عين علي كل فرد وليس فرض كفاية يغنيه عنه أداء غيره له.وهو أيضا فرض جماعي علي المجتمع الإنساني عامة والمسلم خاصة لايمكن للمجتمع ان يتحلل من مسؤوليته عن ذلك. ولذا فإن أداء الآمانة ورعايتها يمتد داخل الدين الي مجالات السياسة والاجتماع والاقتصاد والثقافة والاعلام والبيئة والتعليم ... أي جميع مجالات الحياة. ويتحمل الحاكم والمحكوم معا مسؤولية الأمانة واشاعتها في المجتمع لتكون اطارا حاكما لحركته وثقافته وعاداته وتقاليده ويحاسب الحاكم والمحكوم عليها في الارض مثلما يحاسبون عليه في السماء طالما أن التفريط في الأمانة هو في دين الأمة خيانة.ولذا جاء الآمر"وأدوا الأمانات الي أهلها" أمرا عاما يتم بمقتضاه اعطاء كل ذي حق حقه كاملا غير منقوص وبمايرضي الله ويتفق مع العدل وشرعية الأمانة.
فالعالم يجب أن يعلم الناس مماعلمه الله والا يكون قد خان الآمانة والميسور الحال يجب أن ينفق في سبيل الله من المال الذي استخلفه اله عليه والا يكون قد خان الأمانة والقاضي عليه أن يحكم بما أمر الله به من عدل والايكون قد خان الأمانة....الخ. وتتعدد السلوكيات التي تتطلبها الآمانة بما لايتسع المجال هنا لحصرها. وحديث الرسول : "لاايمان لمن لاأمانة له " يجعل وجود الامانة معيارا للتفرقة بين الايمان والكفر . اذ لايمكن أن يحسب الحاكم الذي فرط في مصالح الشعب أو اختلس المال الذي أوتمن عليه أوتنازل عن حقوق الشعب للآجانب مقبل عرض من أعراض الدنيا وكذلك القاضي المرتشي الذي حكم ظلما بعلم منه وعمد ..لايمكن حسبان هذا أو ذاك من المؤمنين.
ولأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فيما روي عنه :" لايزال الخير في أمتي الي يوم القيام’" فسنجد هنا وهناك قلة من الناس هم الذين لآماناتهم راعون أما الأكثرية حكاما ومحكومين فقد نعثر علي بقايا الأمانة عالقة في نعالهم من كثرة ماداسوا عليها بها..وكان الله للخائنين خصيما وبهم عليما.
فوزي منصور
Fawzym2@gmail.com
Fawzy_mansour@hotmail.com
نشرت هذه المقالة لآول مرة في يومية "أنوال المغربية"يوم 18أكتوبر1994 وقد أدخل عليها هنا بعض التحسينات.
.








No comments: