Friday, February 20, 2009

الحلقة 16 من عقيدة التوحيد: المبني والمعني- نقد النظام الرأسمالي

ليس لي كثير فضل في هذا الفصل إذ اقتصر دوري فيه الي حد كبير على نقل ما كتبه الاقتصاديون في نقد النظام الرأسمالي و أوافق عليه مع تدخل محدود مني.

ما يمكن استخلاصه من العرض التاريخي السابق حول تطور النظام الرأسمالي هو الأتي:
1- أن تطور الفكر الاقتصادي كانت له خاصية تراكمية أكثر منها إحلالية ، إذ كان يضيف المحدثون اليه على ما تركه السابقون مع إدخال تعديلات على ما سبق محدودة وقد لا تكون جوهرية ..ويرتبط الفكر الاقتصادي في تطوره بتطور وسائل وأساليب الانتاج وتطور العلوم والتقنيات والفلسفة أو الثقافة السائدة .
2- أن الفكر الرأسمالي الغربي هو وليد البيئة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نشأ فيها ويعبر عنها ويسعى لحل مشاكلها. وهو وإن كان قد استبعد في ظاهرة القيم الدينية فهو في الواقع استثمر قيما مسيحية أو أثرت فيه ، علىنحو ما أثير عن دور الكاليقانية في تعزيز الرأسمالية.
3- أنه منذ ظهر وحتي اليوم ، وهو يفتقر الى الاتساق والاحكام وتتسبب تطبيقاته أزمات مدمرة للاقتصاديات الرأسمالية ،رغم كثرة المفكرين ومساهماتهم عبر التاريخ الأوروبي. وتطبيقاته أو الخيارات التي يقدمها في حل الأزمات مازالت مختلف عليها داخل مؤسسات صناعة القرار في المجتمعات الرأسمالية. بل أحيانا تضطر الدولة الي التصرف بغير السياسة الاقتصادية المتبعة لديها ،أو التي تروج لها في العالم الخارجي مثلما تدخلت الحكومة المركزية الأمريكية لانقاذ شركات التامين اليها من الإفلاس ،وتدبير تمويل من الخزينة يبلغ 700 مليار دولار لتعويمها ، بينما سياستها الرسمية تقضي بعدم تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية. وسبق لبيل كلينتون أن لجأ لتوصيات كينز لحل أزمة البطالة وإنعاش الاقتصاد خلال ولايته ، بعد أن تسببت سياسة سلفه ريجان المتمادية في ليبراليتها قي خلق متاعب اقتصادية للدولة.ولا يستطيع مفكر الإدعاء بأن بإمكانه تقديم نظرية كاملة وشاملة . إذا أن النظرية إن كانت تقرر واقعا وتنظره فإن الواقع يتطور بدوره ويتغير ، وبالتالي لن تكون ملاءمة له بعد تغييره . وإن كانت تعالجا وضعا مستقبليا متخيلا ، فهي إذن توظف خبرة معلومة في ظروف مجهولة مما يجعل نقصها مؤكدا واتساقها مختل . وإن جاءت تحمل سمات الاتقان بأقصي ماهو بالامكان فإن مسؤولية إكمالها ومعالجة خللها تقع على عاتق المنفدين لها.
4- لا يرتبط الفكر الرأسمالي الغربي أو الفكر الذي نشأ في طلها مثل الماركسية، ولو أني أعتبرها فكرا رأسماليا بدورها ، بأي قيم دينية أو أخلاقية أو حتي مادية تتمتع بخاصية الثبات والاستقرار. وإنما هو مؤسس على قيم مادية ،ونفعية أساسا ، قابلة للتغيير والتبديل والتعديل وفقا لتغير المصالح القومية لكل بلد غربي والتي يخدمها الفكر الرأسمالي . فالرأسمالية التجارية طلبت حماية الدولة لها لأنها في صالحها ، وفي طل التوسع الاستعمارى للدولة فيما وراء الحدود والبحار. وعندما تحولت إلى صناعة لا تحتاج إلى الدولة طالبت بحريتها ورفع يد الدولة عنها. وعندما وجدت الصناعة الناشئة في ألمانيا أنها في حاجة إلى الحماية طالب فريدريك ليست بتدخل الدولة لحمايتها ، وعندما اشتد سوقها عادت لتطلب امتناع الدولة عن التدخل . وإذ طالبت انجلترا في القرن التاسع عشر بالحرية التجارية ، ظهرت دعوة كينز فيها بضرورة تدخل الدولة وتمت الاستجابة لها. ثم عادة وتخلت عنها بعد أن طلب الفاعلون الاقتصاديون ذلك.
هذه الاميلة كلها تؤكد أن ممارسة الاقتصاد السياسي في الغرب هو بمثابة تنفيذ سياسات ظرفية وفق مقتضي الحال أكثر منها تطبيق صارم لعلم اقتصاد ثابت .
5- استنتاجا ايضا مما سبق ، فإنه كما بحث الرأسماليون في الغرب باستمرار عن نظام اقتصادي يحقق لهم أكبر قدر من المنفعة والمكاسب والمصالح الاقتصادية ، والتي تتغير بتغير الظروف لتتواءم معها ، فإن القوي الوطنية الحرة خارج العالم الغربي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، والتي فشلت منذ نيلها استقلالها في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، مطالبة اليوم بتبني نظاما اقتصاديا بإمكانه تغيير ظروفها المأساوية الحالية ، ويتفق مع قيمها الدينية والأخلاقية والحضارية ز ويحقق الحرية والعدالة والاحسان والمساواة والكرامة التي تتوق شعوبها للتمتع بها من بعد طول معاناة للحرمان منها . لقد شقت اليابان طريقها ولحقت بها كوريا الجنوبية والصين وماليزيا ، وبدأت الهند تتحسس معالم نفس الطريق ، ونفس الشي ء بالنسبة لفيتنام التي ركبت القظار متأخرة عن جيرانها. الأوضاع في البرازيل والارجنتين وفنزويلا تتحسن أيضا رغم الصعوبات المحلية والخارجية. العالم يتحرك فيما عدا الدول والشعوب المسلمة ، وخاصة تلك الموجودة في شمال أفريقيا ، والتي تزداد انعماسا في التخلف والتبعية للغرب ولا تحاول الإمساك بحريتها لكي تتقدم بدورها مثل شعوب شرق أسيا وشعوب أمريكا اللآتينية.

تبرير الاقتصاد النيوكلاسيكي للرأسمالية:
يقول الأستاذ أشرف منصور:إن المشكلة الأساسية التي تعاملت معها الليبرالية الجديدة، والتي ورثتها من الاقتصاد النيوكلاسيكي، هي مشكلة القيمة الزائدة: كيف تبرر استحواذ الرأسمالي على تلك القيمة الزائدة التي تسميها ربحا؟ كيف تبرر أرباح الرأسمالية؟ إن تبرير حصول الرأسمالي على الربح من أهم القضايا الحساسة بالنسبة لأي أيديولوجيا مبررة للرأسمالية، وذلك نظرا لأن قضية القيمة الزائدة كانت محل نقد ماركس. أعلن ماركس منذ أربعينات القرن التاسع عشر أن القيمة الزائدة نتاج للعمل البشري وحده، لكن يستحوذ الرأسمالي عليها بفضل موقعه الحاكم والمسيطر في العملية الإنتاجية، وبفضل علاقة التراتب الطبقي بين رأس المال والعمل المأجور. وبالتالي نظر ماركس إلى القيمة الزائدة على أنها نتاج عمل غير مدفوع الأجر.
وفي مواجهة الهجوم الماركسي على البناء الطبقي للرأسمالية الذي يتيح لرأس المال الاستحواذ على القيمة الزائدة، إنشغل الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن الرأسمالية بتبرير حصول رأس المال على القيمة الزائدة المصدر الأساسي لربح الرأسمالي. وكان خطاب الليبرالية الجديدة وريث الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي في الدفاع عن حق الرأسمالي في القيمة الزائدة وتبرير ما يحصل عليه من ربح. وقد تمثل هذا التبرير في الحجج الآتية:
أ. حجة حق الملكية: وهي أكثر الحجج سذاجة وضعفا، إذ تقول أن الرأسمالي يملك رأس المال وأدوات الإنتاج، وبالتالي فما يأتي به هذا الرأسمال من ربح من حق مالكه. وتتحول هذه الحجة إلى الثناء على الرأسمالي لكرمه ومحبته لمجتمعه وللإنسانية لسماحه لما يملكه من أدوات إنتاج أن تعمل مشغلة بذلك أيدي عاملة ومنتجة لسلع يحتاج إليها المجتمع، وقد كان يستطيع أن يحجب رأسماله عن العمل، فهذا من حقه بناء على ملكيته الخاصة لرأسماله.
لكن من أين أتى الرأسمالي برأسماله وأدوات إنتاجه؟ من أرباح سابقة، فما يملكه من أدوات إنتاج ليس إلا نتيجة تراكم أرباح تحصل عليها في الماضي. ومن أين أتى بهذه الأرباح السابقة؟ من استحواذه على القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المادة الخام ليصنع منها سلعا وتحويل هذه القيمة الزائدة إلى تراكم رأسمالي. تتغافل هذه الحجة عن حقيقة أن ما يملكه الرأسمالي هو نتاج تراكم عمل سابق لأشخاص آخرين استحوذ عليه الرأسمالي بفضل وضعه الطبقي المسيطر في العملية الإنتاجية؛ كما ننغافل الحجة عن حقيقة أن قوى الإنتاج في المجتمع لا تصبح ملكية خاصة لأشخاص إلا في ظل نظام معين في تقسيم العمل والثروة على أساس طبقي.
إن الوضع الطبقي للرأسمالي باعتباره مسيطرا على العملية الإنتاجية هو الذي يمكنه من تحويل القيمة الزائدة إلى رأس مال جديد يكون من حقه وحده طبقا لحق الملكية الخاصة.
ب. حجة التوزيع العادل: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالية عادلة لأنها تعطي لكل طرف في العملية الإنتاجية ما يساوي قيمة عمله. بمعنى أن ربح الرأسمالي يكون مقابل عبقريته ومواهبه النادرة في إدارة المشروع ومبادرته ومخاطرته بأمواله..إلخ، وأجر العامل هو حقه الذي يتلقاه نظير بذل قوته. ترجع هذه الحجة إلى الاقتصادي الأمريكي جون بيتس كلارك الذي ذهب إلى التدليل على تلك الحجة بقوله أنه إذا انسحب عامل واحد من العمل فسوف تنخفض قيمة هذا العمل بمقدار أجر هذا العامل، وبذلك يصبح أجر العامل مبررا ومشروعا نظرا لأن هذا الأجر جزء أصيل داخل في صميم قيمة المنتج.
والحقيقة أن هذه الحجة تفترض أن أجور جميع العمال جميعهم تساوي قيمة المشروع ككل وهذا غير صحيح؛ هذا بالإضافة إلى أنه إذا انسحب عاملان أو ثلاثة من العمل لانخفضت قيمة العمل أكثر من مجموع أجورهم
وذلك نظرا للطبيعة العضوية لتقسيم العمل الصناعي، فإسهام العمل عضوي وكيفي وليس كميا كما يعتقد النيوكلاسيك. كما تنطوي حجة كلارك على مسلمة ضمنية بأن هناك تساويا تاما بين رأس المال والعمل المأجور بحيث يحصل كل طرف على مقابل إسهامه الإنتاجي، لكن ليس هناك في العالم الحقيقي أي تساو بينهما.
ج. حجة الإسهام في الإنتاج: تذهب هذه الحجة إلى أن ما يحصل عليه الرأسمالي من أرباح مشروع تماما نظرا لأنه يسهم في الإنتاج، والربح بذلك يعد مكافأة على إدارته للمشروع.
والحقيقة أن صاحب رأس المال ليس منتجا، إنه لا ينتج أي شئ؛ المنشعلون بالعملية الإنتاجية من عمال وفنيين ومهندسين هم المنتجون الحقيقيون. والرأسمالي لا يفعل شيئا إلا أن يسمح لرأس المال بأن يشتغل في الإنتاج. الرأسمالي إذن هو صاحب القرار الإنتاجي وليس القائم بالعملية الإنتاجية. إن رأس المال الصناعي في صورة البنية الأساسية والمواد الخام والآلات جاهز وموجود، كما أن القوة العاملة والقدرة التقنية والفنية موجودة وجاهزة قبل أن يوجد الرأسمالي، ولا يفعل الرأسمالي شيئا سوى أن يسمح لهذه العناصر بأن تعمل. ولا يُسمح للرأسمالي بأن يكون صاحب القرار الإنتاجي إلا في ظل نظام معين في توزيع الملكية والثروة يمكن أصحاب المال من الاستحواذ على القوى الإنتاجية للمجتمع ويديرونها لجني الربح الشخصي. إن سماح الرأسمالي لعناصر الإنتاج بالعمل مبني على سماح النظام الاجتماعي-الطبقي السائد بأن يصبح هذا الرأسمالي على رأس العملية الإنتاجية وصاحب القرار الإنتاجي؛ ويصبح الرأسمالي صاحب القرار الإنتاجي بفضل نظام قانوني معين يسمح له بذلك، نظام يعترف بحق الامتلاك الخاص لقوى المجتمع الإنتاجية. ولذلك فالرأسمالي لا يحتل موقعه المسيطر في العملية الإنتاجية بفضل عبقريته ومواهبه الشخصية، بل بفضل بناء اجتماعي-طبقي معين يسمح لأصحاب المال بالاستحواذ على قوى المجتمع الإنتاجية وإدارتها لصالحهم.
د. حجة المكافأة على التضحية والانتظار: بينما كانت الحجج السابقة تبرر حصول الرأسمالي على الربح، فإن هذه الحجة تبرر شيئا آخر مختلفا؛ إنها تبرر الفائدة على رأس المال نفسه، أي حق أصحاب رأس المال المالي من أصحاب رؤوس الأموال السائلة وحملة الأسهم والسندات في الأرباح والأنصبة التي يحصلون عليها عندما يودعون أموالهم في بنوك أو يستثمروها في مشاريع أو شركات مساهمة أو يضاربون بها في البورصة. تذهب هذه الحجة إلى أن الفائدة مشروعة لأنها المقابل الذي يتلقاه صاحب المال عن عدم استهلاك أمواله في الحاضر وتأجيل هذا الاستهلاك إلى المستقبل، والتضحية باستعمال حالي للمال في سبيل استعمال مؤجل. هذه التضحية وهذا التأجيل يجب أن يقابله مكافأة، وهي مكافأة مشروعة.
تخلط هذه الحجة بين مستويين من الاقتصاد: المستوى الشخصي أو العائلي والذي كان يسمى بالاقتصاد المنزلي، والمستوى الاجتماعي والقومي والسياسي للاقتصاد وهو المسمى بالاقتصاد السياسي. أي أنها تخلط بين ما يحدث على مستوى الأفراد من ادخار ومن تجنيب جزء من دخلهم في سبيل الفائدة، وبين ما يحدث على مستوى عالم الصناعة والاستثمار. والحقيقة أن الادخار الشخصي شئ والقيمة الزائدة التي تتحول إلى تراكم رأسمالي شئ آخر. تهدف هذه الحجة الإيحاء بأن النظام الرأسمالي وحده هو الذي يتيح للأفراد الحصول على فوائد مركبة على إيداعاتهم وعلى أنصبة متزايدة نتيجة ارتفاع أسعار الأسهم، رابطة بذلك شريحة كبيرة من الطبقة الوسطى بعجلة الاقتصاد الرأسمالي ضامنة ولاءها وتأييدها. إن الفوائد التي تحصل عليها الطبقات الوسطى من ادخاراتها ليست إلا حماية لأموالها من الانخفاض المستمر في قيمة العملة على مر السنين ومن التضخم الذي لا ينتهي. هذه المدخرات تختلف تماما عن الكميات الضخمة من رأس المال المالي العامل في كل مجالات الاقتصاد بما فيها المضاربات.
هذا بالإضافة إلى أن الإيداعات المالية للشريحة العليا في المجتمع ليست مجرد مدخرات مثلما هو الحال مع الطبقة الوسطى، بل هي قيمة زائدة في صورة أرباح تعيد هذه الشريحة استثمارها مرة أخرى؛ إنها تراكم لرأس المال يجب أن يستثمر في مشاريع جديدة. وبالتالي فهذه الشريحة لا تدخر بل تستثمر، ولا تحمي أموالها من الإنفاق ومن انخفاض قيمة العملة بل تضارب بها في البورصات، ولا تضحي باستخدام حالي للمال في سبيل زيادة على هذا المال في المستقبل، ولا تقتطع جزءا من دخلها ولا تؤجل الإنفاق، بل تحول الأرباح السابقة إلى استثمارات جديدة.
هـ. حجة المخاطرة: تذهب هذه الحجة إلى أن الرأسمالي يخاطر بأمواله وبالتالي فهو يستحق مكافأة على هذه المخاطرة. لكن هل يخاطر الرأسمالي بالفعل؟ إنه في الحقيقة لا يخاطر بفقدان رأس المال نفسه، بل بهامش الربح الذي سيحققه، ولا يفقد الرأسمالي كامل رأسماله إلا في حالات نادرة، كأن يكون مضاربا في البورصة. والمضارب في البورصة يدخل في لعبة أشبه بالقمار، وهو يعلم جيدا إمكانية فقدان رأسماله قبل أن يبدأ اللعب. أما على مستوى المشروع الصناعي فإن المخاطرة هي الفشل في تحقيق الربح المنتظر، أما رأس المال نفسه باعتباره أدوات الإنتاج والأرض فليس هناك مخاطرة في فقدانها، إلا إذا كانت مشتراة بقروض من البنوك أو تم إصدار أسهم وسندات بإسمها مستحقة الأرباح والأنصبة، إي إلا إذا دخل المشروع الصناعي استثمار مالي. ليست المخاطرة إذن تكمن في عملية الإنتاج ذاتها، بل في عملية الاستثمار المالي؛ فالرأسمالي باعتباره رجل صناعة لا يخاطر، بل يخاطر باعتباره مستثمرا لأموال أناس آخرين.
و. حجة الكفاءة: تذهب هذه الحجة إلى تبرير النظام الرأسمالي من منطلق أنه النظام الأكفأ في تعبئة الموارد وتوظيفها، وفي إبداع التكنولوجيا الجديدة وتطبيقها في الإنتاج، وفي الإقلال من تكاليف الإنتاج والوصول إلى إنتاج كمي هائل.
تعتمد هذه الحجة على نظرية من نظريات الاقتصاد النيوكلاسيكي تذهب إلى أن السوق الحر يتمتع بكفاءة في إنتاج السلع الاستهلاكية نظرا لأنه يزيد من إنتاج السلع التي يجد عليها طلب. ومعنى هذا أن البيع الضخم لسلعة ما سوف يقلل من أسعارها، لكن الذي يحدث في العالم الواقعي أن سعر هذه السلعة يزيد ولا ينقص، لأن الطلب المتزايد عليها يدفع رؤوس الأموال لأن تتدافع على إنتاجها؛ وعند زيادة السعر يحدث انكماش في الطلب، وهذا الانكماش يؤدي إلى زيادة في السعر أيضا، نظرا لرغبة المنتجين في تعويض ما فقدوه من البيع الموسع. إن ترك الأسعار لآليات التنافس الاقتصادي لا يمنع من ارتفاعها ولا يمنع أيضا من ظهور الاحتكارات.

إن حجة الكفاءة التي يستخدمها النيوكلاسيك وورثتها عنهم الليبرالية الجديدة تركز على الكفاءة الإنتاجية والتقنية والربحية، لكنها تتناسى كفاءة أخرى أهم، ذلك لأن مقياس الكفاءة الحقيقي في اقتصاد ما ليس مجرد تحقيق الربح بل قدرته على توظيف العمالة وتأمين العاملين به. إن الأمن الاجتماعي للعمال والحد الأدنى للأجور أهم بكثير من قدرة المشروع على تحقيق الأرباح. فالذي يتناساه المدافعون عن الرأسمالية كفاءة في تعبئة الموارد البشرية وفي تأمينها، وكل ما يهمهم تعبئة الاستثمارات. لكن لم يعد علم الاقتصاد السائد يعير شأنا بالكفاءة في تعبئة العمل البشري وتأمينه. تثبت الرأسمالية كل يوم أنها الأسوأ في قضايا تأمين العمل والحد الأدنى للأجور والأمن الاجتماعي للقوة العاملة، ناهيك عن سجلها السئ في قضايا البيئة. ليست هناك أية كفاءة في النظام الذي يلوث البيئة ويقضي على الثروات الطبيعية ويقطع الغابات ويملأ الأرض بالنفايات الذرية
والكيماوية.
أما عن ما تقوله الحجة من أن الرأسمالية هي التي تتيح للتكنولوجيا أن تتقدم وتطبق في مجال الإنتاج، فإن هذه الحجة مردود عليها من جهتين: الأولى أن تقدم العلم والتكنولوجيا هو تقدم للبشرية ذاتها في معرفتها وأدواتها وليس مرتبطا بأسلوب معين في الإنتاج، والحجة بذلك تدعي أن ما حققته البشرية من تقدم علمي وتكنولوجي في القرون الأخيرة يرجع الفضل فيه إلى الرأسمالية، وهذا خطأ. والجهة الثانية للرد على هذه الحجة هي استعراض ما حققته الأنظمة الاشتراكية السابقة من تصنيع سريع لمجتمعاتها وتنمية بشرية رأسية في سنوات معدودة، خاصة في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية. إن نظرة سريعة على تاريخ النظام السوفييتي منذ نشأته يقدح في صحة هذه الحجة؛ ذلك لأن الاتحاد السوفييتي نجح في عقوده الأولى الممتدة من ثورة 1917 وحتى الخمسينات في بناء هيكل صناعي ضخم وتحقيق كفاءة إنتاجية عالية من حيث الكم والكيف. لقد نجح النظام هناك في تصنيع روسيا التي كانت متخلفة صناعيا وتكنولوجيا عن أوروبا الغربية وأمريكا بمراحل، إذ نجح بالفعل في تصنيع بلد متخلف انحدر في أواخر عهد النظام القيصري إلى مستوى بلدان العالم الثالث؛ كما نجحت روسيا في تفادي أزمة الكساد الكبير الذي أصاب العالم الغربي في الثلاثينات. وليست الإنجازات الأخرى للاتحاد السوفييتي بخافية بل يتناساها المدافعون عن الرأسمالية، مثل تصنيع أكبر جيش بري في العالم مع نهاية الحرب العالمية الثانية والذي مكن روسيا من هزيمة الجيش الألماني وإخراجه من شرق أوروبا، واللحاق بالولايات المتحدة في تصنيع القنبلة الذرية سنة 1949، وإطلاق أول قمر صناعي (سبوتنيك سنة 1955) وإطلاق أول رائد فضاء خارج الغلاف الجوي سابقة الولايات المتحدة في ذلك، وتحقيق المركز الثاني في العالم في تصنيع الغواصات والجرارات الزراعية..إلخ إذا كان المدافعون عن الرأسمالية يتحججون بأنها الأكفأ تكنولوجيا وإنتاجيا، فإن هذه الحجة تنهار أمام ما أنجزه الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه. لكن الذي حدث ابتداء من منتصف الخمسينات أن بدأ النظام السوفييتي في الضعف وموجهة الأزمات الاقتصادية، وبالتالي واجه قلةالكفاءة الشهيرة عنه لدى الغرب، حتى واجه انهيارا داخليا في السبعينات والثمانينات انتهى بالسقوط في أوائل التسعينات.
إن حجة المدافعين عن الرأسمالية حول عدم كفاءة الإشتراكية لا تنطبق على الاتحاد السوفييتي في العقود الأربعة الأولى من تاريخه، ولا على التجارب الاشتراكية الأخرى في شرق أوروبا ويوغوسلافيا على وجه الخصوص، ولا على النظام الناصري في فترة حياته القصيرة الممتدة من منتصف الخمسينات وحتى منتصف الستينات. إن المرحلة الأولى الناجحة من النظم الاشتراكية تعطي دليلا واضحا على إمكانية تصنيع بلاد لم ينتشر بها النظام الرأسمالي، وباتباع طرق غير رأسمالية. لقد حققت الأنظمة الإشتراكية كفاءة عالية في بداياتها لكنها واجهت الأزمات بعد ذلك، ثم الانهيار. والمطلوب تفسيره هو النجاح الأول الذي تلاه إخفاق كبير؛ المطلوب هو معرفة أسباب إخفاق نظام كان ناجحا في بداياته.

نقد بودريار للمجتمع المعاصر:

تعد أعمال الفيلسوف الفرنسي المعاصر جان بودريار B audrillard من أهم و أشهر الدراسات في حقل الإنسانيات و الثقافة في الوقت الحاضر ، و هو يحتل مقدمة المسرح الفكري في فرنسا و العالم منذ أواخر الستينات و حتى الآن . و يتناول جانب كبير من هذه الأعمال نقدا لمجتمع الاستهلاك . فإلى جانب كتابه الذي يحمل عنوان " مجتمع الاستهلاك " The Consumer Society ، هناك مجموعة أخرى من الدراسات المنتشرة عبر كتبه الأخرى و التي يتناول فيها نفس الموضوع مثل " مرآة الإنتاج " The Mirror of Production و " نحو نقد للاقتصاد السياسي للعلامة " A Critique of The Political Economy و "التبادل الرمزي و الموت " Symbolic Exchange And Death .
يمكن النظر إلى نقد بودريار لمجتمع الاستهلاك على أنه ينتمي إلى تراث فكري كبير ركز على نقديم المجتمع الغربي المعاصر ، و يشمل هذا التراث أعمال لوكاتش و فلاسفة مدرسة فرانكفورت و بعض البنيويين من أمثال رولان بارت و فوكو ، هذا بالإضافة إلى تراث طويل في القرن التاسع عشر يحتوي على أسماء ماركس و نيتشة و فيبلن . و الحقيقة أن دراسة بودريار لمجتمع الاستهلاك تدلنا على كيفية التحول من الليبرالية باعتبارها الصورة التي يرى عليها الغرب الرأسمالي نفسه إلى مجتمع الاستهلاك الذي هو الواقع الحالي و النهاية الأخيرة التي وصل إليها هذا الغرب . فعبر جميع دراسات بودريار يوضح لنا كيف تحولت القيم و المثل البورجوازية و الأيديولوجيا الليبرالية إلى قيم و معايير استهلاكية تتحكم بها المؤسسات الكبرى ووسائل الإعلام ، و إلى نسق من الرموز و العلامات التي لها منطقها الخاص و حياتها الخاصة التي تلغي الحياة الواقعية للبشر ، و كيف يصنع الإعلام و الاتصال عالما صناعيا يمثل واقعا مركزا Hyperreality أكثر واقعية من الواقع نفسه .

إن جميع قيم و مثل الليبرالية تجد تعبيرها الأكمل و الأخير و نهاياتها المنطقية في مجتمع الاستهلاك . فالحرية أصبحت حرية البيع و الشراء ، و التعددية أصبحت هي تنوع الموضوعات الاستهلاكية ، و العدالة أصبحت هي السعر المناسب The Fair Price . فهذا هو مصير الخطاب الليبرالي الذي تم استخدامه منذ بداياته الأولى كأيديولوجيا للرأسمالية و كدعم فكري لاقتصاد السوق . فقد تمت منذ القرن الثامن عشر ترجمة الليبرالية إلى مصطلحات الاقتصاد الرأسمالي ، و من المنطقي أن تترجم مرة ثانية في العصر الحاضر إلى قيم مجتمع الاستهلاك الذي هو التطور الطبيعي ، التاريخي و الاقتصادي ، للرأسمالية .
يغير مجتمع الاستهلاك التعريفات التقليدية لجميع القيم و المعايير الأساسية لليبرالية و ذلك لصالحه . فالفرد يصبح مشاركا في مجتمعه لا بالعمل الاجتماعي أو السياسي بل باستهلاكه لسلع و بضائع ينتجها هذا المجتمع ، فالمشاركة أصبحت مشاركة في نوع من الاستهلاك ، و الانتماء أصبح انتماء لشريحة استهلاكية معينة تكون علامة على المكانة أو المستوى الاجتماعي .

و لم تعد القيم الأخلاقية الغيرية التي تحكم سلوك الفرد مع غيره بقادرة على تحقيق التماسك و الاندماج الاجتماعي ، تلك القيم التي كان يرجع مصدرها إلى المسيحية و حركة الإصلاح الديني و على رأسها البيوريتانية . و لم يبق إلا القيم الفردية التي يحرص مجتمع الاستهلاك على إنتاج المزيد منها ، لأن هذه هي القيم القادرة الآن على تحقيق شئ من الاندماج الناتج عن الاشتراك في شئ واحد و هو الاستهلاك بالطبع . فقد غيرمجتمع الاستهلاك من معنى الفردية تماما . فلم يعد الفرد يسعى لأن يحقق ذاته بل أصبح يسعى لنيل موافقة الآخرين و كسب رضاهم و التماهي معهم . لم تعد الفردية قيمة مطلقة بل مجرد توافق وظيفي . و بدلا من السعي نحو إنجازات يغير بها المرء أوضاعه و يتجاوز بها حاله نحو حال آخر ، أصبح يسعى نحو مجرد نيل رضاء الناس .

يعتقد المستهلك أن سلوكه حر و ذلك بناء على أنه حر في اختياره بين كل ما يعرضه عليه مجتمع الاستهلاك، و يعتقد أنه يسعى نحو الاختلاف و التميز عن الآخرين ، و لا يجبره أحد على أن يكون كذلك ، فذلك نابع من داخله ، كما أنه لا يطيع قاعدة أو إلزاما معينا يجبره أن يكون مختلفا و متمايزا ، فهذه هي العلامة الأصيلة للتفرد . إلا أن حريته هذه وهمية و سعيه نحو الاختلاف زائف ، ذلك لأن تعددية موضوعات الاستهلاك و تعدديةالمواقف و الآراء و الأنماط الثقافية التي يختارها ليست إلا نتاج المجتمع الذي يحيط به و لاتكشف إلا عن منطق واحد و هو انسياق الفرد في الأسلوب الوحيد الذي يستطيع أن يعيش به في المجتمع و هو لمزيد من الاستهلاك . فالتعددية زائفة لأنها ليست إلا تنوع لموضوعات استهلاكية سواء كانت سلعا أو آراء أو أنماط ثقافية .
كما يغير مجتمع الاستهلاك من معنى الممارسة العملية و النشاط الاجتماعي للفرد . فهو يحول الممارسة الاجتماعية و السياسية Praxis إلى مجرد اهتمام بشئون الحياة اليومية Everydayness ، أي وجودا زائفا حسب فلسفة هايدجر . فالمجالات السياسية و الثقافية و الاجتماعية تختفي لتخلي المكان للحياة الخاصة و لكل ما هو خاص : العمل ، الأسرة ، وقت الفراغ ، التسلية و الترفيه ، دائرة الأصدقاء و المعارف . و بهذه الطريقة تستطيع وسائل الاتصال الجماهيري التدخل في الحياة الخاصة للناس ، و ذلك بسيطرتها على الترفيه و أوقات الفراغ و التعبئة التجارية للأذواق .

لكن هل لا تؤدي هذه الحالة إلى نوع من تأنيب الضمير و الشعور بالذنب الناتج عن تناقض بين السلبية الناتجة عن البعد عن كل ما هو سياسي و اجتماعي و بين الإيجابية المتأصلة في التراث الديمقراطي الغربي و تاريخه السياسي ؟ يجيب بودريار بان مجتمع الاستهلاك يعمل كذلك على القضاء على هذا الشعور بالذنب و التقصير، وذلك بأن يجعل الناس يشعرون بالأمان في بعدهم عن ما يسمى بغابة الحياة و مخاطرها . فكلما بثت وسائل الإعلام صورة بائسة و متوحشة و خطرة عن العالم كلما زاد شعور الناس بالأمان في بعدهم و انعزالهم عنه . إن شعورهم الزائف بالأمان يقضي على أي إحساس بالذنب أو التقصير ، كما يعد أحد عوامل قبول الوضع القائم ، إذ يجعلهم محايدين و سلبيين أمام كل القضايا و المشاكل الاجتماعية و السياسية . " إن علاقة المستهلك بالعالم الحقيقي و بالسياسة و التاريخ و الثقافة ليست علاقة اهتمام أو مسئولية ملتزمة ... بل هي علاقة فضول. "

و لم يعد التفرد Singularity هدف الفرد الذي يسعى إليه من خلال الاختلاف عن الآخرين ، فالعناصر التي يزود بها المجتمع الفرد لكي يحدث لديه شعور بالتفرد تجعله ينساق في حبائل أيديولوجيا الاستهلاك .. هذه الأيديولوجيا تبث في الفرد نرجسية تجعله يرى تفرده على أنه يتمثل في نوع الملبس أو السيارة التي يستخدمها أو العطر الذي يضعه أو نوعية السلع التي يشتريها أو الطريقة التي يقضي بها وقت فراغه . و بذلك يتحول التفرد إلى مجرد التماهي مع مقاييس عامة يصنعها المجتمع ، و الاندراج في أنماط Types محددة يمثلها المشاهير و نجوم السينما و الإعلام. ينقلب التفرد الآن إلى أن يصبح تنميطا Stereotyping و توحيدا للمقاييس Standardization .

الحاجات والوسائل :
ساد الليبرالية خطاب حول الحاجات Needs و حول الوسائل التي يسعى المرء لإشباع هذه الحاجات عن طريقها . و اعتمد هذا الخطاب على تصور عن الطبيعة الإنسانية و عن الإنسان باعتباره إنسانا اقتصاديا Homo Oeconomicus . ظهر هذا الخطاب في علم الاقتصاد السياسي و في بعض المذاهب الفكرية و الفلسفات مثل الفلسفة التجريبية الإنجليزية ، و ساد الفكر السياسي الغربي طويلا ، و الآن يعد أحد الدعائم الأساسية لمجتمع الاستهلاك . و تحتوي أعمال بودريار على نقد حاد و عميق لمفهوم الحاجة هذا ..وليست الحاجات التي يتكلم عنها الخطاب المدعم لمجتمع الاستهلاك حاجات بشرية صادرة عن الطبيعة الإنسانية ، بل هي حاجات من صنع مجتمع الاستهلاك نفسه . إنها ليست حاجات أولية . فحاجة الإنسان إلى الطعام مثلا تشبعها كمية محددة من الطعام ، إلا أن الطعام في المجتمع الاستهلاكي يتخذ صورا وأشكالا عديدة أخرى و يتحول للمجال الرمزي . فعلى الرغم من أن حاجات الإنسان الأساسية محددة إلا أننا نجد تنوعا هائلا في السلع التي تشبع هذه الحاجات . و يرجع هذا التنوع إلى مجتمع الاستهلاك الذي يخلق حاجات أخرى ثانوية بمجرد إنتاجه لكم هائل من السلع التي تشبع حاجة واحدة . فللإنسان حد أدنى يكتفي به و يستطيع عن طريقه إشباع حاجاته الأولية ، لكن مجتمع الاستهلاك خلق حاجات أخرى ترفية و رمزية لا يمكن إشباعها ، ذلك لأنه بمجرد أن يشبع الفرد حادة منها حتى تؤدي به إلى حاجات أخرى وإلى ما لا نهاية . و يرجع السبب في ذلك إلى أنها ليست حاجات تشبع عن طريق قيم استعمالية بل عن طريق قيم تبادلية . لا يأتي إشباع هذه الحاجات عن طريق امتلاك المرء لقيمة استعمالية لشيء ما بل لقيمة رمزية . فالسلع تستهلك لما تضفيه على المرء من مكانة أو وضع اجتماعي أو قيمة في المجتمع و صورة معينة عند الآخرين ، لا بما تشبعه من حاجات أولية لديه .

الحاجات في حقيقتها ليست حاجات أفراد بل هي حاجات نظام ، هي حاجات النمو . فالنمو المتزايد للمجتمع هو الذي يفرض حاجات معينة تخفي نفسها باعتبارها حاجات أفراد . فإذا كان العصر الحالي هو عصر ما بعد صناعي Post-Industrial يتمثل إنتاجه الأساسي في الخدمات و السلع الاستهلاكية و الصناعات اللينة و صناعات الإعلام و المعلومات فمن الطبيعي أن تكون القيمة السائدة فيه هي القيمة التبادلية والرمزية لا القيمة الاستعمالية ، و من الطبيعي أيضا أن يعمل هذا المجتمع على خلق الحاجات التي يشبعها إنتاجه ، و بما أن إنتاجه استهلاكي و خدمي و خدمي و إعلامي فإن الحاجات التي يخلقها يجب أن تكون رمزية ثانوية .

خلق حاجات جديدة باستمرار كان من ضرورات بقاء النظام الرأسمالي ، فهذا النظام في حاجة دائمة إلى أسواق لتصريف إنتاجه . فكانت الإمبريالية ضرورية بالنسبة لهذا النظام و ذلك لفتح مزيد من الأسواق عبرجميع قارات العالم ، فإذا لم تجد الرأسمالية أسواقا فسوف تموت . أما استقلال المستعمرات فكان لابد و أن تخلق الرأسمالية سلعا جديدة تشبع حاجات جديدة . و بذلك فتحت أسواقا جديدة تعوضها عن الأسواق التي فقدتها في حركات الاستقلال ، فظهرت الأسواق الاستهلاكية ة الإعلامية و الخدمية التي ضخت دماء جديدة للنظام.

كما يغير المجتمع الاستهلاكي من طبيعة دوران رأس المال و من إعادة إنتاج النظام . فقد كانت علاقات الإنتاج من نظام طبقي و ملكية خاصة و ما يصحبها من قوانين و تشريعات هي التي تعمل على إعادة إنتاج النظام الرأسمالي و الحفاظ عليه و على تماسكه و ذلك في عصر الرأسمالية الصناعية ، أما الآن و في عصر رأسمالية ما بعد الصناعة فقد أصبح الاستهلاك و التبديد و الإهدار هو الذي يعمل على إعادة إنتاج النظام و الحفاظ على تماسكه . لم يعد يستند النظام على تحول القيمة الزائدة إلى رأسمال جديد يتراكم و يتوسع باستمرار ، بل أصبح يعتمد على إنتاج صناعات لينة يجب أن تهدر و تفنى لكي يعاد إنتاج غيرها باستمرار ، و هكذا يتم دوران رأس المال الآن .
لقد كفت الحاجات عن أن يكون لها استقلال و وضع خاص ، فهي لم تعد تتسم بأنها أولية و طبيعية و خاصة بالذات الإنسانية بل أصبحت من صنع النظام ، و بالتالي لم تعد تصلح لنقد الرأسمالية كما فعل ماركس و لوكاتش وفلاسفة مدرسة فرانكفورت و كثير من التيارات اليسارية . لقد أصبحت الحاجة مشروطة اجتماعيا و تحولت إلى أحد منتجات النظام ، و لذلك لا يمكن نقد هذا النظام بما ينتجه .
والحقيقة أننا نجد عند هيجل تشخيصا مشابها لمفهوم الحاجة و خاصة في كتابه " أصول فلسفة الحق " الذي وضع فيه نظرياته الاجتماعية و السياسية . فالحاجات عنده تتضاعف كلما تقدمت الحضارة ، و لا يستطيع الفرد إشباعها جميعا ، كما تتحول أكثر إلى أن تكون حاجات ترفية . لكن في حين ينتقل هيجل من تشخيصه لنظام الحاجات إلى مقولة العمل و يأخذ في تحليل الاقتصاد السياسي باعتباره ينطلق من مفهومي الحاجة و العمل يكتفي بودريار بنقد مجتمع الاستهلاك و الأيديولوجيا المدعمة له و لا يقوم بالخطوة التي قام بها هيجل و من بعده ماركس و هي نقد الاقتصاد السياسي نفسه القائم على مفهوم الحاجة ، بل يكتفي بنقد هذا المفهوم فقط.
و يكمن السبب وراء ذلك في أن بودريار كان قد تخلى عن محاولة نقد الاقتصاد السياسي لأنه اعتقد أن ما حل محله الآن هو نسق الرموز والعلامات المتحكم في الاتصال و الإعلام و الاستهلاك .

المساواة :
المساواة أسطورة ، استخدمتها الأيديولوجيا الليبرالية دائما لتبرير أسلوب الإنتاج الرأسمالي و الحفاظ علىالوضع القائم . تحولت كل مساوئ هذه الأيديولوجيا و خبائثها الآن إلى مفهوم السعادة . أصبحت السعادة هي علامة المساواة و مقياسها . و لكي تكون السعادة حاملة لأسطورة المساواة يجب أن تخضع للقياس ، أي قابلة لأن تقاس في صورة موضوعات و علامات ، يجب أن تتحول إلى رفاهية . فقد ورثت دولة الرفاهية في الغرب التراث السياسي الليبرالي بجميع قيمه و معاييره ، و نظرت لنفسها على أنها هي المحققة لهذه القيم و المعايير و التطور الطبيعي لها ، فكان من المنطقي أن تترجم المساواة إلى مصطلحات مجتمع الاستهلاك الذي هو نتاج دولة الرفاهية ، و تصبح السعادة علامة على الرفاهية و الرفاهية علامة على المساواة .
لكن يتم عزل و إبعاد السعادة الأصيلة ، السعادة التي هي شعور داخلي لدى المرء و مستقل عن أي موضوع خارجي و التي هي رضا و قناعة ، تلك السعادة التي ليست بحاجة إلى دليل مادي ، و ذلك لتخلي مكانها للسعادة باعتبارها رفاهية يجب أن تقاس و يبحث عنها بمحك منظور . لا تعد السعادة هي فرحة الجماعة في الأعياد و الاحتفالات ، لا تعد معنوية و متجسدة في الحياة الجماعية المشتركة بل تصبح ذات معايير فردية. كما يذهب بودريار إلى أبعد من ذلك و يرى أن تراث الليبرالية منذ بدايته و هو يترجم المساواة إلى هذا المفهوم الضيق عن السعادة . فإعلان حقوق الإنسان و المواطن يعترف و ينادي بحق كل فرد في السعادة ، أي ينقل السعادة من معناها الجماعي العام و المعنوي و التساندي إلى معناها الفردي الذي يتحول إلى رفاهية و استمتاع بموضوعات استهلاكية . " تحول مبدأ الديمقراطية من مساواة حقيقية للكفاءات و المسئوليات و الفرص المتساوية … إلى مساواة أمام موضوعات التملك و الرموز المادية للنجاح الاجتماعي و السعادة ... و الظاهر أنها مساواة عينية إلا أنها شكلية تخفي و تحجب غياب الديمقراطية الحقيقية و اختفاء المساواة . "

و إذا كان المجتمع المعاصر يحقق شيئا من المساواة في الرواتب و أوضاع المعيشة و إشباع الحاجات فإن ذلك يعد نتاجا زائدا By-Product للوظيفة الأصلية للنظام ، و التي تتمثل في زيادة الامتيازات المادية لأصحاب الامتيازات ، أي لمن لهم امتيازات أصلا . فاللامساواة هي هدف النمو و ما المساواة إلا نتاجا زائدا حدث بالصدفة . فبينما كانت الليبرالية تعتقد في أن زيادة النمو سوف تقضي على الندرة و بالتالي على البؤس و الشقاء الذي تعاني منه الطبقات الدنيا و بالتالي تقضي على احتمالات الثورة و القلاقل الاجتماعية و تقلل من حدة التناقضات الطبقية و الفروق الواسعة بين مستويات المعيشة ، فإن النمو لم يؤد واقعيا إلى كل ذلك بل على العكس أدى إلى زيادة الفروق .

إذا كانت مبادئ الديمقراطية و المساواة تقوم في الخطاب الليبرالي التقليدي بممارسة السيطرة الاجتماعية و التنظيم الأيديولوجي للتناقضات السياسية و الاقتصادية ، فإنها لم تعد تقوم بمثل هذا الدور الآن . فقد جعل مجتمع الاستهلاك هذه القيم هشة و غير قادرة على أداء وظيفة الاندماج الاجتماعي لمجتمع يتناقض واقعه مع هذه القيم ، حتى إذا تم تمثلها عن طريق التربية و التنشئة الاجتماعية . فما يقوم بهذا الدور الآن عبارة عن آلية لاشعورية في الاندماج و التحكم . تتمثل هذه الآلية في إدخال الأفراد في نسق من الاختلافات ، أي في نظام من التعدد و التنوع الثقافي الذي يسعى فيه الأفراد لأن يكونوا مختلفين عن طريق اختيار موضوعات استهلاكية. و بذلك يتم إحلال الاختلاف محل التناقض . فالتناقض لا يحل عن طريق إحلال المساواة و التوازن محله ، بل عن طريق إحلال الاختلاف و التمايز ، الثقافي و الاستهلاكي و الإعلامي .

وهم الحرية :
يستخدم مجتمع الاستهلاك مفهوم الحرية بنفس الطريقة التي استخدمها بها مجتمع الصناعة . فقد كانت الليبرالية تدعو للحرية في بداية العصر الصناعي ، إلا أن هذه الدعوة كانت زائفة و أيديولوجية و يكمن ورائها أهداف أخرى . فقد كان على الفرد أن يتحرر من الإقطاع و من ارتباطه بكنيسة أو مذهب أو طائفة أو عرق و ذلك لكي يصبح عاملا أجيرا في ظل النظام الرأسمالي . فقد أدى مبدأ الحرية كما استخدمه المجتمع الصناعي مهمة قطع صلة الفرد بكل ما كان يربطه بوحدات اجتماعية سابقة على الرأسمالية و ذلك ليتمكن النظام من إدخاله سوق العمل و يصبح فيه سلعة . و نفس هذا التوظيف لمبدأ الحرية يستخدمه مجتمع الاستهلاك الآن ليطبقه على الجسد . يجب على الجسد الآن أن يتحرر ، أي أن ينفك ارتباطه بمفاهيم الخطيئة و السقوط و الذنب و المعصية ، أي بكل المفاهيم الدينية المسيحية و البيوريتانية التي تفرض على الجسد الزهد و التقشف ، و ذلك لكي يمكن أن يصبح موضوعا للاستهلاك ، أي حاملا لموضات أزياء و عطور و هدفا لطرق ممارسة الحمية ( الريجيم ) و صفحة بيضاء لأدوات التجميل و هدفا لتسويق الرياضة و الأجهزة الرياضية ، وسلعة جنسية أيضا .
كما لا تعد حرية المجتمع الحالية و سهولة الحوار بين كل أطرافه و تبادل الآراء و المواقف فيه نتيجة لتقدم أخلاقي أو لزيادة التحرر أو لفهم أفضل و أعمق للمشاكل الاجتماعية ، بل تكشف هذه الحرية عن أن الآراء والأيديولوجيات و الفضائل و الرذائل أصبحت مادة للتبادل و الاتصال ، و هي متساوية القيمة في لعبة العلامات و الرموز التي يمارسها النظام . و لم يعد التسامح في هذا السياق حالة سيكولوجية باطنة أو فضيلة أو قيمة عليا ، بل هو شرط من شروط وجود النظام نفسه ، لأن هذا النظام يتمثل في إنتاج المعلومات و توصيلها و أداء الخدمات و خلق حاجات تشبعها سلع استهلاكية ، فمن الطبيعي أن تكون الحرية و التسامح من بين مقومات وجود النظام و أداءه لوظائفه .

كانت الليبرالية تفهم الحرية على أنها تجد تعبيرها الأكمل و التام في مفهوم الملكية الخاصة و ما يشمله من مفاهيم فرعية مثل الحيازة و حق الانتفاع و العقد Contract باعتباره اعتراف الأطراف المشاركة فيه بالملكية لبعضهم البعض و ما يتفرع عن ذلك من حقوق للمشاركين في هذا العقد . و يعد مفهوم الملكية الخاصة مصدر التنظيم القانوني و السياسي الليبرالي للمجتمعات الغربية منذ القرن الثامن عشر ، كما يشكل أساس الحقوق و الواجبات المدنية و السياسية و كذلك جزءا كبيرا من قانون العقوبات . لم يعد مفهوم الملكية الخاصة بمثل أهميته تلك في مجتمع الاستهلاك . فلم يعد هناك معنى لمفهوم الحيازة أو التملك أو الاقتناء ، فقد أخلت هذه القيم مكانها لقيم الاستعمال و الاستمتاع و الاستهلاك . الحيازة هي الاحتفاظ بشيء معين يبقى و يدوم و تكون الاستفادة منه طويلة الأجل ، أما الاستهلاك فهو إشباع لرغبة عن طريق إهلاك و إهدار لموضوع هذه الرغبة . كما أخلى مفهوم العقد مكانه لمفهوم السعر المناسب ، فبمجرد شرائك لسلعة فهذا يعني أنك توافق على سعرها ، و موفقتك على السعر تعني اتفاقك مع النظام . فبعد أن كان الاتفاق و الإجماع و الرضا أهداف يتم الوصول إليها عن طريق الحوار السياسي الاجتماعي بين المواطنين حول شئون حياتهم و مستقبلهم هادفين تنظيم التعامل بينهم ، أصبح يتم الوصول لهذه الأهداف عن طريق شراء سلعة .

يحول المجتمع الاستهلاكي الديمقراطية إلى شيء يقاس . فالنمو و زيادة الإنتاجية تعني الوفرة ، و الوفرة تعني الرفاهية ، و الرفاهية تعني الديمقراطية . و بالتالي فقياس النمو و الإنتاجية يعني قياس درجة الديمقراطية القائمة . و تصبح الحقوق الطبيعية للإنسان هي حقوقه في تملك و استهلاك موضوعات إشباع حاجاته . و بذلك لن يكون هناك معنى للتساؤل حول ما إذا كان هذا المجتمع يحقق الحرية و المساواة أم لا ، و هل هو ديمقراطي أم لا ، و هل قضى على أوجه اللامساواة السابقة أم لا ، لأن هذا المجتمع قد أبدل بالفعل قضايا الحرية و المساواة و الديمقراطية و نقلها من الميدان الاجتماعي و السياسي إلى المجال المادي الاستهلاكي .

الجماهير الصامتة :
يذهب بودريار إلى أنه منذ القرن الثامن عشر و خاصة منذ الثورة الفرنسية أصبح مجال السياسة مجالا للتمثيل Representation ، أي بدأ ما هو اجتماعي يجد التعبير عنه في ما هو سياسي ، و أصبح المواطنون يجدون في المجال السياسي تعبيرا عنهم ، فقد استندت الممارسة السياسية آنذاك على مفاهيم الديمقراطية النيابية و التمثيلية و على الرأي العام و فكرة الإرادة العامة . يترجم بودريار ذلك إلى مصطلحات البنيوية و ما بعد البنيوية . فهو يرى أن مجال السياسة أصبح منذ ذلك الوقت مجالا للدلالة و المعنى ، فما يحدث في السياسة هو دال Signifier لمدلول أساسي FundamentalSignified
هو الإرادة العامة . و لا يزال الفكر السياسي الليبرالي يلعب على الحنين لهذا العصر الذهبي ، الذي كان فيه الاجتماعي مستقلا و ممثلا في السياسي.
أما الآن فلم يعد الاجتماعي مجالا مستقلا و لم يعد مصدرا للطاقات و القوى التي تمد السياسي بالدلالة و المعنى . فمع تحول المجتمع المدني Civil Society إلى مجتمع جماهيري Mass
Society أصبح مستقبلا لكل ما تفرضه عليه السياسة و لم يعد له الدور الفاعل و المؤثر الذي كان يتمتع به . لم يعد المدلول الذي تشير إليه و تنتهي إليه الدالات السياسية . فلقد اختفى أي واقع اجتماعي أساسي يكمن تحت معني العملية السياسية ، و انعزلت السياسة أكثر و أكثر عن الجماهير و أصبح لها استقلال و تسيير ذاتي ، أي أصبحت لا تشير إلا لذاتها و لا دلالة لها إلا بالنسبة لمجالها فقط . فمع التداخل المتزايد بين الاقتصاد و السياسة ، و مع كثرة جماعات الضغط ذات المصالح الجزئية الخاصة و قوة تأثيرها ، لم تعد الجماهير مؤثرة في المجال السياسي . لم يعد هناك إلا مدلولا واحدا أو إحالة واحدة و هي إلى الأغلبية الصامتة التي أصبحت إحصائية .

لا تظهر هذه الأغلبية الصامتة ممثلة في شيء معين أو باعتبارها مصدرا لمعنى ممارسات سياسية معينة ، بل باعتبارها عنصرا إحصائيا . و لم يعد من الممكن لأي أحد أو أي منظمة أن تتحدث باسم الجماهير ، فقد كفت الجماهير عن أن تكون ذاتا بالمعنى التقليدي و لم يعد يمكنها أن تمر بمرحلة تكوين هويات سياسية . لم يعد هناك كذلك معنى للاغتراب ، لأن الاغتراب يحدث لذات في سياق عملية تكوينها الذاتي ، ذات لها احتياجات ووعي و خبرة . كما تنتفي كذلك فكرة الثورة ، فالثورة يفترض أن تحدث من قبل مضطهدين ، و يفترض في المضطهدين أن لهم هوية ووعي بمصالح مشتركة و أهداف واحدة ، إلا أن الجمهور ليس له هوية ، فهو مجموع إحصائي لا غير ، و كتلة كبيرة لا متمايزة تم تحييدها .

تتحول الجماهير في المجتمع المعاصر إلى كتلة ضخمة يراد جمع المعلومات عنها بهدف توجيهها و السيطرة عليها . و لم يعد لقياس الرأي العام و لعمليات استطلاع الرأي معنى ، فهي تفترض وجود رأي جاهز لدى الجماهير ووجود موقف محدد لديها يتم الكشف عنه ، إلا أن ذلك ليس صحيحا . لا يعمل قياس الرأي العام إلا على الإيحاء بوجود رأي عام ، و يقوم في ذلك بوظيفة النبوءة الذاتية التحقيق Self-Fulfilling Prophecy أي الإشاعة التي تتحول إلى حقيقة بمجرد انتشارها . أما وسائل الإعلام فلا تهتم بالمعنى ، فالمعنى هو المحتوى أو المضمون في عملية الاتصال ، في حين أن هذه العملية محايدة تجاه المحتوى و لا يهمها إلا التوصيل. فالمضمون ليس هو الرسالة ، بل إن وسائل الإعلام نفسها هي الرسالة The Media Is The Message كما يقول ماكلوهان . يتوصل بودريار من ذلك إلى أن الاتصال يحيد المعنى و يلغيه ،و يصبح هدفا في ذاته ، فهو اتصال من أجل الاتصال لا من أجل توصيل و نقل المعنى .

اكتمال الأيديولوجيا :
إذا كانت الأيديولوجيا ، و خاصة في المجتمع الصناعي ، تتمثل في عملية التشيؤ Reification التي تظهر فيها العلاقات الاجتماعية بين الناس على أنها علاقات بين أشياء ، و في عملية صنمية السلع Fetishism Of Commodities التي تتحول فيها العلاقات الاقتصادية إلى قوانين حتمية تماثل قوانين الطبيعة و تنعزل عن أساسها الاجتماعي و تصبح علاقات بين سلع ، فإن تحليل بودريارللمجتمع الاستهلاكي يكشف عن أن هذه الأيديولوجيا قد وصلت إلى نهايتها المنطقية .
حلل ماركس أسلوب الإنتاج الرأسمالي على أنه نظام منتج للسلع . فكل التنظيمات الاقتصادية و كل تفاصيل عملية الإنتاج في هذا النظام تهدف إلى هذه الغاية . و على الرغم من أن هذه السلع نتاج العمل البشري إلا أنها بمجرد دخولها في علاقات تبادل في السوق حتى يكون لها حياتها الخاصة و قوانينها الخاصة التي تسمى قوانين السوق ، مثل العرض و الطلب ، و بذلك تستقل عن أصلها البشري و الاجتماعي و يصبح لها كيانها الخاص . و ليس هذا و حسب ، بل إنها تصبح هي التي تنظم علاقات الأفراد ببعضهم و تنظم علاقاتهم بالمجتمع . و بذلك تأخذ الطابع الصنمي . كما أن طاقة العمل البشري تقاس بمدى قدرتها على إنتاج سلع ، و تتحدد قيمة هذا العمل بقيمة ما ينتجه من سلع . و هذا ما يؤدي إلى تشيؤ العلاقات الاجتماعية . فالعلاقات بين المنتجين التي هي في الأصل علاقات اجتماعية تظهر على أنها علاقات بين منتجات عملهم و تحكمها قوانين اقتصادية .

إذا كان ماركس قد ذهب إلى أن السلع و العلاقات بينها قد حلت محل العلاقات الاجتماعية ، فإن بودريار يذهب الآن إلى أن العلامات و الرموز قد حلت محل الواقع نفسه ، و بذلك أصبح الدال مستقلا عن المدلول و تم تعميم الأيديولوجيا . فالسلع تستهلك لا لما تسده من حاجات بل لما لها من قيمة رمزية ،أي تستهلك باعتبارها علامات . كما أن وسائل الإعلام لم تعد تنقل لنا إلا العلامات و الرموز ، و بذلك صنعت واقعا ثانيا بديلا عن الواقع الحقيقي . فلم يعد الدال يشير إلى مدلول معين ، و لم تعد العلامة علامة لشيء واقعي بل أصبحت علامة لعلامة أخرى ، و تم إخراج الواقع من هذه العلاقة الجديدة . فلم تعد القيمة التبادلية تشير إلى قيمة استعمالية ، إلى حاجة أو هدف أو غاية ، بل إلى قيمة تبادلية أخرى و علامات و رموز أخرى.فإذا كانت الأيديولوجيا هي استبدال الواقع بالعلامة و النظر إلى الدال على أن له الأولوية على المدلول ، فإن تحليلات بودريار تكشف عن أن المجتمع الاستهلاكي لا يقوم بعملية الاستبدال هذه و حسب ، بل إنه يحل العلامات محل بعضها البعض و يستبدل رموزا برموز و ذلك في غياب الواقع أو الشيء الحقيقي . صحيح أن بودريار ينظر إلى هذه العملية الجديدة على أنها نهاية للأيديولوجيا ، إلا أنها نهاية لنوع معين من الأيديولوجيا، تلك التي تحل العلامة محل الواقع ، و ظهور لنوع جديد و هو المتمثل في إخراج الواقع ذاته من لعبة العلامات و الرموز .في كتاب : "السياسة الاقتصادية: آراء لليوم وللغد" والذي ترجم بإشراف السيد فادي حدادين ، يدلل ميزس على النظرية من خلال الأمثلة المحلية الشائعة، ويفسر الحقائق التاريخية البسيطة، في معطيات من المبادئ الاقتصادية. إنه يصف كيف تمكنت الرأسمالية من تدمير النظام الطبقي الذي كان يجسده الإقطاع الأوروبي، كما إنه يبحث في النتائج السياسية التي تترتب على أنماط الحكومات المختلفة. إنه يحلل فشل الاشتراكية ودولة الرفاه الاجتماعي، ويبين ما يستطيع المستهلكون والعمال تحقيقه عندما يكونون أحراراً في ظل النظام الرأسمالي لتقرير مصائرهم بأنفسهم.

يقول ميزس: "عليكم أن تتذكروا أنه في السياسات الاقتصادية لا توجد معجزات. لقد قرأتم في كثير من الصحف والخطب حول ما سمي بـ"المعجزة الاقتصادية الألمانية"—إعادة بناء ألمانيا بعد هزيمتها أو تدميرها في الحرب العالمية الثانية. ولكن هذه لم تكن معجزة. لقد جاءت تطبيقاً لمبادئ اقتصاد السوق الحرة ووسائل الرأسمالية، على الرغم من أنها لم تطبق بشكل تام في جميع جوانبها. كل بلد يستطيع أن يمر بمعجزة مماثلة من النهوض الاقتصادي، على الرغم من إصراري على القول بأن النهوض الاقتصادي لا يتأتى عن معجزة؛ إنه يتأتى عن تطبيق سياسات اقتصادية سليمة."
ويتابع ميزس بالقول: "الناس يتحدثون عن سياسة [الطريق الوسط]. ولكن الذي لا يرونه هو أن التدخل الجزئي، والذي يعني التدخل فقط بقسم صغير واحد من النظام الاقتصادي، من شأنه أن يؤدي إلى وضع تجد فيه الحكومة نفسها، وكذلك أولئك الذين يطلبون تدخل الحكومة، في أوضاع أسوأ من تلك التي أرادوا إلغاءها. فكرة أن هنالك نظاماً ثالثاً—بين الاشتراكية والرأسمالية—كما يقول دعاته، نظام بعيد جداً عن الاشتراكية بقدر بعده عن الرأسمالية، والذي يحتفظ مع ذلك بمزايا كل منهما ويتجنب مساوئه، هو طرح لا يقوم على أساس. إن الناس الذين يؤمنون بأن هنالك مثل هذا النظام الخيالي، يستطيعون أن يرتقوا إلى مرتبة الشعراء، عندما يمتدحون عظمة التدخل! لا يستطيع المرء إلا أن يقول بأنهم مخطئون. فالتدخل الحكومي الذي يمتدحونه من شأنه أن يخلق ظروفاً هم أنفسهم لا يحبونها."

إقتصاد المعرفة :
في حين كانت الأرض، والعمالة، ورأس المال هي العوامل الثلاثة الأساسية للإنتاج في الاقتصاد القديم، أصبحت الأصول المهمة في الاقتصاد الجديد هي المعرفة الفنية، والإبداع،والذكاء، والمعلومات . وصار للذكاء المتجسد في برامج الكمبيوتر والتكنولوجيا عبر نطاق واسع من المنتجات أهمية تفوق أهمية رأس المال، أو المواد، أو العمالة.وظهرت مدرسة اقتصادية حديثة تتبنى ما بات يعرف بإقتصادات المعرفةتقوم على البحث والتطوير في مجال المعلوميات على وجه الخصوص ضمن نظريات النمو الاقتصادي الحديثة خلال عقدي الثمانينات والتسعينات، وازداد ت وتيرة هذا الاقتصاد تسارعا مع بداية القرن الحادي والعشرين .ومن رواد تلك المدرسة :باول رومر، روبرت لوكاس، وروبرت سولو.وتعد الموارد البشرية المؤهلة وذات المهارات العالية، والمتمثلة في رأس المال البشري، هي أكثر الأصول قيمة في الاقتصاد الجديد، المبني على المعرفة.ويعتمد اقتصاد المعرفة على دراسات تطبيقية لقياس أثر رأس المال البشري على معدل النمو في الأجل الطويل. فهذه المدرسة ترى أن زيادة الإنتاجية تمثل عنصرا داخليا وليس خارجيا في عملية النمو ولها علاقة بسلوك الأفراد المسؤولين عن تراكم المعرفة والعناصر المنتجة الأخرى مثل تراكم رأس المال المادي والتوسع في قوى العمل والتقدم التكنولوجي.

وتؤكذ تلك المدرسة على الأهمية المحورية للمعرفة في عملية النمو الاقتصادي وتوليد العمالة وتعزيز التنافسية. فاقتصاد المعرفة، يتطلب قيام نسق لنقل التقانة واستيعابها في المجتمع وتنشيط إنتاج المعرفة المؤدي إلى توليد تقانات جديدة، وهو ما يحقق غايات الكفاءة الإنتاجية والتنمية الإنسانية معاً. وفي هذا الإطار فإن الابتكار والابداع والتجديد في مجال المعارف التقنية و توظيف رأس المال المعرفي في إنتاج التقانة وتوظيفها في عملية النمو الاقتصادي.يمثل اقاعدة الاقتصاد الجديد والقدرة على منتجات معرفية لها قدرة تنافسية في الأسواق الاقليمية والدولية. والمعرفةفيه هى المحرك الرئيسى للنموالاقتصادي .

ويعد هذا النمط من اقتصاد المعرفة نتيجة مباشرة لما يعرف حاليا بثورة الاليكترونيات والمعلومات والاتصالات ، وتمثل أخر طور من أطورا الرأسمالية العالمية والذي يسهم إلى حد كبير في عولمتها أو ظهور وانتشار مفهوم وأيديولوجية العولمة .وأصبح هذا النوع من الاقتصاد يحتل حيزا متنامي في الانتاج القومي لها وفي زيادة دخلها القومي خاصة بعد أن زادت المنافسة العالمية لمنتجاتها من الاقتصاد التقليدي القديم الذى أفرزته الثورة الصناعية.والذي كانت تلعب المعرفة فيه دورا أقل، غلى جانب عوامل الإنتاج التقليدية الأخرى .كما ساعد على ذلك انتشار شبكات الكمبيوتر مثل الانترنت .

خصائص اقتصاد المعرفة
وتتمثل خصائص واحتياجات الاقتصاد المبني على المعرفه في الأتي:
1. الابتكار: والذي يعززه نظام فعال من الروابط العلمية مع المؤسسات الاكاديميه وغيرها من المنظمات التي تستطيع مواكبة ثورة المعرفه المتناميه واستيعابها وتكييفها مع الاحتياجات المحلية في الدول المتقدمة..وهناك أنواع عديدة بشبكات المعرفة مثل شبكات الجامعات وشبكات مراكز البحوث وشبكات مؤسسات المعلومات كالمكتبات ودور النشر ومراكز التوثيق وشبكات الصناعات المختلفة
2. الارتقاء بمستوى التعليم بحيث يمكنه إمداد الاقتصاد باحتياجاته من اليد العاملة الماهره والابداعيه القادرة على ادماج التكنولوجيات الحديثة في العمل.يتطب اقتصاد المعرفة نوعاً جديداً من التعليم والتدريب
. و تطور المعرفة السريع يتطلب التدريب مدى الحياة ، كما يتطلب مستوى علمي وتكنولوجي للعمالة أعلى من السابق والتطور السريع فيها يحتاج إلى برامج للتعليم والتدريب مدي الحياة ، أي لاينتهي التعليم فيها بالحصول على شهادات جامعية على نحو ما كان سائدا في نظم التعليم السابقة.ويتطلب أيضا بالنسبة للدول الناطقة بالعربية إلى تعريب المصطلحات المعلوماتية وإتقان اللغة الانجليزية المستعملة بكثرة في المعلوميات. والتي تشمل خمس:
أ وضع المصطلح العلمي وتوحيده ونشره .
ب الاهتمام بتقييس استعمال اللغة العربية في المعلوماتية والاتصالات .
ج الإسراع في تكوين قواعد المعلومات باللغة العربية في مختلف المجالات ووضعها على الشبكات الحاسوبية ومنها الانترنت .
الاهتمام بالترجمة العلمية من اللغات العالمية وخاصة الانكليزية الى اللغة العربية .
د الاهتمام الجاد بتعليم العلوم باللغة العربية في المدارس والجامعات على مدار الوطن العربي مع الاهتمام في الوقت ذاته بتعليم اللغات الاجنبية وإتقانها وخاصة الإنكليزية .
ه دعم البحوث القائمة واللازمة في مجالات اللغة العربية وتكنولوجيا المعلومات .
3. االتوفر على بنية تحتية قائمة على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تسهل نشر وتجهيز المعلومات والمعارف وتكييفها مع احتياجات الاقتصاد.ويتحقق فيها الامكانيات التالية :
أ- توليد المعرفة: وذلك في مؤسسات البحث والتطوير وفي الجامعات ، وهذا يتطلب قيام الدول العربية برفع معدلات تمويلها ودعمها لهذه المؤسسات.
ب- نقل المعرفة : وذلك من قبل الشركات المتقدمة ، وكذلك مؤسسات التوثيق العلمي وشبكات نقل المعلومات ومؤسسات الترجمة، وكذلك عن طريق البعثات للاختصاصات المختلفة بقصد نقل المعرفة وتوطينها ، يضاف إلى ذلك جهود التعاون الإقليمي والدولي بهذا القصد.
ج- أما نشر المعرفة: فيكون بدعم دور التوثيق والإعلام العلمي إضافة إلى برامج التوعية العلمية المختلفة ، وكذلك توفير مراكز تقديم المعلومات العلمية والتكنولوجية والتجارية وغيرها ، وتوسيع مجال ا ستثمار شبكات الحواسيب ومنها الانترنت وتشجيع إنتقال العاملين من الجامعات ومراكز البحوث إلى الصناعة وبالعكس .
د- استثمار المعرفة: وهي من أهم الوظائف التي يجب الاعتناء بها وذلك بتوفير المؤسسات الوسيطة بين جهات توليد المعرفة وفعاليات الإنتاج والخدمات مثل المؤسسات التكنولوجية ومثل المخابر
الهندسية والهندسة العكسية ومثل دعم براءات الاختراع وحماية الملكية الفكرية وغيرها من الإجراءات.
ه- التوسع المستمر في انتاج المعرفة وتنويع المنتجات
4. توفير بيئةاقتصادية وعلمية تحفز زيادة الانتاجية والنمو في حقل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أوتيسير الحصول عليها وتنميتها.
5. وجود أسواق مفتوحة تستوعب المنتجات محليا وإقليميا ودوليا.

ويقدر الاقتصاديون أن أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي GDPفي الدول الغربية المتقدمة مبني على المعرفة. وزادت صادرات هذه الدول من هذه المنتجات المعرفية لتصل إلى 36% في حال اليابان و 37% للولايات المتحدة و 43% في ايرلندا و 32% في المملكة المتحدة . ويزداد استثمار الدول في المعرفة والمعلومات من خلال الصرف على التعليم والتدريب والتطوير في القطاعين العام والخاص.
فالاستثمار في المعلومات أصبح أحد عوامل الإنتاج ، فهو يزيد في الإنتاجية كما يزيد في فرص العمل.ونجاح المؤسسات والشركات يعتمد كثيراً على فعاليتها في جمع المعرفة واستعمالها لرفع الانتاجية وتوليد سلع وخدمات جديدة ، وقد أصبح الاقتصاد يقاد من قبل سلسلة هرمية من شبكات المعرفة التي تتغير فيها المعلومات بمعدلات سريعة.

وقد سعت بعض الدول المتخلفة اقتصاديا والتي ليس لها انجاز يعتد في الثورة الزراعية أو الصناعية إلى الفقز نحو اقتصاد المعرفة واعتبرت بأنه مجرد تكليف شركات اتصالات أجنبية بإقامة شبكات اتصال حديثة وتوزيع أجهزة كمبيوتر على بعض المدارس وتخصيص بعض المدارس أو إضافة أقسام في الجامعات لدراسة المعلومات تكون بذلك قد هيأت نفسها لدخول اقتصاد المعرفة والذي راحت تبشر به أجهزتها الدعائية . ولا يتوقع بالتأكيد أن تحقق أي انجازات ذات قيمه مادية من هذه الجهود المبذولة ترفع من قيمة الانتاج الوطني ، وكما فشلت من قبل في الاقتصاد التقليدي فلا يتوقع لها أي نجاح في اقتصاد المعرفة. إن ما أنجزته حتي الان يعد ضروريا ولكنه أيضا مظهريا وشكليا أكثر منه عمليا واقتصاديا ، لقد استنزفت شركات الاتصالات الاجنبية مواردا المالية دون أن يتحقق أي تقدم على طريق اقتصاد المعرفة . لايمكن تجاهل المعلوماتية في عصرها وزمانها. ولكن لكي تتحول إلى اقتصاد معرفة ومنتجات معرفية قابلة للتسويق والتصدير وزيادة الدخل الوطني فإن ذلك يحتاج إلى بيئة متخمة بالمعرفة وليس دولة ما يغرب من نصف شعبها مازال أميا والنصف الثاني معظمه أبعد ما يكون عن المعرفة التقنية ، 90 في المائة أو أكثر من خريجي جامعاتها تخرجوا من كليات نظرية ووفق مناهج تعليمية متخلفة حتي عما وصلت إليه العلوم الإنسانية في العالم .

لا يمكن أن تتجاهل التنمية الاقتصادية الانتاج الزراعي والصناعي والاهتمام بهما من شأنه أن يطور في حد ذاته المعارف التقنية ، واستخدام الكمبيوتر في العلوم التطبيقية وفي الصناعات التقليدية وإن بالتدريج هو الذي يمكن من خلق بيئة علمية مواتية لانتاج سلع معرفية قابلة للتسويق محليا وخارجيا وأن تحتل بالتدريج نسبة متصاعدة في الانتاج الوطني المحلي . لفد انتجت الهند سلعا معلوماتية بعد أن توسعت في التعليم التقني وتخريج علماء
أكفاء في المعلومات وفي البرمجة ولكنها تحرز حاليا معدل تنمية اقتصادية لايعتمد على المعلوماتية وإنما على الاقتصاد التقليدي.كما أن الهند التي تمتلك أسلحة نووية من صنعها قد تمكنت من الحصول على تقنيات عالية المستوى وانتاج تقنيات مماثلة محليا وبالتالي حققت تقدما علميا ساهم في ذخولها مجال اقتصاد المعرفة في مجال البرامج أو السوفت ويرولكنها ما زالت في بداية الطريق بالنسبة للمعدات أو الهارد وير.

No comments: