ليس لي كثير فضل في هذا الفصل إذ اقتصر دوري فيه الي حد كبير على نقل ما كتبه الاقتصاديون في نقد النظام الرأسمالي و أوافق عليه مع تدخل محدود مني.
ما يمكن استخلاصه من العرض التاريخي السابق حول تطور النظام الرأسمالي هو الأتي:
1- أن تطور الفكر الاقتصادي كانت له خاصية تراكمية أكثر منها إحلالية ، إذ كان يضيف المحدثون اليه على ما تركه السابقون مع إدخال تعديلات على ما سبق محدودة وقد لا تكون جوهرية ..ويرتبط الفكر الاقتصادي في تطوره بتطور وسائل وأساليب الانتاج وتطور العلوم والتقنيات والفلسفة أو الثقافة السائدة .
2- أن الفكر الرأسمالي الغربي هو وليد البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نشأ فيها ويعبر عنها ويسعى لحل مشاكلها. وهو وإن كان قد استبعد في ظاهرة القيم الدينية فهو في الواقع استثمر قيما مسيحية أو أثرت فيه ، علىنحو ما أثير عن دور الكاليقانية في تعزيز الرأسمالية.
3- أنه منذ ظهر وحتي اليوم ، وهو يفتقر الى الاتساق والاحكام وتتسبب تطبيقاته أزمات مدمرة للاقتصاديات الرأسمالية ،رغم كثرة المفكرين ومساهماتهم عبر التاريخ الأوروبي. وتطبيقاته أو الخيارات التي يقدمها في حل الأزمات مازالت مختلف عليها داخل مؤسسات صناعة القرار في المجتمعات الرأسمالية. بل أحيانا تضطر الدولة الي التصرف بغير السياسة الاقتصادية المتبعة لديها ،أو التي تروج لها في العالم الخارجي مثلما تدخلت الحكومة المركزية الأمريكية لانقاذ شركات التامين اليها من الإفلاس ،وتدبير تمويل من الخزينة يبلغ 700 مليار دولار لتعويمها ، بينما سياستها الرسمية تقضي بعدم تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية. وسبق لبيل كلينتون أن لجأ لتوصيات كينز لحل أزمة البطالة وإنعاش الاقتصاد خلال ولايته ، بعد أن تسببت سياسة سلفه ريجان المتمادية في ليبراليتها قي خلق متاعب اقتصادية للدولة.ولا يستطيع مفكر الإدعاء بأن بإمكانه تقديم نظرية كاملة وشاملة . إذا أن النظرية إن كانت تقرر واقعا وتنظره فإن الواقع يتطور بدوره ويتغير ، وبالتالي لن تكون ملاءمة له بعد تغييره . وإن كانت تعالجا وضعا مستقبليا متخيلا ، فهي إذن توظف خبرة معلومة في ظروف مجهولة مما يجعل نقصها مؤكدا واتساقها مختل . وإن جاءت تحمل سمات الاتقان بأقصي ماهو بالامكان فإن مسؤولية إكمالها ومعالجة خللها تقع على عاتق المنفدين لها.
4- لا يرتبط الفكر الرأسمالي الغربي أو الفكر الذي نشأ في طلها مثل الماركسية، ولو أني أعتبرها فكرا رأسماليا بدورها ، بأي قيم دينية أو أخلاقية أو حتي مادية تتمتع بخاصية الثبات والاستقرار. وإنما هو مؤسس على قيم مادية ،ونفعية أساسا ، قابلة للتغيير والتبديل والتعديل وفقا لتغير المصالح القومية لكل بلد غربي والتي يخدمها الفكر الرأسمالي . فالرأسمالية التجارية طلبت حماية الدولة لها لأنها في صالحها ، وفي طل التوسع الاستعمارى للدولة فيما وراء الحدود والبحار. وعندما تحولت إلى صناعة لا تحتاج إلى الدولة طالبت بحريتها ورفع يد الدولة عنها. وعندما وجدت الصناعة الناشئة في ألمانيا أنها في حاجة إلى الحماية طالب فريدريك ليست بتدخل الدولة لحمايتها ، وعندما اشتد سوقها عادت لتطلب امتناع الدولة عن التدخل . وإذ طالبت انجلترا في القرن التاسع عشر بالحرية التجارية ، ظهرت دعوة كينز فيها بضرورة تدخل الدولة وتمت الاستجابة لها. ثم عادة وتخلت عنها بعد أن طلب الفاعلون الاقتصاديون ذلك.
هذه الاميلة كلها تؤكد أن ممارسة الاقتصاد السياسي في الغرب هو بمثابة تنفيذ سياسات ظرفية وفق مقتضي الحال أكثر منها تطبيق صارم لعلم اقتصاد ثابت .
5- استنتاجا ايضا مما سبق ، فإنه كما بحث الرأسماليون في الغرب باستمرار عن نظام اقتصادي يحقق لهم أكبر قدر من المنفعة والمكاسب والمصالح الاقتصادية ، والتي تتغير بتغير الظروف لتتواءم معها ، فإن القوي الوطنية الحرة خارج العالم الغربي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، والتي فشلت منذ نيلها استقلالها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، مطالبة اليوم بتبني نظاما اقتصاديا بإمكانه تغيير ظروفها المأساوية الحالية ، ويتفق مع قيمها الدينية والأخلاقية والحضارية ز ويحقق الحرية والعدالة والاحسان والمساواة والكرامة التي تتوق شعوبها للتمتع بها من بعد طول معاناة للحرمان منها . لقد شقت اليابان طريقها ولحقت بها كوريا الجنوبية والصين وماليزيا ، وبدأت الهند تتحسس معالم نفس الطريق ، ونفس الشي ء بالنسبة لفيتنام التي ركبت القظار متأخرة عن جيرانها. الأوضاع في البرازيل والارجنتين وفنزويلا تتحسن أيضا رغم الصعوبات المحلية والخارجية. العالم يتحرك فيما عدا الدول والشعوب المسلمة ، وخاصة تلك الموجودة في شمال أفريقيا ، والتي تزداد انعماسا في التخلف والتبعية للغرب ولا تحاول الإمساك بحريتها لكي تتقدم بدورها مثل شعوب شرق أسيا وشعوب أمريكا اللآتينية.
تبرير الاقتصاد النيوكلاسيكي للرأسمالية:
يقول الأستاذ أشرف منصور:إن المشكلة الأساسية التي تعاملت معها الليبرالية الجديدة، والتي ورثتها من الاقتصاد النيوكلاسيكي، هي مشكلة القيمة الزائدة: كيف تبرر استحواذ الرأسمالي على تلك القيمة الزائدة التي تسميها ربحا؟ كيف تبرر أرباح الرأسمالية؟ إن تبرير حصول الرأسمالي على الربح من أهم القضايا الحساسة بالنسبة لأي أيديولوجيا مبررة للرأسمالية، وذلك نظرا لأن قضية القيمة الزائدة كانت محل نقد ماركس. أعلن ماركس منذ أربعينات القرن التاسع عشر أن القيمة الزائدة نتاج للعمل البشري وحده، لكن يستحوذ الرأسمالي عليها بفضل موقعه الحاكم والمسيطر في العملية الإنتاجية، وبفضل علاقة التراتب الطبقي بين رأس المال والعمل المأجور. وبالتالي نظر ماركس إلى القيمة الزائدة على أنها نتاج عمل غير مدفوع الأجر.
وفي مواجهة الهجوم الماركسي على البناء الطبقي للرأسمالية الذي يتيح لرأس المال الاستحواذ على القيمة الزائدة، إنشغل الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن الرأسمالية بتبرير حصول رأس المال على القيمة الزائدة المصدر الأساسي لربح الرأسمالي. وكان خطاب الليبرالية الجديدة وريث الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن حق الرأسمالي في القيمة الزائدة وتبرير ما يحصل عليه من ربح. وقد تمثل هذا التبرير في الحجج الآتية:
أ. حجة حق الملكية: وهي أكثر الحجج سذاجة وضعفا، إذ تقول أن الرأسمالي يملك رأس المال وأدوات الإنتاج، وبالتالي فما يأتي به هذا الرأسمال من ربح من حق مالكه. وتتحول هذه الحجة إلى الثناء على الرأسمالي لكرمه ومحبته لمجتمعه وللإنسانية لسماحه لما يملكه من أدوات إنتاج أن تعمل مشغلة بذلك أيدي عاملة ومنتجة لسلع يحتاج إليها المجتمع، وقد كان يستطيع أن يحجب رأسماله عن العمل، فهذا من حقه بناء على ملكيته الخاصة لرأسماله.
لكن من أين أتى الرأسمالي برأسماله وأدوات إنتاجه؟ من أرباح سابقة، فما يملكه من أدوات إنتاج ليس إلا نتيجة تراكم أرباح تحصل عليها في الماضي. ومن أين أتى بهذه الأرباح السابقة؟ من استحواذه على القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المادة الخام ليصنع منها سلعا وتحويل هذه القيمة الزائدة إلى تراكم رأسمالي. تتغافل هذه الحجة عن حقيقة أن ما يملكه الرأسمالي هو نتاج تراكم عمل سابق لأشخاص آخرين استحوذ عليه الرأسمالي بفضل وضعه الطبقي المسيطر في العملية الإنتاجية؛ كما ننغافل الحجة عن حقيقة أن قوى الإنتاج في المجتمع لا تصبح ملكية خاصة لأشخاص إلا في ظل نظام معين في تقسيم العمل والثروة على أساس طبقي.
إن الوضع الطبقي للرأسمالي باعتباره مسيطرا على العملية الإنتاجية هو الذي يمكنه من تحويل القيمة الزائدة إلى رأس مال جديد يكون من حقه وحده طبقا لحق الملكية الخاصة.
ب. حجة التوزيع العادل: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالية عادلة لأنها تعطي لكل طرف في العملية الإنتاجية ما يساوي قيمة عمله. بمعنى أن ربح الرأسمالي يكون مقابل عبقريته ومواهبه النادرة في إدارة المشروع ومبادرته ومخاطرته بأمواله..إلخ، وأجر العامل هو حقه الذي يتلقاه نظير بذل قوته. ترجع هذه الحجة إلى الاقتصادي الأمريكي جون بيتس كلارك الذي ذهب إلى التدليل على تلك الحجة بقوله أنه إذا انسحب عامل واحد من العمل فسوف تنخفض قيمة هذا العمل بمقدار أجر هذا العامل، وبذلك يصبح أجر العامل مبررا ومشروعا نظرا لأن هذا الأجر جزء أصيل داخل في صميم قيمة المنتج.
والحقيقة أن هذه الحجة تفترض أن أجور جميع العمال جميعهم تساوي قيمة المشروع ككل وهذا غير صحيح؛ هذا بالإضافة إلى أنه إذا انسحب عاملان أو ثلاثة من العمل لانخفضت قيمة العمل أكثر من مجموع أجورهم
وذلك نظرا للطبيعة العضوية لتقسيم العمل الصناعي، فإسهام العمل عضوي وكيفي وليس كميا كما يعتقد النيوكلاسيك. كما تنطوي حجة كلارك على مسلمة ضمنية بأن هناك تساويا تاما بين رأس المال والعمل المأجور بحيث يحصل كل طرف على مقابل إسهامه الإنتاجي، لكن ليس هناك في العالم الحقيقي أي تساو بينهما.
ج. حجة الإسهام في الإنتاج: تذهب هذه الحجة إلى أن ما يحصل عليه الرأسمالي من أرباح مشروع تماما نظرا لأنه يسهم في الإنتاج، والربح بذلك يعد مكافأة على إدارته للمشروع.
والحقيقة أن صاحب رأس المال ليس منتجا، إنه لا ينتج أي شئ؛ المنشعلون بالعملية الإنتاجية من عمال وفنيين ومهندسين هم المنتجون الحقيقيون. والرأسمالي لا يفعل شيئا إلا أن يسمح لرأس المال بأن يشتغل في الإنتاج. الرأسمالي إذن هو صاحب القرار الإنتاجي وليس القائم بالعملية الإنتاجية. إن رأس المال الصناعي في صورة البنية الأساسية والمواد الخام والآلات جاهز وموجود، كما أن القوة العاملة والقدرة التقنية والفنية موجودة وجاهزة قبل أن يوجد الرأسمالي، ولا يفعل الرأسمالي شيئا سوى أن يسمح لهذه العناصر بأن تعمل. ولا يُسمح للرأسمالي بأن يكون صاحب القرار الإنتاجي إلا في ظل نظام معين في توزيع الملكية والثروة يمكن أصحاب المال من الاستحواذ على القوى الإنتاجية للمجتمع ويديرونها لجني الربح الشخصي. إن سماح الرأسمالي لعناصر الإنتاج بالعمل مبني على سماح النظام الاجتماعي-الطبقي السائد بأن يصبح هذا الرأسمالي على رأس العملية الإنتاجية وصاحب القرار الإنتاجي؛ ويصبح الرأسمالي صاحب القرار الإنتاجي بفضل نظام قانوني معين يسمح له بذلك، نظام يعترف بحق الامتلاك الخاص لقوى المجتمع الإنتاجية. ولذلك فالرأسمالي لا يحتل موقعه المسيطر في العملية الإنتاجية بفضل عبقريته ومواهبه الشخصية، بل بفضل بناء اجتماعي-طبقي معين يسمح لأصحاب المال بالاستحواذ على قوى المجتمع الإنتاجية وإدارتها لصالحهم.
د. حجة المكافأة على التضحية والانتظار: بينما كانت الحجج السابقة تبرر حصول الرأسمالي على الربح، فإن هذه الحجة تبرر شيئا آخر مختلفا؛ إنها تبرر الفائدة على رأس المال نفسه، أي حق أصحاب رأس المال المالي من أصحاب رؤوس الأموال السائلة وحملة الأسهم والسندات في الأرباح والأنصبة التي يحصلون عليها عندما يودعون أموالهم في بنوك أو يستثمروها في مشاريع أو شركات مساهمة أو يضاربون بها في البورصة. تذهب هذه الحجة إلى أن الفائدة مشروعة لأنها المقابل الذي يتلقاه صاحب المال عن عدم استهلاك أمواله في الحاضر وتأجيل هذا الاستهلاك إلى المستقبل، والتضحية باستعمال حالي للمال في سبيل استعمال مؤجل. هذه التضحية وهذا التأجيل يجب أن يقابله مكافأة، وهي مكافأة مشروعة.
تخلط هذه الحجة بين مستويين من الاقتصاد: المستوى الشخصي أو العائلي والذي كان يسمى بالاقتصاد المنزلي، والمستوى الاجتماعي والقومي والسياسي للاقتصاد وهو المسمى بالاقتصاد السياسي. أي أنها تخلط بين ما يحدث على مستوى الأفراد من ادخار ومن تجنيب جزء من دخلهم في سبيل الفائدة، وبين ما يحدث على مستوى عالم الصناعة والاستثمار. والحقيقة أن الادخار الشخصي شئ والقيمة الزائدة التي تتحول إلى تراكم رأسمالي شئ آخر. تهدف هذه الحجة الإيحاء بأن النظام الرأسمالي وحده هو الذي يتيح للأفراد الحصول على فوائد مركبة على إيداعاتهم وعلى أنصبة متزايدة نتيجة ارتفاع أسعار الأسهم، رابطة بذلك شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى بعجلة الاقتصاد الرأسمالي ضامنة ولاءها وتأييدها. إن الفوائد التي تحصل عليها الطبقات الوسطى من ادخاراتها ليست إلا حماية لأموالها من الانخفاض المستمر في قيمة العملة على مر السنين ومن التضخم الذي لا ينتهي. هذه المدخرات تختلف تماما عن الكميات الضخمة من رأس المال المالي العامل في كل مجالات الاقتصاد بما فيها المضاربات.
هذا بالإضافة إلى أن الإيداعات المالية للشريحة العليا في المجتمع ليست مجرد مدخرات مثلما هو الحال مع الطبقة الوسطى، بل هي قيمة زائدة في صورة أرباح تعيد هذه الشريحة استثمارها مرة أخرى؛ إنها تراكم لرأس المال يجب أن يستثمر في مشاريع جديدة. وبالتالي فهذه الشريحة لا تدخر بل تستثمر، ولا تحمي أموالها من الإنفاق ومن انخفاض قيمة العملة بل تضارب بها في البورصات، ولا تضحي باستخدام حالي للمال في سبيل زيادة على هذا المال في المستقبل، ولا تقتطع جزءا من دخلها ولا تؤجل الإنفاق، بل تحول الأرباح السابقة إلى استثمارات جديدة.
هـ. حجة المخاطرة: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالي يخاطر بأمواله وبالتالي فهو يستحق مكافأة على هذه المخاطرة. لكن هل يخاطر الرأسمالي بالفعل؟ إنه في الحقيقة لا يخاطر بفقدان رأس المال نفسه، بل بهامش الربح الذي سيحققه، ولا يفقد الرأسمالي كامل رأسماله إلا في حالات نادرة، كأن يكون مضاربا في البورصة. والمضارب في البورصة يدخل في لعبة أشبه بالقمار، وهو يعلم جيدا إمكانية فقدان رأسماله قبل أن يبدأ اللعب. أما على مستوى المشروع الصناعي فإن المخاطرة هي الفشل في تحقيق الربح المنتظر، أما رأس المال نفسه باعتباره أدوات الإنتاج والأرض فليس هناك مخاطرة في فقدانها، إلا إذا كانت مشتراة بقروض من البنوك أو تم إصدار أسهم وسندات بإسمها مستحقة الأرباح والأنصبة، إي إلا إذا دخل المشروع الصناعي استثمار مالي. ليست المخاطرة إذن تكمن في عملية الإنتاج ذاتها، بل في عملية الاستثمار المالي؛ فالرأسمالي باعتباره رجل صناعة لا يخاطر، بل يخاطر باعتباره مستثمرا لأموال أناس آخرين.
و. حجة الكفاءة: تذهب هذه الحجة إلى تبرير النظام الرأسمالي من منطلق أنه النظام الأكفأ في تعبئة الموارد وتوظيفها، وفي إبداع التكنولوجيا الجديدة وتطبيقها في الإنتاج، وفي الإقلال من تكاليف الإنتاج والوصول إلى إنتاج كمي هائل.
تعتمد هذه الحجة على نظرية من نظريات الاقتصاد النيوكلاسيكي تذهب إلى أن السوق الحر يتمتع بكفاءة في إنتاج السلع الاستهلاكية نظرا لأنه يزيد من إنتاج السلع التي يجد عليها طلب. ومعنى هذا أن البيع الضخم لسلعة ما سوف يقلل من أسعارها، لكن الذي يحدث في العالم الواقعي أن سعر هذه السلعة يزيد ولا ينقص، لأن الطلب المتزايد عليها يدفع رؤوس الأموال لأن تتدافع على إنتاجها؛ وعند زيادة السعر يحدث انكماش في الطلب، وهذا الانكماش يؤدي إلى زيادة في السعر أيضا، نظرا لرغبة المنتجين في تعويض ما فقدوه من البيع الموسع. إن ترك الأسعار لآليات التنافس الاقتصادي لا يمنع من ارتفاعها ولا يمنع أيضا من ظهور الاحتكارات.
إن حجة الكفاءة التي يستخدمها النيوكلاسيك وورثتها عنهم الليبرالية الجديدة تركز على الكفاءة الإنتاجية والتقنية والربحية، لكنها تتناسى كفاءة أخرى أهم، ذلك لأن مقياس الكفاءة الحقيقي في اقتصاد ما ليس مجرد تحقيق الربح بل قدرته على توظيف العمالة وتأمين العاملين به. إن الأمن الاجتماعي للعمال والحد الأدنى للأجور أهم بكثير من قدرة المشروع على تحقيق الأرباح. فالذي يتناساه المدافعون عن الرأسمالية كفاءة في تعبئة الموارد البشرية وفي تأمينها، وكل ما يهمهم تعبئة الاستثمارات. لكن لم يعد علم الاقتصاد السائد يعير شأنا بالكفاءة في تعبئة العمل البشري وتأمينه. تثبت الرأسمالية كل يوم أنها الأسوأ في قضايا تأمين العمل والحد الأدنى للأجور والأمن الاجتماعي للقوة العاملة، ناهيك عن سجلها السئ في قضايا البيئة. ليست هناك أية كفاءة في النظام الذي يلوث البيئة ويقضي على الثروات الطبيعية ويقطع الغابات ويملأ الأرض بالنفايات الذرية
والكيماوية.
أما عن ما تقوله الحجة من أن الرأسمالية هي التي تتيح للتكنولوجيا أن تتقدم وتطبق في مجال الإنتاج، فإن هذه الحجة مردود عليها من جهتين: الأولى أن تقدم العلم والتكنولوجيا هو تقدم للبشرية ذاتها في معرفتها وأدواتها وليس مرتبطا بأسلوب معين في الإنتاج، والحجة بذلك تدعي أن ما حققته البشرية من تقدم علمي وتكنولوجي في القرون الأخيرة يرجع الفضل فيه إلى الرأسمالية، وهذا خطأ. والجهة الثانية للرد على هذه الحجة هي استعراض ما حققته الأنظمة الاشتراكية السابقة من تصنيع سريع لمجتمعاتها وتنمية بشرية رأسية في سنوات معدودة، خاصة في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية. إن نظرة سريعة على تاريخ النظام السوفييتي منذ نشأته يقدح في صحة هذه الحجة؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي نجح في عقوده الأولى الممتدة من ثورة 1917 وحتى الخمسينات في بناء هيكل صناعي ضخم وتحقيق كفاءة إنتاجية عالية من حيث الكم والكيف. لقد نجح النظام هناك في تصنيع روسيا التي كانت متخلفة صناعيا وتكنولوجيا عن أوروبا الغربية وأمريكا بمراحل، إذ نجح بالفعل في تصنيع بلد متخلف انحدر في أواخر عهد النظام القيصري إلى مستوى بلدان العالم الثالث؛ كما نجحت روسيا في تفادي أزمة الكساد الكبير الذي أصاب العالم الغربي في الثلاثينات. وليست الإنجازات الأخرى للاتحاد السوفييتي بخافية بل يتناساها المدافعون عن الرأسمالية، مثل تصنيع أكبر جيش بري في العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية والذي مكن روسيا من هزيمة الجيش الألماني وإخراجه من شرق أوروبا، واللحاق بالولايات المتحدة في تصنيع القنبلة الذرية سنة 1949، وإطلاق أول قمر صناعي (سبوتنيك سنة 1955) وإطلاق أول رائد فضاء خارج الغلاف الجوي سابقة الولايات المتحدة في ذلك، وتحقيق المركز الثاني في العالم في تصنيع الغواصات والجرارات الزراعية..إلخ إذا كان المدافعون عن الرأسمالية يتحججون بأنها الأكفأ تكنولوجيا وإنتاجيا، فإن هذه الحجة تنهار أمام ما أنجزه الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه. لكن الذي حدث ابتداء من منتصف الخمسينات أن بدأ النظام السوفييتي في الضعف وموجهة الأزمات الاقتصادية، وبالتالي واجه قلةالكفاءة الشهيرة عنه لدى الغرب، حتى واجه انهيارا داخليا في السبعينات والثمانينات انتهى بالسقوط في أوائل التسعينات.
إن حجة المدافعين عن الرأسمالية حول عدم كفاءة الإشتراكية لا تنطبق على الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه، ولا على التجارب الاشتراكية الأخرى في شرق أوروبا ويوغوسلافيا على وجه الخصوص، ولا على النظام الناصري في فترة حياته القصيرة الممتدة من منتصف الخمسينات وحتى منتصف الستينات. إن المرحلة الأولى الناجحة من النظم الاشتراكية تعطي دليلا واضحا على إمكانية تصنيع بلاد لم ينتشر بها النظام الرأسمالي، وباتباع طرق غير رأسمالية. لقد حققت الأنظمة الإشتراكية كفاءة عالية في بداياتها لكنها واجهت الأزمات بعد ذلك، ثم الانهيار. والمطلوب تفسيره هو النجاح الأول الذي تلاه إخفاق كبير؛ المطلوب هو معرفة أسباب إخفاق نظام كان ناجحا في بداياته.
نقد بودريار للمجتمع المعاصر:
تعد أعمال الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان بودريار B audrillard من أهم و أشهر الدراسات في حقل الإنسانيات و الثقافة في الوقت الحاضر ، و هو يحتل مقدمة المسرح الفكري في فرنسا و العالم منذ أواخر الستينات و حتى الآن . و يتناول جانب كبير من هذه الأعمال نقدا لمجتمع الاستهلاك . فإلى جانب كتابه الذي يحمل عنوان " مجتمع الاستهلاك " The Consumer Society ، هناك مجموعة أخرى من الدراسات المنتشرة عبر كتبه الأخرى و التي يتناول فيها نفس الموضوع مثل " مرآة الإنتاج " The Mirror of Production و " نحو نقد للاقتصاد السياسي للعلامة " A Critique of The Political Economy و "التبادل الرمزي و الموت " Symbolic Exchange And Death .
يمكن النظر إلى نقد بودريار لمجتمع الاستهلاك على أنه ينتمي إلى تراث فكري كبير ركز على نقديم المجتمع الغربي المعاصر ، و يشمل هذا التراث أعمال لوكاتش و فلاسفة مدرسة فرانكفورت و بعض البنيويين من أمثال رولان بارت و فوكو ، هذا بالإضافة إلى تراث طويل في القرن التاسع عشر يحتوي على أسماء ماركس و نيتشة و فيبلن . و الحقيقة أن دراسة بودريار لمجتمع الاستهلاك تدلنا على كيفية التحول من الليبرالية باعتبارها الصورة التي يرى عليها الغرب الرأسمالي نفسه إلى مجتمع الاستهلاك الذي هو الواقع الحالي و النهاية الأخيرة التي وصل إليها هذا الغرب . فعبر جميع دراسات بودريار يوضح لنا كيف تحولت القيم و المثل البورجوازية و الأيديولوجيا الليبرالية إلى قيم و معايير استهلاكية تتحكم بها المؤسسات الكبرى ووسائل الإعلام ، و إلى نسق من الرموز و العلامات التي لها منطقها الخاص و حياتها الخاصة التي تلغي الحياة الواقعية للبشر ، و كيف يصنع الإعلام و الاتصال عالما صناعيا يمثل واقعا مركزا Hyperreality أكثر واقعية من الواقع نفسه .
إن جميع قيم و مثل الليبرالية تجد تعبيرها الأكمل و الأخير و نهاياتها المنطقية في مجتمع الاستهلاك . فالحرية أصبحت حرية البيع و الشراء ، و التعددية أصبحت هي تنوع الموضوعات الاستهلاكية ، و العدالة أصبحت هي السعر المناسب The Fair Price . فهذا هو مصير الخطاب الليبرالي الذي تم استخدامه منذ بداياته الأولى كأيديولوجيا للرأسمالية و كدعم فكري لاقتصاد السوق . فقد تمت منذ القرن الثامن عشر ترجمة الليبرالية إلى مصطلحات الاقتصاد الرأسمالي ، و من المنطقي أن تترجم مرة ثانية في العصر الحاضر إلى قيم مجتمع الاستهلاك الذي هو التطور الطبيعي ، التاريخي و الاقتصادي ، للرأسمالية .
يغير مجتمع الاستهلاك التعريفات التقليدية لجميع القيم و المعايير الأساسية لليبرالية و ذلك لصالحه . فالفرد يصبح مشاركا في مجتمعه لا بالعمل الاجتماعي أو السياسي بل باستهلاكه لسلع و بضائع ينتجها هذا المجتمع ، فالمشاركة أصبحت مشاركة في نوع من الاستهلاك ، و الانتماء أصبح انتماء لشريحة استهلاكية معينة تكون علامة على المكانة أو المستوى الاجتماعي .
و لم تعد القيم الأخلاقية الغيرية التي تحكم سلوك الفرد مع غيره بقادرة على تحقيق التماسك و الاندماج الاجتماعي ، تلك القيم التي كان يرجع مصدرها إلى المسيحية و حركة الإصلاح الديني و على رأسها البيوريتانية . و لم يبق إلا القيم الفردية التي يحرص مجتمع الاستهلاك على إنتاج المزيد منها ، لأن هذه هي القيم القادرة الآن على تحقيق شئ من الاندماج الناتج عن الاشتراك في شئ واحد و هو الاستهلاك بالطبع . فقد غيرمجتمع الاستهلاك من معنى الفردية تماما . فلم يعد الفرد يسعى لأن يحقق ذاته بل أصبح يسعى لنيل موافقة الآخرين و كسب رضاهم و التماهي معهم . لم تعد الفردية قيمة مطلقة بل مجرد توافق وظيفي . و بدلا من السعي نحو إنجازات يغير بها المرء أوضاعه و يتجاوز بها حاله نحو حال آخر ، أصبح يسعى نحو مجرد نيل رضاء الناس .
يعتقد المستهلك أن سلوكه حر و ذلك بناء على أنه حر في اختياره بين كل ما يعرضه عليه مجتمع الاستهلاك، و يعتقد أنه يسعى نحو الاختلاف و التميز عن الآخرين ، و لا يجبره أحد على أن يكون كذلك ، فذلك نابع من داخله ، كما أنه لا يطيع قاعدة أو إلزاما معينا يجبره أن يكون مختلفا و متمايزا ، فهذه هي العلامة الأصيلة للتفرد . إلا أن حريته هذه وهمية و سعيه نحو الاختلاف زائف ، ذلك لأن تعددية موضوعات الاستهلاك و تعدديةالمواقف و الآراء و الأنماط الثقافية التي يختارها ليست إلا نتاج المجتمع الذي يحيط به و لاتكشف إلا عن منطق واحد و هو انسياق الفرد في الأسلوب الوحيد الذي يستطيع أن يعيش به في المجتمع و هو لمزيد من الاستهلاك . فالتعددية زائفة لأنها ليست إلا تنوع لموضوعات استهلاكية سواء كانت سلعا أو آراء أو أنماط ثقافية .
كما يغير مجتمع الاستهلاك من معنى الممارسة العملية و النشاط الاجتماعي للفرد . فهو يحول الممارسة الاجتماعية و السياسية Praxis إلى مجرد اهتمام بشئون الحياة اليومية Everydayness ، أي وجودا زائفا حسب فلسفة هايدجر . فالمجالات السياسية و الثقافية و الاجتماعية تختفي لتخلي المكان للحياة الخاصة و لكل ما هو خاص : العمل ، الأسرة ، وقت الفراغ ، التسلية و الترفيه ، دائرة الأصدقاء و المعارف . و بهذه الطريقة تستطيع وسائل الاتصال الجماهيري التدخل في الحياة الخاصة للناس ، و ذلك بسيطرتها على الترفيه و أوقات الفراغ و التعبئة التجارية للأذواق .
لكن هل لا تؤدي هذه الحالة إلى نوع من تأنيب الضمير و الشعور بالذنب الناتج عن تناقض بين السلبية الناتجة عن البعد عن كل ما هو سياسي و اجتماعي و بين الإيجابية المتأصلة في التراث الديمقراطي الغربي و تاريخه السياسي ؟ يجيب بودريار بان مجتمع الاستهلاك يعمل كذلك على القضاء على هذا الشعور بالذنب و التقصير، وذلك بأن يجعل الناس يشعرون بالأمان في بعدهم عن ما يسمى بغابة الحياة و مخاطرها . فكلما بثت وسائل الإعلام صورة بائسة و متوحشة و خطرة عن العالم كلما زاد شعور الناس بالأمان في بعدهم و انعزالهم عنه . إن شعورهم الزائف بالأمان يقضي على أي إحساس بالذنب أو التقصير ، كما يعد أحد عوامل قبول الوضع القائم ، إذ يجعلهم محايدين و سلبيين أمام كل القضايا و المشاكل الاجتماعية و السياسية . " إن علاقة المستهلك بالعالم الحقيقي و بالسياسة و التاريخ و الثقافة ليست علاقة اهتمام أو مسئولية ملتزمة ... بل هي علاقة فضول. "
و لم يعد التفرد Singularity هدف الفرد الذي يسعى إليه من خلال الاختلاف عن الآخرين ، فالعناصر التي يزود بها المجتمع الفرد لكي يحدث لديه شعور بالتفرد تجعله ينساق في حبائل أيديولوجيا الاستهلاك .. هذه الأيديولوجيا تبث في الفرد نرجسية تجعله يرى تفرده على أنه يتمثل في نوع الملبس أو السيارة التي يستخدمها أو العطر الذي يضعه أو نوعية السلع التي يشتريها أو الطريقة التي يقضي بها وقت فراغه . و بذلك يتحول التفرد إلى مجرد التماهي مع مقاييس عامة يصنعها المجتمع ، و الاندراج في أنماط Types محددة يمثلها المشاهير و نجوم السينما و الإعلام. ينقلب التفرد الآن إلى أن يصبح تنميطا Stereotyping و توحيدا للمقاييس Standardization .
الحاجات والوسائل :
ساد الليبرالية خطاب حول الحاجات Needs و حول الوسائل التي يسعى المرء لإشباع هذه الحاجات عن طريقها . و اعتمد هذا الخطاب على تصور عن الطبيعة الإنسانية و عن الإنسان باعتباره إنسانا اقتصاديا Homo Oeconomicus . ظهر هذا الخطاب في علم الاقتصاد السياسي و في بعض المذاهب الفكرية و الفلسفات مثل الفلسفة التجريبية الإنجليزية ، و ساد الفكر السياسي الغربي طويلا ، و الآن يعد أحد الدعائم الأساسية لمجتمع الاستهلاك . و تحتوي أعمال بودريار على نقد حاد و عميق لمفهوم الحاجة هذا ..وليست الحاجات التي يتكلم عنها الخطاب المدعم لمجتمع الاستهلاك حاجات بشرية صادرة عن الطبيعة الإنسانية ، بل هي حاجات من صنع مجتمع الاستهلاك نفسه . إنها ليست حاجات أولية . فحاجة الإنسان إلى الطعام مثلا تشبعها كمية محددة من الطعام ، إلا أن الطعام في المجتمع الاستهلاكي يتخذ صورا وأشكالا عديدة أخرى و يتحول للمجال الرمزي . فعلى الرغم من أن حاجات الإنسان الأساسية محددة إلا أننا نجد تنوعا هائلا في السلع التي تشبع هذه الحاجات . و يرجع هذا التنوع إلى مجتمع الاستهلاك الذي يخلق حاجات أخرى ثانوية بمجرد إنتاجه لكم هائل من السلع التي تشبع حاجة واحدة . فللإنسان حد أدنى يكتفي به و يستطيع عن طريقه إشباع حاجاته الأولية ، لكن مجتمع الاستهلاك خلق حاجات أخرى ترفية و رمزية لا يمكن إشباعها ، ذلك لأنه بمجرد أن يشبع الفرد حادة منها حتى تؤدي به إلى حاجات أخرى وإلى ما لا نهاية . و يرجع السبب في ذلك إلى أنها ليست حاجات تشبع عن طريق قيم استعمالية بل عن طريق قيم تبادلية . لا يأتي إشباع هذه الحاجات عن طريق امتلاك المرء لقيمة استعمالية لشيء ما بل لقيمة رمزية . فالسلع تستهلك لما تضفيه على المرء من مكانة أو وضع اجتماعي أو قيمة في المجتمع و صورة معينة عند الآخرين ، لا بما تشبعه من حاجات أولية لديه .
الحاجات في حقيقتها ليست حاجات أفراد بل هي حاجات نظام ، هي حاجات النمو . فالنمو المتزايد للمجتمع هو الذي يفرض حاجات معينة تخفي نفسها باعتبارها حاجات أفراد . فإذا كان العصر الحالي هو عصر ما بعد صناعي Post-Industrial يتمثل إنتاجه الأساسي في الخدمات و السلع الاستهلاكية و الصناعات اللينة و صناعات الإعلام و المعلومات فمن الطبيعي أن تكون القيمة السائدة فيه هي القيمة التبادلية والرمزية لا القيمة الاستعمالية ، و من الطبيعي أيضا أن يعمل هذا المجتمع على خلق الحاجات التي يشبعها إنتاجه ، و بما أن إنتاجه استهلاكي و خدمي و خدمي و إعلامي فإن الحاجات التي يخلقها يجب أن تكون رمزية ثانوية .
خلق حاجات جديدة باستمرار كان من ضرورات بقاء النظام الرأسمالي ، فهذا النظام في حاجة دائمة إلى أسواق لتصريف إنتاجه . فكانت الإمبريالية ضرورية بالنسبة لهذا النظام و ذلك لفتح مزيد من الأسواق عبرجميع قارات العالم ، فإذا لم تجد الرأسمالية أسواقا فسوف تموت . أما استقلال المستعمرات فكان لابد و أن تخلق الرأسمالية سلعا جديدة تشبع حاجات جديدة . و بذلك فتحت أسواقا جديدة تعوضها عن الأسواق التي فقدتها في حركات الاستقلال ، فظهرت الأسواق الاستهلاكية ة الإعلامية و الخدمية التي ضخت دماء جديدة للنظام.
كما يغير المجتمع الاستهلاكي من طبيعة دوران رأس المال و من إعادة إنتاج النظام . فقد كانت علاقات الإنتاج من نظام طبقي و ملكية خاصة و ما يصحبها من قوانين و تشريعات هي التي تعمل على إعادة إنتاج النظام الرأسمالي و الحفاظ عليه و على تماسكه و ذلك في عصر الرأسمالية الصناعية ، أما الآن و في عصر رأسمالية ما بعد الصناعة فقد أصبح الاستهلاك و التبديد و الإهدار هو الذي يعمل على إعادة إنتاج النظام و الحفاظ على تماسكه . لم يعد يستند النظام على تحول القيمة الزائدة إلى رأسمال جديد يتراكم و يتوسع باستمرار ، بل أصبح يعتمد على إنتاج صناعات لينة يجب أن تهدر و تفنى لكي يعاد إنتاج غيرها باستمرار ، و هكذا يتم دوران رأس المال الآن .
لقد كفت الحاجات عن أن يكون لها استقلال و وضع خاص ، فهي لم تعد تتسم بأنها أولية و طبيعية و خاصة بالذات الإنسانية بل أصبحت من صنع النظام ، و بالتالي لم تعد تصلح لنقد الرأسمالية كما فعل ماركس و لوكاتش وفلاسفة مدرسة فرانكفورت و كثير من التيارات اليسارية . لقد أصبحت الحاجة مشروطة اجتماعيا و تحولت إلى أحد منتجات النظام ، و لذلك لا يمكن نقد هذا النظام بما ينتجه .
والحقيقة أننا نجد عند هيجل تشخيصا مشابها لمفهوم الحاجة و خاصة في كتابه " أصول فلسفة الحق " الذي وضع فيه نظرياته الاجتماعية و السياسية . فالحاجات عنده تتضاعف كلما تقدمت الحضارة ، و لا يستطيع الفرد إشباعها جميعا ، كما تتحول أكثر إلى أن تكون حاجات ترفية . لكن في حين ينتقل هيجل من تشخيصه لنظام الحاجات إلى مقولة العمل و يأخذ في تحليل الاقتصاد السياسي باعتباره ينطلق من مفهومي الحاجة و العمل يكتفي بودريار بنقد مجتمع الاستهلاك و الأيديولوجيا المدعمة له و لا يقوم بالخطوة التي قام بها هيجل و من بعده ماركس و هي نقد الاقتصاد السياسي نفسه القائم على مفهوم الحاجة ، بل يكتفي بنقد هذا المفهوم فقط.
و يكمن السبب وراء ذلك في أن بودريار كان قد تخلى عن محاولة نقد الاقتصاد السياسي لأنه اعتقد أن ما حل محله الآن هو نسق الرموز والعلامات المتحكم في الاتصال و الإعلام و الاستهلاك .
المساواة :
المساواة أسطورة ، استخدمتها الأيديولوجيا الليبرالية دائما لتبرير أسلوب الإنتاج الرأسمالي و الحفاظ علىالوضع القائم . تحولت كل مساوئ هذه الأيديولوجيا و خبائثها الآن إلى مفهوم السعادة . أصبحت السعادة هي علامة المساواة و مقياسها . و لكي تكون السعادة حاملة لأسطورة المساواة يجب أن تخضع للقياس ، أي قابلة لأن تقاس في صورة موضوعات و علامات ، يجب أن تتحول إلى رفاهية . فقد ورثت دولة الرفاهية في الغرب التراث السياسي الليبرالي بجميع قيمه و معاييره ، و نظرت لنفسها على أنها هي المحققة لهذه القيم و المعايير و التطور الطبيعي لها ، فكان من المنطقي أن تترجم المساواة إلى مصطلحات مجتمع الاستهلاك الذي هو نتاج دولة الرفاهية ، و تصبح السعادة علامة على الرفاهية و الرفاهية علامة على المساواة .
لكن يتم عزل و إبعاد السعادة الأصيلة ، السعادة التي هي شعور داخلي لدى المرء و مستقل عن أي موضوع خارجي و التي هي رضا و قناعة ، تلك السعادة التي ليست بحاجة إلى دليل مادي ، و ذلك لتخلي مكانها للسعادة باعتبارها رفاهية يجب أن تقاس و يبحث عنها بمحك منظور . لا تعد السعادة هي فرحة الجماعة في الأعياد و الاحتفالات ، لا تعد معنوية و متجسدة في الحياة الجماعية المشتركة بل تصبح ذات معايير فردية. كما يذهب بودريار إلى أبعد من ذلك و يرى أن تراث الليبرالية منذ بدايته و هو يترجم المساواة إلى هذا المفهوم الضيق عن السعادة . فإعلان حقوق الإنسان و المواطن يعترف و ينادي بحق كل فرد في السعادة ، أي ينقل السعادة من معناها الجماعي العام و المعنوي و التساندي إلى معناها الفردي الذي يتحول إلى رفاهية و استمتاع بموضوعات استهلاكية . " تحول مبدأ الديمقراطية من مساواة حقيقية للكفاءات و المسئوليات و الفرص المتساوية … إلى مساواة أمام موضوعات التملك و الرموز المادية للنجاح الاجتماعي و السعادة ... و الظاهر أنها مساواة عينية إلا أنها شكلية تخفي و تحجب غياب الديمقراطية الحقيقية و اختفاء المساواة . "
و إذا كان المجتمع المعاصر يحقق شيئا من المساواة في الرواتب و أوضاع المعيشة و إشباع الحاجات فإن ذلك يعد نتاجا زائدا By-Product للوظيفة الأصلية للنظام ، و التي تتمثل في زيادة الامتيازات المادية لأصحاب الامتيازات ، أي لمن لهم امتيازات أصلا . فاللامساواة هي هدف النمو و ما المساواة إلا نتاجا زائدا حدث بالصدفة . فبينما كانت الليبرالية تعتقد في أن زيادة النمو سوف تقضي على الندرة و بالتالي على البؤس و الشقاء الذي تعاني منه الطبقات الدنيا و بالتالي تقضي على احتمالات الثورة و القلاقل الاجتماعية و تقلل من حدة التناقضات الطبقية و الفروق الواسعة بين مستويات المعيشة ، فإن النمو لم يؤد واقعيا إلى كل ذلك بل على العكس أدى إلى زيادة الفروق .
إذا كانت مبادئ الديمقراطية و المساواة تقوم في الخطاب الليبرالي التقليدي بممارسة السيطرة الاجتماعية و التنظيم الأيديولوجي للتناقضات السياسية و الاقتصادية ، فإنها لم تعد تقوم بمثل هذا الدور الآن . فقد جعل مجتمع الاستهلاك هذه القيم هشة و غير قادرة على أداء وظيفة الاندماج الاجتماعي لمجتمع يتناقض واقعه مع هذه القيم ، حتى إذا تم تمثلها عن طريق التربية و التنشئة الاجتماعية . فما يقوم بهذا الدور الآن عبارة عن آلية لاشعورية في الاندماج و التحكم . تتمثل هذه الآلية في إدخال الأفراد في نسق من الاختلافات ، أي في نظام من التعدد و التنوع الثقافي الذي يسعى فيه الأفراد لأن يكونوا مختلفين عن طريق اختيار موضوعات استهلاكية. و بذلك يتم إحلال الاختلاف محل التناقض . فالتناقض لا يحل عن طريق إحلال المساواة و التوازن محله ، بل عن طريق إحلال الاختلاف و التمايز ، الثقافي و الاستهلاكي و الإعلامي .
وهم الحرية :
يستخدم مجتمع الاستهلاك مفهوم الحرية بنفس الطريقة التي استخدمها بها مجتمع الصناعة . فقد كانت الليبرالية تدعو للحرية في بداية العصر الصناعي ، إلا أن هذه الدعوة كانت زائفة و أيديولوجية و يكمن ورائها أهداف أخرى . فقد كان على الفرد أن يتحرر من الإقطاع و من ارتباطه بكنيسة أو مذهب أو طائفة أو عرق و ذلك لكي يصبح عاملا أجيرا في ظل النظام الرأسمالي . فقد أدى مبدأ الحرية كما استخدمه المجتمع الصناعي مهمة قطع صلة الفرد بكل ما كان يربطه بوحدات اجتماعية سابقة على الرأسمالية و ذلك ليتمكن النظام من إدخاله سوق العمل و يصبح فيه سلعة . و نفس هذا التوظيف لمبدأ الحرية يستخدمه مجتمع الاستهلاك الآن ليطبقه على الجسد . يجب على الجسد الآن أن يتحرر ، أي أن ينفك ارتباطه بمفاهيم الخطيئة و السقوط و الذنب و المعصية ، أي بكل المفاهيم الدينية المسيحية و البيوريتانية التي تفرض على الجسد الزهد و التقشف ، و ذلك لكي يمكن أن يصبح موضوعا للاستهلاك ، أي حاملا لموضات أزياء و عطور و هدفا لطرق ممارسة الحمية ( الريجيم ) و صفحة بيضاء لأدوات التجميل و هدفا لتسويق الرياضة و الأجهزة الرياضية ، وسلعة جنسية أيضا .
كما لا تعد حرية المجتمع الحالية و سهولة الحوار بين كل أطرافه و تبادل الآراء و المواقف فيه نتيجة لتقدم أخلاقي أو لزيادة التحرر أو لفهم أفضل و أعمق للمشاكل الاجتماعية ، بل تكشف هذه الحرية عن أن الآراء والأيديولوجيات و الفضائل و الرذائل أصبحت مادة للتبادل و الاتصال ، و هي متساوية القيمة في لعبة العلامات و الرموز التي يمارسها النظام . و لم يعد التسامح في هذا السياق حالة سيكولوجية باطنة أو فضيلة أو قيمة عليا ، بل هو شرط من شروط وجود النظام نفسه ، لأن هذا النظام يتمثل في إنتاج المعلومات و توصيلها و أداء الخدمات و خلق حاجات تشبعها سلع استهلاكية ، فمن الطبيعي أن تكون الحرية و التسامح من بين مقومات وجود النظام و أداءه لوظائفه .
كانت الليبرالية تفهم الحرية على أنها تجد تعبيرها الأكمل و التام في مفهوم الملكية الخاصة و ما يشمله من مفاهيم فرعية مثل الحيازة و حق الانتفاع و العقد Contract باعتباره اعتراف الأطراف المشاركة فيه بالملكية لبعضهم البعض و ما يتفرع عن ذلك من حقوق للمشاركين في هذا العقد . و يعد مفهوم الملكية الخاصة مصدر التنظيم القانوني و السياسي الليبرالي للمجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر ، كما يشكل أساس الحقوق و الواجبات المدنية و السياسية و كذلك جزءا كبيرا من قانون العقوبات . لم يعد مفهوم الملكية الخاصة بمثل أهميته تلك في مجتمع الاستهلاك . فلم يعد هناك معنى لمفهوم الحيازة أو التملك أو الاقتناء ، فقد أخلت هذه القيم مكانها لقيم الاستعمال و الاستمتاع و الاستهلاك . الحيازة هي الاحتفاظ بشيء معين يبقى و يدوم و تكون الاستفادة منه طويلة الأجل ، أما الاستهلاك فهو إشباع لرغبة عن طريق إهلاك و إهدار لموضوع هذه الرغبة . كما أخلى مفهوم العقد مكانه لمفهوم السعر المناسب ، فبمجرد شرائك لسلعة فهذا يعني أنك توافق على سعرها ، و موفقتك على السعر تعني اتفاقك مع النظام . فبعد أن كان الاتفاق و الإجماع و الرضا أهداف يتم الوصول إليها عن طريق الحوار السياسي الاجتماعي بين المواطنين حول شئون حياتهم و مستقبلهم هادفين تنظيم التعامل بينهم ، أصبح يتم الوصول لهذه الأهداف عن طريق شراء سلعة .
يحول المجتمع الاستهلاكي الديمقراطية إلى شيء يقاس . فالنمو و زيادة الإنتاجية تعني الوفرة ، و الوفرة تعني الرفاهية ، و الرفاهية تعني الديمقراطية . و بالتالي فقياس النمو و الإنتاجية يعني قياس درجة الديمقراطية القائمة . و تصبح الحقوق الطبيعية للإنسان هي حقوقه في تملك و استهلاك موضوعات إشباع حاجاته . و بذلك لن يكون هناك معنى للتساؤل حول ما إذا كان هذا المجتمع يحقق الحرية و المساواة أم لا ، و هل هو ديمقراطي أم لا ، و هل قضى على أوجه اللامساواة السابقة أم لا ، لأن هذا المجتمع قد أبدل بالفعل قضايا الحرية و المساواة و الديمقراطية و نقلها من الميدان الاجتماعي و السياسي إلى المجال المادي الاستهلاكي .
الجماهير الصامتة :
يذهب بودريار إلى أنه منذ القرن الثامن عشر و خاصة منذ الثورة الفرنسية أصبح مجال السياسة مجالا للتمثيل Representation ، أي بدأ ما هو اجتماعي يجد التعبير عنه في ما هو سياسي ، و أصبح المواطنون يجدون في المجال السياسي تعبيرا عنهم ، فقد استندت الممارسة السياسية آنذاك على مفاهيم الديمقراطية النيابية و التمثيلية و على الرأي العام و فكرة الإرادة العامة . يترجم بودريار ذلك إلى مصطلحات البنيوية و ما بعد البنيوية . فهو يرى أن مجال السياسة أصبح منذ ذلك الوقت مجالا للدلالة و المعنى ، فما يحدث في السياسة هو دال Signifier لمدلول أساسي FundamentalSignified
هو الإرادة العامة . و لا يزال الفكر السياسي الليبرالي يلعب على الحنين لهذا العصر الذهبي ، الذي كان فيه الاجتماعي مستقلا و ممثلا في السياسي.
أما الآن فلم يعد الاجتماعي مجالا مستقلا و لم يعد مصدرا للطاقات و القوى التي تمد السياسي بالدلالة و المعنى . فمع تحول المجتمع المدني Civil Society إلى مجتمع جماهيري Mass
Society أصبح مستقبلا لكل ما تفرضه عليه السياسة و لم يعد له الدور الفاعل و المؤثر الذي كان يتمتع به . لم يعد المدلول الذي تشير إليه و تنتهي إليه الدالات السياسية . فلقد اختفى أي واقع اجتماعي أساسي يكمن تحت معني العملية السياسية ، و انعزلت السياسة أكثر و أكثر عن الجماهير و أصبح لها استقلال و تسيير ذاتي ، أي أصبحت لا تشير إلا لذاتها و لا دلالة لها إلا بالنسبة لمجالها فقط . فمع التداخل المتزايد بين الاقتصاد و السياسة ، و مع كثرة جماعات الضغط ذات المصالح الجزئية الخاصة و قوة تأثيرها ، لم تعد الجماهير مؤثرة في المجال السياسي . لم يعد هناك إلا مدلولا واحدا أو إحالة واحدة و هي إلى الأغلبية الصامتة التي أصبحت إحصائية .
لا تظهر هذه الأغلبية الصامتة ممثلة في شيء معين أو باعتبارها مصدرا لمعنى ممارسات سياسية معينة ، بل باعتبارها عنصرا إحصائيا . و لم يعد من الممكن لأي أحد أو أي منظمة أن تتحدث باسم الجماهير ، فقد كفت الجماهير عن أن تكون ذاتا بالمعنى التقليدي و لم يعد يمكنها أن تمر بمرحلة تكوين هويات سياسية . لم يعد هناك كذلك معنى للاغتراب ، لأن الاغتراب يحدث لذات في سياق عملية تكوينها الذاتي ، ذات لها احتياجات ووعي و خبرة . كما تنتفي كذلك فكرة الثورة ، فالثورة يفترض أن تحدث من قبل مضطهدين ، و يفترض في المضطهدين أن لهم هوية ووعي بمصالح مشتركة و أهداف واحدة ، إلا أن الجمهور ليس له هوية ، فهو مجموع إحصائي لا غير ، و كتلة كبيرة لا متمايزة تم تحييدها .
تتحول الجماهير في المجتمع المعاصر إلى كتلة ضخمة يراد جمع المعلومات عنها بهدف توجيهها و السيطرة عليها . و لم يعد لقياس الرأي العام و لعمليات استطلاع الرأي معنى ، فهي تفترض وجود رأي جاهز لدى الجماهير ووجود موقف محدد لديها يتم الكشف عنه ، إلا أن ذلك ليس صحيحا . لا يعمل قياس الرأي العام إلا على الإيحاء بوجود رأي عام ، و يقوم في ذلك بوظيفة النبوءة الذاتية التحقيق Self-Fulfilling Prophecy أي الإشاعة التي تتحول إلى حقيقة بمجرد انتشارها . أما وسائل الإعلام فلا تهتم بالمعنى ، فالمعنى هو المحتوى أو المضمون في عملية الاتصال ، في حين أن هذه العملية محايدة تجاه المحتوى و لا يهمها إلا التوصيل. فالمضمون ليس هو الرسالة ، بل إن وسائل الإعلام نفسها هي الرسالة The Media Is The Message كما يقول ماكلوهان . يتوصل بودريار من ذلك إلى أن الاتصال يحيد المعنى و يلغيه ،و يصبح هدفا في ذاته ، فهو اتصال من أجل الاتصال لا من أجل توصيل و نقل المعنى .
اكتمال الأيديولوجيا :
إذا كانت الأيديولوجيا ، و خاصة في المجتمع الصناعي ، تتمثل في عملية التشيؤ Reification التي تظهر فيها العلاقات الاجتماعية بين الناس على أنها علاقات بين أشياء ، و في عملية صنمية السلع Fetishism Of Commodities التي تتحول فيها العلاقات الاقتصادية إلى قوانين حتمية تماثل قوانين الطبيعة و تنعزل عن أساسها الاجتماعي و تصبح علاقات بين سلع ، فإن تحليل بودريارللمجتمع الاستهلاكي يكشف عن أن هذه الأيديولوجيا قد وصلت إلى نهايتها المنطقية .
حلل ماركس أسلوب الإنتاج الرأسمالي على أنه نظام منتج للسلع . فكل التنظيمات الاقتصادية و كل تفاصيل عملية الإنتاج في هذا النظام تهدف إلى هذه الغاية . و على الرغم من أن هذه السلع نتاج العمل البشري إلا أنها بمجرد دخولها في علاقات تبادل في السوق حتى يكون لها حياتها الخاصة و قوانينها الخاصة التي تسمى قوانين السوق ، مثل العرض و الطلب ، و بذلك تستقل عن أصلها البشري و الاجتماعي و يصبح لها كيانها الخاص . و ليس هذا و حسب ، بل إنها تصبح هي التي تنظم علاقات الأفراد ببعضهم و تنظم علاقاتهم بالمجتمع . و بذلك تأخذ الطابع الصنمي . كما أن طاقة العمل البشري تقاس بمدى قدرتها على إنتاج سلع ، و تتحدد قيمة هذا العمل بقيمة ما ينتجه من سلع . و هذا ما يؤدي إلى تشيؤ العلاقات الاجتماعية . فالعلاقات بين المنتجين التي هي في الأصل علاقات اجتماعية تظهر على أنها علاقات بين منتجات عملهم و تحكمها قوانين اقتصادية .
إذا كان ماركس قد ذهب إلى أن السلع و العلاقات بينها قد حلت محل العلاقات الاجتماعية ، فإن بودريار يذهب الآن إلى أن العلامات و الرموز قد حلت محل الواقع نفسه ، و بذلك أصبح الدال مستقلا عن المدلول و تم تعميم الأيديولوجيا . فالسلع تستهلك لا لما تسده من حاجات بل لما لها من قيمة رمزية ،أي تستهلك باعتبارها علامات . كما أن وسائل الإعلام لم تعد تنقل لنا إلا العلامات و الرموز ، و بذلك صنعت واقعا ثانيا بديلا عن الواقع الحقيقي . فلم يعد الدال يشير إلى مدلول معين ، و لم تعد العلامة علامة لشيء واقعي بل أصبحت علامة لعلامة أخرى ، و تم إخراج الواقع من هذه العلاقة الجديدة . فلم تعد القيمة التبادلية تشير إلى قيمة استعمالية ، إلى حاجة أو هدف أو غاية ، بل إلى قيمة تبادلية أخرى و علامات و رموز أخرى.فإذا كانت الأيديولوجيا هي استبدال الواقع بالعلامة و النظر إلى الدال على أن له الأولوية على المدلول ، فإن تحليلات بودريار تكشف عن أن المجتمع الاستهلاكي لا يقوم بعملية الاستبدال هذه و حسب ، بل إنه يحل العلامات محل بعضها البعض و يستبدل رموزا برموز و ذلك في غياب الواقع أو الشيء الحقيقي . صحيح أن بودريار ينظر إلى هذه العملية الجديدة على أنها نهاية للأيديولوجيا ، إلا أنها نهاية لنوع معين من الأيديولوجيا، تلك التي تحل العلامة محل الواقع ، و ظهور لنوع جديد و هو المتمثل في إخراج الواقع ذاته من لعبة العلامات و الرموز .في كتاب : "السياسة الاقتصادية: آراء لليوم وللغد" والذي ترجم بإشراف السيد فادي حدادين ، يدلل ميزس على النظرية من خلال الأمثلة المحلية الشائعة، ويفسر الحقائق التاريخية البسيطة، في معطيات من المبادئ الاقتصادية. إنه يصف كيف تمكنت الرأسمالية من تدمير النظام الطبقي الذي كان يجسده الإقطاع الأوروبي، كما إنه يبحث في النتائج السياسية التي تترتب على أنماط الحكومات المختلفة. إنه يحلل فشل الاشتراكية ودولة الرفاه الاجتماعي، ويبين ما يستطيع المستهلكون والعمال تحقيقه عندما يكونون أحراراً في ظل النظام الرأسمالي لتقرير مصائرهم بأنفسهم.
يقول ميزس: "عليكم أن تتذكروا أنه في السياسات الاقتصادية لا توجد معجزات. لقد قرأتم في كثير من الصحف والخطب حول ما سمي بـ"المعجزة الاقتصادية الألمانية"—إعادة بناء ألمانيا بعد هزيمتها أو تدميرها في الحرب العالمية الثانية. ولكن هذه لم تكن معجزة. لقد جاءت تطبيقاً لمبادئ اقتصاد السوق الحرة ووسائل الرأسمالية، على الرغم من أنها لم تطبق بشكل تام في جميع جوانبها. كل بلد يستطيع أن يمر بمعجزة مماثلة من النهوض الاقتصادي، على الرغم من إصراري على القول بأن النهوض الاقتصادي لا يتأتى عن معجزة؛ إنه يتأتى عن تطبيق سياسات اقتصادية سليمة."
ويتابع ميزس بالقول: "الناس يتحدثون عن سياسة [الطريق الوسط]. ولكن الذي لا يرونه هو أن التدخل الجزئي، والذي يعني التدخل فقط بقسم صغير واحد من النظام الاقتصادي، من شأنه أن يؤدي إلى وضع تجد فيه الحكومة نفسها، وكذلك أولئك الذين يطلبون تدخل الحكومة، في أوضاع أسوأ من تلك التي أرادوا إلغاءها. فكرة أن هنالك نظاماً ثالثاً—بين الاشتراكية والرأسمالية—كما يقول دعاته، نظام بعيد جداً عن الاشتراكية بقدر بعده عن الرأسمالية، والذي يحتفظ مع ذلك بمزايا كل منهما ويتجنب مساوئه، هو طرح لا يقوم على أساس. إن الناس الذين يؤمنون بأن هنالك مثل هذا النظام الخيالي، يستطيعون أن يرتقوا إلى مرتبة الشعراء، عندما يمتدحون عظمة التدخل! لا يستطيع المرء إلا أن يقول بأنهم مخطئون. فالتدخل الحكومي الذي يمتدحونه من شأنه أن يخلق ظروفاً هم أنفسهم لا يحبونها."
إقتصاد المعرفة :
في حين كانت الأرض، والعمالة، ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاقتصاد القديم، أصبحت الأصول المهمة في الاقتصاد الجديد هي المعرفة الفنية، والإبداع،والذكاء، والمعلومات . وصار للذكاء المتجسد في برامج الكمبيوتر والتكنولوجيا عبر نطاق واسع من المنتجات أهمية تفوق أهمية رأس المال، أو المواد، أو العمالة.وظهرت مدرسة اقتصادية حديثة تتبنى ما بات يعرف بإقتصادات المعرفةتقوم على البحث والتطوير في مجال المعلوميات على وجه الخصوص ضمن نظريات النمو الاقتصادي الحديثة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، وازداد ت وتيرة هذا الاقتصاد تسارعا مع بداية القرن الحادي والعشرين .ومن رواد تلك المدرسة :باول رومر، روبرت لوكاس، وروبرت سولو.وتعد الموارد البشرية المؤهلة وذات المهارات العالية، والمتمثلة في رأس المال البشري، هي أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد الجديد، المبني على المعرفة.ويعتمد اقتصاد المعرفة على دراسات تطبيقية لقياس أثر رأس المال البشري على معدل النمو في الأجل الطويل. فهذه المدرسة ترى أن زيادة الإنتاجية تمثل عنصرا داخليا وليس خارجيا في عملية النمو ولها علاقة بسلوك الأفراد المسؤولين عن تراكم المعرفة والعناصر المنتجة الأخرى مثل تراكم رأس المال المادي والتوسع في قوى العمل والتقدم التكنولوجي.
وتؤكذ تلك المدرسة على الأهمية المحورية للمعرفة في عملية النمو الاقتصادي وتوليد العمالة وتعزيز التنافسية. فاقتصاد المعرفة، يتطلب قيام نسق لنقل التقانة واستيعابها في المجتمع وتنشيط إنتاج المعرفة المؤدي إلى توليد تقانات جديدة، وهو ما يحقق غايات الكفاءة الإنتاجية والتنمية الإنسانية معاً. وفي هذا الإطار فإن الابتكار والابداع والتجديد في مجال المعارف التقنية و توظيف رأس المال المعرفي في إنتاج التقانة وتوظيفها في عملية النمو الاقتصادي.يمثل اقاعدة الاقتصاد الجديد والقدرة على منتجات معرفية لها قدرة تنافسية في الأسواق الاقليمية والدولية. والمعرفةفيه هى المحرك الرئيسى للنموالاقتصادي .
ويعد هذا النمط من اقتصاد المعرفة نتيجة مباشرة لما يعرف حاليا بثورة الاليكترونيات والمعلومات والاتصالات ، وتمثل أخر طور من أطورا الرأسمالية العالمية والذي يسهم إلى حد كبير في عولمتها أو ظهور وانتشار مفهوم وأيديولوجية العولمة .وأصبح هذا النوع من الاقتصاد يحتل حيزا متنامي في الانتاج القومي لها وفي زيادة دخلها القومي خاصة بعد أن زادت المنافسة العالمية لمنتجاتها من الاقتصاد التقليدي القديم الذى أفرزته الثورة الصناعية.والذي كانت تلعب المعرفة فيه دورا أقل، غلى جانب عوامل الإنتاج التقليدية الأخرى .كما ساعد على ذلك انتشار شبكات الكمبيوتر مثل الانترنت .
خصائص اقتصاد المعرفة
وتتمثل خصائص واحتياجات الاقتصاد المبني على المعرفه في الأتي:
1. الابتكار: والذي يعززه نظام فعال من الروابط العلمية مع المؤسسات الاكاديميه وغيرها من المنظمات التي تستطيع مواكبة ثورة المعرفه المتناميه واستيعابها وتكييفها مع الاحتياجات المحلية في الدول المتقدمة..وهناك أنواع عديدة بشبكات المعرفة مثل شبكات الجامعات وشبكات مراكز البحوث وشبكات مؤسسات المعلومات كالمكتبات ودور النشر ومراكز التوثيق وشبكات الصناعات المختلفة
2. الارتقاء بمستوى التعليم بحيث يمكنه إمداد الاقتصاد باحتياجاته من اليد العاملة الماهره والابداعيه القادرة على ادماج التكنولوجيات الحديثة في العمل.يتطب اقتصاد المعرفة نوعاً جديداً من التعليم والتدريب
. و تطور المعرفة السريع يتطلب التدريب مدى الحياة ، كما يتطلب مستوى علمي وتكنولوجي للعمالة أعلى من السابق والتطور السريع فيها يحتاج إلى برامج للتعليم والتدريب مدي الحياة ، أي لاينتهي التعليم فيها بالحصول على شهادات جامعية على نحو ما كان سائدا في نظم التعليم السابقة.ويتطلب أيضا بالنسبة للدول الناطقة بالعربية إلى تعريب المصطلحات المعلوماتية وإتقان اللغة الانجليزية المستعملة بكثرة في المعلوميات. والتي تشمل خمس:
أ وضع المصطلح العلمي وتوحيده ونشره .
ب الاهتمام بتقييس استعمال اللغة العربية في المعلوماتية والاتصالات .
ج الإسراع في تكوين قواعد المعلومات باللغة العربية في مختلف المجالات ووضعها على الشبكات الحاسوبية ومنها الانترنت .
الاهتمام بالترجمة العلمية من اللغات العالمية وخاصة الانكليزية الى اللغة العربية .
د الاهتمام الجاد بتعليم العلوم باللغة العربية في المدارس والجامعات على مدار الوطن العربي مع الاهتمام في الوقت ذاته بتعليم اللغات الاجنبية وإتقانها وخاصة الإنكليزية .
ه دعم البحوث القائمة واللازمة في مجالات اللغة العربية وتكنولوجيا المعلومات .
3. االتوفر على بنية تحتية قائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تسهل نشر وتجهيز المعلومات والمعارف وتكييفها مع احتياجات الاقتصاد.ويتحقق فيها الامكانيات التالية :
أ- توليد المعرفة: وذلك في مؤسسات البحث والتطوير وفي الجامعات ، وهذا يتطلب قيام الدول العربية برفع معدلات تمويلها ودعمها لهذه المؤسسات.
ب- نقل المعرفة : وذلك من قبل الشركات المتقدمة ، وكذلك مؤسسات التوثيق العلمي وشبكات نقل المعلومات ومؤسسات الترجمة، وكذلك عن طريق البعثات للاختصاصات المختلفة بقصد نقل المعرفة وتوطينها ، يضاف إلى ذلك جهود التعاون الإقليمي والدولي بهذا القصد.
ج- أما نشر المعرفة: فيكون بدعم دور التوثيق والإعلام العلمي إضافة إلى برامج التوعية العلمية المختلفة ، وكذلك توفير مراكز تقديم المعلومات العلمية والتكنولوجية والتجارية وغيرها ، وتوسيع مجال ا ستثمار شبكات الحواسيب ومنها الانترنت وتشجيع إنتقال العاملين من الجامعات ومراكز البحوث إلى الصناعة وبالعكس .
د- استثمار المعرفة: وهي من أهم الوظائف التي يجب الاعتناء بها وذلك بتوفير المؤسسات الوسيطة بين جهات توليد المعرفة وفعاليات الإنتاج والخدمات مثل المؤسسات التكنولوجية ومثل المخابر
الهندسية والهندسة العكسية ومثل دعم براءات الاختراع وحماية الملكية الفكرية وغيرها من الإجراءات.
ه- التوسع المستمر في انتاج المعرفة وتنويع المنتجات
4. توفير بيئةاقتصادية وعلمية تحفز زيادة الانتاجية والنمو في حقل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أوتيسير الحصول عليها وتنميتها.
5. وجود أسواق مفتوحة تستوعب المنتجات محليا وإقليميا ودوليا.
ويقدر الاقتصاديون أن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي GDPفي الدول الغربية المتقدمة مبني على المعرفة. وزادت صادرات هذه الدول من هذه المنتجات المعرفية لتصل إلى 36% في حال اليابان و 37% للولايات المتحدة و 43% في ايرلندا و 32% في المملكة المتحدة . ويزداد استثمار الدول في المعرفة والمعلومات من خلال الصرف على التعليم والتدريب والتطوير في القطاعين العام والخاص.
فالاستثمار في المعلومات أصبح أحد عوامل الإنتاج ، فهو يزيد في الإنتاجية كما يزيد في فرص العمل.ونجاح المؤسسات والشركات يعتمد كثيراً على فعاليتها في جمع المعرفة واستعمالها لرفع الانتاجية وتوليد سلع وخدمات جديدة ، وقد أصبح الاقتصاد يقاد من قبل سلسلة هرمية من شبكات المعرفة التي تتغير فيها المعلومات بمعدلات سريعة.
وقد سعت بعض الدول المتخلفة اقتصاديا والتي ليس لها انجاز يعتد في الثورة الزراعية أو الصناعية إلى الفقز نحو اقتصاد المعرفة واعتبرت بأنه مجرد تكليف شركات اتصالات أجنبية بإقامة شبكات اتصال حديثة وتوزيع أجهزة كمبيوتر على بعض المدارس وتخصيص بعض المدارس أو إضافة أقسام في الجامعات لدراسة المعلومات تكون بذلك قد هيأت نفسها لدخول اقتصاد المعرفة والذي راحت تبشر به أجهزتها الدعائية . ولا يتوقع بالتأكيد أن تحقق أي انجازات ذات قيمه مادية من هذه الجهود المبذولة ترفع من قيمة الانتاج الوطني ، وكما فشلت من قبل في الاقتصاد التقليدي فلا يتوقع لها أي نجاح في اقتصاد المعرفة. إن ما أنجزته حتي الان يعد ضروريا ولكنه أيضا مظهريا وشكليا أكثر منه عمليا واقتصاديا ، لقد استنزفت شركات الاتصالات الاجنبية مواردا المالية دون أن يتحقق أي تقدم على طريق اقتصاد المعرفة . لايمكن تجاهل المعلوماتية في عصرها وزمانها. ولكن لكي تتحول إلى اقتصاد معرفة ومنتجات معرفية قابلة للتسويق والتصدير وزيادة الدخل الوطني فإن ذلك يحتاج إلى بيئة متخمة بالمعرفة وليس دولة ما يغرب من نصف شعبها مازال أميا والنصف الثاني معظمه أبعد ما يكون عن المعرفة التقنية ، 90 في المائة أو أكثر من خريجي جامعاتها تخرجوا من كليات نظرية ووفق مناهج تعليمية متخلفة حتي عما وصلت إليه العلوم الإنسانية في العالم .
لا يمكن أن تتجاهل التنمية الاقتصادية الانتاج الزراعي والصناعي والاهتمام بهما من شأنه أن يطور في حد ذاته المعارف التقنية ، واستخدام الكمبيوتر في العلوم التطبيقية وفي الصناعات التقليدية وإن بالتدريج هو الذي يمكن من خلق بيئة علمية مواتية لانتاج سلع معرفية قابلة للتسويق محليا وخارجيا وأن تحتل بالتدريج نسبة متصاعدة في الانتاج الوطني المحلي . لفد انتجت الهند سلعا معلوماتية بعد أن توسعت في التعليم التقني وتخريج علماء
أكفاء في المعلومات وفي البرمجة ولكنها تحرز حاليا معدل تنمية اقتصادية لايعتمد على المعلوماتية وإنما على الاقتصاد التقليدي.كما أن الهند التي تمتلك أسلحة نووية من صنعها قد تمكنت من الحصول على تقنيات عالية المستوى وانتاج تقنيات مماثلة محليا وبالتالي حققت تقدما علميا ساهم في ذخولها مجال اقتصاد المعرفة في مجال البرامج أو السوفت ويرولكنها ما زالت في بداية الطريق بالنسبة للمعدات أو الهارد وير.
المدونة الشخصية لفوزي منصور، تجدون هنا أبحاث وملفات تعني بالشئون الدينية والاجتماعية والسياسية
Friday, February 20, 2009
Thursday, February 5, 2009
عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى
تطور الفكر الاقتصادي الغربي:
الاقتصاد هو علم يعنى بدراسة النشاط الاقتصادي وهو فرع من فروع العلوم الإجتماعية ، وما ينشأ عن هذا النشاط من ظواهروعلاقات.وأكثر ما يهتم به الاقتصاد هو: الموارد،الإنتاج،الاستهلاك للسلع والخدمات، التوزيع، التجارة(السعر والعرض والطلب)، والمنافسة في الأسواق.
.
ومصطلح (اقتصاد) لغوياً يعني الاعتدال في النفقة وفي السلوك قال تعالى: " وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك" (لقمان،19)، وجاء في الاثر: "ما عال من اقتصد"، أي اعتدل في إنفاقه.
وقد انصرفت دلالته الاصطلاحية إلى تدبير معاش الاسرة بالموارد المتاحة، وهو ما عرف بالاقتصاد المنزلي. ثم انصرفت دلالته تاليا إلى تدبير شؤون المجتمع المعاشية بواسطة الدولة .وجاء في مختار الصحاح: "القَصْدُ بين الإسراف والتقتير يقال فلان مُقْتِصدٌ في النفقة". تعددت التعاريف لمصطلح (اقتصاد)وأعم تعريف للآقتصاد المعاصر هو تعريف (ليونيل روبنز) الذي يقول قيه: "الاقتصاد هو علم يهتم بدراسة السلوك الإنساني كعلاقة بين الغايات والموارد النادرة ذات الاستعمالات".
و الندرة: تعني عدم كفاية الموارد المتاحة لإشباع جميع الإحتياجات والرغبات الإنسانية. وغالباً ما يشار إلى الندرة بأنها (المشكلة الإقتصادية). وبمعنى آخر نجد أن المشكلة الاقتصادية هنا تدور حول الاختيار ، وما قد يؤثر بانتقاء هذا الخيار من محفزات وموارد.ولا يعترف الإسلام بندرة الخيرات على الأرض ، ولكن قد تحدث الندرة في مكان ما ، كأن يصيبه الجفاف أو التصحر ولكنه لا يعني أن امتداده الجغرافي لا توجد به ندرة في الموارد الطبيعية.
وقد ولدت الأفكار الاقتصادية مع ولادة الحضارات القديمة كالإغريقية، والرومانية والهندية مروراً بالصينية والفارسية والحضارة العربية. وقد اشتهر عدة كتاب ينتمون إلى هذه الحضارات من أبرزهم أرسطوطاليس لدى الإعريق، وشاناكيا (340 – 293 ق. م) رئيس وزراء الأمبراطور الأول لإمبراطورية (موريا) في شرق آسيا، و ابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. ويعتقد الكاتب التشيكي (جوزيف شومبيتير) أن الباحثين المتأخرين ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر هم المؤسسون الحقيقيون لـ "علم الاقتصاد". ووصف جوزيف شومبيتير”ابن خلدون “بالرائد السباق في مجال الاقتصاد المعاصر، حيث أن العديد من نظرياته الاقتصادية لم تكن معروفة في أوروبا حتى وقت قريب نسبياً. لاحقاً قامت مدرستان أقتصاديتان هما المدرسة الطبيعية (الفيزيوقراطية)، والمدرسة التجارية (المركنتلية)، بتطوير وإضافة مفاهيم إقتصادية جديدة، حيث ساهمتا في قيام "القومية الاقتصادية" و"الرأسمالية الحديثة" في أوروبا ,وكانتا بمثابة المنظرتان لتطور الآقتصاد الأوروبي في مواكبة له.
ولذا فإن علم الاقتصاد الرأسمالي المعاصريعد من حيث الفكر، ومن حيث التطبيق، صناعة أوروبية خالصة من حيث النشأة والموضوع. وتاريخ هذا العلم هو تاريخ كل فروع المعرفة الاقتصادية الإوروبية . والأوروبيون عندما كتبوا تاريخ هذا العلم كتبوه من منظور رؤياهم لأحداث التاريخ الأوروبي ، ومن منظور مساهمة مفكريهم، ومن منظور تطورهم الاقتصادي. و تعكس كل مقولاته أيضا التراث الديني والفكري للأوروبيين..ولاتوجد فيه مساهمات لأمم أخرى ،فيما عدا ما يمكن أن يكون قد أخذوه من إبن خلدون وأضفوا عليه كالصبغة الأوروبية حيث نجد أن مفهوم فائض القيمة واعتبار قيمة السلعة هو قيمة الشغل المبذول في انتاجها جاء في مقدمة ابن خلدون في عبارةوجيزة تحولت عند كارل ماركس الي كتاب بعنوان : رأس المال. وقد تم تقسيم مراحله المتعاقبة على أساس أحداث ومتغيرات أوروبية،وهولذلك بكل مقولاته، وبكل أحداثه، وبكل مفكريه صيغ من منظور رؤية الأوروبيين لأحداثهم الدينية والفكرية والاجتماعية.
و مرعلم الاقتصاد في مراحل عديدة شهدت كل مرحلة منها ظهور أجدي مدارسه على النحو التالي:
1- مذهب أومدرسة التجاريين: أو(المركنتليةMercantilism ظهرت في اواخر القرون الوسطى واستمرت حتي منتصف القرن الثامن عشر حيث احتلت التجارة المكان الاول في التفكير الاقتصادي وكانوا يرون ان مركز الدولة وقوتها مرهون بمقدار ما تملكه من معادن نفيسه من الذهب والفضة ولذا انحصر اهتمامهم بهما، وبتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.و النظام المركنتلي التجاري ، هو نظام اقتصادي نشأ في أوروبا خلال تقسيم الإقطاعيات لتعزيز ثروة الدولة وزيادة ملكيتها من المعدنين الذهب والفضة عن طريق التنظيم الحكومي الشامل لكامل الاقتصاد الوطنى وانتهاءا في سياسات تهدف إلى تطوير الزراعة والصناعة وإنشاء الاحتكارات التجارية الخارجية.وكانت الحاجة لتصفية الاقطاع سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية تمليها الحاجة الي توفير العمالة الرخيصة ورءوس الأموال للتجارة والصناعة وقد اتخذت تلك الحركة في أمريكا الشمالية شكل الحرب الأهلية بين الشمال ذي الصناعات الناشئة والجنوب الزراعي وإن إعطيت طابعا انسانيا متمثلا في تحرير العبيد , وفي حقيقة كانت الحاجة الي استغلال الحهد البدني للعبيد في الصناعة بأقل تكلفة ممكنة هو الباغت لتحريرهم وليس الوازع الانساني .
ويعتبر أنطوان دي مونكرتيان ( Antoine de Monchretien) أول مؤسسي هذه النظرية من فرنسا بكتابه “الاقتصاد السياسي “عام 1615م، و أول من نفذها في فرنسا كان كولبير ( Colbert) حيث عمل على تشجيع الصناعة وأتخذ الكثير من الأجراءات التي تؤدي إلى تحسين النوعية. كما عمل على إنشاء مصانع نموذجية لكي يقتدى بها الأفراد حتى سميت هذه السياسة بأسمه( colbertism). وكان مما ساعد ترويج هذه السياسة هو نظام الطوائف الذي كان معمولا به آنذاك. والذي يفترض عدم أرتقاء العامل من مهنة إلى أخرى إلا بعد أن يمضي فترة من التدريب.
أما في بريطانيا فقد أشتهر من تلك المدرسة تشلد( Sir Josiah Child)، وتمبل ( Sir william Temple)، ودافينا ( Chnlec Doverant)، وتوماس مان ( Thomas Mun)، وفي أيطاليا أشتهر الكاتب أنطونيو سيرا (Antonio Serra).
وتقوم سياسة التجاريين (المركنتلية) التي تستهدف الحصول على أكبر قدر من المعدنيين الذهب والفضة والأحتفاظ به أو زيادته على وسيلتين رئيسيتين يمكن تلخيصها بما يلي:
الوسيلة الأولى: السياسة المعدنية(Bullion Policy): وهي التي أعتمدها فلاسفة التجاريين (المركنتليين) في آخر القرن الخامس عشر واوائل القرن السادس عشر وتنحصر بالآتي:
1. منع تصدير الذهب والفضة إلى الخارج للحفاظ عليه من التسرب. وقد أتبعت ذلك كل من أسبانيا والبرتغال.
2. إلزام المصدرين بأستحصال مقابل حصيلة الصادرات (ذهبا أو فضة)، وإلزام المستوردين مقايضة السلع المستوردة بسلع وطنية.
3. تشجيع المصارف (البنوك) لمنح فائدة مرتفعة على الودائع الأجنبية.
4. قبول النقود الذهبية والفضية بأكثر من قيمتها.
الوسيلة الثانية: وهي التي راجت في القرن السابع عشر وأعتمدت الميزان التجاري الموجب الذي يكون في صالح الدولة لأدخال الذهب والفضة في البلاد. ولكي يكون الميزان التجاري موجبا (أي لصالح الدولة) فيجب العمل على زيادة الصادرات وتقليل الواردات بحيث يدفع الفرق بينهما ذهبا.
ولتحقيق ذلك يترتب أتباع السياسات التالية:
1. الأخذ بنظام الحصص بالنسبة لأستيراد بعض السلع.
2. فرض قيود نوعية على بعض الأنواع من المنتجات المستوردة.
3. حصر عمليات النقل على البواخر ووسائط النقل الوطنية.
4.تجويد النوعية والأخذ بمبدأ المنافسة عند التصدير.
ولم تكن سياسة التجاريين تعمل لصالح الزراعة وذلك بسبب ما كانوا ينادون به من ضرورة تقليل كلف المنتجات الزراعية لأجل الأقلال من أجور العمال. ولهذا السبب واجهت الزراعة في ذلك الوقت الكثير من المصاعب وهجرها أهلها للأشتغال بالصناعة. غير أن بعض التجاريين وخاصة في فرنسا وأيطاليا، ظلوا على أهتمامهم بالزراعة إلى جانب الصناعة. ولم يخلوا مذهب التجاريين من أنتقاد شديد، فقد هاجمه الكثير من الكتاب الأنكليز آنذاك ومنهم دولي نورث ( Sir Dudiey North)، في كتابه (Discourses Upon Trade)، الذي نشر عام 1691م، وكذلك وليام بيتلي ( Sir william Petly)، مؤلف كتاب الحساب السياسي (Political Arithmetic)، الذي وضعه عام 1671م، ونشر عام 1691م، وكذلك دايفيد هوم(David Hume).
2- مدرسة الطبيعيين أو الفيزيوقراط: نشأ. المذهب الطبيعي في فرنسا في القرن الثامن عشرو جاءت هذه المدرسة فاكدت على الحرية الاقتصادية والحد من تدخل الدولة باعتبار ذلك يتفق مع القانون الطبيعي . ويؤكد علماء وفلاسفة هذه المدرسة على النشاط الزراعي واعتبار الارض مصدراً اساسياً لانتاج الخيرات التي يحتاجها المجتمع الانساني . ويعتبرون الصناعة والتجارة من الانشطة العقيمة باعتبارها غير منتجة لها.
وزعيم هذا المذهب هو الدكتور فرنسوا كيناي، (1694 - 1778)، (Quesnay)، طبيب لويس الخامس عشر، ومن أنصاره مرسييه دلاريفير (Mercier De La Riviere)، وميرابو (Murabeau)، وديبون دي تيمور (Dupont de Nemours)، وأطلق عليهم الطبيعيون، لأعتقادهم بسيادة القوانين الطبيعية، وقد أنتقدوا مذهب التجاريين (المركنتلية) الذين أعتبروا ثروة الأمم أنما تقاس بما تملكه من معادن نفيسة (الذهب والفضة)، وقالوا بان هذين المعدنين ليسا غاية النشاط الاقتصادي وانما هما وسيلة لتحقيقه.
وتقوم مباديء الفيزيوقراطية على الآتي:
• الأعتقاد بوجود نظام طبيعي (Natural order)، يستمد قواعده من العناية الآلهية ،وهي ليسـت مـن صنـع البشـر.وإن هـذه القـواعد أوالقوانـين ، باعتبارها حاكمة لكل نشاط حيوي ، يمكـن أن تسـري مـن تلقـاء نفسها دون تدخل الانسان.
• أساس النظام في المذهب الطبيعي هو الملكية الفردية، والحرية الاقتصادية فيما يتطبه العمل الاقتصادي وتنقل السلع والأفراد ورؤوس الأموال ولذا كان شعارالطبيعيين (الفيزوقراط) هو :" دعه يمر دعه يعمل” (Laissey Passer, Laissey Fair).
• العمل الزراعي هو العمل المنتج الوحيد ، والزراعة هي التي تغل ناتجا صافيا، وإن صناعة والتجارة هما عبارة عن أعمال خدمية غير منتجة.
وكانوا يسمون التجار والصناع وأرباب المهن بالطبقة العقيمة غير المنتجة، لأنها لا تخلق ثروة جديدة، ولهذا فإن أهم ما ترتب على نظريةالفيزوقراط هو فرض الضرائب. فطالما إن الأرض هي مصدر الثروة فيجب أن تقتصر عليها الضريبة فحسب.
وبينما كان المذهب الطبيعي ينسب للأرض القيمة الاقتصادية الكبرى، أعطى المذهب الكلاسيكي فيما بعدهذه القيمة للعمل، وليس مرد ذلك إلى الانتقال من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي فحسب، بل يعبرأيضا عن رغبات الطبقة الجديدة في فرض نفوذها المالي على المجتمع، وتستأثر بالعمال الذين كانت غالبيتهم تعمل في الزراعة.
3- مدرسة التقليديين أو المدرسةالكلاسيكية:وهي امتداد للمدرسة الطبيعية وضع قسم كبير منها :آدم سميث، ويعتبر ريكاردو من كبار مفكريها وهي ترى ان النظام الطبيعي يسيطر على الظواهر الاقتصادية ولكن اكثر ما يقود الانسان في تصرفاته هو المنفعة الشخصية فهي تدافع بقوة عن الحرية الاقتصادية واعتبرت ان قوة الدولة ليست فيما تملكه من ذهب وفضة وانما بمقدار ما تملكه من قوة عاملة وانتاج وهي تؤمن بربط المصالح الخاصة مع المصلحة العامة. ولقد أخذالاقتصاد بالتبلور في صيغته الحالية كفرع علمي مستقل منذ أن قام آدم سميث بنشر كتابه الشهير ثروة الأمم عام 1776. ويعرّف آدم سميث في كتابه مصطلح الاقتصاد السياسي بأنه أحد فروع علم السياسة والتشريع، ويهدف إلى أمرين أساسيين: الأول، تزويد الأفراد بكمية كافية ومستمرة من المنتجات، أو العمل على جعلهم قادرين على توفير هذه المنتجات بشكل متواصل، والثاني، تزويد الدولة أو إثراء كل من الأفراد والحكومات. وقد حدد كتاب ثروة الأمم عوامل الإنتاج بكل من الأرض، قوة العمل، ورأس المال، واعتبر أن هذه العوامل الثلاث هي التي تشكل جوهر الثروة التي تمتلكها الأمة.
ومن وجهة نظر آدم سميث، فإن الاقتصاد المثالي، هو نظام سوق ذاتي التنظيم (elf- Regulating Market System) حيث يقوم هذا النظام بإشباع حاجات الأفراد الاقتصادية تلقائياً "أوتوماتيكياً". وقد وصف "سميث" آلية عمل السوق بـ"اليد الخفية" التي تحث الأفراد على العمل على إشباع حاجاتهم الشخصية وبالتالي تحقيق أكبر منفعة ممكنة للمجتمع ككل. في كتاباته، أخذ "آدم سميث" بعض أفكار ونظريات المدرسة الطبيعية في الاقتصاد "الفيزيوقراطية" ودمجها مع نظرياته، إلا أنه رفض الفكرة التي نادى بها الفيزيوقراطيون والقائلة بأن الأرض (الزراعة) فقط هي مصدر الإنتاج والثروة.
وقد اعتبر أن نشر كتاب ثروة الأمم للكاتب آدم سميث اعتبر بمثابة نقطة البداية لولادة علم الاقتصاد كفرع علمي منفصل ومتخصص.
4- المرحـلة الحديثة: يهتم المفكرون بهذه المرحلة بالاضافة الى ما سبق بمشاكل التنمية والبطالة ومعالجة الاوضاع الاقتصادية وكذلك ظواهر التضخم والكساد وطرق معالجتها فضلاً عن السياسات النقدية والمالية. وتضم المدارس الاقتصادية التالية:
لمدرسة النمساوية:
وهي مدرسة للفكر الاقتصادي ترفض الاعتماد الحصري على أساليب تُستخدم في العلوم الطبيعيّة لدراسة عمل الإنسان، وتقوم بدلاً من ذلك ببناء تكوينها الخارجي للاقتصاد على علاقات تتم عن طريق المنطق. إن أشهر المناصرين لها هم كارل مينجر، ويوجين فون بوم-بافيرك، وفريدرك فون فايزر، ولودفيغ فون ميزس، وفريدرك فون هايك، وإزرائيل كيرزنر. لقد كان للمدرسة النمساوية نفوذاً واسعاً بسبب تأكيدها على الطـور الإبداعـي للإنتاجية الاقتصادية وعلى تشكّكهم في أساس النظرية السلوكية التي تشكّل أساس الاقتصاد التقليدي الجديد. وترتبط المدرسة النمساوية بوجه عام بالليبراليين الكلاسيكيين أو الليبرتاريين في أفكارهم حول النظام الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي.
النظريات المنبثقة عن المدرسة النمساوية:
يوضح الأستاذ أشرف منصور النظريات التي انبثقت عن المدرسة النمساوية وتم تبنيها في أوروبـأ والولايات المتحدة الأمريكية ، على النحو التالي:
.النظرية الذاتية في القيمة:
إن أهم ما يميز المدرسة النمساوية في الاقتصاد السياسي عما سبقها من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ونظرية العمل في القيمة Labor Theory of Value نظريتها الذاتية في القيمة Subjective Theory of Value والتي تتمثل في القول بأن القيمة يمكن أن تحدد من خلال إدراك الفرد وتقييمه على أساس ما يعود عليه من منفعة، وبذلك ربطت بين القيمة والمنفعة الفردية، وكان هذا الربط بداية لظهور المنظور الذاتي للقيمة والذي استمر ملمحا أساسيا لدى الاتجاه النيوكلاسيكي كله. ويتضح من هذه النظرية الجديدة في القيمة أن المدرسة النمساوية تعود إلى أفكار ومسلمات الليبرالية التقليدية؛ ومن العجيب أن تتم العودة إلى ذلك الإطار الفكري الليبرالي القديم الذي تعرض للنقد طوال القرن التاسع عشر وخاصة لتجلياته في النظريات الاقتصادية على يد ماركس، إلا أن الليبرالية التي كان يعتقد أنه قد فات أوانها كانت تقدم خدمة علمية للمدرسة النمساوية متمثلة في تمكينهم من التعامل مع نظرية النقد Money Theory في استقلال تام عن أي إحالات أو متضمنات ماركسية أو اشتراكية. كذلك يقدم لهم ذلك الإطار الليبرالي الذي كان يعتقد أنه قد فات أوانه بخدمة أيديولوجية تمكنهم من التوصل إلى النتيجة التي يهدفون إليها وهي أن السوق هو المحدد الأساسي للعملية الاقتصادية.
تقدم لنا المدرسة النمساوية نماذج عديدة لنظريات اقتصادية مستقلة تماما عن مفاهيم الطبقة والصراع الطبقي ومفهوم العمل باعتباره مصدر كل قيمة والسائد لدى الماركسية والاقتصاد الكلاسيكي على السواء ابتداء من آدم سميث مرورا بريكاردو وحتى جون ستيوارت ميل. وعلى العكس من ذلك تأخذ المدرسة النمساوية المستهلك الفرد باعتباره الوحدة الأولى في تحديد القيمة، وهذا ما يمكنها من التميز عن الكلاسيك والماركسيين في نفس الوقت، ويمكنها كذلك من إقامة نظرية في السوق باعتباره مركز العملية الاقتصادية.
تتضح النظرية الذاتية في القيمة ابتداء من أعمال كارل منجر مؤسس المدرسة. يذهب منجر إلى أن ما يحدد القيمة ليس الشئ النافع أو السلعة ذاتها بل علاقة الفرد بها، وهذه العلاقة تدخل فيها محددات كثيرة مثل الفرص المتاحة للحصول عليها والمعلومات المتوافرة للفرد عنها. القيمة عند منجر علاقة بين الأفراد والسلع؛ ومعنى هذا أنه يحدد القيمة باعتبارها قيمة استعمالية ويحدد القيمة التبادلية للسلع على أساس استعمالها أو فائدتها. هذه النظرية تمكن المدرسة النمساوية والاتجاه النيوكلاسيكي كله من تجاوز قضية القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المادة الخام في إنتاجه للسلعة، ذلك لأنهم يؤسسون القيمة، التي يفهمونها على أنها هي السعر، على فائدتها الاستعمالية متجنبين بذلك القيمة الأخرى الزائدة التي لا تتلقى العمالة المنتجة لها أجرا مقابلها. عندما تساوي بين القيمة الاستعمالية للسلعة بقيمتها التبادلية وتنظر إلى هذه الأخيرة على أنها سعر السلعة فكأنك بذلك تقول أن سعر السلعة وقيمتها هي ذاتها فائدتها للمستهلك؛ وبذلك تلغي علاقة أخرى بين السلعة ومنتجيها المباشرين وما يضفون عليها من قيمة زائدة بفضل عملهم على المادة الخام.
وتعد النظرية الذاتية في القيمة هي السبب وراء نجاح المدرسة النمساوية في بداياتها ووراء عودة الاهتمام بها في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك لأنها كانت جذابة بالنسبة للاقتصاديين الانجليز والأمريكان، إذ جعلتها نظريتها الذاتية في القيمة أداة نظرية ناجحة وفعالة في إقامة اقتصاد سياسي للمستهلك وللسوق الاستهلاكية، وهو ما يناسب الطموحات العلمية لأساتذة الاقتصاد الراغبين في إقامة نظريات اقتصادية في تجنب للاقتصاد الماركسي. فعندما حدد منجر القيمة بمعايير ذاتية واستهلاكية وأدخل فيها مفاهيم التفضيلات والقرارات الفردية والفرص المتاحة أمام الأفراد..إلخ، أصبح من الواضح أنه يقيم نظرية في القيمة على أساس معيار السوق الاستهلاكي.
أما يوجين فون بوم بافرك Eugen Von Bohm-Bawerk (1851-1914) فهو يعد الشخصية الأهم في المدرسة النمساوية بعد منجر وفيزر، وقد أكمل عملهما في وضع نظرية ذاتية في الفيمة. وما دفعه لوضع مثل هذه النظرية اعتقاد منهجي لديه بأننا إذا أردنا فهم الاقتصاد الكلي ووضع نظرية اقتصادية عامة فيجب أن نبدأ بما هو بسيط وأولي، والبسيط والأولي عنده هو المستهلك، ذلك لأن القيمة محددة عن طريقه. ويتضح من ذلك أن الأساس المنهجي لبوم بافرك هو الفردية المنهجية Methodological Individualism والتي تميز الاتجاه النيوكلاسيكي كله، مضاف إليها نزعة تحليلية وذرية تجعله يبدأ بالقيمة الذاتية باعتبارها بسيطة وأولية. والحقيقة أن البساطة والأولية التي يدعيها بوم بافرك زائفة، لأن القيم الذاتية تحددها عوامل موضوعية. ليس التقييم الفردي والاستهلاكي للسلع متغيرا مستقلا نستطيع الاعتماد عليه في تأسيس نظرية اقتصادية بل هي مشروطة دائما بعوامل أخرى تحدد السلوك الاستهلاكي للأفراد وتفضيلاهم السلعية.
تظهر نظرية القيمة لدى النمساويين على أنها تعطي الأولوية للقيمة الذاتية واختيارات وتفضيلات المستهلك والمنتج الصغير، إلا أنها في حقيقتها طريق جانبي لتناول إشكالية السلع. إن ما يهم النيوكلاسيك حقيقة هو السلع ووضعها في السوق، وهم يتحدثون دائما عن القيمة الذاتية التي هي تفضيلات واختيارات المستهلك وهم في الحقيقة بقصدون السلع وأسعارها. إنهم لا يهتمون بالمستهلك كما يظهر من أعمالهم بل بالسلعة وكيفية تحديد سعرها، ولا ينشؤون نظرية ذاتية في القيمة إلا رغبة منهم في الربط بين سعر السلعة وآليات العرض والطلب في السوق باعتبارها المحدد النهائي للسعر، وهم بذلك يحذفون العوامل الأخرى في تحديد القيمة مثل القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المنتج.
2. نظرية المنفعة الحدية:
أقام النيوكلاسيك على أساس نظريتهم الذاتية في القيمة نظرية أخرى عرفت بنظرية المنفعة الحدية Marginal Utility Theory وتذهب إلى أن أول وحدة من السلعة تحوز على أعلى قيمة، إذ يكون الاحتياج لها شديدا وبالتالي يكون سعرها أعلى، ويقل احتياج الفرد مع الوحدة الثانية والثالثة من نفس السلعة، وبالتالي تقل قيمة كل وحدة زائدة حتى نصل إلى وحدة أخيرة تحوز على أقل نفع وبالتالي أقل سعر ممكن تصوره. ويقول النيوكلاسيك إن الإنتاج ينظم حسب أقل سعر وفقا لهذه النظرية. لكن يخلط النيوكلاسيك بذلك مجال الإنتاج مع مجال التوزيع. إن نظرية المنفعة الحدية يمكن أن تكون صحيحة ونافعة لتاجر التجزئة، لكنها لا تصلح أساسا لصياغة نظرية اقتصادية. إنها تصلح لتفسير سلوك البقال، لكنها لا تصلح لتفسير سلوك المنتج. صحيح أن فائدة الوحدات المتتالية لنفس السلعة تتناقص، لكن هذا لا ينطبق إلا على المستهلك وفي حالات خاصة، ولا ينطبق على المنتج.
تعطينا نظريات النمساويين وهما بأنهم يعطون الأولوية للقيمة الاستعمالية (الفائدة والنفع الفردي الاستهلاكي) ويلحقون بها القيمة التبادلية (سعر السلعة في السوق)، وهم بذلك كأنما يصدرون وعدا بألا يعاملوا السوق على أنه مجرد وسيط للحصول على قيمة تبادلية وحسب، أي على أرباح وتراكم رأسمالي بالتالي، بل على أنه كذلك وسيلة لإشباع حاجات الأفراد. وهم بذلك إنما يحاولون وضع بديل عن التحليلات الماركسية للقيمة الزائدة التي تختفي تماما من أعمالهم اختفاء مقصودا ومنهجيا، نظرا لأن مناقشة قضية القيمة الزائدة سوف يجرهم رغما عنهم إلى الأرضية الماركسية، وهو ما كانوا يتجنبونه بحذر.
وقد تعرضت هذه النظرية لنقد حاد على يد عالم الاقتصاد والاجتماع الأمريكي ثورشتاين فبلن. يذهب فبلن إلى أنه إذا كانت كل وحدة جديدة من نفس السلعة تقل في منفعتها عن الوحدة السابقة لدى المستهلك، فإن المنتج تزيد لديه قيمة كل عنصر جديد مضاف لعملية الإنتاج. لكن يطبق النيوكلاسيك المنفعة الحدية على الإنتاج ويقيمون نظرية في الإنتاج الحدي، ويعتقدون أن كل عامل مضاف إلى العمال السابقين يكون إسهامه أقل في الإنتاج وبالتالي يكون أجره أقل، وهم بذلك يبررون خفض الأجور بحيلة نظرية. في العالم الحقيقي يتم خفض الأجور لا لأن إسهام العامل المضاف يكون أقل من سابقه بل للمحافظة على هامش ربح مناسب لرأس المال. ويتم التعبير عن المحافظة على الأرباح في علم الاقتصاد لا بنفس الاسم الصريح بل بإسم آخر يصرف النظر عن الربح ويوجه الانتباه للسعر، إذ تصبح "المحافظة على الأرباح" "محافظة على الأسعار" Maintaining Prices ، لأن المحافظة على الأسعار السائدة يضمن المحافظة على الأرباح التي حددها رجال الأعمال.
يكشف فبلن عن مسلمة ضمنية في نظرية المنفعة الحدية بتناوله لصيغتها لدى المدرسة النمساوية وخاصة لدى مؤسس المدرسة كارل منجر، إذ افترضت أن المنتج بائع مباشر للمستهلك، والشاري مستهلك مباشر وأخير للسلعة. وهذا في نظر فبلن يلغي دور السوق وينظر إلى المعاملات النقدية على أنها مجرد وسيط للتبادل، وبالتالي تأتي نظرية المنفعة الحدية وتقول إن سعر السلعة، بما يتضمنه هذا السعر من تكاليف إنتاج، يتحدد بالقياس على أقل سعر لآخر وحدة منها، وأقل سعر هو أقل ما يمكن أن يدفعه المستهلك فيها، وهي بذلك تفترض أن المنتج هو الذي يباشر عملية البيع مباشرة للمستهلك، وهذا غير صحيح. هذا الإلغاء للسوق باعتباره وسيطا بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير يتم على مستوى النظرية فقط والواقع عكس ذلك تماما.
لكننا نستطيع تطوير وجهة نظر فبلن هذه ونقول إن الاحتكار يعمل على اختزال المسافة بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير، لأنه يعمل على السيطرة على كل مراحل دوران السلع، فالاحتكار هو أن يسيطر المنتج، الذي هو الشركة الاحتكارية، على السوق وعلى حركة النقود، والسيطرة الاحتكارية على السوق تعني إلغائه باعتباره مجالا محايدا لتحديد السعر، وتعني كذلك أن يمارس المنتج الاحتكاري دور تاجر التجزئة ولا يترك أي مرحلة في دورة السلع لغيره؛ ولذلك لاقت نظرية المنفعة الحدية رواجا مذهلا ابتداء من العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، وهي نفس فترة ظهور الاحتكارات، لأن هذه النظرية تخدم الاحتكار جيدا بكشفها عن مبدأ جديد لإدارة السوق والسيطرة عليه، فهي تلغي السوق المحايد على المستوى النظري بإعطائها توجيها للمنتج بكيفية تحديد سعره إذا أراد أن يسيطر على السوق. لقد ألغت المسافة بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير على مستوى النظرية، وكان هذا الإلغاء هو ما تحاول الاحتكارات الناشئة القيام به بالفعل، وبذلك تلاقت النظرية مع الواقع في نوع من التشابه العضوي أو المختار Elective Affinity . ولذلك تبنى علم الاقتصاد السائد تلك النظرية وهو مدعم بسند واقعي مما كان يحدث بالفعل. لا يمكن أن تُلغى المراحل الوسيطة بين المنتج والمستهلك إلا في ظل السيطرة الاحتكارية عليها، أي على السوق. وهكذا أصبحت نظرية المنفعة الحدية هي الأداة النظرية والحسابية الأساسية لعلم الاقتصاد المعاصر الذي هو اقتصاد احتكارات في الأساس.
تعبر نظرية المنفعة الحدية عن الوعي العام الشائع لرجال الأعمال، إذ يمكن التعبير عنها بكلمات عامة كما يلي: المنتج ينتج سلعا بهدف الربح، لكنه يحسب هذا الربح على أساس القدرة الشرائية للمستهلك، وكلما كان المستهلك مستعدا لدفع سعر أعلى في السلعة كان ربح رجل الأعمال أعلى؛ ويستعد المستهلك لدفع سعر أعلى في السلعة كلما كان أكثر احتياجا لها. وأخشى ما يخشاه رجل الأعمال هبوط الأسعار لأنه يعني هبوط أرباحه، وهبوط الأسعار يأتي من زيادة عرض السلع، وبالتالي يمنع رجل الأعمال هبوط الأسعار بحبسه للإنتاج والسيطرة عليه. ولأن هدف رجل الأعمال الربح فإن القضية التي تشغله هي أقل سعر يمكن أن تباع به السلعة في السوق. ولأن السوق حر ويسير نفسه بنفسه فيجب بالتالي البحث عن السبب الذي يجعل سعر السلعة يهبط إلى أدنى حد لها. وأدنى حد لسعر السلعة هو أدنى حد لاحتياج المستهلك لها. عندما لا تكون سلعة معينة نافعة للمستهلك فلن يشتريها أصلا، وبذلك لن تتصف تلك السلعة بالمنفعة الحدية لأنه ليس لها نفع من البداية؛ سلعة المنفعة الحدية هي السلعة ذات المنفعة لكنها المنفعة القليلة للغاية التي تؤدي إلى هبوط أسعارها.
وهنا تتحول النظرية الاقتصادية إلى الرياضيات؛ فعن طريق المسائل الرياضية والرسوم البيانية وخطوطها المنحنية الصاعدة والهابطة توضح النظرية اتجاه الأسعار نحو الصعود أو الهبوط بالتناسب مع الكمية المعروضة من السلع والطلب عليها، ذلك الطلب الذي هو الاسم الآخر للمنفعة الحدية. وهنا بالضبط يكمن خطأ الاقتصاد النيوكلاسيكي، لأن المنتج في العالم الحقيقي لا ينتج سلعته ويبيعها حسب منفعتها الحدية، أي حسب أقل سعر لها في السوق. إن المنفعة الحدية هي الكارثة التي يتجنبها المنتج باستمرار لأنها تعني أقل سعر لسلعته وبالتالي تقلص واختفاء هامش ربحه، إذ يمكن أن تصل المنفعة الحدية للسلعة إلى أقل من سعر إنتاجها. تعبر نظرية المنفعة الحدية عن النقطة التي يخسر عندها رجل الأعمال، وكأنها تقول له: "هنا تخسر ولذلك تجنب الوصول إلى هذه النقطة"، ويتم تجنب الوصول إلى المنفعة الحدية بحبس الإنتاج خوفا من أن يؤدي الإنتاج الوفير إلى هبوط في الأسعار. إن نظرية المنفعة الحدية هي في حقيقتها توجيه لرجال الأعمال.
3. نظرية سلوك المستهلك:
على أساس النظرية الذاتية في القيمة أقام النيوكلاسيك نظرية أخرى عرفت بـ"نظرية سيادة المستهلك" Consumer Sovereignty ، والتي تعرف أيضا باسم "نظرية سلوك المستهلك" Consumer Behavior ، وتنص على أن الهدف النهائي لنظام الإنتاج هو بيع السلعة للمستهلك، وبذلك يكون هو النقطة الأخيرة والمحطة النهائية لكل العملية الاقتصادية. والسعر يتحدد بناء على درجة احتياج المستهلك للسلعة، وبالتالي تتحدد تكاليف الإنتاج بناء على السعر الذي يقبل أن يدفعه المستهلك. المستهلك بقراره الشرائي هو الذي يحدد كل عملية الإنتاج، وبذلك تكون له السيادة • .
الحقيقة أن المستهلك في ظل الإنتاج الصناعي ليست له تلك السيادة المدعاة، لأنه مجبر على تطويع احتياجاته مع ما يطرحه الإنتاج، إذ تتعرض السلع الاستهلاكية لتوحيد المقاييس Standardization ، وعلى المستهلك أن يتكيف معها، وسلوكه تابع دائما لهذه العملية ولكل تجديد أو تغيير في السلع، وليس سلوكه مستقلا أبدا تجاه الانقلابات التي تحدثها فنون الإنتاج على السلع. يقول فبلن عن السلع: "إن درجتها ودوامها ومستواها وتتابعها ليست مسألة اختيارية لدى الأفراد، بل إن العملية الإنتاجية هي المتحكمة في ذلك، إذ تجبر السلع وبالتالي منتجيها ومستهلكيها معا على الالتزام بمقاييس واحدة.. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة من التنميط والتحول الآلي لتفاصيل الحياة اليومية". لا معنى بعد ذلك للحديث عن حاجات بشرية أولية سائدة لدى كل الأفراد، فالحاجات أصبحت خاضعة لما تقدمه الصناعة من سلع.
إن فكرة سيادة المستهلك خرافة، لأن السيادة الحقيقية للمؤسسة الاحتكارية وما تنتـجه من سلع. ليس المستهلك سوى نتاج الممارسات التسويقية للشركات من دعاية وإعلان وما يصاحبها من دراسات في علم النفس وعلم التسويق. عندما يتحدث النيوكلاسيك عن سيادة المستهلك ويتخذونه النقطة الأساسية للتحليل الاقتصادي فهم بذلك يسيرون في نفس الطريق الأيديولوجي الذي رسمه النظام الرأسمالي، إذ يتم نفاق المستهلك وإيهامه بأنه هو السيد. إن اتخاذ المستهلك عنصرا أساسيا في التحليل يعني أن النيوكلاسيك قد أخذوا صنيعة أيديولوجية زائفة للنظام الرأسمالي كمبدأ في التحليل. صحيح أن المستهلك موجود بالفعل، وصحيح أن سلوكه قابل لأن يقاس ويحلل، إلا أنه السطح الظاهري الأيديولوجي للمجتمع الرأسمالي كما ذهب ماركس من قبل، لا حقيقته الباطنة.
ويوضح فبلن أن نظرية سلوك المستهلك تكشف عن التحيز الفردي للاقتصاد النيوكلاسيكي ونزعته النفعية، ويقول في ذلك: إن نظرية دقيقة للسلوك الاقتصادي لا يمكن استقائها من الفرد ببساطة، حتى للأغراض الإحصائية –كما هو الحال في اقتصاديات المنفعة الحدية- لأنها لا يمكن أن تـُستنج بمفردات الطبيعة البشرية؛ ذلك لأن الاستجابة التي تشكل السلوك الإنساني تحدث في ظل معايير مؤسسية (إجتماعية) وتحت مثير ذي طابع مؤسسي". ينقد فبلن في هذا النص الآتي:
1. رد الأداء الاقتصادي إلى سلوك الأفراد.
2. النظر إلى سلوك الأفراد على أنه يصدر عن طبيعة بشرية سابقة في وجودها على المجتمع ومؤسساته.
3. تصوير هذه الطبيعة البشرية على أنها نفعية وأنانية.
4. تجاهل السياق المؤسسي أو الاجتماعي الذي يشرط السلوك الفردي ويشكل له مثيرا.
5. اعتماد سلوك الأفراد باعتباره دالة إحصائية بحجة أنه يمكن حصره وقياسه، حيث يقام على هذه الدالة نظرية في الأداء الاقتصادي لمجتمع بأكمله.
وبناء على أن سلوك المستهلكين يمكن حصره وقياسه فقد وجدت ظاهرة ترييض الاقتصاد Mathematization of Economics طريقها لعلم الاقتصاد الحديث. إن هذه الظاهرة مستندة هي الأخرى على أيديولوجيا سلوك المستهلك. إذا كان المستهلك يكشف في سلوكه عن انتظام ما يمكن حصره وقياسه والتعبير عنه بالأرقام ولغة المعادلات الرياضية فما ذلك إلا لأن سلوكه خاضع هو نفسه للتقنين والسيطرة الإعلامية ولنظم إدارة السوق في الشركات الكبرى. هذه النظم تضع للأفراد قواعد تفرض عليهم قيامهم بسلوك المستهلك، وبالتالي فليس سلوك المستهلك مبدأ أوليا يمكن الانطلاق منه للتحليل الاقتصادي، لأنه نتاج النظام الذي ينبغي دراسته.
ما لم ينتبه إليه النيوكلاسيك وهم يصوغون نظرية سلوك المستهلك أن هذا المستهلك هو في نفس الوقت منتج، إنه ينخرط في إنتاج نفس السلع التي يستهلكها. فسواء كان المرء منشغلا بعمل إنتاجي أو خدمي فهو يساهم بنصيب في مجموع ثروة المجتمع كله، لأن العمل في ظل العصر الصناعي عمل اجتماعي يسهم فيه الكل. الفرد منتج ومستهلك في نفس الوقت، لكن يعتم علماء الاقتصاد على هذه الحقيقة ويعزلون جانب الإنتاج عن الفرد ولا يركزون إلا على كونه مستهلكا، أي يستبعدون ثلاثة أرباع ساعات يقظة المرء التي يقضيها في الإنتاج ويركزون على الساعة الواحدة التي يكون فيها مستهلكا. إذا نظرنا إلى أفراد المجتمع على أنهم منتجين ومستهلكين في نفس الوقت فسوف يتبين أن من حقهم نصيبا أكبر من السلع التي ينتجونها، لأن ما يحصلون عليه من سلع لا يتناسب مع الكمية التي ينتجونها.
وعلى أساس نظرية سيادة المستهلك يقيم النيوكلاسيك نظرية أخرى في سلوك المنتج، وتتضح هذه النظرية ابتداء من بوم بافرك، إذ يذهب إلى أن نفس القواعد التي تحكم المنتج هي التي تحكم المستهلك، والسبب أن المنتج ينتج السلع التي يستهلكها المستهلك ويقيمها ويحدد أسعارها بسلوكه الشرائي. وهذا أسلوب مراوغ لإعطاء الأولوية لنظرية القيمة الذاتية. الحقيقة أننا بالربط بين سلوك المنتج وسلوك المستهلك إنما نقف على السطح الظاهري للمجتمع الرأسمالي، ففي هذا المستوى الظاهري نجد أن المنتج ينتج بالفعل تلك السلع التي يستعد المستهلك لدفع سعرها، وهذا مستوى جزئي في التحليل لا يصلح إلا لوصف سلوك المنتج الصغير وللإنتاج السلعي في كل نظام اقتصادي سابق على الرأسمالية. أما الإنتاج السلعي في النظام الرأسمالي فلا يحتل فيه المستهلك تلك الأهمية المدعاة، لأن المستهلك كما قلنا نتاج لنظام الإنتاج، ذلك النظام الذي لا ينتج السلع وحسب بل ينتج مستهلكيها في نفس الوقت.
إن أفعال المنتج لدى المدرسة النمساوية يحددها سلوك المستهلك، بحيث يصبح الإنتاج كله مشروطا بالاستهلاك، وهذا ما يتيح للمدرسة أن تعالج تكاليف الإنتاج في ضوء منفعة السلعة. ويعد هذا تغييرا كبيرا في أفكار الاقتصاد الكلاسيكي، لأنه يجعل الإنتاج مشروطا ومحددا بالقيمة الإستعمالية، ورابطا القيمة التبادلية أو السعر بنفس تلك القيمة الاستعمالية. إن الإسهام الأساسي للمدرسة النمساوية يتمثل في أنها خرجت عن الكلاسيك في تحديدهم للإنتاج على أساس القيمة التبادلية، فالسعر لدى الكلاسيك يتحدد على أساس القيمة التبادلية للسلع في السوق، أما النمساويون والنيوكلاسيك من بعدهم فعلى العكس، إذ حددوا الإنتاج بالقيمة الاستعمالية، والقيمة التبادلية ذاتها بالفائدة أو المنفعة وذلك في اتفاق مع نظريتهم الذاتية في القيمة والمنفعة الحدية. لكنهم لا يزالون معرضين للنقد الماركسي رغما عن ذلك، لأن القيمة الاستعمالية ذاتها من إنتاج النظام الرأسمالي ومشروطة به ولا يمكن أن تكون متغيرا مستقلا. فكما قال ماركس في "معالم نقد الاقتصاد السياسي"، فإن رغبات وتفضيلات واختيارات المستهلك تخلقها السلع، تلك السلع التي يخلق مجرد ظهورها في السوق حاجات جديدة، وكأن السلع تأتي معها بالحاجة إليها في السوق: لا تنشأ الرغبة في الشئ ما لم يكن هذا الشئ معروضا في السوق من قبل.
4. نظرية التوازن:
من أشهر نظريات الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي نظرية التوازن Equilibrium Theory، وتهدف هذه النظرية في صياغاتها المختلفة إثبات أن السوق الحر المتروك لقوانينه الخاصة سوف يصل إلى استقرار ما في الأسعار وتوازن بين العرض والطلب وبين الموارد المتاحة والقدرة على تعبئتها وتشغيلها، وبين أرباح المجالات الصناعية المختلفة، وبين قدرة المجتمع على العمل وقدرة رأس المال على تحقيق الربح.
تظهر نظرية التوازن ابتداء من منجر مؤسس المدرسة، وقد بدأت النظرية حسب صياغته لها باعتبارها إعادة طرح للتناول الليبرالي التقليدي لمشكلة النظام وكيف ينتج تلقائيا عن أفعال الأفراد دون تخطيط مقصود، ولمشكلة الخير العام الذي يتحقق من خلال الأفراد. يتسائل منجر: "كيف يمكن للمؤسسات التي تخدم الرفاهية العامة والضرورية لنمو هذه الرفاهية أن تظهر إلى الوجود دون إرادة عامة موجهة نحو تأسيس مثل هذه المؤسسات؟". ويجيب منجر على نفسه قائلا أن الرفاهية العامة تتحقق عن طريق إشباع الأفراد لاحتياجاتهم، والإشباع متبادل بين الأفراد، بحيث يشبع الواحد منهم احتياجاته عن طريق الآخر، وهذا الإشباع المتبادل يتم عن طريق السوق. السوق إذن هو المؤسسة العامة التي تحقق الخير العام، ولضمان هذا الخير العام يجب ضمان عمل هذا السوق حرا من أي تدخل لأنه بطبيعتته مجال محايد ووسيط لتحقيق الإشباع المتبادل للحاجات ويجب أن يظل محايدا للمحافظة على طابعه العام والكلي. السوق حسب منجر إذن ليس في حاجة إلى تنظيم Regulation لأنه ذاتي التنظيم، بل هو في حاجة إلى تنسيق Co-ordination بين عملياته والأطراف الفاعلة فيه. ثم يتوصل منجر إلى صياغة سؤال جديد: "كيف يكون التنسيق المتبادل للسوق ممكنا؟"، ويجيب قائلا أن هذا التنسيق المتبادل هو النتيجة التي يحققها السوق إذا ما ترك حرا وليس أبدا البداية التي يبدأ منها. ويحقق السوق التنسيق المتبادل إذا ما ترك حرا وظل يعمل في ظل حرية كاملة. وكانت فكرة التنسيق المتبادل Mutual Coordination كنتيجة لآليات السوق الحر هي بداية صياغة المدرسة النمساوية لمفهومها عن التوازن Equilibrium .
سميت نظرية التوازن في بدايات الاتجاه النيوكلاسيكي بنموذج التوازن العام General Equilibrium . ظهرت بدايات هذا النموذج عند والراس ثم فيزر وفون ميسز في أواخر القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين سادت الاتجاه النيوكلاسيكي كله. وينص هذا النموذج على أنه في عالم يحتوي على تجار يحاولون الحصول على أقصى ربح تجاري ومالكي موارد يحاولون الحصول على أكبر عائد من مواردهم (وهؤلاء يشملون من يملكون سواعدهم كمورد وحيد لهم)، فمن الممكن "تخيل" نظام في "أسعار" الموارد والسلع يتيح الآتي:
1. يتيح لكل الأطراف الداخلة في التبادل أن تبادل كل ما تملكه دون أن يبقى لديه شئ، وبالتالي استبعاد خطر فرط الإنتاج Over-Production.
2. يتيح لكل أطراف التبادل أن تحسن من رفاهيتها معا وفي نفس الوقت ودفعة واحدة، أي دون أن يكون مكسب الواحد منهم على حساب خسارة الآخر كما يحدث في العالم الحقيقي.
ويستند هذا النموذج في التوازن العام على عدة افتراضات، منها أن المستوى القائم من التطور التكنولوجي متاح للجميع ومفتوح بالكامل أمام الكل، أي مشاعية التكنولوجيا وعدم تمكن طرف ما من احتكارها ومنعها عن الآخرين بحجة حق الملكية الفكرية كما يحدث في العالم الحقيقي، واستبعاد نهائي للملكية الخاصة للاختراعات العلمية والتكنولوجية وما يحكمها من قوانين السوق الاحتكارية؛ كذلك افتارض ثبات في الطلب يعتمد على ثيات في خيارات المستهلك؛ وافتراض بأن الموارد متاحة للجميع في ظل منافسة عادلة وليس احتكارا لها عن طريق الملكية الخاصة لمصادرها كما يحدث في العالم الحقيقي.
وبالإضافة إلى الانتقادات المتضمنة لهذا النموذج من خلال افتراضاته السابقة فإن لنا ملاحظات أخرى عليه:
1. يعامل النموذج المنتجين باعتبارهم تجارا ولا يميز بينهم، أي يساوي بينهم باعتبارهم داخلين مباشرة في عملية التبادل بعد أن ينتجوا منتجاتهم، وهو يفترض أن المنتج يمارس البيع المباشر للمستهلك دون وسيط، ويفترض تساوي بائع الموارد وبائع السلع وبائع قوة العمل بما أنهم جميعا يدخلون في علاقة تبادل، لاغيا بذلك الفروق الجوهرية بين الرأسمالي والعامل وتاجر الجملة وتاجر التجزأة..إلخ.
2. تتسع في هذا النموذج فئة مالكي الموارد حتى أنها تشمل العمال بما أنهم يملكون موردا هائلا هو قوة العمل، وبالتالي فالنموذج يعامل قوة العمل على أنها من موارد الإنتاج مثلها مثل المواد الخام والطاقة، ومن ثم ينظر إليها على أنها سلعة تتم مبادلتها نظير سعر؛ وفي النهاية يعامل العمال كما لو كانوا طرفا من أطراف التبادل، وكما لو كان الجميع تجارا.
3. يحاول النموذج الإيحاء بأن التوازن المرتجى يمكن أن يتحقق عن طريق نظام متوازن في أسعار السلع. فبما أن الجميع تجار، وبما أن العمال أيضا يملكون سلعة هي قوة عملهم، فإن الكل لديه شيئا يبادله، وبالتالي فالتوازن بينهم يمكن أن يتحقق عن طريق نظام متوازن في أسعار السلع الداخلة في عملية التبادل.
4. وبالتالي يتحقق التوازن العام عن طريق سياسة نقدية في التسعير. ولا تتمثل هذه السياسة النقدية في فرض أسعار معينة على السوق، بل في ترك السوق حرا من أي تدخل حتى يثبت أسعاره بنفسه، وبالتالي يكون توازن الأسعار علامة على توازن المجتمع والنظام الاقتصادي كله. السياسة النقدية إذن هي السبيل نحو إحداث توازن عام في المجتمع. تحولت هذه النتيجة إلى إحدى العقائد الثابتة لليبرالية الجديدة وللمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فالأداة الناجعة لحل جميع مشكلات المجتمعات البشرية حول العالم في نظر هذه المؤسسات هي تطبيق توصياتها في مجال السياسات النقدية فيما يخص أسعار الصرف والفائدة.
إن ما يسيطر على النيوكلاسيك وهم يبحثون في موضوع التوازن هو رغبتهم في التركيز على مجال التبادل وعلى السوق، فما يراد له التوازن عندهم هو السوق، عمليات البيع والشراء، وما يخشونه هو الكساد أو فرط الإنتاج: وجود بضاعة لا يتمكن الناس من شرائها، أي أن يكون معدل الإنتاجية أعلى من احتمال السوق وقدرته الاستيعابية. ومن هذا المنطلق يأخذون في بحث كيفية حدوث توازن، وهذا ما يجعلهم يتناولون الأسعار والدخول والتقييم الذاتي للسلع واختيارات المستهلك. وهم يسلمون بأن التوازن في مجال الإنتاج نفسه وبين مجال الإنتاج ومجال التوزيع يتحقق إذا ما توصلنا إلى توازن السوق.
5 -النظرية الكينزية:
يقول الطيب بوعزة:جاءت الأزمة "العالمية" سنة 1929 لتشكل ضربة هائلة اهتز لها الاقتصاد الرأسمالي إلى درجة الانهيار. وكانت هذه الأزمة مناسبة لانطلاق التفكير الليبرالي إلى محاولة فهم مكمن المشكلة وإيجاد المعالجات الكفيلة بإنقاذ الوضع.
وكان من الملحوظات التي أثارت انتباه منظري الاقتصاد السياسي الليبرالي هو أن هذه الأزمة الهائلة لم تمس الاقتصاديات التي تخضع لسيطرة الدولة (الاقتصاديات الاشتراكية)، بل عصفت فقط بالاقتصاديات الليبرالية الرأسمالية، والمرتبطة بها عضويا بعلاقات وثيقة.
وبناء على هذه الملحوظة المقارنة ستظهر النظرية الكينزية كمحاولة لتعديل النمط الاقتصادي الرأسمالي، حيث سيقترح الاقتصادي البريطاني اللورد جون كينز في كتابه الشهير "النظرية العامة" سنة 1936 حلا مرتكزا على وجوب تدخل الدولة.
وقد أسس حله هذا على تحليل شامل للاقتصاد السياسي الليبرالي وتطبيقاته، وذلك بناء على دراسة مشكلتين رئيستين هما البطالة والنقد؛ منتقدا النظرية الليبرالية الكلاسيكية في نظرتها إلى سوق الشغل، حيث لم تنتبه إلى مشكل البطالة، ولم تبلور معالجات كفيلة بالتقليل منها، إذ اعتقدت خطأ أن كل شخص يستطيع إذا رغب أن يجد العمل الذي يناسبه.
وضدا على هذه الرؤية الحالمة استقرأ كينز النظام الاقتصادي الليبرالي منتهيا إلى التوكيد على أن البطالة ظلت ملازمة له، الأمر الذي يدفع نحو وجوب اعتبارها مشكلا حقيقا بالتفكير والمعالجة.
أما النقد فإن كينز أخذ أيضا على النظرية الليبرالية الكلاسيكية قصور فهمها له؛ حيث قدمت رؤية جد سطحية لمسألة النقود، رؤية لا تجاوز كون النقد مجرد ظاهرة ثانوية لا أهمية لها في العملية الاقتصادية، فالناس لا يتبادلون نقودا بل بضائع ببضائع، وما النقد إلا واسطة. في حين يرى كينز أن ليس هناك شيء في الواقع الاقتصادي أهم من النقد.
وعلى مستوى الرؤية الاقتصادية عاب كينز على الليبرالية افتقارها إلى الرؤية الكلية للواقع الاقتصادي، فهي بسبب فردانيتها تنظر إلى المجتمع بوصفه مجموعة من الأفراد ينبغي أن تعطى لهم حرية مطلقة في الفعل، أما المجتمع فإنه سينتظم تلقائيا بناء على تلك العلاقات الناظمة بين أفراد أحرار في سلوكهم.
اأثبتت الأزمة، التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي، أنه لابد من تدخل الدولة لترشيد السلوك الاقتصادي، هذا فضلا عن أن النظرية الكينزية أكدت من الناحية المنهجية ضرورة قيام رؤية علمية تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستهلاك والاستثمار وسعر الفائدة، ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية في مستوياتها العامة.
"اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي."في هذا السياق اتجهت المدرسة الكينزية إلى إنجاز تعديل كبير في النظرية الليبرالية، حيث نادت بوجوب تدخل الدولة بدل ترك الفعل الاقتصادي مرتهنا بفردانية "دعه يعمل دعه يمر"، مبلورة بذلك رؤية تقلل من استقلالية وحرية الفعل الاقتصادي. وهذا ما أسماه البعض بإنقاذ الليبرالية من فوضى الحرية، وإخضاع الفعل الاقتصادي لمنطق الدولة لا للمنطق التحرري الإطلاقي للسوق.
لقد كان النقد الكينزي للنظرية الليبرالية أعمق وأوسع مشروع نقدي صدر من داخل المذهب الليبرالي. وقد حظي بانتشار كبير، ففي الوسط الاقتصادي الأكاديمي كان للكينزية أتباع عديدون تبنوا مقولاتها النظرية وجددوا فيها مثل نيقولا كالدور، وغوردن، وبلاندر، وعلى مستوى التطبيق حظيت بالأولوية في السياسات الاقتصادية التي انتهجها الكثير من الدول الرأسمالية.
والواقع أن الكف عن حياد الدولة في الشأن الاقتصادي كان إجراء عمليا اضطرت إلى الالتجاء إليه دول عديدة مباشرة عقب أزمة 1929، ويمكن أن نشير هنا على سبيل المثال إلى "النيو ديل"، أي السياسة الاقتصادية الجديدة التي انتهجها الرئيس الأميركي روزفلت، وفكرة ضبط القوة الشرائية التي قامت بها حكومة ليون بلوم في فرنسا عام 1936.
ويمكن القول بلغة التعميم إن اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية قد أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي."
وفي الحقيقة لم يكن الباعث على أفكار كيـنز أزمـة 1929 وحدها ، وإنما أيضا فزع الرأسمالية من نمو الفكر الاشتراكي الذي بات يهدد الرأسمالية ، والذي كان يسانده الترابط المنطقي لفكر كارل ماركس الذي تنبأ بانهيار النظام الرأسمالي ، والذي أخذته الدوائر الرأسمالية مأخذ الجد. كما أن قبول الدول الرأسمالية بأفكار كينز وسعيها لتطبيقها كان من دواعيه أيضا هاجس الخوف من الشيوعية في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والسوفييتي (لم يكن النظام السوفييتي في حقيقة أمره سوى نظام رأسمالي ، ويعد بالتالي أكبر خدعة في العصر الحديث. حيث لم تكن الدولة سوى مؤسسة رأسمالية يملك رأسمالها منذ أمسك لينين بزمام الحكم مجموعة من الروس محدودة العدد من أبناء المرابين القدامي الذين سلموا أموالهم للينين. وتم تشغيل الشعب بأكمله أجراء لديها بإسم الشيوعية لمدة سبعين عاما ، وعندما تعرض الاقتصاد السوفييتي لمتاعب مالية وخافوا على رؤوس أموالهم قاموا بسحبها فجأة من البنوك وهربوها إلى إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا فانهارت الدولة ، ثم عادوا بأموالهم مرة أخرى لشراء مؤسسات الدولة المفلسة بأرخص الأثمان ) .وكذلك الخوف من ازدياد البطالة في فترة الكساد والتذمر الاجتماعي . أي أن الدول الرأسمالية وجدت نفسها في حاجة لآفكار كينز ومضطرة إليها. وبعد أن زالت الضرورة وانهار الاتحاد السوفييتي ، عادت للأمبريالية طبيعتها المتوحشة وتنكرت للأفكار التي أمنت لها البقاء والاستمرار والازدهار ردحا من الزمن.
وتتلخص أفكار كينز وأنصاره من المدرسة الكلاسيكية الحديدة في الآتي:
1- كلما زاد دخل الدولة زاد حجم مدخراتها ، فينقص الطلب ، ويتراجع الانتاج، وتزيد البطالة . ويمكن الحيلولة دون تحقيق هذه النتائج الغير مرغوبة بتوظيف المدخرات في شراء السلع الرأسمالية المنتجة ، وهو ما يتطلب كذلك خفض أسعار القائدة لتكون أدني من مستوى الكفاية الحدية للإستثمار.(وهو ما يعني في الواقع ،على نحو ما ، إخلال بالتوازن بين الفائدة والاستثمار لصالح الاستثمار) .
2- يتوقف مستوى التشغيل على مستوى الطلب الكلي الفعال على السلع الذي يتوازن مع العرض الكلي الناتج عن انتاج السلع. ولكي يتحقق التشغيل الكامل ، فيجب أن يتساوى الطلب على الاستثمار مع حجم الادخار , وهذا لا يتحقق إلا في ظروف استثنائية ، أما في الظروف العادية فينتج قدرا متزايدا من البطالة ينتج عن تدني طلب الاستثمار عن المستوى المطلوب. أما التشغيل الكامل الذي تنتفي فيه البطالة ، فلا يمكن أن يتحقق دون تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية كمنظم ومشغل.
3- ينتج الركود الطويل المدى نتيجة لتناقص عدد السكان في الدول الصناعية الرأسمالية ، وإذ يطل التوظيف الكامل للموارد ، فيترتب على ذلك نقص الاستهلاك ، وبالتالي انخفاض الطلب على الاستثمار ، وقد بدأت حاليا الرأسمالية الغربية تعاني من هذا الركود الطويل لهذا السبب وأسباب أخرى قد تكون أهم منه.
4- إن تزايد البطالة يشكل خطرا كامنا على النظام الرأسمالي ، لما يحمله من احتمال انفجار الطبقة العامـلة فـي ثـورة عليـه ، مما يتطلب إلغـاء سياسـة الحرية الاقتصادية الموروثة عن الطبيعيين والمعروفة ب:”دعه يعمل ، دعه يمر” .ويتطل تدخل الدولة لتحقيق التشغيل الكامل بزيادة الطلب على الاستهلاك والاستثمار معا والذي يجدث بإقامة المشروعات الصناعية والاستثمارات الكبرى التي يحجم عنها القطاع الخاص ، وتأميم المنشآت المتعثرة القديمة التي تراجع انتاجها وفقا لقانون تناقص الغلة (الربح) والتوسع في مشروعات البنية الأساسية والخدمات التي يمكنها استيعاب عمال كثيفة تزيد من حجم الاستهلاك، فيزيد الطلب على الاستثمار ، وبالتالي الطلب على العمالة بما يترتب عليه ضمان التشغيل الكامل لأطول مدي ممكن مع ضرورة أن يتلازم مع هذه الإجراءات خفض أسعار الفائدة لزيادة الطلب على الاستثمار ، وإتاحة التقنيات الجديدة لجميع المستثمرين. والقضاء على الاحتكـارات لتـحقق المنافسة الحـرة فـي الأسـواق،ضمـانا للأسعـار العـادلة . واتباع سياسة حمائيـــــة تجعلهـا منافسـة للسلـع المنتـجة في الخارج . والحـد من الاستيراد، وقصره على السلع الاسثثمارية.
5- يجب علىالدولة لتجنب مغبة التذمر الاجتماعي الناتج عن غياب الـعدالة الاجتماعية في حدها الأدني ، إن تعمل على إعادة توزيع الدخل لتقليل الفوارق الطبقية ، وذلك بفرض ضرائب تصاعدية على ثروات ودخول الأثرياء تقوم الدولة بجمعها وانفاقها على تقديم إعانات وخدمات اجتماعية للمواطنين الفقراء ومحدودي الدخل بما يؤمن الاحتياجات الضرورية للعائلات ، ويضمن حصولها على حد الكفاية منها.
ولم يتم تبرير هذه الاجراءات أخلاقيا(والتي عرفت بعد إقرارها والعمل بها بنظام التأمين أو الضمان الاجتماعي) وإنما تم الترويج لها بمنطق الاقتصاد التحليلي على أساس أن التفاوت في الدخول يركز الدخول في أيد قليلة بلغت المستوى الحدي في استهلاكها الذي كفل لها حد الإشباع ، بينما تتراجع معدلات استهلاك الأغلبية لضعف قدرتها الشرائية المتزايدة، مما يترتب عليه تناقص الطلب الكلي وتراجـع الاستثمـارات والعـرض الكلـي فـي آن واحد. وينذر ذلك بالركـود وإفلاس المؤسسات الاقتصادية.ونقص ريع الممتلكات الخاصة الفردية الذي يرتبط بالرواج الاقتصادي.
النظرية الماركسية:
سسه المفكر الاقتصادي كارل ماركس الذي نادى بضرورة القضاء على مظاهر الملكية الفردية من خلال ثورة الطبقة العاملة والمستغلة على الأقطاعيين والطبقة الأرستقراطية، وتحقيق المساواة في توزيع الموارد والناتج القومي على الناس كافة، وهذهِ أحد ركائز قيام الفكر الشيوعي في روسيا.
إلا أن الفكر الماركسي لم يمت بتفكك الاتحاد السوفييتي وإنما أخذ منحي مختلف في تطوره بعد ذلك إذ انتقل الإنتاج النظري بأوربا الغربية بالتدريج من أيدي حكام وقواد ثوريين (لينين، غرامشي، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي...) إلى أيدي فلاسفة محترفين وإلى متخصصين في العلوم الاجتماعية (أدورنو، ماركوز، ألتوسير، بولانتزاس...).كما عرف تطبيقات جديدة في الصين وفيتنام تختلف جذريا عن سابقتها وتحولات محتشمة في كوبا التي ظلت الدولة الوحيدة في العالم التي حافظت عليه ، وبدأت تتأثر بكوبا دون استنساخ نظامها دول في أمريكا اللآتينية على رأسها فنزويلا.وتقوم حاليا أحزاب شيوغية في دول أوروبا الشرقية التي تحولت عن النظام الاقتصادي الشيوعي بإجراء مراجعات هامة عليه.
ومن المراجعات الفلسفية للماركسية في أوروبا الغربيةكما يقول جان بودوان: الفلسفة التحليلية وهي مدرسة فلسفية ظهرت بإنجلترا خلال الثلاثينيات، وتدعى أيضا فلسفة اللغة، وهي قريبة من المنطق الصوري واللسانيات لدى برتراند راسل، ج. إ. مور ولودفيغ ج. فتجنشتاين، والفلسفة التحليلية ترفض الزعم بمعرفة العالم أو العثور على حقيقة كونية، وهي تهتم بدل ذلك بقضايا اللغة. إن القضايا "التحليلية" هي قضايا منطقية تحمل على اللغة بخلاف القضايا التركيبية التي تحمل على الوقائع. وتحليل القضايا اللسانية يمكن في نظر التيار التحليلي من زيادة المعرفة من خلال توضيح معاني اللغة. والفلسفة التحليلية ممثلة بإنجلترا من طرف "مدرسة أوكسفورد": جون ل. أوستين (1960-1911)؛ جيلبير ريل (1976-1900)؛ ألفريد جولس آيير (1989-1910).
• نظرية العدالة: نشر سنة 1971، وقد حقق هذا العمل الكبير للفيلسوف الأمريكي جون راولس (المزداد سنة 1921) تأثيرا استثنائيا على الفلسفة الأنجلو سكسونية. وهدف هذه المحاولة الفلسفية السياسية والأخلاقية هو تأسيس عقد اجتماعي عادل، أما منهجه فيتمثل في الانطلاق من وضعية افتراضية يكون فيها أفراد أحرار و وحيدون مكلفون بتحديد قواعد مجتمع قيد البناء مع جهلهم كل شيء عن المكانة التي سيحتلونها في هذا المجتمع. ولأنهم موضوعون هكذا تحت "غشاوة الجهل" فإنهم لن يستطيعوا الاختيار انطلاقا من مصالح خاصة. وانطلاقا من وضعية كهاته استنتج راولس أن كل إنسان سيروم نحث النظام الأكثر عدالة والأكثر إنصافا ما أمكن. ويستجيب هذا النظام لمبدأين اثنين:
1. "مبدأ الحرية" الذي يؤكد المساواة في الحقوق عند التمتع بالحريات الأساسية؛
2. "مبدأ الاختلاف" الذي يتسامح مع الفوارق، لكن في ظل شروط معينة: أن تؤمن المساواة في الحظوظ وأن يجهد المجتمع ذاته ما وسعه الحال في تحسين ظروف الأفراد الأكثر حرمانا وخصاصة.
لقد صيغت العديد من الانتقادات التي وجهت لجون راولس ونظريته في العدالة؛ فعن يساره واخذه الجماعيون على كونه جعل من الفرد القاعدة الأولى للمجتمع وعلى تقليله من شأن دور الخلايا القاعدية الذي تلعبه الجماعات من وجهة نظرهم. وعلى العكس من ذلك واخذه عتاة منظري الليبرالية على كونه برر السياسات الاجتماعية التي تذهب في غير طريق الليبرالية. وقد تشبث راولس بالرد على هذه الانتقادات في "الليبرالية السياسية" (الترجمة الفرنسية بنفس العنوان، 1993).
• نظرية الفعل التواصلي: يشكل هذا العمل المنشور سنة 1981 مآل العمل الذي انصب على "إعادة بناء نقدية للمادية الديالكتيكية" والمنجز من قبل "الوريث الطبيعي" لمدرسة فرانكفورت؛ السوسيولوجي الألماني يورغن هابرماس (المزداد سنة 1929). المساهمة الرئيسية لإعادة البناء هاته تقيم في نقد مفهوم الهيمنة؛ فغياب علاقة الإكراه تفترض قل أي شيء حسب هابرماس "تواصلا بدون إكراه" أو أيضا "وضعية مثلى للكلمة" حيث يقبل الأفراد بإخضاع آرائهم لعمليات حجاج متنافسة. وفي المجتمعات المعاصرة الموسومة بتوسع الإدارة النظامية واقتصاد السوق، فإن الحفاظ على "فضاءات للتفاهم المشترك" (ومن ضمنها العائلة) يشكل حسب هابرماس الوسيلة الأفضل لمقاومة فقدان الأمل.
ومازال للفلسفة الماركسية تأثير على المفكرين الغربيين كما هو الحال بالنسبة لبول كيندي على النحو الذي يوضحه عفيف فراج والذي يقول :
محور كنيدي مؤلفيه الشهيرين صعود وسقوط القوى العظمى والاستعداد للقرن الحادي والعشرين على قانونين ركنيين من قوانين الجدل الماركسي:
1 - قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا، الثروة والقوة، البنية التحتية (الاقتصادية) والبنية الفوقية (العسكرية).
2 - قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا معاً من جهة، وبين الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها التقانية من جهة ثانية.
ذلك ان الجدلية القائمة بين الاقتصاد والاستراتيجيا تترافد كما يؤكد كنيدي تكراراً مع قطب العلم والتقنية، وهو قطب يفعل فعل الوسيط أو المحول الكيميائي الذي يحدث تحولات نوعية في البنيتين الاقتصادية والعسكرية، واستطراداً في جميع البنى الاجتماعية والثقافية.
ان التقانة الأكثر تقدماً تفجر الطاقات الإنتاجية الأكثر ضخامة، وتنتج الأسلحة الأكثر فاعلية، والقيم الثقافية الأكثر دينامية؛ فتكون السيادة الإمبراطورية من نصيب الأمة التي تقلب موازين القوى الاقتصادية والاستراتيجية لما تحققه من سبق في مجال الكشوفات العلمية وتطبيقاتها التقانية في الصناعة والهندسة الزراعية والجينات الوراثية. "ان التغيير في شؤون العالم إنما يجري طبقاً لعملية جدلية تحولية تدفعها التقنية الموضوعة حيّز التطبيق في العملية الإنتاجية؛ ذلك ان التحولات في البنى السياسية والاجتماعية كافة مصدرها التقانة".
وبهذا المقياس يرى كنيدي ان تفوق أوروبا على الإمبراطوريات الشرقية التي تقدمتها يكمن في تطويرها الذي لم يتوقف لتقنياتها العسكرية، يستحثها إلى ذلك تجارة السلاح المزدهرة منذ عصر النهضة، أما الإمبراطوريات الشرقية (الصينية، اليابانية، الهندية، العثمانية) فقد حاقت بها الهزيمة حين توقفت عن تطوير أدواتها القتالية.
ان كنيدي لا يقدم إذن تاريخاً عسكرياً أحادي الجانب وإنما هو "يبحث القوة العسكرية في إطار اقتصادي" (كما يذكر في الصفحة الأولى من مقدمته) لكون الثروة هي صانعة القوة. "ان التغيير في موازين القوى العسكرية كان يجيء دائماً عقب التغيرات التي تطرأ على موازين القوى الإنتاجية. وإذ يعرض نتائج المواجهات العسكرية الكبرى على خلفية المؤشرات الإنتاجية الإحصائية للقوى المتصارعة على سيادة العالم يقرر "ان نتائج الحروب التي خاضتها الدول والقوى العظمى تثبت ان النصر كان حليف أصحاب الموارد الاقتصادية الأعظم".
وهذا يعني ان أداء الأمم العسكري خلال الحرب يحدده ويقرره أداؤها الاقتصادي في زمن السلم. وإذا كانت القوة العسكرية هي رهينة القدرات الاقتصادية فان دراسة الناتج القومي السنوي للقوى العظمى المتنافسة في زمن السلم تصبح مؤشراً استباقياً لما سيكون عليه أداؤها العسكري في زمن الحرب.
من هنا يكتنز مؤلَّفا كنيدي بالجداول الاقتصادية الإحصائية والتخطيطات البيانية التي تظهر هزائم الإمبراطوريات القديمة والوسيطة والحديثة بوصفها نتائج محتمة لمقدمات التراجع الاقتصادي والتخلف التقاني.
"الحقيقية الباقية هي ان جميع التحولات الكبرى في موازين القوى العسكرية العظمى كانت تجيء دائماً عقب التحولات في الموازين الإنتاجية". وكنيدي يرجّح هذا القانون الموضوعي على عنصر العبقرية القيادية. فحين تتراجع العائدات وتتخلف التقنيات تعجز العبقريات العسكرية عن ردّ الهزائم الميدانية وان كانت في مستوى نابليون أو هيئة الأركان الهتلرية. ان الذي هزم نابليون في النهاية هو المحرك البخاري البريطاني والثورة التي أحدثها في العملية الإنتاجية كما في وسائل الانتقال براً وبحراً.
وقد هزمت أدوات إنتاج أميركا وروسيا وبقية الحلفاء هيئة أركان الحرب الألمانية والروح القومية القتالية اليابانية. "فالحرب لا تدور فقط بين المتبارزين بالسيوف" كما يقول كلاوزفيتز، "وإنما بين الحدادين صانعي السيوف كذلك". وهكذا يخلص كنيدي إلى ان القاعدة الإنتاجية المتفوقة للحلفاء هي التي حسمت الصراع ضد دول المحور في النهاية. وهذا كله يعيدنا إلى موضوعة كلاوزفيتز القائلة إن "فن المبارزة (مثل فن الحرب) يتطلب مهارة وخبرة من جانب المتبارزين؛ لكن ذلك لا يجدي كثيراً إذا نفدت السيوف من أيدي المتبارزين. وفي معركة الحدادين كان الحلفاء يتقدمون خصومهم على نحو واضح".
وبما ان الصراع يدور بين قوى تتنافس على اجتياز أوسع لمساحات السوق العالمية، فان رصد مسارات ومصائر القوى المتصارعة على مدى الكوكب يستدعي، بالضرورة، دراسة مقارنة لاقتصادات هذه القوى ووتائر نموها. ذلك ان أسباب صعود إمبراطورية ما يعتمد أيضاً على أسباب ضعف إمبراطورية أخرى. فالإمبراطورية المتراجعة ليست بالضرورة تلك التي يتوقف أو يتراجع فيها الناتج القومي عن النمو بل تلك التي لا يتكافأ نموها الإنتاجي مع وتائر نمو قوة إنتاجية أخرى تعاصرها.
فصعود الولايات المتحدة إلى سدة القيادة الإمبراطورية على حساب الإمبرياليات الأوروبية العريقة لم يتحقق لأن دولاً مثل بريطانيا وفرنسا كانت تنتج بعد الحرب العالمية الأولى أقل مما كانت تنتجه هاتان الدولتان في الحقبتين الفيكتورية والنابليونية، وإنما لأن الناتج القومي الأميركي السنوي بات يساوي عام 1919 "مجموع الناتج القومي السنوي لدول أوروبا الغربية مجتمعة". وبالمقياس عينه فان إنتاجية الاتحاد السوفياتي التي بلغت في نهاية الثمانينات أضعاف ما كانت عليه خلال الحقبة الستالينية لم تكن كافية لتدرأ السقوط عن الإمبراطورية السوفياتية في الوقت الذي كانت الدول الرأسمالية تحقق تقدماً اقتصادياً وتقنياً ثابتاً على الاتحاد السوفياتي على مدى السبعينات والثمانينات. ولا يكفي الولايات المتحدة، استطراداً، ان تقصي منافسها السوفياتي كي تنفرد بالزعامة الإمبراطورية العالمية في الوقت الذي تحقق دول مثل ألمانيا والصين واليابان تقدماً ثابتاً عليها منذ الثمانينات في وتائر النمو الاقتصادي، في حين تحقق اليابان تفوقاً نسبياً في مجال التقنيات العالية وتفوقاً مطلقاً في مجال التراكم الرأسمالي والفائض المالي.
كنيدي والماركسية
هذه المقابلات التي يجريها كنيدي لإظهار التفاوت في مقدرات القوى العظمى تستند إلى قانون "النمو اللامتكافئ"الذي كان لينين سباقاً إلى وضعه حيز الممارسة المعرفية في سياق دراسته للتحولات في موازين القوى الاقتصادية - العسكرية للأمم الأوروبية المتناحرة بين عامي 1917 و 1918. وكنيدي لا يجحد مرجعيته اللينينية، كما لا يخفي مديونيته لقوانين علم الاجتماع الماركسي، لكن هذه القوانين لا تحظى بمرتبة الأدوات المعرفية والمقدمات المنهجية المرشدة للبحث، ذلك ان كنيدي في حرصه على إثبات منهجيته الاستقرائية الامبيريقية يحيل هذه القوانين إلى شواهد ختامية يذيّل بها أبحاثه بحيث تبدو قوانين علم الاجتماع الماركسي العامة وكأنها خلاصات استنتاجية تتحصل من قراءة كنيدي الاستقرائية الخاصة. وهكذا يبدو التلاقي مع علم الاجتماع الماركسي وكأنه حدث عارض.
والحقيقة هي ان مديونية كنيدي النظرية للماركسية لا تظهر بكامل ثقلها إلاّ إذا عمد القارئ إلى جمع قوانين علم الاجتماع الماركسي الموزعة في ثنايا خلاصات المؤلف الاستنتاجية.
ان كنيدي مؤمن أولاً بالقانون الماركسي القائل إن البنية الاقتصادية هي "بنية تحتية مقررة لماجريات الأحداث".
وهو يأخذ قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا، عن انجلز مقتبساً قوله: "لا شيء يعتمد على الأوضاع الاقتصادية كالجيش والبحرية على وجه التحديد". كما يقتبس عن ستالين نصاً يؤكد جدلية الثروة والقوة: "ان الموازين العسكرية العالمية تتوزع على نحو يتوافق مع مقدرات الدول الاقتصادية". وهو يأخذ قانون "النمو المتفاوت" وانعكاساته على موازين القوى السياسية والعسكرية عن لينين الذي لاحظ بين العامين 1917 و 1918 أنه "كان محتماً أن تؤدي معدّلات النمو الاقتصادي المتفاوت (بين المانيا وانكلترا واليابان وروسيا) إلى صعود قوى معينة وانهيار قوى أخرى". وكنيدي يفسر أسباب صعود روسيا الامبراطورية وهبوطها بالأسباب التقنوية عينها التي ذكرها ستالين في دراسة له نشرت عام 1931: "ان روسيا كانت تخرج منتصرة في جميع المواجهات العسكرية وفي كل المعارك التي كانت مستويات التقنية العسكرية فيها متقاربة بينها وبين خصومها، بينما كانت تنهزم كلما اتسعت الهوة التقنية لمصلحة الخصوم".
يؤكد ستالين في البحث الذي يذكره كنيدي ضرورة ردم الهوة التقنية بين روسيا والغرب، "لأن أي تباطؤ في وتائر سرعة اللحاق بالغرب سيعني التخلف في السباق، والمسبوقون هم الذين تدركهم الهزيمة. فقد تلقت روسيا القيصرية ضربات متتالية لأنها تخلفت في ميداني الانتاجية الصناعية والتقانات العسكرية".
ويذهب كنيدي مع ماركس إلى حد اعتبار الثقافة بنية فوقية ترتكز على بنية تقانية - انتاجية تحتية. فالتقانات لا تثوّر أدوات الإنتاج وحسب، بل هي تحدد نوعية الثقافة الاجتماعية نفسها كذلك. وكنيدي يصوغ علاقة التوافق بين التقانة والثقافة على النحو التالي:
"إن كل نمط من أنماط التقانة يولد نمطه الثقافي الخاص به والمميز له". وهي صياغة معدلة لإحدى الطروحات التي نجدها في نصوص ماركسية عديدة، منها نص انجلز الذي طالما يردده غارودي في كتابيه ماركسية القرن العشرين ومنعطف الإشتراكية الكبير: "إن على الفلسفة المادية ان تغير من صورتها كلما حصل اكتشاف بارز في مجال العلوم". وقد اعاد الفيلسوف الشيوعي الفرنسي ألتوسير صوغ هذه الموضوعة بقوله: "ان العلم يأتي في الصباح وتتبعه الفلسفة في العشية". وكل ذلك يذكرنا بطائر مينرفا الفلسفي الهيغلي الذي لا يبسط جناحه إلا بعد حلول الغسق، أي بعد وقوع التحولات العلمية والتقانية.
إضافة إلى هذه القوانين المادية الجدلية التي يتقرى كنيدي صعود وهبوط القوى الامبراطورية في ضوئها فهو يعبر عن موقف ماركسي فلسفي من التاريخ في كليته، حيث يقول مستعيداً ماركس: "ان البشر هم الذين يصنعون تاريخهم حتماً، لكنهم يصنعونه ضمن شروط تاريخية يمكن ان تحدّ من قدراتهم على صناعة التاريخ كما يمكن ان تطلق هذه القدرات".
كما يستعيد كنيدي المفهوم الذي حدّد به ماركس العلاقة بين العنصرين الذاتي والموضوعي في صناعة التاريخ: "ان البشر هم صانعو تاريخهم وان كانت هذه الصناعة تتم ضمن ظروف تحمل مؤثرات الماضي كما يذكرنا ماركس".
وهو ينقل عن القائد الالماني بسمارك استعارة شاعرية تجسم المفهوم الماركسي عينه للتاريخ:
"ان جميع القوى الكبرى الفاعلة في التاريخ إنما تجري فوق تيار الزمن، وهو تيار ليس في استطاعة البشر خلقه أو توجيهه، وكل ما يستطيعونه هو توجيه الدفة فوق المجرى بدرجة من المهارة والخبرة تقل أو تكثر".
ومن المعلوم ان ماركس سبق أن أكد في رأس المال تحول العلم والتقانة إلى قوة تنتج القيمة وفائض القيمة. »
وفي الحقيقة فإن المنظمات التي تقاوم الإمبريالية اليوم تستمد من الماركسية ومن الأفكار التي تعتمد عليها زادها الفكرى وتساعد المراجعات والكتابات الماركسية الجديدة ، أن صح التعبير ، وتجارب الشعوب مثل الصين وفيتام على وضع تصورات لنظم اقتصادية جديدة مخالقة للرأسمالية الامبريالية والتي توصف بالمتوحشة كما ساهمت الأزمة العالمية المالية الجديدة التي ظهرت مؤخرا في الولايات المتحدة وبدأت تظهر تداعياتها على أقتصاديات أوروبا والعالم في زعزعة الثقة فيما أطلقت عليه الولايات المتحدة بالنظام العالمي الجديد أو العولمة.
المدرسة الحدية”
اهتمت المدرسة الحدية بتقديم تحليلات نظرية فائمة على فكرة المنفعة الحدية ، واستخدام الطرق الرياضية (المنطق الرياضي والرسوم البيانية للدالات) في الاثبات والعرض وظهر روادها مع مطلع القرن العشرين مثل كارل منجر وجوزيف شمبيتر في النمسا وليون فالراس وبارتو في سويسرا. وتتلخص فكرة المنفعة الحدية في أن قيمة السلعة بالنسبة لكل شخص تتوقف على وجود رغبة في إشباع حاجته إليها من ناحية وقدرته الشرائية من ناحية أخرى. وتتحدد قيمة السلعة عندما تلتقي فيها دالة الإشباع مع دالة كمية المال التي يمكن للشخص توظيفها في إشباع حاجته والتي تمثل المنفعة الحدية. وبالتالي فسرت هذه النظرية لماذا يباع الخبز مثلا وهو سلعة ضرورية، أي أكثر نفعا للمستهلك، بأقل من أسعار السلع الكمالية الأقل منفعة منه. واستخلصوا من النظرية أن الليبرالية تتيح لكل فرد أن يحقق أكبر إشباع ممكن لحاجاته في حدود دخله وامكاناته المادية. وتم تصوير العلاقات الاقتصادية وتوازناتها بصيغ رياضية . ولما كان سلوك الأفراد يختلف من شخص إلى آخر بالنسبة للاستثمار والادخار والاستهلاك فقد اضكرهم ذلك إلى التجريد ، وافتراض وجود شخص اقتصادي تصرفاته منضبطة مع المتطلبات الاقتصادية مما يعد افتراضا غير واقعي ولكنه ضرورى لاستقامة منهجهم رياضيا. بصيغة أخرى فإنه يمكن البرهنة على صحة النظرية نظريا ، ولكن هذا لايعني أن الواقع سيتتطابق مع معطياتها النظرية.
6 -النيوليبرالية أوالامبريالية:
وكمـا بدأت الكلاسيكية القديمة بظهـور كتـاب أدم سميث:ثروةالأمم،بدأت الكلاسيـكية الجديدة بظهوركتاب للمفكر الانجليزى “جون مينارد كينز” يحمل إسم :” النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود” عام 1936. وقد أخذت الحكومات بأفكار كينز وقامت بتطبيقها . وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (عام 1945) مما وفر لها استقرارا اجتماعيا جيدا ،ونموا اقتصاديا بوتيرة شبه ثابتة ، إلا أن جشع الرأسمالية وظهور الشركات متعدية الجنسية واحتكاراتها وضغوطها دفع للآنصراف عن أفكار كينز والعودة للإلتزام بأفكار دافيد ريكاردو. وخاصة فيما يتعلق بسياسات الدول الاستعمارية الخارجية . ويمكن أن تعزي أزمة النظام المالي الحالية ، والأزمات السابقة عليها نتيجة لذلك. وقد بلغت درجة التبعية والاستلاب الفكرى لدي بعض اقتصاديينا وأساتذة الاقتصاد لدينا أن تبنوا الدعوة لأفكار ريكاردو بحجة أن الدول الرأسمالية قد أهملت أفكار كينزوعادت إلى الفكر الكلاسيكي القديم.
و قادت العودة لأفكار ريكاردو والتطرف في تطبيقها لما يعرف الأن بالنيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة أو العولمة . والعولمة في حقيقة أمرها ليس نطرية علمية اقتصادية وإنما هي أيديولوجيا أفرزها تغول الشركات المتعدية الحنسية وخاصة الأمريكية منها ، وتأثيرها المتزايد على السياسة الاقتصاديةوالمالية العالمية ، والذي تزامن مع الثورة الإليكترونية والمعلوماتية وخاصة انتشار الانترنيت الذي تحتكره على مستوى العالم الشركات ألمريكية وترقض أي شراكة غير أمريكية فيه أو السماح بشبكة دولية منافسة له.
يكشف الاقتصاد النيوليبرالي أو النيوكلاسيكي عن عدد من الملامح المنهجية السائدة لدى أعلامه والمنتشرة بينهم على الرغم من القليل من الاختلافات النوعية بين عالم وآخر. ولأن الاقتصاديين الينوكلاسيك تسيطر عليهم الأيديولوجيا، وهي المتمثلة في تحويل العلم الاقتصادي إلى مبرر للنظام الرأسمالي كما رأينا في الصفحات السابقة، فإن هذا الطابع الأيديولوجي لعلمهم ينعكس على المنهجية التي يسيرون عليها ويؤدي إلى تشويهها في النهاية، وذلك بأن تسيطر عليها نزعات صورية وفردية ووضعية كما سيتضح فيما يلي.
أ. الإبستمولوجيا الوضعية:
نتيجة لسعي علماء الاقتصاد الينوكلاسيك نحو جعل العلم الاقتصادي علما دقيقا منضبطا، وضعوا أمام أعينهم نموذج العلم الطبيعي الذي حاز على الدقة ودرجة الصدق العالية استنادا على اعتماده على الرياضيات، وهو الفيزياء النيوتونية. لكن محاولة التشبه بالعلم الطبيعي في إقامة علم اجتماعي إنساني مثل الاقتصاد تؤدي في النهاية إلى نزعة وضعية تختزل الحياة البشرية في قوانين تشبه القوانين الفيزيائية، وهذا ما حدث بالفعل مع النيوكلاسيك.
يستند الاقتصاد النيوكلاسيكي على ابستمولوجيا مستقاة من نموذج العلم الطبيعي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو ما يعرف بالفيزياء النيوتونية. يتكون هذا النموذج من قوانين حول حركة الأجسام واتجاهات وسرعات هذه الحركة بناء على قوانين الجاذبية والكتلة والطاقة. واعتماد الاقتصاد النيوكلاسيكي على هذا النموذج يجعله يعامل موضوعه كما لو كان أجساما وطاقة ومادة، وكما لو كان يشكل نسقا مغلقا ينـزع دائما نحو التكامل، والملاحظ أن مفهوم التكامل ظهر لأول مرة في فيزياء نيوتن لوصف ما يحدث داخل نسق جاذبية مغلق مثل المجموعة الشمسية. يصرف الاقتصاد النيوكلاسيكي نظره عن أن موضوعه الحقيقي ليس حركة فيزيائية لأجسام داخل نسق مغلق بل هو حركة البشر التي لا يمكن فهمها بالتوازي أو التشبيه بحركة الأجسام الفيزيائية.
وتظهر نتيجة هذه المنهجية في تعامل الاقتصاد النيوكلاسيكي مع الإنتاج كما لو أنه طاقة، ومعاملة دوران السلع باعتبارها تسير في قنوات مثل سريان الطاقة والتي تنـزع دائما نحو التكامل، أي نحو التوزع العادل حسب قوانين الطاقة. والملاحظ أن نموذج الفيزياء النيوتونية هذا قد تجاوزه العلم المعاصر عن طريق النظرية النسبية ونظرية الكوانتم، ولذلك فإن العلمية التي يدعيها الاقتصاد النيوكلاسيكي كاذبة، نظرا لتجاوز العلم المعاصر للنموذج العلمي الذي يقلده النيوكلاسيك. لكن يظل النيوكلاسيك متمسكين بالنموذج العلمي للفيزياء النيوتونية نظرا لحاجتهم الأيديولوجية إليها، إذ تخدمهم جيدا في هدفهم الأساسي وهو إضفاء العقلانية على نظام غير عقلاني، وإضفاء الطابع العلمي على ما ليس إلا تبريرا أيديولوجيا للرأسمالية.
ب. النـزعة الصورية والهوس بالرياضيات:
يسعى النيوكلاسيك نحو جعل علم الاقتصاد علما تصنيفيا Taxonomic مولع باختراع الفئات والأصناف والمقولات، وبتقسيم وتوزيع كل الواقع بتنوعاته الهائلة على هذه الفئات: الإيجار العقاري والفائدة وأجر العمل، الأرض ورأس المال وقوة العمل، مقاول الأعمال والسوق الحر..إلخ. صحيح أن هذه الفئات تعبر عن شئ من الواقع، إلا أنها لا تعبر عنه كله وبدقة. فغالبا ما يعمل علماء الاقتصاد على فهم الواقع الاقتصادي بناء على هذه التصنيفات المسبقة لا بناء على البحث الواقعي، وبذلك فهم يحشرون الواقع في هذه التصنيفات المقولية بصرف النظر عما إذا كانت تستجيب للواقع أم لا. تكشف تلك النـزعة التصنيفية عن فلسفة في الماهيات وعن مفهوم عن طبيعة إنسانية ثابتة ذات حاجات بيولوجية فردية، وعن تبنيهم لمفهوم عن قانون طبيعي ثابت وأزلي عبر التاريخ غير خاضع للتغيرات الاجتماعية والتاريخية.
ومن هذه الخلفية يسعى علماء الاقتصاد الكلاسيك والنيوكلاسيك على السواء نحو البحث عن انتظامات Uniformities ، وعن قوانين أزلية تحكم السلوك الاقتصادي، ونحو وضع نظرية في التوازن الاقتصادي Equilibrium يدَّعون أن الواقع يكشف عنها. وهذا التوازن الذي يتكلمون عنه ليس سوى توازن وتكامل نظريتهم الاقتصادية نفسها لا توازن وتكامل الواقع، وفي النهاية تعبر فكرة التوازن لديهم عن التوازن النظري باستخدام المعادلات الرياضية والمسائل الحسابية. وبذلك ينغلق علمهم على نفسه ولا ينفتح أبدا على التنوع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية و البعد التاريخي للنظم الاجتماعية.
كما يختزل النيوكلاسيك مفهوم الثروة في مفهوم الثروة النقدية وينظرون إلى المنفعة Utility على أنها الربح المالي لا الوفرة والرخاء الإنتاجي. وهذا ما يؤدي بهم إلى التعامل مع الإنتاج والتوزيع والتبادل ودوران رأس المال بلغة الأرقام، تلك الأرقام التي يدخلونها في معادلات رياضية وجداول ورسوم بيانية. واعتقادهم أن ما توصلوا إليه من معادلات رياضية هو القوانين الاقتصادية الحاكمة لحياة البشر يجعلهم يختزلون غنى وتعقد الحياة البشرية والتتابع السببي التاريخي للحوادث إلى تتابع منطقي لخطوات البرهان الرياضي معتقدين أن هذا هو العلم في حين أنه هو الوهم بعينه.
سعى النيوكلاسيك، وخاصة في الولايات المتحدة، نحو تطوير التحليلات الرياضية الاقتصادية، وكان الموجه لهم في ذلك رغبتهم في إثبات أن التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية متساوية، على الرغم من عدم تساويها واقعيا. وبكلمات أخرى سعى هؤلاء نحو توضيح أن المجتمع ليس سوى مجموع أفراده المكونين له، وبالتالي ليس في حاجة إلى ترتيبات اقتصادية خاصة به مختلفة عن الآليات التلقائية للسوق والتي تضمن رفاهية الأفراد؛ وكانوا في ذلك يكشفون عن التمسك بالعقيدة الليبرالية التقليدية عن السوق الحر وعن عدم استقلال المجتمع عن الأفراد المكونين له وعدم تشكيله لكيان مختلف عن الأفراد.
إن السبب الذي يجعل علماء الاقتصاد النيوكلاسيكي يلجأون إلى الرياضيات هو أنه كلما اتخذت النظرية الاقتصادية طابعا صوريا رياضيا كلما ظهرت كما لو أنها ابتعدت عن الأيديولوجيا، لأنها بذلك تركز على الشكل و لاتنطوي على أي مضمون يمكن أن تشوبه الأيديولوجيا. إن هذا النوع من النظريات بذلك يصبح منعزلا عن الواقع وعن كل ما هو خارج المعادلة الرياضية. فالنظرية الاقتصادية الرياضية ليست إلا معادلات لا تقول لنا الكثير عن العلاقات السببية بين الأحداث، كما أنها لا تقوم بشئ إلا أن تعطي وصفا لحالة من الاعتمادات المتبادلة بين متغيرات.
إن ظاهرة الاعتماد الداخلي المتبادل بين عناصر نظام اقتصادي مصاغ بلغة رياضية مثل نظرية “والراس “على سبيل المثال لا تنشأ إلا لأن هذا النظام هو نظام في التوازن الثابث Static Equilibrium ، ومثل هذا النظام يقوم بتثبيت المتغيرات الاقتصادية الحقيقية التي لا تعرف توازنا ثابتا أبدا بل تشهد تغيرات دائمة؛ وإذا ما شهد الواقع شيئا من التوازن فلن يكون إلا توازنا مرحليا ومؤقتا بين تغيرين، أي توازنا ديناميا ينتقل بين تغيرات.
ومن بين الأسباب التي مكنت علماء الاقتصاد من التعامل مع الاقتصاد رياضيا تطور الاقتصاد نفسه إلى الدرجة التي جعلت التعامل الرياضي معه ممكنا. وقد جاء هذا التطور في شكل مزيد من الاستقلال للمجال الاقتصادي عن مجالات الحياة الأخرى وعن الإرادة الإنسانية، مما جعل الاقتصاد عصيا على التحكم البشري الواعي وأصبحت له قوانينه الخاصة التي يخضع لها البشر أنفسهم. فمع ازدياد استقلال العملية الاقتصادية عن الإرادة البشرية، ومع ازدياد انغلاق عالم الإنتاج الرأسمالي أمام التحكم البشري الواعي يجد البشر أن ما صنعته أياديهم استقل عنهم وأصبح متحكما فيهم. وعندما ينعزل الاقتصاد عن الإرادة البشرية تتخذ قوانينه شكل القوانين الطبيعية، وعندئذ فقط تتمكن الرياضيات من التعامل معه. إن كثرة استخدام الرياضيات في التحليلات الاقتصادية يقف دليلا على اغتراب البشر عن شروط حياتهم المادية حتى أنها أصبحت تشكل كيانا مستقلا عنهم وتتحكم فيهم كما لو كانت قوانين الاقتصاد بحتميتها وضرورتها القاهرة تشكل طبيعة ثانية.
ومن الأسباب التي تجعل الاقتصاد الينوكلاسيكي يحول العلم الاقتصادي إلى علم رياضي هدف أيديولوجي يتمثل في أن اللغة الرياضية الصورية والرمزية تمكن النيوكلاسيك من التعامل مع الاقتصاد شكليا وصوريا عازلين بذلك المضمون العيني لعلمهم والذي يتمثل في الحياة الحقيقية للبشر. فعلى سبيل المثال، يعتم العلم الاقتصادي الرياضي على التناقض الطبقي، بل ويلغيه تماما؛ ذلك لأن الأطراف الاجتماعية الداخلة في العملية الإنتاجية لا تظهر إلا باعتبارها رموزا متساوية القيمة؛ فيتم التعبير عن رأس المال والعمل المأجور بـ (س) و(ص). تعامل اللغة الرياضية هذه الرموز على أنها تنتمي إلى فئة واحدة، فئة المتغيرات، وبذلك ينظر من يتعامل مع الواقع إلى هذه الرموز على أنها متساوية الدلالة في حين أنها تعبر عن أوضاع طبقية مختلفة تماما بينها تراتب سلطوي وخضوع طرف للآخر. إن التعبير عن رأس المال والعمل بـ(س) و(ص) يخدم أيديولوجيا الاقتصاد النيوكلاسيكي جيدا لأنه يتفق مع الوهم الذي تنشره هذه الأيديولوجيا والقائل بالتساوي بين رأس المال والعمل المأجور باعتبارهما طرفين متساويين في علاقة تعاقد حرة وقانونية.
وقيما يلي زيادة أيضاح ما سبق فيما يتعلق بتطور الفكر الرأسمالي الأوروبي :
فبعد ظهور آدم سميث والمدرسة التقليدية أو الكلاسيكية استكمل كل من ذافيد ريكاردو اليهودي الأصل والنشأة والفس ما لتوس أقكار سميث . كما ساهمت فيها كتابات جون ستيواربت ميل والفرد مارشال في انجلترا، وجان باتيست وشارل جيد وشارل ليست في فرنسا . بما جعلها مدرسة انجليزية نشأت لمواكبة الثورة الصناعية التي بدأت وقتئذ فيها قبل أن تمتـد منها لألمانيا فيما بعد. وتحديدا الاستجابة لمتطلباتها . ويتلخص فكرها الذي يرجع في معظمة لدافيد ريكاردو في الآتي:
1- الفرد هو أساس النشاط الاقتصادي إنتاجا واستهلاكا وادخارا واستثمارا . وأنه يسعي لتحقيق أكبر منفعة شخصية له. فيحقق بذلك أكبر منفعة ممكنة للمجتمع . باعتبار أن المصلحة العامة هي مجموع المصالح الخاصة للآقراد في نظرهم.
2- يخضع علم الاقتصاد إلى قوانين تحكمة ومهمة الفكر الاقتصادي هي البحث عنها واكتشافها والقطـاع الرأسمـالي نظـام طبيـعي لتوافقـه مع طبيعة الأفراد ونزوعهم إلى الحرية وحبهم للتملك وسعيهم وراء المصلحة والمنفعة الشخصية.
3- تقسيم العمل ينتج مردودية إنتاجية أكبر، إلا أن هذه الإنتاجية تخضع لقانون الغلة المتناقصة بعد وصولها إلي حد معين من التشغيل.
4- قيمة السلـعة تتحـدد بقيمة العمل المبذول في إنتاجهـا . والأجر مثل باقي السلع يخضع لقانون العرض والطلب. أي إذا زاد عدد طالبي العمل عن فرص العمل المتاحة انخفضت أجورهم ، وإذا زادت فرص العمل وقلت الأيدى العاملة زادت أجور العمال.
5- التعامل بالربا من أساسيات الاقتصاد . ويعتبر سعر الفائدة في سوق الرأسمال من أهم الآليات التي تضبط توازن النظام وتحل أزماته. ويتوقف سعر الفائدة على أساس عرض وطلب الإدخار.
6- ترتبط تقلبات الأسعار في أسواق السلع ورأس المال بكمية النقد المتداولة. بمعني إذا زادت كميات النقد المتداولة عن كمية السلع المعروضة في السوق زادت أسعارها وحدث التضخم ، وإن زادت كمية السلع عن النقد انخفضت الأسعار. وبالتالي يمكن في الحالة الأخيرة التحكم في عرض السلع لزيادة أسعارها.
7- يتوقف نشاظ التجارة الدولية على حريتها وإزالة الحواجز الجمركية المعوقة لها . وتخصص كل دولة في إنتاج السلع والخدمات التي تحقق ميزة نسبية فيها.
8- ينظم الإقتصاد نفسه بأليات وفق قانون العرض والطلب بالسوق وأي تدخل من الدولة يعظل هذه الآلية ويفسد النظام.
9- إن سوق العمل ينظم نفسه بنقسه بما يحقق التشغيل الكامل للموارد البشرية بسبب التناسب العكسي بين عدد العمال وقمية الأجور المدفوعة.
10- النقود وسيلة للتبادل ومعيار لقياس القيم . ولكنها محدودة القيمة كمخزن للقيم. لأنها لا تحافظ على قيمتها بمرور الزمن.
وتعرضت هذه الأفكـار إلى انتقادات موضوعية خاصة من المفكرين الألمان كشفت عيوبها وعدم اتساقها . سواء فيما يتعلق بالقيمة ووظيفة النقود أوالتشغيل أو التوزيع . كما تعرضت الرأسماليات الغربية في ظلها لأزمات دورية طاحنة بلغت ذروتها عام 1929 . وعجزت مفاهيمها وآلياتها عن منعها ، أو إيجاد حلول لها.وبرزت في كل من أزمات النظام الرأسمالي مشكلة البظالة واحتدمت وأصبحت تهدد النظام برمته . فضلا عن التفاوت الطبقي الذي ازداد اتساعا وخطورة ، وتعرضت الرأسمالية الغربية منذ عام 1814 لتعاقب الرواج والكساد كل 11 عاما تقريبا حتي عام 1929 . وظهر على إثر ذلك ما عرف فيما بعد بالمدرسة الكلاسيكية الجديدة في محاولة ترقيعية لإنقاذ وحماية النظام الرأسمالي وإجاد علاج لأدوائه الخطيرة التي تهدد وجوده. ونحجت بالفعل في المحافظة على استمرارهوإن لم يتم هدم النظرية الكلاسيكية القديمة ، إذا تم الاحتفاظ بمعظم أفكارها. وإنما اعتبرت الجديدة بمثابة عملية ترقيع لها. وترتب العمل بأفكار المدرستين إلى عودة الأزمات الدورية التي يتعاقب فيها الرواج والكساد لدي الدول الصناعية الكبرى. ولو أنه يحدث حاليا كل 20 عاما بعدما كان يحدث كل 11عاما من قبل.
ويقول الطيب بوعزة: » في بداية السبعينيات ومع حرب أكتوبر سنة 1973 شهد الاقتصاد العالمي أزمة أخرى عقب ارتفاع سعر النفط. حيث برزت أزمة اقتصادية جديدة لم تكن معروفة بناء على ما هو معهود على مستوى الأزمات الدورية، وتتمثل جدة هذه الأزمة في اقتران التضخم بالبطالة. وهو اقتران نادر الحدوث في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي، ولم يسبق أن تمت مواجهته بالثقل الذي ظهر به.
وفي هذا الظرف الدقيق والحرج –أي ظرف الأزمة- كان لابد من انطلاق مراجعة نقدية للنظرية، وبالفعل برزت رؤى اقتصادية عملت على بلورة إطار نظري مغاير للإطار النظري الكينزي، حيث زعمت هذه الرؤى أن سبب الأزمة لا يكمن فقط في ارتفاع سعر النفط، بل في ارتفاع نفقات الدولة على الخدمات العامة التي تقدمها للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان الحل المقترح هو التقليل من هذه النفقات، والتراجع عن المقاربة الكينزية بالعود إلى المنطق الليبرالي القاضي بوجوب إطلاق الفعل الاقتصادي من كل قيد خارجي، واختزال سلطات الدولة بالتقليل من مهماتها ونفوذها، وجعل السوق كينونة مستقلة بذاتها.
إذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها المطلقة.
في بداية التسعينيات من القرن العشرين هيمنت الرؤية النيوليبرالية لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!
"ولقد كان للنيوليبراليزم حضور كبير في الفكر الاقتصادي الأميركي، وخاصة في مدرسة شيكاغو مع أتباع فريدمان، ثم بوشانان وراند ونوزيك. وستجد في فكر هايك hayek ولوباج وروزا وأفتاليون مرجعية نظرية تستلهم منها المفاهيم والرؤى المنهجية لتحليل الإشكالات الاقتصادية والسياسية.
ومما يجدر ذكره أن هذه النظرية ظهرت ابتداء في حقل "الاقتصاد السياسي"، كتنظير مرتكز على أصول فكرية كانت قد تبلورت في مدارس أوروبية مثل مدرسة لوزان التي أسسها ليون والراس leon walras، والمدرسة النمساوية التي أسسها كارل منجر، والمدرسة الإنجليزية التي أسسها وليم ستانلي جيفنز.
بيد أن التيار النيوليبرالي نجح في تجاوز الحقل الاقتصادي إلى بلورة رؤية ليس فقط للمجتمع والدولة على مستواهما القطري، بل رؤية للعالم بكل تنوعه وتعقيداته. حيث تم تبني المقاربة النيوليبرالية من قِبَلِ المنظمات الاقتصادية الدولية كـ"صندوق النقد الدولي" الذي عمل وفق هذه الرؤية على إعادة رسم اقتصاديات الدول الفقيرة بالضغط على حكوماتها لتبني اختيارات نيوليبرالية.
وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين حدث تحول كبير في الواقع الدولي، حيث انهار الاتحاد السوفياتي وباقي منظومته الاشتراكية، فتم الحديث عن إطار علائقي جديد يجب أن يسود الواقع الدولي، إطار يتسم بانفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية أمام تناقل السلع، وتقليص نفوذ الدولة، وهو الإطار الذي تم الاصطلاح على تسميته بـ"العولمة".
الأمر الذي زاد من توكيد هيمنة الرؤية النيوليبرالية، والدفع بها لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!
ـإذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها المطلقة.
"في بداية التسعينيات من القرن العشرين هيمنت الرؤية النيوليبرالية لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!»
الاقتصاد هو علم يعنى بدراسة النشاط الاقتصادي وهو فرع من فروع العلوم الإجتماعية ، وما ينشأ عن هذا النشاط من ظواهروعلاقات.وأكثر ما يهتم به الاقتصاد هو: الموارد،الإنتاج،الاستهلاك للسلع والخدمات، التوزيع، التجارة(السعر والعرض والطلب)، والمنافسة في الأسواق.
.
ومصطلح (اقتصاد) لغوياً يعني الاعتدال في النفقة وفي السلوك قال تعالى: " وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك" (لقمان،19)، وجاء في الاثر: "ما عال من اقتصد"، أي اعتدل في إنفاقه.
وقد انصرفت دلالته الاصطلاحية إلى تدبير معاش الاسرة بالموارد المتاحة، وهو ما عرف بالاقتصاد المنزلي. ثم انصرفت دلالته تاليا إلى تدبير شؤون المجتمع المعاشية بواسطة الدولة .وجاء في مختار الصحاح: "القَصْدُ بين الإسراف والتقتير يقال فلان مُقْتِصدٌ في النفقة". تعددت التعاريف لمصطلح (اقتصاد)وأعم تعريف للآقتصاد المعاصر هو تعريف (ليونيل روبنز) الذي يقول قيه: "الاقتصاد هو علم يهتم بدراسة السلوك الإنساني كعلاقة بين الغايات والموارد النادرة ذات الاستعمالات".
و الندرة: تعني عدم كفاية الموارد المتاحة لإشباع جميع الإحتياجات والرغبات الإنسانية. وغالباً ما يشار إلى الندرة بأنها (المشكلة الإقتصادية). وبمعنى آخر نجد أن المشكلة الاقتصادية هنا تدور حول الاختيار ، وما قد يؤثر بانتقاء هذا الخيار من محفزات وموارد.ولا يعترف الإسلام بندرة الخيرات على الأرض ، ولكن قد تحدث الندرة في مكان ما ، كأن يصيبه الجفاف أو التصحر ولكنه لا يعني أن امتداده الجغرافي لا توجد به ندرة في الموارد الطبيعية.
وقد ولدت الأفكار الاقتصادية مع ولادة الحضارات القديمة كالإغريقية، والرومانية والهندية مروراً بالصينية والفارسية والحضارة العربية. وقد اشتهر عدة كتاب ينتمون إلى هذه الحضارات من أبرزهم أرسطوطاليس لدى الإعريق، وشاناكيا (340 – 293 ق. م) رئيس وزراء الأمبراطور الأول لإمبراطورية (موريا) في شرق آسيا، و ابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. ويعتقد الكاتب التشيكي (جوزيف شومبيتير) أن الباحثين المتأخرين ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر هم المؤسسون الحقيقيون لـ "علم الاقتصاد". ووصف جوزيف شومبيتير”ابن خلدون “بالرائد السباق في مجال الاقتصاد المعاصر، حيث أن العديد من نظرياته الاقتصادية لم تكن معروفة في أوروبا حتى وقت قريب نسبياً. لاحقاً قامت مدرستان أقتصاديتان هما المدرسة الطبيعية (الفيزيوقراطية)، والمدرسة التجارية (المركنتلية)، بتطوير وإضافة مفاهيم إقتصادية جديدة، حيث ساهمتا في قيام "القومية الاقتصادية" و"الرأسمالية الحديثة" في أوروبا ,وكانتا بمثابة المنظرتان لتطور الآقتصاد الأوروبي في مواكبة له.
ولذا فإن علم الاقتصاد الرأسمالي المعاصريعد من حيث الفكر، ومن حيث التطبيق، صناعة أوروبية خالصة من حيث النشأة والموضوع. وتاريخ هذا العلم هو تاريخ كل فروع المعرفة الاقتصادية الإوروبية . والأوروبيون عندما كتبوا تاريخ هذا العلم كتبوه من منظور رؤياهم لأحداث التاريخ الأوروبي ، ومن منظور مساهمة مفكريهم، ومن منظور تطورهم الاقتصادي. و تعكس كل مقولاته أيضا التراث الديني والفكري للأوروبيين..ولاتوجد فيه مساهمات لأمم أخرى ،فيما عدا ما يمكن أن يكون قد أخذوه من إبن خلدون وأضفوا عليه كالصبغة الأوروبية حيث نجد أن مفهوم فائض القيمة واعتبار قيمة السلعة هو قيمة الشغل المبذول في انتاجها جاء في مقدمة ابن خلدون في عبارةوجيزة تحولت عند كارل ماركس الي كتاب بعنوان : رأس المال. وقد تم تقسيم مراحله المتعاقبة على أساس أحداث ومتغيرات أوروبية،وهولذلك بكل مقولاته، وبكل أحداثه، وبكل مفكريه صيغ من منظور رؤية الأوروبيين لأحداثهم الدينية والفكرية والاجتماعية.
و مرعلم الاقتصاد في مراحل عديدة شهدت كل مرحلة منها ظهور أجدي مدارسه على النحو التالي:
1- مذهب أومدرسة التجاريين: أو(المركنتليةMercantilism ظهرت في اواخر القرون الوسطى واستمرت حتي منتصف القرن الثامن عشر حيث احتلت التجارة المكان الاول في التفكير الاقتصادي وكانوا يرون ان مركز الدولة وقوتها مرهون بمقدار ما تملكه من معادن نفيسه من الذهب والفضة ولذا انحصر اهتمامهم بهما، وبتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.و النظام المركنتلي التجاري ، هو نظام اقتصادي نشأ في أوروبا خلال تقسيم الإقطاعيات لتعزيز ثروة الدولة وزيادة ملكيتها من المعدنين الذهب والفضة عن طريق التنظيم الحكومي الشامل لكامل الاقتصاد الوطنى وانتهاءا في سياسات تهدف إلى تطوير الزراعة والصناعة وإنشاء الاحتكارات التجارية الخارجية.وكانت الحاجة لتصفية الاقطاع سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية تمليها الحاجة الي توفير العمالة الرخيصة ورءوس الأموال للتجارة والصناعة وقد اتخذت تلك الحركة في أمريكا الشمالية شكل الحرب الأهلية بين الشمال ذي الصناعات الناشئة والجنوب الزراعي وإن إعطيت طابعا انسانيا متمثلا في تحرير العبيد , وفي حقيقة كانت الحاجة الي استغلال الحهد البدني للعبيد في الصناعة بأقل تكلفة ممكنة هو الباغت لتحريرهم وليس الوازع الانساني .
ويعتبر أنطوان دي مونكرتيان ( Antoine de Monchretien) أول مؤسسي هذه النظرية من فرنسا بكتابه “الاقتصاد السياسي “عام 1615م، و أول من نفذها في فرنسا كان كولبير ( Colbert) حيث عمل على تشجيع الصناعة وأتخذ الكثير من الأجراءات التي تؤدي إلى تحسين النوعية. كما عمل على إنشاء مصانع نموذجية لكي يقتدى بها الأفراد حتى سميت هذه السياسة بأسمه( colbertism). وكان مما ساعد ترويج هذه السياسة هو نظام الطوائف الذي كان معمولا به آنذاك. والذي يفترض عدم أرتقاء العامل من مهنة إلى أخرى إلا بعد أن يمضي فترة من التدريب.
أما في بريطانيا فقد أشتهر من تلك المدرسة تشلد( Sir Josiah Child)، وتمبل ( Sir william Temple)، ودافينا ( Chnlec Doverant)، وتوماس مان ( Thomas Mun)، وفي أيطاليا أشتهر الكاتب أنطونيو سيرا (Antonio Serra).
وتقوم سياسة التجاريين (المركنتلية) التي تستهدف الحصول على أكبر قدر من المعدنيين الذهب والفضة والأحتفاظ به أو زيادته على وسيلتين رئيسيتين يمكن تلخيصها بما يلي:
الوسيلة الأولى: السياسة المعدنية(Bullion Policy): وهي التي أعتمدها فلاسفة التجاريين (المركنتليين) في آخر القرن الخامس عشر واوائل القرن السادس عشر وتنحصر بالآتي:
1. منع تصدير الذهب والفضة إلى الخارج للحفاظ عليه من التسرب. وقد أتبعت ذلك كل من أسبانيا والبرتغال.
2. إلزام المصدرين بأستحصال مقابل حصيلة الصادرات (ذهبا أو فضة)، وإلزام المستوردين مقايضة السلع المستوردة بسلع وطنية.
3. تشجيع المصارف (البنوك) لمنح فائدة مرتفعة على الودائع الأجنبية.
4. قبول النقود الذهبية والفضية بأكثر من قيمتها.
الوسيلة الثانية: وهي التي راجت في القرن السابع عشر وأعتمدت الميزان التجاري الموجب الذي يكون في صالح الدولة لأدخال الذهب والفضة في البلاد. ولكي يكون الميزان التجاري موجبا (أي لصالح الدولة) فيجب العمل على زيادة الصادرات وتقليل الواردات بحيث يدفع الفرق بينهما ذهبا.
ولتحقيق ذلك يترتب أتباع السياسات التالية:
1. الأخذ بنظام الحصص بالنسبة لأستيراد بعض السلع.
2. فرض قيود نوعية على بعض الأنواع من المنتجات المستوردة.
3. حصر عمليات النقل على البواخر ووسائط النقل الوطنية.
4.تجويد النوعية والأخذ بمبدأ المنافسة عند التصدير.
ولم تكن سياسة التجاريين تعمل لصالح الزراعة وذلك بسبب ما كانوا ينادون به من ضرورة تقليل كلف المنتجات الزراعية لأجل الأقلال من أجور العمال. ولهذا السبب واجهت الزراعة في ذلك الوقت الكثير من المصاعب وهجرها أهلها للأشتغال بالصناعة. غير أن بعض التجاريين وخاصة في فرنسا وأيطاليا، ظلوا على أهتمامهم بالزراعة إلى جانب الصناعة. ولم يخلوا مذهب التجاريين من أنتقاد شديد، فقد هاجمه الكثير من الكتاب الأنكليز آنذاك ومنهم دولي نورث ( Sir Dudiey North)، في كتابه (Discourses Upon Trade)، الذي نشر عام 1691م، وكذلك وليام بيتلي ( Sir william Petly)، مؤلف كتاب الحساب السياسي (Political Arithmetic)، الذي وضعه عام 1671م، ونشر عام 1691م، وكذلك دايفيد هوم(David Hume).
2- مدرسة الطبيعيين أو الفيزيوقراط: نشأ. المذهب الطبيعي في فرنسا في القرن الثامن عشرو جاءت هذه المدرسة فاكدت على الحرية الاقتصادية والحد من تدخل الدولة باعتبار ذلك يتفق مع القانون الطبيعي . ويؤكد علماء وفلاسفة هذه المدرسة على النشاط الزراعي واعتبار الارض مصدراً اساسياً لانتاج الخيرات التي يحتاجها المجتمع الانساني . ويعتبرون الصناعة والتجارة من الانشطة العقيمة باعتبارها غير منتجة لها.
وزعيم هذا المذهب هو الدكتور فرنسوا كيناي، (1694 - 1778)، (Quesnay)، طبيب لويس الخامس عشر، ومن أنصاره مرسييه دلاريفير (Mercier De La Riviere)، وميرابو (Murabeau)، وديبون دي تيمور (Dupont de Nemours)، وأطلق عليهم الطبيعيون، لأعتقادهم بسيادة القوانين الطبيعية، وقد أنتقدوا مذهب التجاريين (المركنتلية) الذين أعتبروا ثروة الأمم أنما تقاس بما تملكه من معادن نفيسة (الذهب والفضة)، وقالوا بان هذين المعدنين ليسا غاية النشاط الاقتصادي وانما هما وسيلة لتحقيقه.
وتقوم مباديء الفيزيوقراطية على الآتي:
• الأعتقاد بوجود نظام طبيعي (Natural order)، يستمد قواعده من العناية الآلهية ،وهي ليسـت مـن صنـع البشـر.وإن هـذه القـواعد أوالقوانـين ، باعتبارها حاكمة لكل نشاط حيوي ، يمكـن أن تسـري مـن تلقـاء نفسها دون تدخل الانسان.
• أساس النظام في المذهب الطبيعي هو الملكية الفردية، والحرية الاقتصادية فيما يتطبه العمل الاقتصادي وتنقل السلع والأفراد ورؤوس الأموال ولذا كان شعارالطبيعيين (الفيزوقراط) هو :" دعه يمر دعه يعمل” (Laissey Passer, Laissey Fair).
• العمل الزراعي هو العمل المنتج الوحيد ، والزراعة هي التي تغل ناتجا صافيا، وإن صناعة والتجارة هما عبارة عن أعمال خدمية غير منتجة.
وكانوا يسمون التجار والصناع وأرباب المهن بالطبقة العقيمة غير المنتجة، لأنها لا تخلق ثروة جديدة، ولهذا فإن أهم ما ترتب على نظريةالفيزوقراط هو فرض الضرائب. فطالما إن الأرض هي مصدر الثروة فيجب أن تقتصر عليها الضريبة فحسب.
وبينما كان المذهب الطبيعي ينسب للأرض القيمة الاقتصادية الكبرى، أعطى المذهب الكلاسيكي فيما بعدهذه القيمة للعمل، وليس مرد ذلك إلى الانتقال من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي فحسب، بل يعبرأيضا عن رغبات الطبقة الجديدة في فرض نفوذها المالي على المجتمع، وتستأثر بالعمال الذين كانت غالبيتهم تعمل في الزراعة.
3- مدرسة التقليديين أو المدرسةالكلاسيكية:وهي امتداد للمدرسة الطبيعية وضع قسم كبير منها :آدم سميث، ويعتبر ريكاردو من كبار مفكريها وهي ترى ان النظام الطبيعي يسيطر على الظواهر الاقتصادية ولكن اكثر ما يقود الانسان في تصرفاته هو المنفعة الشخصية فهي تدافع بقوة عن الحرية الاقتصادية واعتبرت ان قوة الدولة ليست فيما تملكه من ذهب وفضة وانما بمقدار ما تملكه من قوة عاملة وانتاج وهي تؤمن بربط المصالح الخاصة مع المصلحة العامة. ولقد أخذالاقتصاد بالتبلور في صيغته الحالية كفرع علمي مستقل منذ أن قام آدم سميث بنشر كتابه الشهير ثروة الأمم عام 1776. ويعرّف آدم سميث في كتابه مصطلح الاقتصاد السياسي بأنه أحد فروع علم السياسة والتشريع، ويهدف إلى أمرين أساسيين: الأول، تزويد الأفراد بكمية كافية ومستمرة من المنتجات، أو العمل على جعلهم قادرين على توفير هذه المنتجات بشكل متواصل، والثاني، تزويد الدولة أو إثراء كل من الأفراد والحكومات. وقد حدد كتاب ثروة الأمم عوامل الإنتاج بكل من الأرض، قوة العمل، ورأس المال، واعتبر أن هذه العوامل الثلاث هي التي تشكل جوهر الثروة التي تمتلكها الأمة.
ومن وجهة نظر آدم سميث، فإن الاقتصاد المثالي، هو نظام سوق ذاتي التنظيم (elf- Regulating Market System) حيث يقوم هذا النظام بإشباع حاجات الأفراد الاقتصادية تلقائياً "أوتوماتيكياً". وقد وصف "سميث" آلية عمل السوق بـ"اليد الخفية" التي تحث الأفراد على العمل على إشباع حاجاتهم الشخصية وبالتالي تحقيق أكبر منفعة ممكنة للمجتمع ككل. في كتاباته، أخذ "آدم سميث" بعض أفكار ونظريات المدرسة الطبيعية في الاقتصاد "الفيزيوقراطية" ودمجها مع نظرياته، إلا أنه رفض الفكرة التي نادى بها الفيزيوقراطيون والقائلة بأن الأرض (الزراعة) فقط هي مصدر الإنتاج والثروة.
وقد اعتبر أن نشر كتاب ثروة الأمم للكاتب آدم سميث اعتبر بمثابة نقطة البداية لولادة علم الاقتصاد كفرع علمي منفصل ومتخصص.
4- المرحـلة الحديثة: يهتم المفكرون بهذه المرحلة بالاضافة الى ما سبق بمشاكل التنمية والبطالة ومعالجة الاوضاع الاقتصادية وكذلك ظواهر التضخم والكساد وطرق معالجتها فضلاً عن السياسات النقدية والمالية. وتضم المدارس الاقتصادية التالية:
لمدرسة النمساوية:
وهي مدرسة للفكر الاقتصادي ترفض الاعتماد الحصري على أساليب تُستخدم في العلوم الطبيعيّة لدراسة عمل الإنسان، وتقوم بدلاً من ذلك ببناء تكوينها الخارجي للاقتصاد على علاقات تتم عن طريق المنطق. إن أشهر المناصرين لها هم كارل مينجر، ويوجين فون بوم-بافيرك، وفريدرك فون فايزر، ولودفيغ فون ميزس، وفريدرك فون هايك، وإزرائيل كيرزنر. لقد كان للمدرسة النمساوية نفوذاً واسعاً بسبب تأكيدها على الطـور الإبداعـي للإنتاجية الاقتصادية وعلى تشكّكهم في أساس النظرية السلوكية التي تشكّل أساس الاقتصاد التقليدي الجديد. وترتبط المدرسة النمساوية بوجه عام بالليبراليين الكلاسيكيين أو الليبرتاريين في أفكارهم حول النظام الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي.
النظريات المنبثقة عن المدرسة النمساوية:
يوضح الأستاذ أشرف منصور النظريات التي انبثقت عن المدرسة النمساوية وتم تبنيها في أوروبـأ والولايات المتحدة الأمريكية ، على النحو التالي:
.النظرية الذاتية في القيمة:
إن أهم ما يميز المدرسة النمساوية في الاقتصاد السياسي عما سبقها من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ونظرية العمل في القيمة Labor Theory of Value نظريتها الذاتية في القيمة Subjective Theory of Value والتي تتمثل في القول بأن القيمة يمكن أن تحدد من خلال إدراك الفرد وتقييمه على أساس ما يعود عليه من منفعة، وبذلك ربطت بين القيمة والمنفعة الفردية، وكان هذا الربط بداية لظهور المنظور الذاتي للقيمة والذي استمر ملمحا أساسيا لدى الاتجاه النيوكلاسيكي كله. ويتضح من هذه النظرية الجديدة في القيمة أن المدرسة النمساوية تعود إلى أفكار ومسلمات الليبرالية التقليدية؛ ومن العجيب أن تتم العودة إلى ذلك الإطار الفكري الليبرالي القديم الذي تعرض للنقد طوال القرن التاسع عشر وخاصة لتجلياته في النظريات الاقتصادية على يد ماركس، إلا أن الليبرالية التي كان يعتقد أنه قد فات أوانها كانت تقدم خدمة علمية للمدرسة النمساوية متمثلة في تمكينهم من التعامل مع نظرية النقد Money Theory في استقلال تام عن أي إحالات أو متضمنات ماركسية أو اشتراكية. كذلك يقدم لهم ذلك الإطار الليبرالي الذي كان يعتقد أنه قد فات أوانه بخدمة أيديولوجية تمكنهم من التوصل إلى النتيجة التي يهدفون إليها وهي أن السوق هو المحدد الأساسي للعملية الاقتصادية.
تقدم لنا المدرسة النمساوية نماذج عديدة لنظريات اقتصادية مستقلة تماما عن مفاهيم الطبقة والصراع الطبقي ومفهوم العمل باعتباره مصدر كل قيمة والسائد لدى الماركسية والاقتصاد الكلاسيكي على السواء ابتداء من آدم سميث مرورا بريكاردو وحتى جون ستيوارت ميل. وعلى العكس من ذلك تأخذ المدرسة النمساوية المستهلك الفرد باعتباره الوحدة الأولى في تحديد القيمة، وهذا ما يمكنها من التميز عن الكلاسيك والماركسيين في نفس الوقت، ويمكنها كذلك من إقامة نظرية في السوق باعتباره مركز العملية الاقتصادية.
تتضح النظرية الذاتية في القيمة ابتداء من أعمال كارل منجر مؤسس المدرسة. يذهب منجر إلى أن ما يحدد القيمة ليس الشئ النافع أو السلعة ذاتها بل علاقة الفرد بها، وهذه العلاقة تدخل فيها محددات كثيرة مثل الفرص المتاحة للحصول عليها والمعلومات المتوافرة للفرد عنها. القيمة عند منجر علاقة بين الأفراد والسلع؛ ومعنى هذا أنه يحدد القيمة باعتبارها قيمة استعمالية ويحدد القيمة التبادلية للسلع على أساس استعمالها أو فائدتها. هذه النظرية تمكن المدرسة النمساوية والاتجاه النيوكلاسيكي كله من تجاوز قضية القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المادة الخام في إنتاجه للسلعة، ذلك لأنهم يؤسسون القيمة، التي يفهمونها على أنها هي السعر، على فائدتها الاستعمالية متجنبين بذلك القيمة الأخرى الزائدة التي لا تتلقى العمالة المنتجة لها أجرا مقابلها. عندما تساوي بين القيمة الاستعمالية للسلعة بقيمتها التبادلية وتنظر إلى هذه الأخيرة على أنها سعر السلعة فكأنك بذلك تقول أن سعر السلعة وقيمتها هي ذاتها فائدتها للمستهلك؛ وبذلك تلغي علاقة أخرى بين السلعة ومنتجيها المباشرين وما يضفون عليها من قيمة زائدة بفضل عملهم على المادة الخام.
وتعد النظرية الذاتية في القيمة هي السبب وراء نجاح المدرسة النمساوية في بداياتها ووراء عودة الاهتمام بها في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك لأنها كانت جذابة بالنسبة للاقتصاديين الانجليز والأمريكان، إذ جعلتها نظريتها الذاتية في القيمة أداة نظرية ناجحة وفعالة في إقامة اقتصاد سياسي للمستهلك وللسوق الاستهلاكية، وهو ما يناسب الطموحات العلمية لأساتذة الاقتصاد الراغبين في إقامة نظريات اقتصادية في تجنب للاقتصاد الماركسي. فعندما حدد منجر القيمة بمعايير ذاتية واستهلاكية وأدخل فيها مفاهيم التفضيلات والقرارات الفردية والفرص المتاحة أمام الأفراد..إلخ، أصبح من الواضح أنه يقيم نظرية في القيمة على أساس معيار السوق الاستهلاكي.
أما يوجين فون بوم بافرك Eugen Von Bohm-Bawerk (1851-1914) فهو يعد الشخصية الأهم في المدرسة النمساوية بعد منجر وفيزر، وقد أكمل عملهما في وضع نظرية ذاتية في الفيمة. وما دفعه لوضع مثل هذه النظرية اعتقاد منهجي لديه بأننا إذا أردنا فهم الاقتصاد الكلي ووضع نظرية اقتصادية عامة فيجب أن نبدأ بما هو بسيط وأولي، والبسيط والأولي عنده هو المستهلك، ذلك لأن القيمة محددة عن طريقه. ويتضح من ذلك أن الأساس المنهجي لبوم بافرك هو الفردية المنهجية Methodological Individualism والتي تميز الاتجاه النيوكلاسيكي كله، مضاف إليها نزعة تحليلية وذرية تجعله يبدأ بالقيمة الذاتية باعتبارها بسيطة وأولية. والحقيقة أن البساطة والأولية التي يدعيها بوم بافرك زائفة، لأن القيم الذاتية تحددها عوامل موضوعية. ليس التقييم الفردي والاستهلاكي للسلع متغيرا مستقلا نستطيع الاعتماد عليه في تأسيس نظرية اقتصادية بل هي مشروطة دائما بعوامل أخرى تحدد السلوك الاستهلاكي للأفراد وتفضيلاهم السلعية.
تظهر نظرية القيمة لدى النمساويين على أنها تعطي الأولوية للقيمة الذاتية واختيارات وتفضيلات المستهلك والمنتج الصغير، إلا أنها في حقيقتها طريق جانبي لتناول إشكالية السلع. إن ما يهم النيوكلاسيك حقيقة هو السلع ووضعها في السوق، وهم يتحدثون دائما عن القيمة الذاتية التي هي تفضيلات واختيارات المستهلك وهم في الحقيقة بقصدون السلع وأسعارها. إنهم لا يهتمون بالمستهلك كما يظهر من أعمالهم بل بالسلعة وكيفية تحديد سعرها، ولا ينشؤون نظرية ذاتية في القيمة إلا رغبة منهم في الربط بين سعر السلعة وآليات العرض والطلب في السوق باعتبارها المحدد النهائي للسعر، وهم بذلك يحذفون العوامل الأخرى في تحديد القيمة مثل القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المنتج.
2. نظرية المنفعة الحدية:
أقام النيوكلاسيك على أساس نظريتهم الذاتية في القيمة نظرية أخرى عرفت بنظرية المنفعة الحدية Marginal Utility Theory وتذهب إلى أن أول وحدة من السلعة تحوز على أعلى قيمة، إذ يكون الاحتياج لها شديدا وبالتالي يكون سعرها أعلى، ويقل احتياج الفرد مع الوحدة الثانية والثالثة من نفس السلعة، وبالتالي تقل قيمة كل وحدة زائدة حتى نصل إلى وحدة أخيرة تحوز على أقل نفع وبالتالي أقل سعر ممكن تصوره. ويقول النيوكلاسيك إن الإنتاج ينظم حسب أقل سعر وفقا لهذه النظرية. لكن يخلط النيوكلاسيك بذلك مجال الإنتاج مع مجال التوزيع. إن نظرية المنفعة الحدية يمكن أن تكون صحيحة ونافعة لتاجر التجزئة، لكنها لا تصلح أساسا لصياغة نظرية اقتصادية. إنها تصلح لتفسير سلوك البقال، لكنها لا تصلح لتفسير سلوك المنتج. صحيح أن فائدة الوحدات المتتالية لنفس السلعة تتناقص، لكن هذا لا ينطبق إلا على المستهلك وفي حالات خاصة، ولا ينطبق على المنتج.
تعطينا نظريات النمساويين وهما بأنهم يعطون الأولوية للقيمة الاستعمالية (الفائدة والنفع الفردي الاستهلاكي) ويلحقون بها القيمة التبادلية (سعر السلعة في السوق)، وهم بذلك كأنما يصدرون وعدا بألا يعاملوا السوق على أنه مجرد وسيط للحصول على قيمة تبادلية وحسب، أي على أرباح وتراكم رأسمالي بالتالي، بل على أنه كذلك وسيلة لإشباع حاجات الأفراد. وهم بذلك إنما يحاولون وضع بديل عن التحليلات الماركسية للقيمة الزائدة التي تختفي تماما من أعمالهم اختفاء مقصودا ومنهجيا، نظرا لأن مناقشة قضية القيمة الزائدة سوف يجرهم رغما عنهم إلى الأرضية الماركسية، وهو ما كانوا يتجنبونه بحذر.
وقد تعرضت هذه النظرية لنقد حاد على يد عالم الاقتصاد والاجتماع الأمريكي ثورشتاين فبلن. يذهب فبلن إلى أنه إذا كانت كل وحدة جديدة من نفس السلعة تقل في منفعتها عن الوحدة السابقة لدى المستهلك، فإن المنتج تزيد لديه قيمة كل عنصر جديد مضاف لعملية الإنتاج. لكن يطبق النيوكلاسيك المنفعة الحدية على الإنتاج ويقيمون نظرية في الإنتاج الحدي، ويعتقدون أن كل عامل مضاف إلى العمال السابقين يكون إسهامه أقل في الإنتاج وبالتالي يكون أجره أقل، وهم بذلك يبررون خفض الأجور بحيلة نظرية. في العالم الحقيقي يتم خفض الأجور لا لأن إسهام العامل المضاف يكون أقل من سابقه بل للمحافظة على هامش ربح مناسب لرأس المال. ويتم التعبير عن المحافظة على الأرباح في علم الاقتصاد لا بنفس الاسم الصريح بل بإسم آخر يصرف النظر عن الربح ويوجه الانتباه للسعر، إذ تصبح "المحافظة على الأرباح" "محافظة على الأسعار" Maintaining Prices ، لأن المحافظة على الأسعار السائدة يضمن المحافظة على الأرباح التي حددها رجال الأعمال.
يكشف فبلن عن مسلمة ضمنية في نظرية المنفعة الحدية بتناوله لصيغتها لدى المدرسة النمساوية وخاصة لدى مؤسس المدرسة كارل منجر، إذ افترضت أن المنتج بائع مباشر للمستهلك، والشاري مستهلك مباشر وأخير للسلعة. وهذا في نظر فبلن يلغي دور السوق وينظر إلى المعاملات النقدية على أنها مجرد وسيط للتبادل، وبالتالي تأتي نظرية المنفعة الحدية وتقول إن سعر السلعة، بما يتضمنه هذا السعر من تكاليف إنتاج، يتحدد بالقياس على أقل سعر لآخر وحدة منها، وأقل سعر هو أقل ما يمكن أن يدفعه المستهلك فيها، وهي بذلك تفترض أن المنتج هو الذي يباشر عملية البيع مباشرة للمستهلك، وهذا غير صحيح. هذا الإلغاء للسوق باعتباره وسيطا بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير يتم على مستوى النظرية فقط والواقع عكس ذلك تماما.
لكننا نستطيع تطوير وجهة نظر فبلن هذه ونقول إن الاحتكار يعمل على اختزال المسافة بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير، لأنه يعمل على السيطرة على كل مراحل دوران السلع، فالاحتكار هو أن يسيطر المنتج، الذي هو الشركة الاحتكارية، على السوق وعلى حركة النقود، والسيطرة الاحتكارية على السوق تعني إلغائه باعتباره مجالا محايدا لتحديد السعر، وتعني كذلك أن يمارس المنتج الاحتكاري دور تاجر التجزئة ولا يترك أي مرحلة في دورة السلع لغيره؛ ولذلك لاقت نظرية المنفعة الحدية رواجا مذهلا ابتداء من العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، وهي نفس فترة ظهور الاحتكارات، لأن هذه النظرية تخدم الاحتكار جيدا بكشفها عن مبدأ جديد لإدارة السوق والسيطرة عليه، فهي تلغي السوق المحايد على المستوى النظري بإعطائها توجيها للمنتج بكيفية تحديد سعره إذا أراد أن يسيطر على السوق. لقد ألغت المسافة بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير على مستوى النظرية، وكان هذا الإلغاء هو ما تحاول الاحتكارات الناشئة القيام به بالفعل، وبذلك تلاقت النظرية مع الواقع في نوع من التشابه العضوي أو المختار Elective Affinity . ولذلك تبنى علم الاقتصاد السائد تلك النظرية وهو مدعم بسند واقعي مما كان يحدث بالفعل. لا يمكن أن تُلغى المراحل الوسيطة بين المنتج والمستهلك إلا في ظل السيطرة الاحتكارية عليها، أي على السوق. وهكذا أصبحت نظرية المنفعة الحدية هي الأداة النظرية والحسابية الأساسية لعلم الاقتصاد المعاصر الذي هو اقتصاد احتكارات في الأساس.
تعبر نظرية المنفعة الحدية عن الوعي العام الشائع لرجال الأعمال، إذ يمكن التعبير عنها بكلمات عامة كما يلي: المنتج ينتج سلعا بهدف الربح، لكنه يحسب هذا الربح على أساس القدرة الشرائية للمستهلك، وكلما كان المستهلك مستعدا لدفع سعر أعلى في السلعة كان ربح رجل الأعمال أعلى؛ ويستعد المستهلك لدفع سعر أعلى في السلعة كلما كان أكثر احتياجا لها. وأخشى ما يخشاه رجل الأعمال هبوط الأسعار لأنه يعني هبوط أرباحه، وهبوط الأسعار يأتي من زيادة عرض السلع، وبالتالي يمنع رجل الأعمال هبوط الأسعار بحبسه للإنتاج والسيطرة عليه. ولأن هدف رجل الأعمال الربح فإن القضية التي تشغله هي أقل سعر يمكن أن تباع به السلعة في السوق. ولأن السوق حر ويسير نفسه بنفسه فيجب بالتالي البحث عن السبب الذي يجعل سعر السلعة يهبط إلى أدنى حد لها. وأدنى حد لسعر السلعة هو أدنى حد لاحتياج المستهلك لها. عندما لا تكون سلعة معينة نافعة للمستهلك فلن يشتريها أصلا، وبذلك لن تتصف تلك السلعة بالمنفعة الحدية لأنه ليس لها نفع من البداية؛ سلعة المنفعة الحدية هي السلعة ذات المنفعة لكنها المنفعة القليلة للغاية التي تؤدي إلى هبوط أسعارها.
وهنا تتحول النظرية الاقتصادية إلى الرياضيات؛ فعن طريق المسائل الرياضية والرسوم البيانية وخطوطها المنحنية الصاعدة والهابطة توضح النظرية اتجاه الأسعار نحو الصعود أو الهبوط بالتناسب مع الكمية المعروضة من السلع والطلب عليها، ذلك الطلب الذي هو الاسم الآخر للمنفعة الحدية. وهنا بالضبط يكمن خطأ الاقتصاد النيوكلاسيكي، لأن المنتج في العالم الحقيقي لا ينتج سلعته ويبيعها حسب منفعتها الحدية، أي حسب أقل سعر لها في السوق. إن المنفعة الحدية هي الكارثة التي يتجنبها المنتج باستمرار لأنها تعني أقل سعر لسلعته وبالتالي تقلص واختفاء هامش ربحه، إذ يمكن أن تصل المنفعة الحدية للسلعة إلى أقل من سعر إنتاجها. تعبر نظرية المنفعة الحدية عن النقطة التي يخسر عندها رجل الأعمال، وكأنها تقول له: "هنا تخسر ولذلك تجنب الوصول إلى هذه النقطة"، ويتم تجنب الوصول إلى المنفعة الحدية بحبس الإنتاج خوفا من أن يؤدي الإنتاج الوفير إلى هبوط في الأسعار. إن نظرية المنفعة الحدية هي في حقيقتها توجيه لرجال الأعمال.
3. نظرية سلوك المستهلك:
على أساس النظرية الذاتية في القيمة أقام النيوكلاسيك نظرية أخرى عرفت بـ"نظرية سيادة المستهلك" Consumer Sovereignty ، والتي تعرف أيضا باسم "نظرية سلوك المستهلك" Consumer Behavior ، وتنص على أن الهدف النهائي لنظام الإنتاج هو بيع السلعة للمستهلك، وبذلك يكون هو النقطة الأخيرة والمحطة النهائية لكل العملية الاقتصادية. والسعر يتحدد بناء على درجة احتياج المستهلك للسلعة، وبالتالي تتحدد تكاليف الإنتاج بناء على السعر الذي يقبل أن يدفعه المستهلك. المستهلك بقراره الشرائي هو الذي يحدد كل عملية الإنتاج، وبذلك تكون له السيادة • .
الحقيقة أن المستهلك في ظل الإنتاج الصناعي ليست له تلك السيادة المدعاة، لأنه مجبر على تطويع احتياجاته مع ما يطرحه الإنتاج، إذ تتعرض السلع الاستهلاكية لتوحيد المقاييس Standardization ، وعلى المستهلك أن يتكيف معها، وسلوكه تابع دائما لهذه العملية ولكل تجديد أو تغيير في السلع، وليس سلوكه مستقلا أبدا تجاه الانقلابات التي تحدثها فنون الإنتاج على السلع. يقول فبلن عن السلع: "إن درجتها ودوامها ومستواها وتتابعها ليست مسألة اختيارية لدى الأفراد، بل إن العملية الإنتاجية هي المتحكمة في ذلك، إذ تجبر السلع وبالتالي منتجيها ومستهلكيها معا على الالتزام بمقاييس واحدة.. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة من التنميط والتحول الآلي لتفاصيل الحياة اليومية". لا معنى بعد ذلك للحديث عن حاجات بشرية أولية سائدة لدى كل الأفراد، فالحاجات أصبحت خاضعة لما تقدمه الصناعة من سلع.
إن فكرة سيادة المستهلك خرافة، لأن السيادة الحقيقية للمؤسسة الاحتكارية وما تنتـجه من سلع. ليس المستهلك سوى نتاج الممارسات التسويقية للشركات من دعاية وإعلان وما يصاحبها من دراسات في علم النفس وعلم التسويق. عندما يتحدث النيوكلاسيك عن سيادة المستهلك ويتخذونه النقطة الأساسية للتحليل الاقتصادي فهم بذلك يسيرون في نفس الطريق الأيديولوجي الذي رسمه النظام الرأسمالي، إذ يتم نفاق المستهلك وإيهامه بأنه هو السيد. إن اتخاذ المستهلك عنصرا أساسيا في التحليل يعني أن النيوكلاسيك قد أخذوا صنيعة أيديولوجية زائفة للنظام الرأسمالي كمبدأ في التحليل. صحيح أن المستهلك موجود بالفعل، وصحيح أن سلوكه قابل لأن يقاس ويحلل، إلا أنه السطح الظاهري الأيديولوجي للمجتمع الرأسمالي كما ذهب ماركس من قبل، لا حقيقته الباطنة.
ويوضح فبلن أن نظرية سلوك المستهلك تكشف عن التحيز الفردي للاقتصاد النيوكلاسيكي ونزعته النفعية، ويقول في ذلك: إن نظرية دقيقة للسلوك الاقتصادي لا يمكن استقائها من الفرد ببساطة، حتى للأغراض الإحصائية –كما هو الحال في اقتصاديات المنفعة الحدية- لأنها لا يمكن أن تـُستنج بمفردات الطبيعة البشرية؛ ذلك لأن الاستجابة التي تشكل السلوك الإنساني تحدث في ظل معايير مؤسسية (إجتماعية) وتحت مثير ذي طابع مؤسسي". ينقد فبلن في هذا النص الآتي:
1. رد الأداء الاقتصادي إلى سلوك الأفراد.
2. النظر إلى سلوك الأفراد على أنه يصدر عن طبيعة بشرية سابقة في وجودها على المجتمع ومؤسساته.
3. تصوير هذه الطبيعة البشرية على أنها نفعية وأنانية.
4. تجاهل السياق المؤسسي أو الاجتماعي الذي يشرط السلوك الفردي ويشكل له مثيرا.
5. اعتماد سلوك الأفراد باعتباره دالة إحصائية بحجة أنه يمكن حصره وقياسه، حيث يقام على هذه الدالة نظرية في الأداء الاقتصادي لمجتمع بأكمله.
وبناء على أن سلوك المستهلكين يمكن حصره وقياسه فقد وجدت ظاهرة ترييض الاقتصاد Mathematization of Economics طريقها لعلم الاقتصاد الحديث. إن هذه الظاهرة مستندة هي الأخرى على أيديولوجيا سلوك المستهلك. إذا كان المستهلك يكشف في سلوكه عن انتظام ما يمكن حصره وقياسه والتعبير عنه بالأرقام ولغة المعادلات الرياضية فما ذلك إلا لأن سلوكه خاضع هو نفسه للتقنين والسيطرة الإعلامية ولنظم إدارة السوق في الشركات الكبرى. هذه النظم تضع للأفراد قواعد تفرض عليهم قيامهم بسلوك المستهلك، وبالتالي فليس سلوك المستهلك مبدأ أوليا يمكن الانطلاق منه للتحليل الاقتصادي، لأنه نتاج النظام الذي ينبغي دراسته.
ما لم ينتبه إليه النيوكلاسيك وهم يصوغون نظرية سلوك المستهلك أن هذا المستهلك هو في نفس الوقت منتج، إنه ينخرط في إنتاج نفس السلع التي يستهلكها. فسواء كان المرء منشغلا بعمل إنتاجي أو خدمي فهو يساهم بنصيب في مجموع ثروة المجتمع كله، لأن العمل في ظل العصر الصناعي عمل اجتماعي يسهم فيه الكل. الفرد منتج ومستهلك في نفس الوقت، لكن يعتم علماء الاقتصاد على هذه الحقيقة ويعزلون جانب الإنتاج عن الفرد ولا يركزون إلا على كونه مستهلكا، أي يستبعدون ثلاثة أرباع ساعات يقظة المرء التي يقضيها في الإنتاج ويركزون على الساعة الواحدة التي يكون فيها مستهلكا. إذا نظرنا إلى أفراد المجتمع على أنهم منتجين ومستهلكين في نفس الوقت فسوف يتبين أن من حقهم نصيبا أكبر من السلع التي ينتجونها، لأن ما يحصلون عليه من سلع لا يتناسب مع الكمية التي ينتجونها.
وعلى أساس نظرية سيادة المستهلك يقيم النيوكلاسيك نظرية أخرى في سلوك المنتج، وتتضح هذه النظرية ابتداء من بوم بافرك، إذ يذهب إلى أن نفس القواعد التي تحكم المنتج هي التي تحكم المستهلك، والسبب أن المنتج ينتج السلع التي يستهلكها المستهلك ويقيمها ويحدد أسعارها بسلوكه الشرائي. وهذا أسلوب مراوغ لإعطاء الأولوية لنظرية القيمة الذاتية. الحقيقة أننا بالربط بين سلوك المنتج وسلوك المستهلك إنما نقف على السطح الظاهري للمجتمع الرأسمالي، ففي هذا المستوى الظاهري نجد أن المنتج ينتج بالفعل تلك السلع التي يستعد المستهلك لدفع سعرها، وهذا مستوى جزئي في التحليل لا يصلح إلا لوصف سلوك المنتج الصغير وللإنتاج السلعي في كل نظام اقتصادي سابق على الرأسمالية. أما الإنتاج السلعي في النظام الرأسمالي فلا يحتل فيه المستهلك تلك الأهمية المدعاة، لأن المستهلك كما قلنا نتاج لنظام الإنتاج، ذلك النظام الذي لا ينتج السلع وحسب بل ينتج مستهلكيها في نفس الوقت.
إن أفعال المنتج لدى المدرسة النمساوية يحددها سلوك المستهلك، بحيث يصبح الإنتاج كله مشروطا بالاستهلاك، وهذا ما يتيح للمدرسة أن تعالج تكاليف الإنتاج في ضوء منفعة السلعة. ويعد هذا تغييرا كبيرا في أفكار الاقتصاد الكلاسيكي، لأنه يجعل الإنتاج مشروطا ومحددا بالقيمة الإستعمالية، ورابطا القيمة التبادلية أو السعر بنفس تلك القيمة الاستعمالية. إن الإسهام الأساسي للمدرسة النمساوية يتمثل في أنها خرجت عن الكلاسيك في تحديدهم للإنتاج على أساس القيمة التبادلية، فالسعر لدى الكلاسيك يتحدد على أساس القيمة التبادلية للسلع في السوق، أما النمساويون والنيوكلاسيك من بعدهم فعلى العكس، إذ حددوا الإنتاج بالقيمة الاستعمالية، والقيمة التبادلية ذاتها بالفائدة أو المنفعة وذلك في اتفاق مع نظريتهم الذاتية في القيمة والمنفعة الحدية. لكنهم لا يزالون معرضين للنقد الماركسي رغما عن ذلك، لأن القيمة الاستعمالية ذاتها من إنتاج النظام الرأسمالي ومشروطة به ولا يمكن أن تكون متغيرا مستقلا. فكما قال ماركس في "معالم نقد الاقتصاد السياسي"، فإن رغبات وتفضيلات واختيارات المستهلك تخلقها السلع، تلك السلع التي يخلق مجرد ظهورها في السوق حاجات جديدة، وكأن السلع تأتي معها بالحاجة إليها في السوق: لا تنشأ الرغبة في الشئ ما لم يكن هذا الشئ معروضا في السوق من قبل.
4. نظرية التوازن:
من أشهر نظريات الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي نظرية التوازن Equilibrium Theory، وتهدف هذه النظرية في صياغاتها المختلفة إثبات أن السوق الحر المتروك لقوانينه الخاصة سوف يصل إلى استقرار ما في الأسعار وتوازن بين العرض والطلب وبين الموارد المتاحة والقدرة على تعبئتها وتشغيلها، وبين أرباح المجالات الصناعية المختلفة، وبين قدرة المجتمع على العمل وقدرة رأس المال على تحقيق الربح.
تظهر نظرية التوازن ابتداء من منجر مؤسس المدرسة، وقد بدأت النظرية حسب صياغته لها باعتبارها إعادة طرح للتناول الليبرالي التقليدي لمشكلة النظام وكيف ينتج تلقائيا عن أفعال الأفراد دون تخطيط مقصود، ولمشكلة الخير العام الذي يتحقق من خلال الأفراد. يتسائل منجر: "كيف يمكن للمؤسسات التي تخدم الرفاهية العامة والضرورية لنمو هذه الرفاهية أن تظهر إلى الوجود دون إرادة عامة موجهة نحو تأسيس مثل هذه المؤسسات؟". ويجيب منجر على نفسه قائلا أن الرفاهية العامة تتحقق عن طريق إشباع الأفراد لاحتياجاتهم، والإشباع متبادل بين الأفراد، بحيث يشبع الواحد منهم احتياجاته عن طريق الآخر، وهذا الإشباع المتبادل يتم عن طريق السوق. السوق إذن هو المؤسسة العامة التي تحقق الخير العام، ولضمان هذا الخير العام يجب ضمان عمل هذا السوق حرا من أي تدخل لأنه بطبيعتته مجال محايد ووسيط لتحقيق الإشباع المتبادل للحاجات ويجب أن يظل محايدا للمحافظة على طابعه العام والكلي. السوق حسب منجر إذن ليس في حاجة إلى تنظيم Regulation لأنه ذاتي التنظيم، بل هو في حاجة إلى تنسيق Co-ordination بين عملياته والأطراف الفاعلة فيه. ثم يتوصل منجر إلى صياغة سؤال جديد: "كيف يكون التنسيق المتبادل للسوق ممكنا؟"، ويجيب قائلا أن هذا التنسيق المتبادل هو النتيجة التي يحققها السوق إذا ما ترك حرا وليس أبدا البداية التي يبدأ منها. ويحقق السوق التنسيق المتبادل إذا ما ترك حرا وظل يعمل في ظل حرية كاملة. وكانت فكرة التنسيق المتبادل Mutual Coordination كنتيجة لآليات السوق الحر هي بداية صياغة المدرسة النمساوية لمفهومها عن التوازن Equilibrium .
سميت نظرية التوازن في بدايات الاتجاه النيوكلاسيكي بنموذج التوازن العام General Equilibrium . ظهرت بدايات هذا النموذج عند والراس ثم فيزر وفون ميسز في أواخر القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين سادت الاتجاه النيوكلاسيكي كله. وينص هذا النموذج على أنه في عالم يحتوي على تجار يحاولون الحصول على أقصى ربح تجاري ومالكي موارد يحاولون الحصول على أكبر عائد من مواردهم (وهؤلاء يشملون من يملكون سواعدهم كمورد وحيد لهم)، فمن الممكن "تخيل" نظام في "أسعار" الموارد والسلع يتيح الآتي:
1. يتيح لكل الأطراف الداخلة في التبادل أن تبادل كل ما تملكه دون أن يبقى لديه شئ، وبالتالي استبعاد خطر فرط الإنتاج Over-Production.
2. يتيح لكل أطراف التبادل أن تحسن من رفاهيتها معا وفي نفس الوقت ودفعة واحدة، أي دون أن يكون مكسب الواحد منهم على حساب خسارة الآخر كما يحدث في العالم الحقيقي.
ويستند هذا النموذج في التوازن العام على عدة افتراضات، منها أن المستوى القائم من التطور التكنولوجي متاح للجميع ومفتوح بالكامل أمام الكل، أي مشاعية التكنولوجيا وعدم تمكن طرف ما من احتكارها ومنعها عن الآخرين بحجة حق الملكية الفكرية كما يحدث في العالم الحقيقي، واستبعاد نهائي للملكية الخاصة للاختراعات العلمية والتكنولوجية وما يحكمها من قوانين السوق الاحتكارية؛ كذلك افتارض ثبات في الطلب يعتمد على ثيات في خيارات المستهلك؛ وافتراض بأن الموارد متاحة للجميع في ظل منافسة عادلة وليس احتكارا لها عن طريق الملكية الخاصة لمصادرها كما يحدث في العالم الحقيقي.
وبالإضافة إلى الانتقادات المتضمنة لهذا النموذج من خلال افتراضاته السابقة فإن لنا ملاحظات أخرى عليه:
1. يعامل النموذج المنتجين باعتبارهم تجارا ولا يميز بينهم، أي يساوي بينهم باعتبارهم داخلين مباشرة في عملية التبادل بعد أن ينتجوا منتجاتهم، وهو يفترض أن المنتج يمارس البيع المباشر للمستهلك دون وسيط، ويفترض تساوي بائع الموارد وبائع السلع وبائع قوة العمل بما أنهم جميعا يدخلون في علاقة تبادل، لاغيا بذلك الفروق الجوهرية بين الرأسمالي والعامل وتاجر الجملة وتاجر التجزأة..إلخ.
2. تتسع في هذا النموذج فئة مالكي الموارد حتى أنها تشمل العمال بما أنهم يملكون موردا هائلا هو قوة العمل، وبالتالي فالنموذج يعامل قوة العمل على أنها من موارد الإنتاج مثلها مثل المواد الخام والطاقة، ومن ثم ينظر إليها على أنها سلعة تتم مبادلتها نظير سعر؛ وفي النهاية يعامل العمال كما لو كانوا طرفا من أطراف التبادل، وكما لو كان الجميع تجارا.
3. يحاول النموذج الإيحاء بأن التوازن المرتجى يمكن أن يتحقق عن طريق نظام متوازن في أسعار السلع. فبما أن الجميع تجار، وبما أن العمال أيضا يملكون سلعة هي قوة عملهم، فإن الكل لديه شيئا يبادله، وبالتالي فالتوازن بينهم يمكن أن يتحقق عن طريق نظام متوازن في أسعار السلع الداخلة في عملية التبادل.
4. وبالتالي يتحقق التوازن العام عن طريق سياسة نقدية في التسعير. ولا تتمثل هذه السياسة النقدية في فرض أسعار معينة على السوق، بل في ترك السوق حرا من أي تدخل حتى يثبت أسعاره بنفسه، وبالتالي يكون توازن الأسعار علامة على توازن المجتمع والنظام الاقتصادي كله. السياسة النقدية إذن هي السبيل نحو إحداث توازن عام في المجتمع. تحولت هذه النتيجة إلى إحدى العقائد الثابتة لليبرالية الجديدة وللمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فالأداة الناجعة لحل جميع مشكلات المجتمعات البشرية حول العالم في نظر هذه المؤسسات هي تطبيق توصياتها في مجال السياسات النقدية فيما يخص أسعار الصرف والفائدة.
إن ما يسيطر على النيوكلاسيك وهم يبحثون في موضوع التوازن هو رغبتهم في التركيز على مجال التبادل وعلى السوق، فما يراد له التوازن عندهم هو السوق، عمليات البيع والشراء، وما يخشونه هو الكساد أو فرط الإنتاج: وجود بضاعة لا يتمكن الناس من شرائها، أي أن يكون معدل الإنتاجية أعلى من احتمال السوق وقدرته الاستيعابية. ومن هذا المنطلق يأخذون في بحث كيفية حدوث توازن، وهذا ما يجعلهم يتناولون الأسعار والدخول والتقييم الذاتي للسلع واختيارات المستهلك. وهم يسلمون بأن التوازن في مجال الإنتاج نفسه وبين مجال الإنتاج ومجال التوزيع يتحقق إذا ما توصلنا إلى توازن السوق.
5 -النظرية الكينزية:
يقول الطيب بوعزة:جاءت الأزمة "العالمية" سنة 1929 لتشكل ضربة هائلة اهتز لها الاقتصاد الرأسمالي إلى درجة الانهيار. وكانت هذه الأزمة مناسبة لانطلاق التفكير الليبرالي إلى محاولة فهم مكمن المشكلة وإيجاد المعالجات الكفيلة بإنقاذ الوضع.
وكان من الملحوظات التي أثارت انتباه منظري الاقتصاد السياسي الليبرالي هو أن هذه الأزمة الهائلة لم تمس الاقتصاديات التي تخضع لسيطرة الدولة (الاقتصاديات الاشتراكية)، بل عصفت فقط بالاقتصاديات الليبرالية الرأسمالية، والمرتبطة بها عضويا بعلاقات وثيقة.
وبناء على هذه الملحوظة المقارنة ستظهر النظرية الكينزية كمحاولة لتعديل النمط الاقتصادي الرأسمالي، حيث سيقترح الاقتصادي البريطاني اللورد جون كينز في كتابه الشهير "النظرية العامة" سنة 1936 حلا مرتكزا على وجوب تدخل الدولة.
وقد أسس حله هذا على تحليل شامل للاقتصاد السياسي الليبرالي وتطبيقاته، وذلك بناء على دراسة مشكلتين رئيستين هما البطالة والنقد؛ منتقدا النظرية الليبرالية الكلاسيكية في نظرتها إلى سوق الشغل، حيث لم تنتبه إلى مشكل البطالة، ولم تبلور معالجات كفيلة بالتقليل منها، إذ اعتقدت خطأ أن كل شخص يستطيع إذا رغب أن يجد العمل الذي يناسبه.
وضدا على هذه الرؤية الحالمة استقرأ كينز النظام الاقتصادي الليبرالي منتهيا إلى التوكيد على أن البطالة ظلت ملازمة له، الأمر الذي يدفع نحو وجوب اعتبارها مشكلا حقيقا بالتفكير والمعالجة.
أما النقد فإن كينز أخذ أيضا على النظرية الليبرالية الكلاسيكية قصور فهمها له؛ حيث قدمت رؤية جد سطحية لمسألة النقود، رؤية لا تجاوز كون النقد مجرد ظاهرة ثانوية لا أهمية لها في العملية الاقتصادية، فالناس لا يتبادلون نقودا بل بضائع ببضائع، وما النقد إلا واسطة. في حين يرى كينز أن ليس هناك شيء في الواقع الاقتصادي أهم من النقد.
وعلى مستوى الرؤية الاقتصادية عاب كينز على الليبرالية افتقارها إلى الرؤية الكلية للواقع الاقتصادي، فهي بسبب فردانيتها تنظر إلى المجتمع بوصفه مجموعة من الأفراد ينبغي أن تعطى لهم حرية مطلقة في الفعل، أما المجتمع فإنه سينتظم تلقائيا بناء على تلك العلاقات الناظمة بين أفراد أحرار في سلوكهم.
اأثبتت الأزمة، التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي، أنه لابد من تدخل الدولة لترشيد السلوك الاقتصادي، هذا فضلا عن أن النظرية الكينزية أكدت من الناحية المنهجية ضرورة قيام رؤية علمية تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستهلاك والاستثمار وسعر الفائدة، ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية في مستوياتها العامة.
"اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي."في هذا السياق اتجهت المدرسة الكينزية إلى إنجاز تعديل كبير في النظرية الليبرالية، حيث نادت بوجوب تدخل الدولة بدل ترك الفعل الاقتصادي مرتهنا بفردانية "دعه يعمل دعه يمر"، مبلورة بذلك رؤية تقلل من استقلالية وحرية الفعل الاقتصادي. وهذا ما أسماه البعض بإنقاذ الليبرالية من فوضى الحرية، وإخضاع الفعل الاقتصادي لمنطق الدولة لا للمنطق التحرري الإطلاقي للسوق.
لقد كان النقد الكينزي للنظرية الليبرالية أعمق وأوسع مشروع نقدي صدر من داخل المذهب الليبرالي. وقد حظي بانتشار كبير، ففي الوسط الاقتصادي الأكاديمي كان للكينزية أتباع عديدون تبنوا مقولاتها النظرية وجددوا فيها مثل نيقولا كالدور، وغوردن، وبلاندر، وعلى مستوى التطبيق حظيت بالأولوية في السياسات الاقتصادية التي انتهجها الكثير من الدول الرأسمالية.
والواقع أن الكف عن حياد الدولة في الشأن الاقتصادي كان إجراء عمليا اضطرت إلى الالتجاء إليه دول عديدة مباشرة عقب أزمة 1929، ويمكن أن نشير هنا على سبيل المثال إلى "النيو ديل"، أي السياسة الاقتصادية الجديدة التي انتهجها الرئيس الأميركي روزفلت، وفكرة ضبط القوة الشرائية التي قامت بها حكومة ليون بلوم في فرنسا عام 1936.
ويمكن القول بلغة التعميم إن اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية قد أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي."
وفي الحقيقة لم يكن الباعث على أفكار كيـنز أزمـة 1929 وحدها ، وإنما أيضا فزع الرأسمالية من نمو الفكر الاشتراكي الذي بات يهدد الرأسمالية ، والذي كان يسانده الترابط المنطقي لفكر كارل ماركس الذي تنبأ بانهيار النظام الرأسمالي ، والذي أخذته الدوائر الرأسمالية مأخذ الجد. كما أن قبول الدول الرأسمالية بأفكار كينز وسعيها لتطبيقها كان من دواعيه أيضا هاجس الخوف من الشيوعية في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والسوفييتي (لم يكن النظام السوفييتي في حقيقة أمره سوى نظام رأسمالي ، ويعد بالتالي أكبر خدعة في العصر الحديث. حيث لم تكن الدولة سوى مؤسسة رأسمالية يملك رأسمالها منذ أمسك لينين بزمام الحكم مجموعة من الروس محدودة العدد من أبناء المرابين القدامي الذين سلموا أموالهم للينين. وتم تشغيل الشعب بأكمله أجراء لديها بإسم الشيوعية لمدة سبعين عاما ، وعندما تعرض الاقتصاد السوفييتي لمتاعب مالية وخافوا على رؤوس أموالهم قاموا بسحبها فجأة من البنوك وهربوها إلى إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا فانهارت الدولة ، ثم عادوا بأموالهم مرة أخرى لشراء مؤسسات الدولة المفلسة بأرخص الأثمان ) .وكذلك الخوف من ازدياد البطالة في فترة الكساد والتذمر الاجتماعي . أي أن الدول الرأسمالية وجدت نفسها في حاجة لآفكار كينز ومضطرة إليها. وبعد أن زالت الضرورة وانهار الاتحاد السوفييتي ، عادت للأمبريالية طبيعتها المتوحشة وتنكرت للأفكار التي أمنت لها البقاء والاستمرار والازدهار ردحا من الزمن.
وتتلخص أفكار كينز وأنصاره من المدرسة الكلاسيكية الحديدة في الآتي:
1- كلما زاد دخل الدولة زاد حجم مدخراتها ، فينقص الطلب ، ويتراجع الانتاج، وتزيد البطالة . ويمكن الحيلولة دون تحقيق هذه النتائج الغير مرغوبة بتوظيف المدخرات في شراء السلع الرأسمالية المنتجة ، وهو ما يتطلب كذلك خفض أسعار القائدة لتكون أدني من مستوى الكفاية الحدية للإستثمار.(وهو ما يعني في الواقع ،على نحو ما ، إخلال بالتوازن بين الفائدة والاستثمار لصالح الاستثمار) .
2- يتوقف مستوى التشغيل على مستوى الطلب الكلي الفعال على السلع الذي يتوازن مع العرض الكلي الناتج عن انتاج السلع. ولكي يتحقق التشغيل الكامل ، فيجب أن يتساوى الطلب على الاستثمار مع حجم الادخار , وهذا لا يتحقق إلا في ظروف استثنائية ، أما في الظروف العادية فينتج قدرا متزايدا من البطالة ينتج عن تدني طلب الاستثمار عن المستوى المطلوب. أما التشغيل الكامل الذي تنتفي فيه البطالة ، فلا يمكن أن يتحقق دون تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية كمنظم ومشغل.
3- ينتج الركود الطويل المدى نتيجة لتناقص عدد السكان في الدول الصناعية الرأسمالية ، وإذ يطل التوظيف الكامل للموارد ، فيترتب على ذلك نقص الاستهلاك ، وبالتالي انخفاض الطلب على الاستثمار ، وقد بدأت حاليا الرأسمالية الغربية تعاني من هذا الركود الطويل لهذا السبب وأسباب أخرى قد تكون أهم منه.
4- إن تزايد البطالة يشكل خطرا كامنا على النظام الرأسمالي ، لما يحمله من احتمال انفجار الطبقة العامـلة فـي ثـورة عليـه ، مما يتطلب إلغـاء سياسـة الحرية الاقتصادية الموروثة عن الطبيعيين والمعروفة ب:”دعه يعمل ، دعه يمر” .ويتطل تدخل الدولة لتحقيق التشغيل الكامل بزيادة الطلب على الاستهلاك والاستثمار معا والذي يجدث بإقامة المشروعات الصناعية والاستثمارات الكبرى التي يحجم عنها القطاع الخاص ، وتأميم المنشآت المتعثرة القديمة التي تراجع انتاجها وفقا لقانون تناقص الغلة (الربح) والتوسع في مشروعات البنية الأساسية والخدمات التي يمكنها استيعاب عمال كثيفة تزيد من حجم الاستهلاك، فيزيد الطلب على الاستثمار ، وبالتالي الطلب على العمالة بما يترتب عليه ضمان التشغيل الكامل لأطول مدي ممكن مع ضرورة أن يتلازم مع هذه الإجراءات خفض أسعار الفائدة لزيادة الطلب على الاستثمار ، وإتاحة التقنيات الجديدة لجميع المستثمرين. والقضاء على الاحتكـارات لتـحقق المنافسة الحـرة فـي الأسـواق،ضمـانا للأسعـار العـادلة . واتباع سياسة حمائيـــــة تجعلهـا منافسـة للسلـع المنتـجة في الخارج . والحـد من الاستيراد، وقصره على السلع الاسثثمارية.
5- يجب علىالدولة لتجنب مغبة التذمر الاجتماعي الناتج عن غياب الـعدالة الاجتماعية في حدها الأدني ، إن تعمل على إعادة توزيع الدخل لتقليل الفوارق الطبقية ، وذلك بفرض ضرائب تصاعدية على ثروات ودخول الأثرياء تقوم الدولة بجمعها وانفاقها على تقديم إعانات وخدمات اجتماعية للمواطنين الفقراء ومحدودي الدخل بما يؤمن الاحتياجات الضرورية للعائلات ، ويضمن حصولها على حد الكفاية منها.
ولم يتم تبرير هذه الاجراءات أخلاقيا(والتي عرفت بعد إقرارها والعمل بها بنظام التأمين أو الضمان الاجتماعي) وإنما تم الترويج لها بمنطق الاقتصاد التحليلي على أساس أن التفاوت في الدخول يركز الدخول في أيد قليلة بلغت المستوى الحدي في استهلاكها الذي كفل لها حد الإشباع ، بينما تتراجع معدلات استهلاك الأغلبية لضعف قدرتها الشرائية المتزايدة، مما يترتب عليه تناقص الطلب الكلي وتراجـع الاستثمـارات والعـرض الكلـي فـي آن واحد. وينذر ذلك بالركـود وإفلاس المؤسسات الاقتصادية.ونقص ريع الممتلكات الخاصة الفردية الذي يرتبط بالرواج الاقتصادي.
النظرية الماركسية:
سسه المفكر الاقتصادي كارل ماركس الذي نادى بضرورة القضاء على مظاهر الملكية الفردية من خلال ثورة الطبقة العاملة والمستغلة على الأقطاعيين والطبقة الأرستقراطية، وتحقيق المساواة في توزيع الموارد والناتج القومي على الناس كافة، وهذهِ أحد ركائز قيام الفكر الشيوعي في روسيا.
إلا أن الفكر الماركسي لم يمت بتفكك الاتحاد السوفييتي وإنما أخذ منحي مختلف في تطوره بعد ذلك إذ انتقل الإنتاج النظري بأوربا الغربية بالتدريج من أيدي حكام وقواد ثوريين (لينين، غرامشي، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي...) إلى أيدي فلاسفة محترفين وإلى متخصصين في العلوم الاجتماعية (أدورنو، ماركوز، ألتوسير، بولانتزاس...).كما عرف تطبيقات جديدة في الصين وفيتنام تختلف جذريا عن سابقتها وتحولات محتشمة في كوبا التي ظلت الدولة الوحيدة في العالم التي حافظت عليه ، وبدأت تتأثر بكوبا دون استنساخ نظامها دول في أمريكا اللآتينية على رأسها فنزويلا.وتقوم حاليا أحزاب شيوغية في دول أوروبا الشرقية التي تحولت عن النظام الاقتصادي الشيوعي بإجراء مراجعات هامة عليه.
ومن المراجعات الفلسفية للماركسية في أوروبا الغربيةكما يقول جان بودوان: الفلسفة التحليلية وهي مدرسة فلسفية ظهرت بإنجلترا خلال الثلاثينيات، وتدعى أيضا فلسفة اللغة، وهي قريبة من المنطق الصوري واللسانيات لدى برتراند راسل، ج. إ. مور ولودفيغ ج. فتجنشتاين، والفلسفة التحليلية ترفض الزعم بمعرفة العالم أو العثور على حقيقة كونية، وهي تهتم بدل ذلك بقضايا اللغة. إن القضايا "التحليلية" هي قضايا منطقية تحمل على اللغة بخلاف القضايا التركيبية التي تحمل على الوقائع. وتحليل القضايا اللسانية يمكن في نظر التيار التحليلي من زيادة المعرفة من خلال توضيح معاني اللغة. والفلسفة التحليلية ممثلة بإنجلترا من طرف "مدرسة أوكسفورد": جون ل. أوستين (1960-1911)؛ جيلبير ريل (1976-1900)؛ ألفريد جولس آيير (1989-1910).
• نظرية العدالة: نشر سنة 1971، وقد حقق هذا العمل الكبير للفيلسوف الأمريكي جون راولس (المزداد سنة 1921) تأثيرا استثنائيا على الفلسفة الأنجلو سكسونية. وهدف هذه المحاولة الفلسفية السياسية والأخلاقية هو تأسيس عقد اجتماعي عادل، أما منهجه فيتمثل في الانطلاق من وضعية افتراضية يكون فيها أفراد أحرار و وحيدون مكلفون بتحديد قواعد مجتمع قيد البناء مع جهلهم كل شيء عن المكانة التي سيحتلونها في هذا المجتمع. ولأنهم موضوعون هكذا تحت "غشاوة الجهل" فإنهم لن يستطيعوا الاختيار انطلاقا من مصالح خاصة. وانطلاقا من وضعية كهاته استنتج راولس أن كل إنسان سيروم نحث النظام الأكثر عدالة والأكثر إنصافا ما أمكن. ويستجيب هذا النظام لمبدأين اثنين:
1. "مبدأ الحرية" الذي يؤكد المساواة في الحقوق عند التمتع بالحريات الأساسية؛
2. "مبدأ الاختلاف" الذي يتسامح مع الفوارق، لكن في ظل شروط معينة: أن تؤمن المساواة في الحظوظ وأن يجهد المجتمع ذاته ما وسعه الحال في تحسين ظروف الأفراد الأكثر حرمانا وخصاصة.
لقد صيغت العديد من الانتقادات التي وجهت لجون راولس ونظريته في العدالة؛ فعن يساره واخذه الجماعيون على كونه جعل من الفرد القاعدة الأولى للمجتمع وعلى تقليله من شأن دور الخلايا القاعدية الذي تلعبه الجماعات من وجهة نظرهم. وعلى العكس من ذلك واخذه عتاة منظري الليبرالية على كونه برر السياسات الاجتماعية التي تذهب في غير طريق الليبرالية. وقد تشبث راولس بالرد على هذه الانتقادات في "الليبرالية السياسية" (الترجمة الفرنسية بنفس العنوان، 1993).
• نظرية الفعل التواصلي: يشكل هذا العمل المنشور سنة 1981 مآل العمل الذي انصب على "إعادة بناء نقدية للمادية الديالكتيكية" والمنجز من قبل "الوريث الطبيعي" لمدرسة فرانكفورت؛ السوسيولوجي الألماني يورغن هابرماس (المزداد سنة 1929). المساهمة الرئيسية لإعادة البناء هاته تقيم في نقد مفهوم الهيمنة؛ فغياب علاقة الإكراه تفترض قل أي شيء حسب هابرماس "تواصلا بدون إكراه" أو أيضا "وضعية مثلى للكلمة" حيث يقبل الأفراد بإخضاع آرائهم لعمليات حجاج متنافسة. وفي المجتمعات المعاصرة الموسومة بتوسع الإدارة النظامية واقتصاد السوق، فإن الحفاظ على "فضاءات للتفاهم المشترك" (ومن ضمنها العائلة) يشكل حسب هابرماس الوسيلة الأفضل لمقاومة فقدان الأمل.
ومازال للفلسفة الماركسية تأثير على المفكرين الغربيين كما هو الحال بالنسبة لبول كيندي على النحو الذي يوضحه عفيف فراج والذي يقول :
محور كنيدي مؤلفيه الشهيرين صعود وسقوط القوى العظمى والاستعداد للقرن الحادي والعشرين على قانونين ركنيين من قوانين الجدل الماركسي:
1 - قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا، الثروة والقوة، البنية التحتية (الاقتصادية) والبنية الفوقية (العسكرية).
2 - قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا معاً من جهة، وبين الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها التقانية من جهة ثانية.
ذلك ان الجدلية القائمة بين الاقتصاد والاستراتيجيا تترافد كما يؤكد كنيدي تكراراً مع قطب العلم والتقنية، وهو قطب يفعل فعل الوسيط أو المحول الكيميائي الذي يحدث تحولات نوعية في البنيتين الاقتصادية والعسكرية، واستطراداً في جميع البنى الاجتماعية والثقافية.
ان التقانة الأكثر تقدماً تفجر الطاقات الإنتاجية الأكثر ضخامة، وتنتج الأسلحة الأكثر فاعلية، والقيم الثقافية الأكثر دينامية؛ فتكون السيادة الإمبراطورية من نصيب الأمة التي تقلب موازين القوى الاقتصادية والاستراتيجية لما تحققه من سبق في مجال الكشوفات العلمية وتطبيقاتها التقانية في الصناعة والهندسة الزراعية والجينات الوراثية. "ان التغيير في شؤون العالم إنما يجري طبقاً لعملية جدلية تحولية تدفعها التقنية الموضوعة حيّز التطبيق في العملية الإنتاجية؛ ذلك ان التحولات في البنى السياسية والاجتماعية كافة مصدرها التقانة".
وبهذا المقياس يرى كنيدي ان تفوق أوروبا على الإمبراطوريات الشرقية التي تقدمتها يكمن في تطويرها الذي لم يتوقف لتقنياتها العسكرية، يستحثها إلى ذلك تجارة السلاح المزدهرة منذ عصر النهضة، أما الإمبراطوريات الشرقية (الصينية، اليابانية، الهندية، العثمانية) فقد حاقت بها الهزيمة حين توقفت عن تطوير أدواتها القتالية.
ان كنيدي لا يقدم إذن تاريخاً عسكرياً أحادي الجانب وإنما هو "يبحث القوة العسكرية في إطار اقتصادي" (كما يذكر في الصفحة الأولى من مقدمته) لكون الثروة هي صانعة القوة. "ان التغيير في موازين القوى العسكرية كان يجيء دائماً عقب التغيرات التي تطرأ على موازين القوى الإنتاجية. وإذ يعرض نتائج المواجهات العسكرية الكبرى على خلفية المؤشرات الإنتاجية الإحصائية للقوى المتصارعة على سيادة العالم يقرر "ان نتائج الحروب التي خاضتها الدول والقوى العظمى تثبت ان النصر كان حليف أصحاب الموارد الاقتصادية الأعظم".
وهذا يعني ان أداء الأمم العسكري خلال الحرب يحدده ويقرره أداؤها الاقتصادي في زمن السلم. وإذا كانت القوة العسكرية هي رهينة القدرات الاقتصادية فان دراسة الناتج القومي السنوي للقوى العظمى المتنافسة في زمن السلم تصبح مؤشراً استباقياً لما سيكون عليه أداؤها العسكري في زمن الحرب.
من هنا يكتنز مؤلَّفا كنيدي بالجداول الاقتصادية الإحصائية والتخطيطات البيانية التي تظهر هزائم الإمبراطوريات القديمة والوسيطة والحديثة بوصفها نتائج محتمة لمقدمات التراجع الاقتصادي والتخلف التقاني.
"الحقيقية الباقية هي ان جميع التحولات الكبرى في موازين القوى العسكرية العظمى كانت تجيء دائماً عقب التحولات في الموازين الإنتاجية". وكنيدي يرجّح هذا القانون الموضوعي على عنصر العبقرية القيادية. فحين تتراجع العائدات وتتخلف التقنيات تعجز العبقريات العسكرية عن ردّ الهزائم الميدانية وان كانت في مستوى نابليون أو هيئة الأركان الهتلرية. ان الذي هزم نابليون في النهاية هو المحرك البخاري البريطاني والثورة التي أحدثها في العملية الإنتاجية كما في وسائل الانتقال براً وبحراً.
وقد هزمت أدوات إنتاج أميركا وروسيا وبقية الحلفاء هيئة أركان الحرب الألمانية والروح القومية القتالية اليابانية. "فالحرب لا تدور فقط بين المتبارزين بالسيوف" كما يقول كلاوزفيتز، "وإنما بين الحدادين صانعي السيوف كذلك". وهكذا يخلص كنيدي إلى ان القاعدة الإنتاجية المتفوقة للحلفاء هي التي حسمت الصراع ضد دول المحور في النهاية. وهذا كله يعيدنا إلى موضوعة كلاوزفيتز القائلة إن "فن المبارزة (مثل فن الحرب) يتطلب مهارة وخبرة من جانب المتبارزين؛ لكن ذلك لا يجدي كثيراً إذا نفدت السيوف من أيدي المتبارزين. وفي معركة الحدادين كان الحلفاء يتقدمون خصومهم على نحو واضح".
وبما ان الصراع يدور بين قوى تتنافس على اجتياز أوسع لمساحات السوق العالمية، فان رصد مسارات ومصائر القوى المتصارعة على مدى الكوكب يستدعي، بالضرورة، دراسة مقارنة لاقتصادات هذه القوى ووتائر نموها. ذلك ان أسباب صعود إمبراطورية ما يعتمد أيضاً على أسباب ضعف إمبراطورية أخرى. فالإمبراطورية المتراجعة ليست بالضرورة تلك التي يتوقف أو يتراجع فيها الناتج القومي عن النمو بل تلك التي لا يتكافأ نموها الإنتاجي مع وتائر نمو قوة إنتاجية أخرى تعاصرها.
فصعود الولايات المتحدة إلى سدة القيادة الإمبراطورية على حساب الإمبرياليات الأوروبية العريقة لم يتحقق لأن دولاً مثل بريطانيا وفرنسا كانت تنتج بعد الحرب العالمية الأولى أقل مما كانت تنتجه هاتان الدولتان في الحقبتين الفيكتورية والنابليونية، وإنما لأن الناتج القومي الأميركي السنوي بات يساوي عام 1919 "مجموع الناتج القومي السنوي لدول أوروبا الغربية مجتمعة". وبالمقياس عينه فان إنتاجية الاتحاد السوفياتي التي بلغت في نهاية الثمانينات أضعاف ما كانت عليه خلال الحقبة الستالينية لم تكن كافية لتدرأ السقوط عن الإمبراطورية السوفياتية في الوقت الذي كانت الدول الرأسمالية تحقق تقدماً اقتصادياً وتقنياً ثابتاً على الاتحاد السوفياتي على مدى السبعينات والثمانينات. ولا يكفي الولايات المتحدة، استطراداً، ان تقصي منافسها السوفياتي كي تنفرد بالزعامة الإمبراطورية العالمية في الوقت الذي تحقق دول مثل ألمانيا والصين واليابان تقدماً ثابتاً عليها منذ الثمانينات في وتائر النمو الاقتصادي، في حين تحقق اليابان تفوقاً نسبياً في مجال التقنيات العالية وتفوقاً مطلقاً في مجال التراكم الرأسمالي والفائض المالي.
كنيدي والماركسية
هذه المقابلات التي يجريها كنيدي لإظهار التفاوت في مقدرات القوى العظمى تستند إلى قانون "النمو اللامتكافئ"الذي كان لينين سباقاً إلى وضعه حيز الممارسة المعرفية في سياق دراسته للتحولات في موازين القوى الاقتصادية - العسكرية للأمم الأوروبية المتناحرة بين عامي 1917 و 1918. وكنيدي لا يجحد مرجعيته اللينينية، كما لا يخفي مديونيته لقوانين علم الاجتماع الماركسي، لكن هذه القوانين لا تحظى بمرتبة الأدوات المعرفية والمقدمات المنهجية المرشدة للبحث، ذلك ان كنيدي في حرصه على إثبات منهجيته الاستقرائية الامبيريقية يحيل هذه القوانين إلى شواهد ختامية يذيّل بها أبحاثه بحيث تبدو قوانين علم الاجتماع الماركسي العامة وكأنها خلاصات استنتاجية تتحصل من قراءة كنيدي الاستقرائية الخاصة. وهكذا يبدو التلاقي مع علم الاجتماع الماركسي وكأنه حدث عارض.
والحقيقة هي ان مديونية كنيدي النظرية للماركسية لا تظهر بكامل ثقلها إلاّ إذا عمد القارئ إلى جمع قوانين علم الاجتماع الماركسي الموزعة في ثنايا خلاصات المؤلف الاستنتاجية.
ان كنيدي مؤمن أولاً بالقانون الماركسي القائل إن البنية الاقتصادية هي "بنية تحتية مقررة لماجريات الأحداث".
وهو يأخذ قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا، عن انجلز مقتبساً قوله: "لا شيء يعتمد على الأوضاع الاقتصادية كالجيش والبحرية على وجه التحديد". كما يقتبس عن ستالين نصاً يؤكد جدلية الثروة والقوة: "ان الموازين العسكرية العالمية تتوزع على نحو يتوافق مع مقدرات الدول الاقتصادية". وهو يأخذ قانون "النمو المتفاوت" وانعكاساته على موازين القوى السياسية والعسكرية عن لينين الذي لاحظ بين العامين 1917 و 1918 أنه "كان محتماً أن تؤدي معدّلات النمو الاقتصادي المتفاوت (بين المانيا وانكلترا واليابان وروسيا) إلى صعود قوى معينة وانهيار قوى أخرى". وكنيدي يفسر أسباب صعود روسيا الامبراطورية وهبوطها بالأسباب التقنوية عينها التي ذكرها ستالين في دراسة له نشرت عام 1931: "ان روسيا كانت تخرج منتصرة في جميع المواجهات العسكرية وفي كل المعارك التي كانت مستويات التقنية العسكرية فيها متقاربة بينها وبين خصومها، بينما كانت تنهزم كلما اتسعت الهوة التقنية لمصلحة الخصوم".
يؤكد ستالين في البحث الذي يذكره كنيدي ضرورة ردم الهوة التقنية بين روسيا والغرب، "لأن أي تباطؤ في وتائر سرعة اللحاق بالغرب سيعني التخلف في السباق، والمسبوقون هم الذين تدركهم الهزيمة. فقد تلقت روسيا القيصرية ضربات متتالية لأنها تخلفت في ميداني الانتاجية الصناعية والتقانات العسكرية".
ويذهب كنيدي مع ماركس إلى حد اعتبار الثقافة بنية فوقية ترتكز على بنية تقانية - انتاجية تحتية. فالتقانات لا تثوّر أدوات الإنتاج وحسب، بل هي تحدد نوعية الثقافة الاجتماعية نفسها كذلك. وكنيدي يصوغ علاقة التوافق بين التقانة والثقافة على النحو التالي:
"إن كل نمط من أنماط التقانة يولد نمطه الثقافي الخاص به والمميز له". وهي صياغة معدلة لإحدى الطروحات التي نجدها في نصوص ماركسية عديدة، منها نص انجلز الذي طالما يردده غارودي في كتابيه ماركسية القرن العشرين ومنعطف الإشتراكية الكبير: "إن على الفلسفة المادية ان تغير من صورتها كلما حصل اكتشاف بارز في مجال العلوم". وقد اعاد الفيلسوف الشيوعي الفرنسي ألتوسير صوغ هذه الموضوعة بقوله: "ان العلم يأتي في الصباح وتتبعه الفلسفة في العشية". وكل ذلك يذكرنا بطائر مينرفا الفلسفي الهيغلي الذي لا يبسط جناحه إلا بعد حلول الغسق، أي بعد وقوع التحولات العلمية والتقانية.
إضافة إلى هذه القوانين المادية الجدلية التي يتقرى كنيدي صعود وهبوط القوى الامبراطورية في ضوئها فهو يعبر عن موقف ماركسي فلسفي من التاريخ في كليته، حيث يقول مستعيداً ماركس: "ان البشر هم الذين يصنعون تاريخهم حتماً، لكنهم يصنعونه ضمن شروط تاريخية يمكن ان تحدّ من قدراتهم على صناعة التاريخ كما يمكن ان تطلق هذه القدرات".
كما يستعيد كنيدي المفهوم الذي حدّد به ماركس العلاقة بين العنصرين الذاتي والموضوعي في صناعة التاريخ: "ان البشر هم صانعو تاريخهم وان كانت هذه الصناعة تتم ضمن ظروف تحمل مؤثرات الماضي كما يذكرنا ماركس".
وهو ينقل عن القائد الالماني بسمارك استعارة شاعرية تجسم المفهوم الماركسي عينه للتاريخ:
"ان جميع القوى الكبرى الفاعلة في التاريخ إنما تجري فوق تيار الزمن، وهو تيار ليس في استطاعة البشر خلقه أو توجيهه، وكل ما يستطيعونه هو توجيه الدفة فوق المجرى بدرجة من المهارة والخبرة تقل أو تكثر".
ومن المعلوم ان ماركس سبق أن أكد في رأس المال تحول العلم والتقانة إلى قوة تنتج القيمة وفائض القيمة. »
وفي الحقيقة فإن المنظمات التي تقاوم الإمبريالية اليوم تستمد من الماركسية ومن الأفكار التي تعتمد عليها زادها الفكرى وتساعد المراجعات والكتابات الماركسية الجديدة ، أن صح التعبير ، وتجارب الشعوب مثل الصين وفيتام على وضع تصورات لنظم اقتصادية جديدة مخالقة للرأسمالية الامبريالية والتي توصف بالمتوحشة كما ساهمت الأزمة العالمية المالية الجديدة التي ظهرت مؤخرا في الولايات المتحدة وبدأت تظهر تداعياتها على أقتصاديات أوروبا والعالم في زعزعة الثقة فيما أطلقت عليه الولايات المتحدة بالنظام العالمي الجديد أو العولمة.
المدرسة الحدية”
اهتمت المدرسة الحدية بتقديم تحليلات نظرية فائمة على فكرة المنفعة الحدية ، واستخدام الطرق الرياضية (المنطق الرياضي والرسوم البيانية للدالات) في الاثبات والعرض وظهر روادها مع مطلع القرن العشرين مثل كارل منجر وجوزيف شمبيتر في النمسا وليون فالراس وبارتو في سويسرا. وتتلخص فكرة المنفعة الحدية في أن قيمة السلعة بالنسبة لكل شخص تتوقف على وجود رغبة في إشباع حاجته إليها من ناحية وقدرته الشرائية من ناحية أخرى. وتتحدد قيمة السلعة عندما تلتقي فيها دالة الإشباع مع دالة كمية المال التي يمكن للشخص توظيفها في إشباع حاجته والتي تمثل المنفعة الحدية. وبالتالي فسرت هذه النظرية لماذا يباع الخبز مثلا وهو سلعة ضرورية، أي أكثر نفعا للمستهلك، بأقل من أسعار السلع الكمالية الأقل منفعة منه. واستخلصوا من النظرية أن الليبرالية تتيح لكل فرد أن يحقق أكبر إشباع ممكن لحاجاته في حدود دخله وامكاناته المادية. وتم تصوير العلاقات الاقتصادية وتوازناتها بصيغ رياضية . ولما كان سلوك الأفراد يختلف من شخص إلى آخر بالنسبة للاستثمار والادخار والاستهلاك فقد اضكرهم ذلك إلى التجريد ، وافتراض وجود شخص اقتصادي تصرفاته منضبطة مع المتطلبات الاقتصادية مما يعد افتراضا غير واقعي ولكنه ضرورى لاستقامة منهجهم رياضيا. بصيغة أخرى فإنه يمكن البرهنة على صحة النظرية نظريا ، ولكن هذا لايعني أن الواقع سيتتطابق مع معطياتها النظرية.
6 -النيوليبرالية أوالامبريالية:
وكمـا بدأت الكلاسيكية القديمة بظهـور كتـاب أدم سميث:ثروةالأمم،بدأت الكلاسيـكية الجديدة بظهوركتاب للمفكر الانجليزى “جون مينارد كينز” يحمل إسم :” النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود” عام 1936. وقد أخذت الحكومات بأفكار كينز وقامت بتطبيقها . وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (عام 1945) مما وفر لها استقرارا اجتماعيا جيدا ،ونموا اقتصاديا بوتيرة شبه ثابتة ، إلا أن جشع الرأسمالية وظهور الشركات متعدية الجنسية واحتكاراتها وضغوطها دفع للآنصراف عن أفكار كينز والعودة للإلتزام بأفكار دافيد ريكاردو. وخاصة فيما يتعلق بسياسات الدول الاستعمارية الخارجية . ويمكن أن تعزي أزمة النظام المالي الحالية ، والأزمات السابقة عليها نتيجة لذلك. وقد بلغت درجة التبعية والاستلاب الفكرى لدي بعض اقتصاديينا وأساتذة الاقتصاد لدينا أن تبنوا الدعوة لأفكار ريكاردو بحجة أن الدول الرأسمالية قد أهملت أفكار كينزوعادت إلى الفكر الكلاسيكي القديم.
و قادت العودة لأفكار ريكاردو والتطرف في تطبيقها لما يعرف الأن بالنيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة أو العولمة . والعولمة في حقيقة أمرها ليس نطرية علمية اقتصادية وإنما هي أيديولوجيا أفرزها تغول الشركات المتعدية الحنسية وخاصة الأمريكية منها ، وتأثيرها المتزايد على السياسة الاقتصاديةوالمالية العالمية ، والذي تزامن مع الثورة الإليكترونية والمعلوماتية وخاصة انتشار الانترنيت الذي تحتكره على مستوى العالم الشركات ألمريكية وترقض أي شراكة غير أمريكية فيه أو السماح بشبكة دولية منافسة له.
يكشف الاقتصاد النيوليبرالي أو النيوكلاسيكي عن عدد من الملامح المنهجية السائدة لدى أعلامه والمنتشرة بينهم على الرغم من القليل من الاختلافات النوعية بين عالم وآخر. ولأن الاقتصاديين الينوكلاسيك تسيطر عليهم الأيديولوجيا، وهي المتمثلة في تحويل العلم الاقتصادي إلى مبرر للنظام الرأسمالي كما رأينا في الصفحات السابقة، فإن هذا الطابع الأيديولوجي لعلمهم ينعكس على المنهجية التي يسيرون عليها ويؤدي إلى تشويهها في النهاية، وذلك بأن تسيطر عليها نزعات صورية وفردية ووضعية كما سيتضح فيما يلي.
أ. الإبستمولوجيا الوضعية:
نتيجة لسعي علماء الاقتصاد الينوكلاسيك نحو جعل العلم الاقتصادي علما دقيقا منضبطا، وضعوا أمام أعينهم نموذج العلم الطبيعي الذي حاز على الدقة ودرجة الصدق العالية استنادا على اعتماده على الرياضيات، وهو الفيزياء النيوتونية. لكن محاولة التشبه بالعلم الطبيعي في إقامة علم اجتماعي إنساني مثل الاقتصاد تؤدي في النهاية إلى نزعة وضعية تختزل الحياة البشرية في قوانين تشبه القوانين الفيزيائية، وهذا ما حدث بالفعل مع النيوكلاسيك.
يستند الاقتصاد النيوكلاسيكي على ابستمولوجيا مستقاة من نموذج العلم الطبيعي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو ما يعرف بالفيزياء النيوتونية. يتكون هذا النموذج من قوانين حول حركة الأجسام واتجاهات وسرعات هذه الحركة بناء على قوانين الجاذبية والكتلة والطاقة. واعتماد الاقتصاد النيوكلاسيكي على هذا النموذج يجعله يعامل موضوعه كما لو كان أجساما وطاقة ومادة، وكما لو كان يشكل نسقا مغلقا ينـزع دائما نحو التكامل، والملاحظ أن مفهوم التكامل ظهر لأول مرة في فيزياء نيوتن لوصف ما يحدث داخل نسق جاذبية مغلق مثل المجموعة الشمسية. يصرف الاقتصاد النيوكلاسيكي نظره عن أن موضوعه الحقيقي ليس حركة فيزيائية لأجسام داخل نسق مغلق بل هو حركة البشر التي لا يمكن فهمها بالتوازي أو التشبيه بحركة الأجسام الفيزيائية.
وتظهر نتيجة هذه المنهجية في تعامل الاقتصاد النيوكلاسيكي مع الإنتاج كما لو أنه طاقة، ومعاملة دوران السلع باعتبارها تسير في قنوات مثل سريان الطاقة والتي تنـزع دائما نحو التكامل، أي نحو التوزع العادل حسب قوانين الطاقة. والملاحظ أن نموذج الفيزياء النيوتونية هذا قد تجاوزه العلم المعاصر عن طريق النظرية النسبية ونظرية الكوانتم، ولذلك فإن العلمية التي يدعيها الاقتصاد النيوكلاسيكي كاذبة، نظرا لتجاوز العلم المعاصر للنموذج العلمي الذي يقلده النيوكلاسيك. لكن يظل النيوكلاسيك متمسكين بالنموذج العلمي للفيزياء النيوتونية نظرا لحاجتهم الأيديولوجية إليها، إذ تخدمهم جيدا في هدفهم الأساسي وهو إضفاء العقلانية على نظام غير عقلاني، وإضفاء الطابع العلمي على ما ليس إلا تبريرا أيديولوجيا للرأسمالية.
ب. النـزعة الصورية والهوس بالرياضيات:
يسعى النيوكلاسيك نحو جعل علم الاقتصاد علما تصنيفيا Taxonomic مولع باختراع الفئات والأصناف والمقولات، وبتقسيم وتوزيع كل الواقع بتنوعاته الهائلة على هذه الفئات: الإيجار العقاري والفائدة وأجر العمل، الأرض ورأس المال وقوة العمل، مقاول الأعمال والسوق الحر..إلخ. صحيح أن هذه الفئات تعبر عن شئ من الواقع، إلا أنها لا تعبر عنه كله وبدقة. فغالبا ما يعمل علماء الاقتصاد على فهم الواقع الاقتصادي بناء على هذه التصنيفات المسبقة لا بناء على البحث الواقعي، وبذلك فهم يحشرون الواقع في هذه التصنيفات المقولية بصرف النظر عما إذا كانت تستجيب للواقع أم لا. تكشف تلك النـزعة التصنيفية عن فلسفة في الماهيات وعن مفهوم عن طبيعة إنسانية ثابتة ذات حاجات بيولوجية فردية، وعن تبنيهم لمفهوم عن قانون طبيعي ثابت وأزلي عبر التاريخ غير خاضع للتغيرات الاجتماعية والتاريخية.
ومن هذه الخلفية يسعى علماء الاقتصاد الكلاسيك والنيوكلاسيك على السواء نحو البحث عن انتظامات Uniformities ، وعن قوانين أزلية تحكم السلوك الاقتصادي، ونحو وضع نظرية في التوازن الاقتصادي Equilibrium يدَّعون أن الواقع يكشف عنها. وهذا التوازن الذي يتكلمون عنه ليس سوى توازن وتكامل نظريتهم الاقتصادية نفسها لا توازن وتكامل الواقع، وفي النهاية تعبر فكرة التوازن لديهم عن التوازن النظري باستخدام المعادلات الرياضية والمسائل الحسابية. وبذلك ينغلق علمهم على نفسه ولا ينفتح أبدا على التنوع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية و البعد التاريخي للنظم الاجتماعية.
كما يختزل النيوكلاسيك مفهوم الثروة في مفهوم الثروة النقدية وينظرون إلى المنفعة Utility على أنها الربح المالي لا الوفرة والرخاء الإنتاجي. وهذا ما يؤدي بهم إلى التعامل مع الإنتاج والتوزيع والتبادل ودوران رأس المال بلغة الأرقام، تلك الأرقام التي يدخلونها في معادلات رياضية وجداول ورسوم بيانية. واعتقادهم أن ما توصلوا إليه من معادلات رياضية هو القوانين الاقتصادية الحاكمة لحياة البشر يجعلهم يختزلون غنى وتعقد الحياة البشرية والتتابع السببي التاريخي للحوادث إلى تتابع منطقي لخطوات البرهان الرياضي معتقدين أن هذا هو العلم في حين أنه هو الوهم بعينه.
سعى النيوكلاسيك، وخاصة في الولايات المتحدة، نحو تطوير التحليلات الرياضية الاقتصادية، وكان الموجه لهم في ذلك رغبتهم في إثبات أن التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية متساوية، على الرغم من عدم تساويها واقعيا. وبكلمات أخرى سعى هؤلاء نحو توضيح أن المجتمع ليس سوى مجموع أفراده المكونين له، وبالتالي ليس في حاجة إلى ترتيبات اقتصادية خاصة به مختلفة عن الآليات التلقائية للسوق والتي تضمن رفاهية الأفراد؛ وكانوا في ذلك يكشفون عن التمسك بالعقيدة الليبرالية التقليدية عن السوق الحر وعن عدم استقلال المجتمع عن الأفراد المكونين له وعدم تشكيله لكيان مختلف عن الأفراد.
إن السبب الذي يجعل علماء الاقتصاد النيوكلاسيكي يلجأون إلى الرياضيات هو أنه كلما اتخذت النظرية الاقتصادية طابعا صوريا رياضيا كلما ظهرت كما لو أنها ابتعدت عن الأيديولوجيا، لأنها بذلك تركز على الشكل و لاتنطوي على أي مضمون يمكن أن تشوبه الأيديولوجيا. إن هذا النوع من النظريات بذلك يصبح منعزلا عن الواقع وعن كل ما هو خارج المعادلة الرياضية. فالنظرية الاقتصادية الرياضية ليست إلا معادلات لا تقول لنا الكثير عن العلاقات السببية بين الأحداث، كما أنها لا تقوم بشئ إلا أن تعطي وصفا لحالة من الاعتمادات المتبادلة بين متغيرات.
إن ظاهرة الاعتماد الداخلي المتبادل بين عناصر نظام اقتصادي مصاغ بلغة رياضية مثل نظرية “والراس “على سبيل المثال لا تنشأ إلا لأن هذا النظام هو نظام في التوازن الثابث Static Equilibrium ، ومثل هذا النظام يقوم بتثبيت المتغيرات الاقتصادية الحقيقية التي لا تعرف توازنا ثابتا أبدا بل تشهد تغيرات دائمة؛ وإذا ما شهد الواقع شيئا من التوازن فلن يكون إلا توازنا مرحليا ومؤقتا بين تغيرين، أي توازنا ديناميا ينتقل بين تغيرات.
ومن بين الأسباب التي مكنت علماء الاقتصاد من التعامل مع الاقتصاد رياضيا تطور الاقتصاد نفسه إلى الدرجة التي جعلت التعامل الرياضي معه ممكنا. وقد جاء هذا التطور في شكل مزيد من الاستقلال للمجال الاقتصادي عن مجالات الحياة الأخرى وعن الإرادة الإنسانية، مما جعل الاقتصاد عصيا على التحكم البشري الواعي وأصبحت له قوانينه الخاصة التي يخضع لها البشر أنفسهم. فمع ازدياد استقلال العملية الاقتصادية عن الإرادة البشرية، ومع ازدياد انغلاق عالم الإنتاج الرأسمالي أمام التحكم البشري الواعي يجد البشر أن ما صنعته أياديهم استقل عنهم وأصبح متحكما فيهم. وعندما ينعزل الاقتصاد عن الإرادة البشرية تتخذ قوانينه شكل القوانين الطبيعية، وعندئذ فقط تتمكن الرياضيات من التعامل معه. إن كثرة استخدام الرياضيات في التحليلات الاقتصادية يقف دليلا على اغتراب البشر عن شروط حياتهم المادية حتى أنها أصبحت تشكل كيانا مستقلا عنهم وتتحكم فيهم كما لو كانت قوانين الاقتصاد بحتميتها وضرورتها القاهرة تشكل طبيعة ثانية.
ومن الأسباب التي تجعل الاقتصاد الينوكلاسيكي يحول العلم الاقتصادي إلى علم رياضي هدف أيديولوجي يتمثل في أن اللغة الرياضية الصورية والرمزية تمكن النيوكلاسيك من التعامل مع الاقتصاد شكليا وصوريا عازلين بذلك المضمون العيني لعلمهم والذي يتمثل في الحياة الحقيقية للبشر. فعلى سبيل المثال، يعتم العلم الاقتصادي الرياضي على التناقض الطبقي، بل ويلغيه تماما؛ ذلك لأن الأطراف الاجتماعية الداخلة في العملية الإنتاجية لا تظهر إلا باعتبارها رموزا متساوية القيمة؛ فيتم التعبير عن رأس المال والعمل المأجور بـ (س) و(ص). تعامل اللغة الرياضية هذه الرموز على أنها تنتمي إلى فئة واحدة، فئة المتغيرات، وبذلك ينظر من يتعامل مع الواقع إلى هذه الرموز على أنها متساوية الدلالة في حين أنها تعبر عن أوضاع طبقية مختلفة تماما بينها تراتب سلطوي وخضوع طرف للآخر. إن التعبير عن رأس المال والعمل بـ(س) و(ص) يخدم أيديولوجيا الاقتصاد النيوكلاسيكي جيدا لأنه يتفق مع الوهم الذي تنشره هذه الأيديولوجيا والقائل بالتساوي بين رأس المال والعمل المأجور باعتبارهما طرفين متساويين في علاقة تعاقد حرة وقانونية.
وقيما يلي زيادة أيضاح ما سبق فيما يتعلق بتطور الفكر الرأسمالي الأوروبي :
فبعد ظهور آدم سميث والمدرسة التقليدية أو الكلاسيكية استكمل كل من ذافيد ريكاردو اليهودي الأصل والنشأة والفس ما لتوس أقكار سميث . كما ساهمت فيها كتابات جون ستيواربت ميل والفرد مارشال في انجلترا، وجان باتيست وشارل جيد وشارل ليست في فرنسا . بما جعلها مدرسة انجليزية نشأت لمواكبة الثورة الصناعية التي بدأت وقتئذ فيها قبل أن تمتـد منها لألمانيا فيما بعد. وتحديدا الاستجابة لمتطلباتها . ويتلخص فكرها الذي يرجع في معظمة لدافيد ريكاردو في الآتي:
1- الفرد هو أساس النشاط الاقتصادي إنتاجا واستهلاكا وادخارا واستثمارا . وأنه يسعي لتحقيق أكبر منفعة شخصية له. فيحقق بذلك أكبر منفعة ممكنة للمجتمع . باعتبار أن المصلحة العامة هي مجموع المصالح الخاصة للآقراد في نظرهم.
2- يخضع علم الاقتصاد إلى قوانين تحكمة ومهمة الفكر الاقتصادي هي البحث عنها واكتشافها والقطـاع الرأسمـالي نظـام طبيـعي لتوافقـه مع طبيعة الأفراد ونزوعهم إلى الحرية وحبهم للتملك وسعيهم وراء المصلحة والمنفعة الشخصية.
3- تقسيم العمل ينتج مردودية إنتاجية أكبر، إلا أن هذه الإنتاجية تخضع لقانون الغلة المتناقصة بعد وصولها إلي حد معين من التشغيل.
4- قيمة السلـعة تتحـدد بقيمة العمل المبذول في إنتاجهـا . والأجر مثل باقي السلع يخضع لقانون العرض والطلب. أي إذا زاد عدد طالبي العمل عن فرص العمل المتاحة انخفضت أجورهم ، وإذا زادت فرص العمل وقلت الأيدى العاملة زادت أجور العمال.
5- التعامل بالربا من أساسيات الاقتصاد . ويعتبر سعر الفائدة في سوق الرأسمال من أهم الآليات التي تضبط توازن النظام وتحل أزماته. ويتوقف سعر الفائدة على أساس عرض وطلب الإدخار.
6- ترتبط تقلبات الأسعار في أسواق السلع ورأس المال بكمية النقد المتداولة. بمعني إذا زادت كميات النقد المتداولة عن كمية السلع المعروضة في السوق زادت أسعارها وحدث التضخم ، وإن زادت كمية السلع عن النقد انخفضت الأسعار. وبالتالي يمكن في الحالة الأخيرة التحكم في عرض السلع لزيادة أسعارها.
7- يتوقف نشاظ التجارة الدولية على حريتها وإزالة الحواجز الجمركية المعوقة لها . وتخصص كل دولة في إنتاج السلع والخدمات التي تحقق ميزة نسبية فيها.
8- ينظم الإقتصاد نفسه بأليات وفق قانون العرض والطلب بالسوق وأي تدخل من الدولة يعظل هذه الآلية ويفسد النظام.
9- إن سوق العمل ينظم نفسه بنقسه بما يحقق التشغيل الكامل للموارد البشرية بسبب التناسب العكسي بين عدد العمال وقمية الأجور المدفوعة.
10- النقود وسيلة للتبادل ومعيار لقياس القيم . ولكنها محدودة القيمة كمخزن للقيم. لأنها لا تحافظ على قيمتها بمرور الزمن.
وتعرضت هذه الأفكـار إلى انتقادات موضوعية خاصة من المفكرين الألمان كشفت عيوبها وعدم اتساقها . سواء فيما يتعلق بالقيمة ووظيفة النقود أوالتشغيل أو التوزيع . كما تعرضت الرأسماليات الغربية في ظلها لأزمات دورية طاحنة بلغت ذروتها عام 1929 . وعجزت مفاهيمها وآلياتها عن منعها ، أو إيجاد حلول لها.وبرزت في كل من أزمات النظام الرأسمالي مشكلة البظالة واحتدمت وأصبحت تهدد النظام برمته . فضلا عن التفاوت الطبقي الذي ازداد اتساعا وخطورة ، وتعرضت الرأسمالية الغربية منذ عام 1814 لتعاقب الرواج والكساد كل 11 عاما تقريبا حتي عام 1929 . وظهر على إثر ذلك ما عرف فيما بعد بالمدرسة الكلاسيكية الجديدة في محاولة ترقيعية لإنقاذ وحماية النظام الرأسمالي وإجاد علاج لأدوائه الخطيرة التي تهدد وجوده. ونحجت بالفعل في المحافظة على استمرارهوإن لم يتم هدم النظرية الكلاسيكية القديمة ، إذا تم الاحتفاظ بمعظم أفكارها. وإنما اعتبرت الجديدة بمثابة عملية ترقيع لها. وترتب العمل بأفكار المدرستين إلى عودة الأزمات الدورية التي يتعاقب فيها الرواج والكساد لدي الدول الصناعية الكبرى. ولو أنه يحدث حاليا كل 20 عاما بعدما كان يحدث كل 11عاما من قبل.
ويقول الطيب بوعزة: » في بداية السبعينيات ومع حرب أكتوبر سنة 1973 شهد الاقتصاد العالمي أزمة أخرى عقب ارتفاع سعر النفط. حيث برزت أزمة اقتصادية جديدة لم تكن معروفة بناء على ما هو معهود على مستوى الأزمات الدورية، وتتمثل جدة هذه الأزمة في اقتران التضخم بالبطالة. وهو اقتران نادر الحدوث في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي، ولم يسبق أن تمت مواجهته بالثقل الذي ظهر به.
وفي هذا الظرف الدقيق والحرج –أي ظرف الأزمة- كان لابد من انطلاق مراجعة نقدية للنظرية، وبالفعل برزت رؤى اقتصادية عملت على بلورة إطار نظري مغاير للإطار النظري الكينزي، حيث زعمت هذه الرؤى أن سبب الأزمة لا يكمن فقط في ارتفاع سعر النفط، بل في ارتفاع نفقات الدولة على الخدمات العامة التي تقدمها للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان الحل المقترح هو التقليل من هذه النفقات، والتراجع عن المقاربة الكينزية بالعود إلى المنطق الليبرالي القاضي بوجوب إطلاق الفعل الاقتصادي من كل قيد خارجي، واختزال سلطات الدولة بالتقليل من مهماتها ونفوذها، وجعل السوق كينونة مستقلة بذاتها.
إذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها المطلقة.
في بداية التسعينيات من القرن العشرين هيمنت الرؤية النيوليبرالية لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!
"ولقد كان للنيوليبراليزم حضور كبير في الفكر الاقتصادي الأميركي، وخاصة في مدرسة شيكاغو مع أتباع فريدمان، ثم بوشانان وراند ونوزيك. وستجد في فكر هايك hayek ولوباج وروزا وأفتاليون مرجعية نظرية تستلهم منها المفاهيم والرؤى المنهجية لتحليل الإشكالات الاقتصادية والسياسية.
ومما يجدر ذكره أن هذه النظرية ظهرت ابتداء في حقل "الاقتصاد السياسي"، كتنظير مرتكز على أصول فكرية كانت قد تبلورت في مدارس أوروبية مثل مدرسة لوزان التي أسسها ليون والراس leon walras، والمدرسة النمساوية التي أسسها كارل منجر، والمدرسة الإنجليزية التي أسسها وليم ستانلي جيفنز.
بيد أن التيار النيوليبرالي نجح في تجاوز الحقل الاقتصادي إلى بلورة رؤية ليس فقط للمجتمع والدولة على مستواهما القطري، بل رؤية للعالم بكل تنوعه وتعقيداته. حيث تم تبني المقاربة النيوليبرالية من قِبَلِ المنظمات الاقتصادية الدولية كـ"صندوق النقد الدولي" الذي عمل وفق هذه الرؤية على إعادة رسم اقتصاديات الدول الفقيرة بالضغط على حكوماتها لتبني اختيارات نيوليبرالية.
وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين حدث تحول كبير في الواقع الدولي، حيث انهار الاتحاد السوفياتي وباقي منظومته الاشتراكية، فتم الحديث عن إطار علائقي جديد يجب أن يسود الواقع الدولي، إطار يتسم بانفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية أمام تناقل السلع، وتقليص نفوذ الدولة، وهو الإطار الذي تم الاصطلاح على تسميته بـ"العولمة".
الأمر الذي زاد من توكيد هيمنة الرؤية النيوليبرالية، والدفع بها لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!
ـإذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها المطلقة.
"في بداية التسعينيات من القرن العشرين هيمنت الرؤية النيوليبرالية لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!»
Subscribe to:
Posts (Atom)