Thursday, February 5, 2009

عقيدة التوحيـــد الإسلاميــة: المعنى والمبنى

تطور الفكر الاقتصادي الغربي:
الاقتصاد هو علم يعنى بدراسة النشاط الاقتصادي وهو فرع من فروع العلوم الإجتماعية ، وما ينشأ عن هذا النشاط من ظواهروعلاقات.وأكثر ما يهتم به الاقتصاد هو: الموارد،الإنتاج،الاستهلاك للسلع والخدمات، التوزيع، التجارة(السعر والعرض والطلب)، والمنافسة في الأسواق.
.
ومصطلح (اقتصاد) لغوياً يعني الاعتدال في النفقة وفي السلوك قال تعالى: " وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك" (لقمان،19)، وجاء في الاثر: "ما عال من اقتصد"، أي اعتدل في إنفاقه.
وقد انصرفت دلالته الاصطلاحية إلى تدبير معاش الاسرة بالموارد المتاحة، وهو ما عرف بالاقتصاد المنزلي. ثم انصرفت دلالته تاليا إلى تدبير شؤون المجتمع المعاشية بواسطة الدولة .وجاء في مختار الصحاح: "القَصْدُ بين الإسراف والتقتير يقال فلان مُقْتِصدٌ في النفقة". تعددت التعاريف لمصطلح (اقتصاد)وأعم تعريف للآقتصاد المعاصر هو تعريف (ليونيل روبنز) الذي يقول قيه: "الاقتصاد هو علم يهتم بدراسة السلوك الإنساني كعلاقة بين الغايات والموارد النادرة ذات الاستعمالات".
و الندرة: تعني عدم كفاية الموارد المتاحة لإشباع جميع الإحتياجات والرغبات الإنسانية. وغالباً ما يشار إلى الندرة بأنها (المشكلة الإقتصادية). وبمعنى آخر نجد أن المشكلة الاقتصادية هنا تدور حول الاختيار ، وما قد يؤثر بانتقاء هذا الخيار من محفزات وموارد.ولا يعترف الإسلام بندرة الخيرات على الأرض ، ولكن قد تحدث الندرة في مكان ما ، كأن يصيبه الجفاف أو التصحر ولكنه لا يعني أن امتداده الجغرافي لا توجد به ندرة في الموارد الطبيعية.

وقد ولدت الأفكار الاقتصادية مع ولادة الحضارات القديمة كالإغريقية، والرومانية والهندية مروراً بالصينية والفارسية والحضارة العربية. وقد اشتهر عدة كتاب ينتمون إلى هذه الحضارات من أبرزهم أرسطوطاليس لدى الإعريق، وشاناكيا (340 – 293 ق. م) رئيس وزراء الأمبراطور الأول لإمبراطورية (موريا) في شرق آسيا، و ابن خلدون الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. ويعتقد الكاتب التشيكي (جوزيف شومبيتير) أن الباحثين المتأخرين ما بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر هم المؤسسون الحقيقيون لـ "علم الاقتصاد". ووصف جوزيف شومبيتير”ابن خلدون “بالرائد السباق في مجال الاقتصاد المعاصر، حيث أن العديد من نظرياته الاقتصادية لم تكن معروفة في أوروبا حتى وقت قريب نسبياً. لاحقاً قامت مدرستان أقتصاديتان هما المدرسة الطبيعية (الفيزيوقراطية)، والمدرسة التجارية (المركنتلية)، بتطوير وإضافة مفاهيم إقتصادية جديدة، حيث ساهمتا في قيام "القومية الاقتصادية" و"الرأسمالية الحديثة" في أوروبا ,وكانتا بمثابة المنظرتان لتطور الآقتصاد الأوروبي في مواكبة له.

ولذا فإن علم الاقتصاد الرأسمالي المعاصريعد من حيث الفكر، ومن حيث التطبيق، صناعة أوروبية خالصة من حيث النشأة والموضوع. وتاريخ هذا العلم هو تاريخ كل فروع المعرفة الاقتصادية الإوروبية . والأوروبيون عندما كتبوا تاريخ هذا العلم كتبوه من منظور رؤياهم لأحداث التاريخ الأوروبي ، ومن منظور مساهمة مفكريهم، ومن منظور تطورهم الاقتصادي. و تعكس كل مقولاته أيضا التراث الديني والفكري للأوروبيين..ولاتوجد فيه مساهمات لأمم أخرى ،فيما عدا ما يمكن أن يكون قد أخذوه من إبن خلدون وأضفوا عليه كالصبغة الأوروبية حيث نجد أن مفهوم فائض القيمة واعتبار قيمة السلعة هو قيمة الشغل المبذول في انتاجها جاء في مقدمة ابن خلدون في عبارةوجيزة تحولت عند كارل ماركس الي كتاب بعنوان : رأس المال. وقد تم تقسيم مراحله المتعاقبة على أساس أحداث ومتغيرات أوروبية،وهولذلك بكل مقولاته، وبكل أحداثه، وبكل مفكريه صيغ من منظور رؤية الأوروبيين لأحداثهم الدينية والفكرية والاجتماعية.

و مرعلم الاقتصاد في مراحل عديدة شهدت كل مرحلة منها ظهور أجدي مدارسه على النحو التالي:
1- مذهب أومدرسة التجاريين: أو(المركنتليةMercantilism ظهرت في اواخر القرون الوسطى واستمرت حتي منتصف القرن الثامن عشر حيث احتلت التجارة المكان الاول في التفكير الاقتصادي وكانوا يرون ان مركز الدولة وقوتها مرهون بمقدار ما تملكه من معادن نفيسه من الذهب والفضة ولذا انحصر اهتمامهم بهما، وبتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.و النظام المركنتلي التجاري ، هو نظام اقتصادي نشأ في أوروبا خلال تقسيم الإقطاعيات لتعزيز ثروة الدولة وزيادة ملكيتها من المعدنين الذهب والفضة عن طريق التنظيم الحكومي الشامل لكامل الاقتصاد الوطنى وانتهاءا في سياسات تهدف إلى تطوير الزراعة والصناعة وإنشاء الاحتكارات التجارية الخارجية.وكانت الحاجة لتصفية الاقطاع سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية تمليها الحاجة الي توفير العمالة الرخيصة ورءوس الأموال للتجارة والصناعة وقد اتخذت تلك الحركة في أمريكا الشمالية شكل الحرب الأهلية بين الشمال ذي الصناعات الناشئة والجنوب الزراعي وإن إعطيت طابعا انسانيا متمثلا في تحرير العبيد , وفي حقيقة كانت الحاجة الي استغلال الحهد البدني للعبيد في الصناعة بأقل تكلفة ممكنة هو الباغت لتحريرهم وليس الوازع الانساني .
ويعتبر أنطوان دي مونكرتيان ( Antoine de Monchretien) أول مؤسسي هذه النظرية من فرنسا بكتابه “الاقتصاد السياسي “عام 1615م، و أول من نفذها في فرنسا كان كولبير ( Colbert) حيث عمل على تشجيع الصناعة وأتخذ الكثير من الأجراءات التي تؤدي إلى تحسين النوعية. كما عمل على إنشاء مصانع نموذجية لكي يقتدى بها الأفراد حتى سميت هذه السياسة بأسمه( colbertism). وكان مما ساعد ترويج هذه السياسة هو نظام الطوائف الذي كان معمولا به آنذاك. والذي يفترض عدم أرتقاء العامل من مهنة إلى أخرى إلا بعد أن يمضي فترة من التدريب.
أما في بريطانيا فقد أشتهر من تلك المدرسة تشلد( Sir Josiah Child)، وتمبل ( Sir william Temple)، ودافينا ( Chnlec Doverant)، وتوماس مان ( Thomas Mun)، وفي أيطاليا أشتهر الكاتب أنطونيو سيرا (Antonio Serra).
وتقوم سياسة التجاريين (المركنتلية) التي تستهدف الحصول على أكبر قدر من المعدنيين الذهب والفضة والأحتفاظ به أو زيادته على وسيلتين رئيسيتين يمكن تلخيصها بما يلي:
الوسيلة الأولى: السياسة المعدنية(Bullion Policy): وهي التي أعتمدها فلاسفة التجاريين (المركنتليين) في آخر القرن الخامس عشر واوائل القرن السادس عشر وتنحصر بالآتي:
1. منع تصدير الذهب والفضة إلى الخارج للحفاظ عليه من التسرب. وقد أتبعت ذلك كل من أسبانيا والبرتغال.
2. إلزام المصدرين بأستحصال مقابل حصيلة الصادرات (ذهبا أو فضة)، وإلزام المستوردين مقايضة السلع المستوردة بسلع وطنية.
3. تشجيع المصارف (البنوك) لمنح فائدة مرتفعة على الودائع الأجنبية.
4. قبول النقود الذهبية والفضية بأكثر من قيمتها.
الوسيلة الثانية: وهي التي راجت في القرن السابع عشر وأعتمدت الميزان التجاري الموجب الذي يكون في صالح الدولة لأدخال الذهب والفضة في البلاد. ولكي يكون الميزان التجاري موجبا (أي لصالح الدولة) فيجب العمل على زيادة الصادرات وتقليل الواردات بحيث يدفع الفرق بينهما ذهبا.
ولتحقيق ذلك يترتب أتباع السياسات التالية:
1. الأخذ بنظام الحصص بالنسبة لأستيراد بعض السلع.
2. فرض قيود نوعية على بعض الأنواع من المنتجات المستوردة.
3. حصر عمليات النقل على البواخر ووسائط النقل الوطنية.
4.تجويد النوعية والأخذ بمبدأ المنافسة عند التصدير.

ولم تكن سياسة التجاريين تعمل لصالح الزراعة وذلك بسبب ما كانوا ينادون به من ضرورة تقليل كلف المنتجات الزراعية لأجل الأقلال من أجور العمال. ولهذا السبب واجهت الزراعة في ذلك الوقت الكثير من المصاعب وهجرها أهلها للأشتغال بالصناعة. غير أن بعض التجاريين وخاصة في فرنسا وأيطاليا، ظلوا على أهتمامهم بالزراعة إلى جانب الصناعة. ولم يخلوا مذهب التجاريين من أنتقاد شديد، فقد هاجمه الكثير من الكتاب الأنكليز آنذاك ومنهم دولي نورث ( Sir Dudiey North)، في كتابه (Discourses Upon Trade)، الذي نشر عام 1691م، وكذلك وليام بيتلي ( Sir william Petly)، مؤلف كتاب الحساب السياسي (Political Arithmetic)، الذي وضعه عام 1671م، ونشر عام 1691م، وكذلك دايفيد هوم(David Hume).

2- مدرسة الطبيعيين أو الفيزيوقراط: نشأ. المذهب الطبيعي في فرنسا في القرن الثامن عشرو جاءت هذه المدرسة فاكدت على الحرية الاقتصادية والحد من تدخل الدولة باعتبار ذلك يتفق مع القانون الطبيعي . ويؤكد علماء وفلاسفة هذه المدرسة على النشاط الزراعي واعتبار الارض مصدراً اساسياً لانتاج الخيرات التي يحتاجها المجتمع الانساني . ويعتبرون الصناعة والتجارة من الانشطة العقيمة باعتبارها غير منتجة لها.

وزعيم هذا المذهب هو الدكتور فرنسوا كيناي، (1694 - 1778)، (Quesnay)، طبيب لويس الخامس عشر، ومن أنصاره مرسييه دلاريفير (Mercier De La Riviere)، وميرابو (Murabeau)، وديبون دي تيمور (Dupont de Nemours)، وأطلق عليهم الطبيعيون، لأعتقادهم بسيادة القوانين الطبيعية، وقد أنتقدوا مذهب التجاريين (المركنتلية) الذين أعتبروا ثروة الأمم أنما تقاس بما تملكه من معادن نفيسة (الذهب والفضة)، وقالوا بان هذين المعدنين ليسا غاية النشاط الاقتصادي وانما هما وسيلة لتحقيقه.

وتقوم مباديء الفيزيوقراطية على الآتي:
• الأعتقاد بوجود نظام طبيعي (Natural order)، يستمد قواعده من العناية الآلهية ،وهي ليسـت مـن صنـع البشـر.وإن هـذه القـواعد أوالقوانـين ، باعتبارها حاكمة لكل نشاط حيوي ، يمكـن أن تسـري مـن تلقـاء نفسها دون تدخل الانسان.
• أساس النظام في المذهب الطبيعي هو الملكية الفردية، والحرية الاقتصادية فيما يتطبه العمل الاقتصادي وتنقل السلع والأفراد ورؤوس الأموال ولذا كان شعارالطبيعيين (الفيزوقراط) هو :" دعه يمر دعه يعمل” (Laissey Passer, Laissey Fair).
• العمل الزراعي هو العمل المنتج الوحيد ، والزراعة هي التي تغل ناتجا صافيا، وإن صناعة والتجارة هما عبارة عن أعمال خدمية غير منتجة.
وكانوا يسمون التجار والصناع وأرباب المهن بالطبقة العقيمة غير المنتجة، لأنها لا تخلق ثروة جديدة، ولهذا فإن أهم ما ترتب على نظريةالفيزوقراط هو فرض الضرائب. فطالما إن الأرض هي مصدر الثروة فيجب أن تقتصر عليها الضريبة فحسب.

وبينما كان المذهب الطبيعي ينسب للأرض القيمة الاقتصادية الكبرى، أعطى المذهب الكلاسيكي فيما بعدهذه القيمة للعمل، وليس مرد ذلك إلى الانتقال من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي فحسب، بل يعبرأيضا عن رغبات الطبقة الجديدة في فرض نفوذها المالي على المجتمع، وتستأثر بالعمال الذين كانت غالبيتهم تعمل في الزراعة.

3- مدرسة التقليديين أو المدرسةالكلاسيكية:وهي امتداد للمدرسة الطبيعية وضع قسم كبير منها :آدم سميث، ويعتبر ريكاردو من كبار مفكريها وهي ترى ان النظام الطبيعي يسيطر على الظواهر الاقتصادية ولكن اكثر ما يقود الانسان في تصرفاته هو المنفعة الشخصية فهي تدافع بقوة عن الحرية الاقتصادية واعتبرت ان قوة الدولة ليست فيما تملكه من ذهب وفضة وانما بمقدار ما تملكه من قوة عاملة وانتاج وهي تؤمن بربط المصالح الخاصة مع المصلحة العامة. ولقد أخذالاقتصاد بالتبلور في صيغته الحالية كفرع علمي مستقل منذ أن قام آدم سميث بنشر كتابه الشهير ثروة الأمم عام 1776. ويعرّف آدم سميث في كتابه مصطلح الاقتصاد السياسي بأنه أحد فروع علم السياسة والتشريع، ويهدف إلى أمرين أساسيين: الأول، تزويد الأفراد بكمية كافية ومستمرة من المنتجات، أو العمل على جعلهم قادرين على توفير هذه المنتجات بشكل متواصل، والثاني، تزويد الدولة أو إثراء كل من الأفراد والحكومات. وقد حدد كتاب ثروة الأمم عوامل الإنتاج بكل من الأرض، قوة العمل، ورأس المال، واعتبر أن هذه العوامل الثلاث هي التي تشكل جوهر الثروة التي تمتلكها الأمة.
ومن وجهة نظر آدم سميث، فإن الاقتصاد المثالي، هو نظام سوق ذاتي التنظيم (elf- Regulating Market System) حيث يقوم هذا النظام بإشباع حاجات الأفراد الاقتصادية تلقائياً "أوتوماتيكياً". وقد وصف "سميث" آلية عمل السوق بـ"اليد الخفية" التي تحث الأفراد على العمل على إشباع حاجاتهم الشخصية وبالتالي تحقيق أكبر منفعة ممكنة للمجتمع ككل. في كتاباته، أخذ "آدم سميث" بعض أفكار ونظريات المدرسة الطبيعية في الاقتصاد "الفيزيوقراطية" ودمجها مع نظرياته، إلا أنه رفض الفكرة التي نادى بها الفيزيوقراطيون والقائلة بأن الأرض (الزراعة) فقط هي مصدر الإنتاج والثروة.
وقد اعتبر أن نشر كتاب ثروة الأمم للكاتب آدم سميث اعتبر بمثابة نقطة البداية لولادة علم الاقتصاد كفرع علمي منفصل ومتخصص.

4- المرحـلة الحديثة: يهتم المفكرون بهذه المرحلة بالاضافة الى ما سبق بمشاكل التنمية والبطالة ومعالجة الاوضاع الاقتصادية وكذلك ظواهر التضخم والكساد وطرق معالجتها فضلاً عن السياسات النقدية والمالية. وتضم المدارس الاقتصادية التالية:
لمدرسة النمساوية:
وهي مدرسة للفكر الاقتصادي ترفض الاعتماد الحصري على أساليب تُستخدم في العلوم الطبيعيّة لدراسة عمل الإنسان، وتقوم بدلاً من ذلك ببناء تكوينها الخارجي للاقتصاد على علاقات تتم عن طريق المنطق. إن أشهر المناصرين لها هم كارل مينجر، ويوجين فون بوم-بافيرك، وفريدرك فون فايزر، ولودفيغ فون ميزس، وفريدرك فون هايك، وإزرائيل كيرزنر. لقد كان للمدرسة النمساوية نفوذاً واسعاً بسبب تأكيدها على الطـور الإبداعـي للإنتاجية الاقتصادية وعلى تشكّكهم في أساس النظرية السلوكية التي تشكّل أساس الاقتصاد التقليدي الجديد. وترتبط المدرسة النمساوية بوجه عام بالليبراليين الكلاسيكيين أو الليبرتاريين في أفكارهم حول النظام الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي.
النظريات المنبثقة عن المدرسة النمساوية:
يوضح الأستاذ أشرف منصور النظريات التي انبثقت عن المدرسة النمساوية وتم تبنيها في أوروبـأ والولايات المتحدة الأمريكية ، على النحو التالي:
.النظرية الذاتية في القيمة:
إن أهم ما يميز المدرسة النمساوية في الاقتصاد السياسي عما سبقها من الاقتصاد السياسي الكلاسيكي ونظرية العمل في القيمة Labor Theory of Value نظريتها الذاتية في القيمة Subjective Theory of Value والتي تتمثل في القول بأن القيمة يمكن أن تحدد من خلال إدراك الفرد وتقييمه على أساس ما يعود عليه من منفعة، وبذلك ربطت بين القيمة والمنفعة الفردية، وكان هذا الربط بداية لظهور المنظور الذاتي للقيمة والذي استمر ملمحا أساسيا لدى الاتجاه النيوكلاسيكي كله. ويتضح من هذه النظرية الجديدة في القيمة أن المدرسة النمساوية تعود إلى أفكار ومسلمات الليبرالية التقليدية؛ ومن العجيب أن تتم العودة إلى ذلك الإطار الفكري الليبرالي القديم الذي تعرض للنقد طوال القرن التاسع عشر وخاصة لتجلياته في النظريات الاقتصادية على يد ماركس، إلا أن الليبرالية التي كان يعتقد أنه قد فات أوانها كانت تقدم خدمة علمية للمدرسة النمساوية متمثلة في تمكينهم من التعامل مع نظرية النقد Money Theory في استقلال تام عن أي إحالات أو متضمنات ماركسية أو اشتراكية. كذلك يقدم لهم ذلك الإطار الليبرالي الذي كان يعتقد أنه قد فات أوانه بخدمة أيديولوجية تمكنهم من التوصل إلى النتيجة التي يهدفون إليها وهي أن السوق هو المحدد الأساسي للعملية الاقتصادية.
تقدم لنا المدرسة النمساوية نماذج عديدة لنظريات اقتصادية مستقلة تماما عن مفاهيم الطبقة والصراع الطبقي ومفهوم العمل باعتباره مصدر كل قيمة والسائد لدى الماركسية والاقتصاد الكلاسيكي على السواء ابتداء من آدم سميث مرورا بريكاردو وحتى جون ستيوارت ميل. وعلى العكس من ذلك تأخذ المدرسة النمساوية المستهلك الفرد باعتباره الوحدة الأولى في تحديد القيمة، وهذا ما يمكنها من التميز عن الكلاسيك والماركسيين في نفس الوقت، ويمكنها كذلك من إقامة نظرية في السوق باعتباره مركز العملية الاقتصادية.
تتضح النظرية الذاتية في القيمة ابتداء من أعمال كارل منجر مؤسس المدرسة. يذهب منجر إلى أن ما يحدد القيمة ليس الشئ النافع أو السلعة ذاتها بل علاقة الفرد بها، وهذه العلاقة تدخل فيها محددات كثيرة مثل الفرص المتاحة للحصول عليها والمعلومات المتوافرة للفرد عنها. القيمة عند منجر علاقة بين الأفراد والسلع؛ ومعنى هذا أنه يحدد القيمة باعتبارها قيمة استعمالية ويحدد القيمة التبادلية للسلع على أساس استعمالها أو فائدتها. هذه النظرية تمكن المدرسة النمساوية والاتجاه النيوكلاسيكي كله من تجاوز قضية القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المادة الخام في إنتاجه للسلعة، ذلك لأنهم يؤسسون القيمة، التي يفهمونها على أنها هي السعر، على فائدتها الاستعمالية متجنبين بذلك القيمة الأخرى الزائدة التي لا تتلقى العمالة المنتجة لها أجرا مقابلها. عندما تساوي بين القيمة الاستعمالية للسلعة بقيمتها التبادلية وتنظر إلى هذه الأخيرة على أنها سعر السلعة فكأنك بذلك تقول أن سعر السلعة وقيمتها هي ذاتها فائدتها للمستهلك؛ وبذلك تلغي علاقة أخرى بين السلعة ومنتجيها المباشرين وما يضفون عليها من قيمة زائدة بفضل عملهم على المادة الخام.

وتعد النظرية الذاتية في القيمة هي السبب وراء نجاح المدرسة النمساوية في بداياتها ووراء عودة الاهتمام بها في النصف الثاني من القرن العشرين، ذلك لأنها كانت جذابة بالنسبة للاقتصاديين الانجليز والأمريكان، إذ جعلتها نظريتها الذاتية في القيمة أداة نظرية ناجحة وفعالة في إقامة اقتصاد سياسي للمستهلك وللسوق الاستهلاكية، وهو ما يناسب الطموحات العلمية لأساتذة الاقتصاد الراغبين في إقامة نظريات اقتصادية في تجنب للاقتصاد الماركسي. فعندما حدد منجر القيمة بمعايير ذاتية واستهلاكية وأدخل فيها مفاهيم التفضيلات والقرارات الفردية والفرص المتاحة أمام الأفراد..إلخ، أصبح من الواضح أنه يقيم نظرية في القيمة على أساس معيار السوق الاستهلاكي.
أما يوجين فون بوم بافرك Eugen Von Bohm-Bawerk (1851-1914) فهو يعد الشخصية الأهم في المدرسة النمساوية بعد منجر وفيزر، وقد أكمل عملهما في وضع نظرية ذاتية في الفيمة. وما دفعه لوضع مثل هذه النظرية اعتقاد منهجي لديه بأننا إذا أردنا فهم الاقتصاد الكلي ووضع نظرية اقتصادية عامة فيجب أن نبدأ بما هو بسيط وأولي، والبسيط والأولي عنده هو المستهلك، ذلك لأن القيمة محددة عن طريقه. ويتضح من ذلك أن الأساس المنهجي لبوم بافرك هو الفردية المنهجية Methodological Individualism والتي تميز الاتجاه النيوكلاسيكي كله، مضاف إليها نزعة تحليلية وذرية تجعله يبدأ بالقيمة الذاتية باعتبارها بسيطة وأولية. والحقيقة أن البساطة والأولية التي يدعيها بوم بافرك زائفة، لأن القيم الذاتية تحددها عوامل موضوعية. ليس التقييم الفردي والاستهلاكي للسلع متغيرا مستقلا نستطيع الاعتماد عليه في تأسيس نظرية اقتصادية بل هي مشروطة دائما بعوامل أخرى تحدد السلوك الاستهلاكي للأفراد وتفضيلاهم السلعية.

تظهر نظرية القيمة لدى النمساويين على أنها تعطي الأولوية للقيمة الذاتية واختيارات وتفضيلات المستهلك والمنتج الصغير، إلا أنها في حقيقتها طريق جانبي لتناول إشكالية السلع. إن ما يهم النيوكلاسيك حقيقة هو السلع ووضعها في السوق، وهم يتحدثون دائما عن القيمة الذاتية التي هي تفضيلات واختيارات المستهلك وهم في الحقيقة بقصدون السلع وأسعارها. إنهم لا يهتمون بالمستهلك كما يظهر من أعمالهم بل بالسلعة وكيفية تحديد سعرها، ولا ينشؤون نظرية ذاتية في القيمة إلا رغبة منهم في الربط بين سعر السلعة وآليات العرض والطلب في السوق باعتبارها المحدد النهائي للسعر، وهم بذلك يحذفون العوامل الأخرى في تحديد القيمة مثل القيمة الزائدة التي يضفيها العمل على المنتج.
2. نظرية المنفعة الحدية:
أقام النيوكلاسيك على أساس نظريتهم الذاتية في القيمة نظرية أخرى عرفت بنظرية المنفعة الحدية Marginal Utility Theory وتذهب إلى أن أول وحدة من السلعة تحوز على أعلى قيمة، إذ يكون الاحتياج لها شديدا وبالتالي يكون سعرها أعلى، ويقل احتياج الفرد مع الوحدة الثانية والثالثة من نفس السلعة، وبالتالي تقل قيمة كل وحدة زائدة حتى نصل إلى وحدة أخيرة تحوز على أقل نفع وبالتالي أقل سعر ممكن تصوره. ويقول النيوكلاسيك إن الإنتاج ينظم حسب أقل سعر وفقا لهذه النظرية. لكن يخلط النيوكلاسيك بذلك مجال الإنتاج مع مجال التوزيع. إن نظرية المنفعة الحدية يمكن أن تكون صحيحة ونافعة لتاجر التجزئة، لكنها لا تصلح أساسا لصياغة نظرية اقتصادية. إنها تصلح لتفسير سلوك البقال، لكنها لا تصلح لتفسير سلوك المنتج. صحيح أن فائدة الوحدات المتتالية لنفس السلعة تتناقص، لكن هذا لا ينطبق إلا على المستهلك وفي حالات خاصة، ولا ينطبق على المنتج.
تعطينا نظريات النمساويين وهما بأنهم يعطون الأولوية للقيمة الاستعمالية (الفائدة والنفع الفردي الاستهلاكي) ويلحقون بها القيمة التبادلية (سعر السلعة في السوق)، وهم بذلك كأنما يصدرون وعدا بألا يعاملوا السوق على أنه مجرد وسيط للحصول على قيمة تبادلية وحسب، أي على أرباح وتراكم رأسمالي بالتالي، بل على أنه كذلك وسيلة لإشباع حاجات الأفراد. وهم بذلك إنما يحاولون وضع بديل عن التحليلات الماركسية للقيمة الزائدة التي تختفي تماما من أعمالهم اختفاء مقصودا ومنهجيا، نظرا لأن مناقشة قضية القيمة الزائدة سوف يجرهم رغما عنهم إلى الأرضية الماركسية، وهو ما كانوا يتجنبونه بحذر.
وقد تعرضت هذه النظرية لنقد حاد على يد عالم الاقتصاد والاجتماع الأمريكي ثورشتاين فبلن. يذهب فبلن إلى أنه إذا كانت كل وحدة جديدة من نفس السلعة تقل في منفعتها عن الوحدة السابقة لدى المستهلك، فإن المنتج تزيد لديه قيمة كل عنصر جديد مضاف لعملية الإنتاج. لكن يطبق النيوكلاسيك المنفعة الحدية على الإنتاج ويقيمون نظرية في الإنتاج الحدي، ويعتقدون أن كل عامل مضاف إلى العمال السابقين يكون إسهامه أقل في الإنتاج وبالتالي يكون أجره أقل، وهم بذلك يبررون خفض الأجور بحيلة نظرية. في العالم الحقيقي يتم خفض الأجور لا لأن إسهام العامل المضاف يكون أقل من سابقه بل للمحافظة على هامش ربح مناسب لرأس المال. ويتم التعبير عن المحافظة على الأرباح في علم الاقتصاد لا بنفس الاسم الصريح بل بإسم آخر يصرف النظر عن الربح ويوجه الانتباه للسعر، إذ تصبح "المحافظة على الأرباح" "محافظة على الأسعار" Maintaining Prices ، لأن المحافظة على الأسعار السائدة يضمن المحافظة على الأرباح التي حددها رجال الأعمال.
يكشف فبلن عن مسلمة ضمنية في نظرية المنفعة الحدية بتناوله لصيغتها لدى المدرسة النمساوية وخاصة لدى مؤسس المدرسة كارل منجر، إذ افترضت أن المنتج بائع مباشر للمستهلك، والشاري مستهلك مباشر وأخير للسلعة. وهذا في نظر فبلن يلغي دور السوق وينظر إلى المعاملات النقدية على أنها مجرد وسيط للتبادل، وبالتالي تأتي نظرية المنفعة الحدية وتقول إن سعر السلعة، بما يتضمنه هذا السعر من تكاليف إنتاج، يتحدد بالقياس على أقل سعر لآخر وحدة منها، وأقل سعر هو أقل ما يمكن أن يدفعه المستهلك فيها، وهي بذلك تفترض أن المنتج هو الذي يباشر عملية البيع مباشرة للمستهلك، وهذا غير صحيح. هذا الإلغاء للسوق باعتباره وسيطا بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير يتم على مستوى النظرية فقط والواقع عكس ذلك تماما.
لكننا نستطيع تطوير وجهة نظر فبلن هذه ونقول إن الاحتكار يعمل على اختزال المسافة بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير، لأنه يعمل على السيطرة على كل مراحل دوران السلع، فالاحتكار هو أن يسيطر المنتج، الذي هو الشركة الاحتكارية، على السوق وعلى حركة النقود، والسيطرة الاحتكارية على السوق تعني إلغائه باعتباره مجالا محايدا لتحديد السعر، وتعني كذلك أن يمارس المنتج الاحتكاري دور تاجر التجزئة ولا يترك أي مرحلة في دورة السلع لغيره؛ ولذلك لاقت نظرية المنفعة الحدية رواجا مذهلا ابتداء من العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، وهي نفس فترة ظهور الاحتكارات، لأن هذه النظرية تخدم الاحتكار جيدا بكشفها عن مبدأ جديد لإدارة السوق والسيطرة عليه، فهي تلغي السوق المحايد على المستوى النظري بإعطائها توجيها للمنتج بكيفية تحديد سعره إذا أراد أن يسيطر على السوق. لقد ألغت المسافة بين المنتج المباشر والمستهلك الأخير على مستوى النظرية، وكان هذا الإلغاء هو ما تحاول الاحتكارات الناشئة القيام به بالفعل، وبذلك تلاقت النظرية مع الواقع في نوع من التشابه العضوي أو المختار Elective Affinity . ولذلك تبنى علم الاقتصاد السائد تلك النظرية وهو مدعم بسند واقعي مما كان يحدث بالفعل. لا يمكن أن تُلغى المراحل الوسيطة بين المنتج والمستهلك إلا في ظل السيطرة الاحتكارية عليها، أي على السوق. وهكذا أصبحت نظرية المنفعة الحدية هي الأداة النظرية والحسابية الأساسية لعلم الاقتصاد المعاصر الذي هو اقتصاد احتكارات في الأساس.
تعبر نظرية المنفعة الحدية عن الوعي العام الشائع لرجال الأعمال، إذ يمكن التعبير عنها بكلمات عامة كما يلي: المنتج ينتج سلعا بهدف الربح، لكنه يحسب هذا الربح على أساس القدرة الشرائية للمستهلك، وكلما كان المستهلك مستعدا لدفع سعر أعلى في السلعة كان ربح رجل الأعمال أعلى؛ ويستعد المستهلك لدفع سعر أعلى في السلعة كلما كان أكثر احتياجا لها. وأخشى ما يخشاه رجل الأعمال هبوط الأسعار لأنه يعني هبوط أرباحه، وهبوط الأسعار يأتي من زيادة عرض السلع، وبالتالي يمنع رجل الأعمال هبوط الأسعار بحبسه للإنتاج والسيطرة عليه. ولأن هدف رجل الأعمال الربح فإن القضية التي تشغله هي أقل سعر يمكن أن تباع به السلعة في السوق. ولأن السوق حر ويسير نفسه بنفسه فيجب بالتالي البحث عن السبب الذي يجعل سعر السلعة يهبط إلى أدنى حد لها. وأدنى حد لسعر السلعة هو أدنى حد لاحتياج المستهلك لها. عندما لا تكون سلعة معينة نافعة للمستهلك فلن يشتريها أصلا، وبذلك لن تتصف تلك السلعة بالمنفعة الحدية لأنه ليس لها نفع من البداية؛ سلعة المنفعة الحدية هي السلعة ذات المنفعة لكنها المنفعة القليلة للغاية التي تؤدي إلى هبوط أسعارها.
وهنا تتحول النظرية الاقتصادية إلى الرياضيات؛ فعن طريق المسائل الرياضية والرسوم البيانية وخطوطها المنحنية الصاعدة والهابطة توضح النظرية اتجاه الأسعار نحو الصعود أو الهبوط بالتناسب مع الكمية المعروضة من السلع والطلب عليها، ذلك الطلب الذي هو الاسم الآخر للمنفعة الحدية. وهنا بالضبط يكمن خطأ الاقتصاد النيوكلاسيكي، لأن المنتج في العالم الحقيقي لا ينتج سلعته ويبيعها حسب منفعتها الحدية، أي حسب أقل سعر لها في السوق. إن المنفعة الحدية هي الكارثة التي يتجنبها المنتج باستمرار لأنها تعني أقل سعر لسلعته وبالتالي تقلص واختفاء هامش ربحه، إذ يمكن أن تصل المنفعة الحدية للسلعة إلى أقل من سعر إنتاجها. تعبر نظرية المنفعة الحدية عن النقطة التي يخسر عندها رجل الأعمال، وكأنها تقول له: "هنا تخسر ولذلك تجنب الوصول إلى هذه النقطة"، ويتم تجنب الوصول إلى المنفعة الحدية بحبس الإنتاج خوفا من أن يؤدي الإنتاج الوفير إلى هبوط في الأسعار. إن نظرية المنفعة الحدية هي في حقيقتها توجيه لرجال الأعمال.

3. نظرية سلوك المستهلك:
على أساس النظرية الذاتية في القيمة أقام النيوكلاسيك نظرية أخرى عرفت بـ"نظرية سيادة المستهلك" Consumer Sovereignty ، والتي تعرف أيضا باسم "نظرية سلوك المستهلك" Consumer Behavior ، وتنص على أن الهدف النهائي لنظام الإنتاج هو بيع السلعة للمستهلك، وبذلك يكون هو النقطة الأخيرة والمحطة النهائية لكل العملية الاقتصادية. والسعر يتحدد بناء على درجة احتياج المستهلك للسلعة، وبالتالي تتحدد تكاليف الإنتاج بناء على السعر الذي يقبل أن يدفعه المستهلك. المستهلك بقراره الشرائي هو الذي يحدد كل عملية الإنتاج، وبذلك تكون له السيادة • .
الحقيقة أن المستهلك في ظل الإنتاج الصناعي ليست له تلك السيادة المدعاة، لأنه مجبر على تطويع احتياجاته مع ما يطرحه الإنتاج، إذ تتعرض السلع الاستهلاكية لتوحيد المقاييس Standardization ، وعلى المستهلك أن يتكيف معها، وسلوكه تابع دائما لهذه العملية ولكل تجديد أو تغيير في السلع، وليس سلوكه مستقلا أبدا تجاه الانقلابات التي تحدثها فنون الإنتاج على السلع. يقول فبلن عن السلع: "إن درجتها ودوامها ومستواها وتتابعها ليست مسألة اختيارية لدى الأفراد، بل إن العملية الإنتاجية هي المتحكمة في ذلك، إذ تجبر السلع وبالتالي منتجيها ومستهلكيها معا على الالتزام بمقاييس واحدة.. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة من التنميط والتحول الآلي لتفاصيل الحياة اليومية". لا معنى بعد ذلك للحديث عن حاجات بشرية أولية سائدة لدى كل الأفراد، فالحاجات أصبحت خاضعة لما تقدمه الصناعة من سلع.
إن فكرة سيادة المستهلك خرافة، لأن السيادة الحقيقية للمؤسسة الاحتكارية وما تنتـجه من سلع. ليس المستهلك سوى نتاج الممارسات التسويقية للشركات من دعاية وإعلان وما يصاحبها من دراسات في علم النفس وعلم التسويق. عندما يتحدث النيوكلاسيك عن سيادة المستهلك ويتخذونه النقطة الأساسية للتحليل الاقتصادي فهم بذلك يسيرون في نفس الطريق الأيديولوجي الذي رسمه النظام الرأسمالي، إذ يتم نفاق المستهلك وإيهامه بأنه هو السيد. إن اتخاذ المستهلك عنصرا أساسيا في التحليل يعني أن النيوكلاسيك قد أخذوا صنيعة أيديولوجية زائفة للنظام الرأسمالي كمبدأ في التحليل. صحيح أن المستهلك موجود بالفعل، وصحيح أن سلوكه قابل لأن يقاس ويحلل، إلا أنه السطح الظاهري الأيديولوجي للمجتمع الرأسمالي كما ذهب ماركس من قبل، لا حقيقته الباطنة.
ويوضح فبلن أن نظرية سلوك المستهلك تكشف عن التحيز الفردي للاقتصاد النيوكلاسيكي ونزعته النفعية، ويقول في ذلك: إن نظرية دقيقة للسلوك الاقتصادي لا يمكن استقائها من الفرد ببساطة، حتى للأغراض الإحصائية –كما هو الحال في اقتصاديات المنفعة الحدية- لأنها لا يمكن أن تـُستنج بمفردات الطبيعة البشرية؛ ذلك لأن الاستجابة التي تشكل السلوك الإنساني تحدث في ظل معايير مؤسسية (إجتماعية) وتحت مثير ذي طابع مؤسسي". ينقد فبلن في هذا النص الآتي:
1. رد الأداء الاقتصادي إلى سلوك الأفراد.
2. النظر إلى سلوك الأفراد على أنه يصدر عن طبيعة بشرية سابقة في وجودها على المجتمع ومؤسساته.
3. تصوير هذه الطبيعة البشرية على أنها نفعية وأنانية.
4. تجاهل السياق المؤسسي أو الاجتماعي الذي يشرط السلوك الفردي ويشكل له مثيرا.
5. اعتماد سلوك الأفراد باعتباره دالة إحصائية بحجة أنه يمكن حصره وقياسه، حيث يقام على هذه الدالة نظرية في الأداء الاقتصادي لمجتمع بأكمله.
وبناء على أن سلوك المستهلكين يمكن حصره وقياسه فقد وجدت ظاهرة ترييض الاقتصاد Mathematization of Economics طريقها لعلم الاقتصاد الحديث. إن هذه الظاهرة مستندة هي الأخرى على أيديولوجيا سلوك المستهلك. إذا كان المستهلك يكشف في سلوكه عن انتظام ما يمكن حصره وقياسه والتعبير عنه بالأرقام ولغة المعادلات الرياضية فما ذلك إلا لأن سلوكه خاضع هو نفسه للتقنين والسيطرة الإعلامية ولنظم إدارة السوق في الشركات الكبرى. هذه النظم تضع للأفراد قواعد تفرض عليهم قيامهم بسلوك المستهلك، وبالتالي فليس سلوك المستهلك مبدأ أوليا يمكن الانطلاق منه للتحليل الاقتصادي، لأنه نتاج النظام الذي ينبغي دراسته.
ما لم ينتبه إليه النيوكلاسيك وهم يصوغون نظرية سلوك المستهلك أن هذا المستهلك هو في نفس الوقت منتج، إنه ينخرط في إنتاج نفس السلع التي يستهلكها. فسواء كان المرء منشغلا بعمل إنتاجي أو خدمي فهو يساهم بنصيب في مجموع ثروة المجتمع كله، لأن العمل في ظل العصر الصناعي عمل اجتماعي يسهم فيه الكل. الفرد منتج ومستهلك في نفس الوقت، لكن يعتم علماء الاقتصاد على هذه الحقيقة ويعزلون جانب الإنتاج عن الفرد ولا يركزون إلا على كونه مستهلكا، أي يستبعدون ثلاثة أرباع ساعات يقظة المرء التي يقضيها في الإنتاج ويركزون على الساعة الواحدة التي يكون فيها مستهلكا. إذا نظرنا إلى أفراد المجتمع على أنهم منتجين ومستهلكين في نفس الوقت فسوف يتبين أن من حقهم نصيبا أكبر من السلع التي ينتجونها، لأن ما يحصلون عليه من سلع لا يتناسب مع الكمية التي ينتجونها.
وعلى أساس نظرية سيادة المستهلك يقيم النيوكلاسيك نظرية أخرى في سلوك المنتج، وتتضح هذه النظرية ابتداء من بوم بافرك، إذ يذهب إلى أن نفس القواعد التي تحكم المنتج هي التي تحكم المستهلك، والسبب أن المنتج ينتج السلع التي يستهلكها المستهلك ويقيمها ويحدد أسعارها بسلوكه الشرائي. وهذا أسلوب مراوغ لإعطاء الأولوية لنظرية القيمة الذاتية. الحقيقة أننا بالربط بين سلوك المنتج وسلوك المستهلك إنما نقف على السطح الظاهري للمجتمع الرأسمالي، ففي هذا المستوى الظاهري نجد أن المنتج ينتج بالفعل تلك السلع التي يستعد المستهلك لدفع سعرها، وهذا مستوى جزئي في التحليل لا يصلح إلا لوصف سلوك المنتج الصغير وللإنتاج السلعي في كل نظام اقتصادي سابق على الرأسمالية. أما الإنتاج السلعي في النظام الرأسمالي فلا يحتل فيه المستهلك تلك الأهمية المدعاة، لأن المستهلك كما قلنا نتاج لنظام الإنتاج، ذلك النظام الذي لا ينتج السلع وحسب بل ينتج مستهلكيها في نفس الوقت.
إن أفعال المنتج لدى المدرسة النمساوية يحددها سلوك المستهلك، بحيث يصبح الإنتاج كله مشروطا بالاستهلاك، وهذا ما يتيح للمدرسة أن تعالج تكاليف الإنتاج في ضوء منفعة السلعة. ويعد هذا تغييرا كبيرا في أفكار الاقتصاد الكلاسيكي، لأنه يجعل الإنتاج مشروطا ومحددا بالقيمة الإستعمالية، ورابطا القيمة التبادلية أو السعر بنفس تلك القيمة الاستعمالية. إن الإسهام الأساسي للمدرسة النمساوية يتمثل في أنها خرجت عن الكلاسيك في تحديدهم للإنتاج على أساس القيمة التبادلية، فالسعر لدى الكلاسيك يتحدد على أساس القيمة التبادلية للسلع في السوق، أما النمساويون والنيوكلاسيك من بعدهم فعلى العكس، إذ حددوا الإنتاج بالقيمة الاستعمالية، والقيمة التبادلية ذاتها بالفائدة أو المنفعة وذلك في اتفاق مع نظريتهم الذاتية في القيمة والمنفعة الحدية. لكنهم لا يزالون معرضين للنقد الماركسي رغما عن ذلك، لأن القيمة الاستعمالية ذاتها من إنتاج النظام الرأسمالي ومشروطة به ولا يمكن أن تكون متغيرا مستقلا. فكما قال ماركس في "معالم نقد الاقتصاد السياسي"، فإن رغبات وتفضيلات واختيارات المستهلك تخلقها السلع، تلك السلع التي يخلق مجرد ظهورها في السوق حاجات جديدة، وكأن السلع تأتي معها بالحاجة إليها في السوق: لا تنشأ الرغبة في الشئ ما لم يكن هذا الشئ معروضا في السوق من قبل.
4. نظرية التوازن:
من أشهر نظريات الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي نظرية التوازن Equilibrium Theory، وتهدف هذه النظرية في صياغاتها المختلفة إثبات أن السوق الحر المتروك لقوانينه الخاصة سوف يصل إلى استقرار ما في الأسعار وتوازن بين العرض والطلب وبين الموارد المتاحة والقدرة على تعبئتها وتشغيلها، وبين أرباح المجالات الصناعية المختلفة، وبين قدرة المجتمع على العمل وقدرة رأس المال على تحقيق الربح.
تظهر نظرية التوازن ابتداء من منجر مؤسس المدرسة، وقد بدأت النظرية حسب صياغته لها باعتبارها إعادة طرح للتناول الليبرالي التقليدي لمشكلة النظام وكيف ينتج تلقائيا عن أفعال الأفراد دون تخطيط مقصود، ولمشكلة الخير العام الذي يتحقق من خلال الأفراد. يتسائل منجر: "كيف يمكن للمؤسسات التي تخدم الرفاهية العامة والضرورية لنمو هذه الرفاهية أن تظهر إلى الوجود دون إرادة عامة موجهة نحو تأسيس مثل هذه المؤسسات؟". ويجيب منجر على نفسه قائلا أن الرفاهية العامة تتحقق عن طريق إشباع الأفراد لاحتياجاتهم، والإشباع متبادل بين الأفراد، بحيث يشبع الواحد منهم احتياجاته عن طريق الآخر، وهذا الإشباع المتبادل يتم عن طريق السوق. السوق إذن هو المؤسسة العامة التي تحقق الخير العام، ولضمان هذا الخير العام يجب ضمان عمل هذا السوق حرا من أي تدخل لأنه بطبيعتته مجال محايد ووسيط لتحقيق الإشباع المتبادل للحاجات ويجب أن يظل محايدا للمحافظة على طابعه العام والكلي. السوق حسب منجر إذن ليس في حاجة إلى تنظيم Regulation لأنه ذاتي التنظيم، بل هو في حاجة إلى تنسيق Co-ordination بين عملياته والأطراف الفاعلة فيه. ثم يتوصل منجر إلى صياغة سؤال جديد: "كيف يكون التنسيق المتبادل للسوق ممكنا؟"، ويجيب قائلا أن هذا التنسيق المتبادل هو النتيجة التي يحققها السوق إذا ما ترك حرا وليس أبدا البداية التي يبدأ منها. ويحقق السوق التنسيق المتبادل إذا ما ترك حرا وظل يعمل في ظل حرية كاملة. وكانت فكرة التنسيق المتبادل Mutual Coordination كنتيجة لآليات السوق الحر هي بداية صياغة المدرسة النمساوية لمفهومها عن التوازن Equilibrium .
سميت نظرية التوازن في بدايات الاتجاه النيوكلاسيكي بنموذج التوازن العام General Equilibrium . ظهرت بدايات هذا النموذج عند والراس ثم فيزر وفون ميسز في أواخر القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين سادت الاتجاه النيوكلاسيكي كله. وينص هذا النموذج على أنه في عالم يحتوي على تجار يحاولون الحصول على أقصى ربح تجاري ومالكي موارد يحاولون الحصول على أكبر عائد من مواردهم (وهؤلاء يشملون من يملكون سواعدهم كمورد وحيد لهم)، فمن الممكن "تخيل" نظام في "أسعار" الموارد والسلع يتيح الآتي:
1. يتيح لكل الأطراف الداخلة في التبادل أن تبادل كل ما تملكه دون أن يبقى لديه شئ، وبالتالي استبعاد خطر فرط الإنتاج Over-Production.
2. يتيح لكل أطراف التبادل أن تحسن من رفاهيتها معا وفي نفس الوقت ودفعة واحدة، أي دون أن يكون مكسب الواحد منهم على حساب خسارة الآخر كما يحدث في العالم الحقيقي.
ويستند هذا النموذج في التوازن العام على عدة افتراضات، منها أن المستوى القائم من التطور التكنولوجي متاح للجميع ومفتوح بالكامل أمام الكل، أي مشاعية التكنولوجيا وعدم تمكن طرف ما من احتكارها ومنعها عن الآخرين بحجة حق الملكية الفكرية كما يحدث في العالم الحقيقي، واستبعاد نهائي للملكية الخاصة للاختراعات العلمية والتكنولوجية وما يحكمها من قوانين السوق الاحتكارية؛ كذلك افتارض ثبات في الطلب يعتمد على ثيات في خيارات المستهلك؛ وافتراض بأن الموارد متاحة للجميع في ظل منافسة عادلة وليس احتكارا لها عن طريق الملكية الخاصة لمصادرها كما يحدث في العالم الحقيقي.
وبالإضافة إلى الانتقادات المتضمنة لهذا النموذج من خلال افتراضاته السابقة فإن لنا ملاحظات أخرى عليه:
1. يعامل النموذج المنتجين باعتبارهم تجارا ولا يميز بينهم، أي يساوي بينهم باعتبارهم داخلين مباشرة في عملية التبادل بعد أن ينتجوا منتجاتهم، وهو يفترض أن المنتج يمارس البيع المباشر للمستهلك دون وسيط، ويفترض تساوي بائع الموارد وبائع السلع وبائع قوة العمل بما أنهم جميعا يدخلون في علاقة تبادل، لاغيا بذلك الفروق الجوهرية بين الرأسمالي والعامل وتاجر الجملة وتاجر التجزأة..إلخ.
2. تتسع في هذا النموذج فئة مالكي الموارد حتى أنها تشمل العمال بما أنهم يملكون موردا هائلا هو قوة العمل، وبالتالي فالنموذج يعامل قوة العمل على أنها من موارد الإنتاج مثلها مثل المواد الخام والطاقة، ومن ثم ينظر إليها على أنها سلعة تتم مبادلتها نظير سعر؛ وفي النهاية يعامل العمال كما لو كانوا طرفا من أطراف التبادل، وكما لو كان الجميع تجارا.
3. يحاول النموذج الإيحاء بأن التوازن المرتجى يمكن أن يتحقق عن طريق نظام متوازن في أسعار السلع. فبما أن الجميع تجار، وبما أن العمال أيضا يملكون سلعة هي قوة عملهم، فإن الكل لديه شيئا يبادله، وبالتالي فالتوازن بينهم يمكن أن يتحقق عن طريق نظام متوازن في أسعار السلع الداخلة في عملية التبادل.
4. وبالتالي يتحقق التوازن العام عن طريق سياسة نقدية في التسعير. ولا تتمثل هذه السياسة النقدية في فرض أسعار معينة على السوق، بل في ترك السوق حرا من أي تدخل حتى يثبت أسعاره بنفسه، وبالتالي يكون توازن الأسعار علامة على توازن المجتمع والنظام الاقتصادي كله. السياسة النقدية إذن هي السبيل نحو إحداث توازن عام في المجتمع. تحولت هذه النتيجة إلى إحدى العقائد الثابتة لليبرالية الجديدة وللمؤسسات المالية العالمية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فالأداة الناجعة لحل جميع مشكلات المجتمعات البشرية حول العالم في نظر هذه المؤسسات هي تطبيق توصياتها في مجال السياسات النقدية فيما يخص أسعار الصرف والفائدة.
إن ما يسيطر على النيوكلاسيك وهم يبحثون في موضوع التوازن هو رغبتهم في التركيز على مجال التبادل وعلى السوق، فما يراد له التوازن عندهم هو السوق، عمليات البيع والشراء، وما يخشونه هو الكساد أو فرط الإنتاج: وجود بضاعة لا يتمكن الناس من شرائها، أي أن يكون معدل الإنتاجية أعلى من احتمال السوق وقدرته الاستيعابية. ومن هذا المنطلق يأخذون في بحث كيفية حدوث توازن، وهذا ما يجعلهم يتناولون الأسعار والدخول والتقييم الذاتي للسلع واختيارات المستهلك. وهم يسلمون بأن التوازن في مجال الإنتاج نفسه وبين مجال الإنتاج ومجال التوزيع يتحقق إذا ما توصلنا إلى توازن السوق.

5 -النظرية الكينزية:
يقول الطيب بوعزة:جاءت الأزمة "العالمية" سنة 1929 لتشكل ضربة هائلة اهتز لها الاقتصاد الرأسمالي إلى درجة الانهيار. وكانت هذه الأزمة مناسبة لانطلاق التفكير الليبرالي إلى محاولة فهم مكمن المشكلة وإيجاد المعالجات الكفيلة بإنقاذ الوضع.
وكان من الملحوظات التي أثارت انتباه منظري الاقتصاد السياسي الليبرالي هو أن هذه الأزمة الهائلة لم تمس الاقتصاديات التي تخضع لسيطرة الدولة (الاقتصاديات الاشتراكية)، بل عصفت فقط بالاقتصاديات الليبرالية الرأسمالية، والمرتبطة بها عضويا بعلاقات وثيقة.
وبناء على هذه الملحوظة المقارنة ستظهر النظرية الكينزية كمحاولة لتعديل النمط الاقتصادي الرأسمالي، حيث سيقترح الاقتصادي البريطاني اللورد جون كينز في كتابه الشهير "النظرية العامة" سنة 1936 حلا مرتكزا على وجوب تدخل الدولة.
وقد أسس حله هذا على تحليل شامل للاقتصاد السياسي الليبرالي وتطبيقاته، وذلك بناء على دراسة مشكلتين رئيستين هما البطالة والنقد؛ منتقدا النظرية الليبرالية الكلاسيكية في نظرتها إلى سوق الشغل، حيث لم تنتبه إلى مشكل البطالة، ولم تبلور معالجات كفيلة بالتقليل منها، إذ اعتقدت خطأ أن كل شخص يستطيع إذا رغب أن يجد العمل الذي يناسبه.
وضدا على هذه الرؤية الحالمة استقرأ كينز النظام الاقتصادي الليبرالي منتهيا إلى التوكيد على أن البطالة ظلت ملازمة له، الأمر الذي يدفع نحو وجوب اعتبارها مشكلا حقيقا بالتفكير والمعالجة.
أما النقد فإن كينز أخذ أيضا على النظرية الليبرالية الكلاسيكية قصور فهمها له؛ حيث قدمت رؤية جد سطحية لمسألة النقود، رؤية لا تجاوز كون النقد مجرد ظاهرة ثانوية لا أهمية لها في العملية الاقتصادية، فالناس لا يتبادلون نقودا بل بضائع ببضائع، وما النقد إلا واسطة. في حين يرى كينز أن ليس هناك شيء في الواقع الاقتصادي أهم من النقد.
وعلى مستوى الرؤية الاقتصادية عاب كينز على الليبرالية افتقارها إلى الرؤية الكلية للواقع الاقتصادي، فهي بسبب فردانيتها تنظر إلى المجتمع بوصفه مجموعة من الأفراد ينبغي أن تعطى لهم حرية مطلقة في الفعل، أما المجتمع فإنه سينتظم تلقائيا بناء على تلك العلاقات الناظمة بين أفراد أحرار في سلوكهم.
اأثبتت الأزمة، التي عصفت بالاقتصاد الرأسمالي، أنه لابد من تدخل الدولة لترشيد السلوك الاقتصادي، هذا فضلا عن أن النظرية الكينزية أكدت من الناحية المنهجية ضرورة قيام رؤية علمية تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستهلاك والاستثمار وسعر الفائدة، ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية في مستوياتها العامة.
"اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي."في هذا السياق اتجهت المدرسة الكينزية إلى إنجاز تعديل كبير في النظرية الليبرالية، حيث نادت بوجوب تدخل الدولة بدل ترك الفعل الاقتصادي مرتهنا بفردانية "دعه يعمل دعه يمر"، مبلورة بذلك رؤية تقلل من استقلالية وحرية الفعل الاقتصادي. وهذا ما أسماه البعض بإنقاذ الليبرالية من فوضى الحرية، وإخضاع الفعل الاقتصادي لمنطق الدولة لا للمنطق التحرري الإطلاقي للسوق.
لقد كان النقد الكينزي للنظرية الليبرالية أعمق وأوسع مشروع نقدي صدر من داخل المذهب الليبرالي. وقد حظي بانتشار كبير، ففي الوسط الاقتصادي الأكاديمي كان للكينزية أتباع عديدون تبنوا مقولاتها النظرية وجددوا فيها مثل نيقولا كالدور، وغوردن، وبلاندر، وعلى مستوى التطبيق حظيت بالأولوية في السياسات الاقتصادية التي انتهجها الكثير من الدول الرأسمالية.
والواقع أن الكف عن حياد الدولة في الشأن الاقتصادي كان إجراء عمليا اضطرت إلى الالتجاء إليه دول عديدة مباشرة عقب أزمة 1929، ويمكن أن نشير هنا على سبيل المثال إلى "النيو ديل"، أي السياسة الاقتصادية الجديدة التي انتهجها الرئيس الأميركي روزفلت، وفكرة ضبط القوة الشرائية التي قامت بها حكومة ليون بلوم في فرنسا عام 1936.
ويمكن القول بلغة التعميم إن اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية قد أخذت في عمومها بالنظرية الكينزية، فاعتمدت التدخل الفعلي للدولة في ترشيد العملية الاقتصادية. وقد حقق هذا التدخل وقتئذ إنقاذا ومعالجة لكثير من الإشكالات الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الليبرالي."

وفي الحقيقة لم يكن الباعث على أفكار كيـنز أزمـة 1929 وحدها ، وإنما أيضا فزع الرأسمالية من نمو الفكر الاشتراكي الذي بات يهدد الرأسمالية ، والذي كان يسانده الترابط المنطقي لفكر كارل ماركس الذي تنبأ بانهيار النظام الرأسمالي ، والذي أخذته الدوائر الرأسمالية مأخذ الجد. كما أن قبول الدول الرأسمالية بأفكار كينز وسعيها لتطبيقها كان من دواعيه أيضا هاجس الخوف من الشيوعية في ظل الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والسوفييتي (لم يكن النظام السوفييتي في حقيقة أمره سوى نظام رأسمالي ، ويعد بالتالي أكبر خدعة في العصر الحديث. حيث لم تكن الدولة سوى مؤسسة رأسمالية يملك رأسمالها منذ أمسك لينين بزمام الحكم مجموعة من الروس محدودة العدد من أبناء المرابين القدامي الذين سلموا أموالهم للينين. وتم تشغيل الشعب بأكمله أجراء لديها بإسم الشيوعية لمدة سبعين عاما ، وعندما تعرض الاقتصاد السوفييتي لمتاعب مالية وخافوا على رؤوس أموالهم قاموا بسحبها فجأة من البنوك وهربوها إلى إسرائيل والولايات المتحدة وأوروبا فانهارت الدولة ، ثم عادوا بأموالهم مرة أخرى لشراء مؤسسات الدولة المفلسة بأرخص الأثمان ) .وكذلك الخوف من ازدياد البطالة في فترة الكساد والتذمر الاجتماعي . أي أن الدول الرأسمالية وجدت نفسها في حاجة لآفكار كينز ومضطرة إليها. وبعد أن زالت الضرورة وانهار الاتحاد السوفييتي ، عادت للأمبريالية طبيعتها المتوحشة وتنكرت للأفكار التي أمنت لها البقاء والاستمرار والازدهار ردحا من الزمن.

وتتلخص أفكار كينز وأنصاره من المدرسة الكلاسيكية الحديدة في الآتي:
1- كلما زاد دخل الدولة زاد حجم مدخراتها ، فينقص الطلب ، ويتراجع الانتاج، وتزيد البطالة . ويمكن الحيلولة دون تحقيق هذه النتائج الغير مرغوبة بتوظيف المدخرات في شراء السلع الرأسمالية المنتجة ، وهو ما يتطلب كذلك خفض أسعار القائدة لتكون أدني من مستوى الكفاية الحدية للإستثمار.(وهو ما يعني في الواقع ،على نحو ما ، إخلال بالتوازن بين الفائدة والاستثمار لصالح الاستثمار) .
2- يتوقف مستوى التشغيل على مستوى الطلب الكلي الفعال على السلع الذي يتوازن مع العرض الكلي الناتج عن انتاج السلع. ولكي يتحقق التشغيل الكامل ، فيجب أن يتساوى الطلب على الاستثمار مع حجم الادخار , وهذا لا يتحقق إلا في ظروف استثنائية ، أما في الظروف العادية فينتج قدرا متزايدا من البطالة ينتج عن تدني طلب الاستثمار عن المستوى المطلوب. أما التشغيل الكامل الذي تنتفي فيه البطالة ، فلا يمكن أن يتحقق دون تدخل الدولة في الشئون الاقتصادية كمنظم ومشغل.
3- ينتج الركود الطويل المدى نتيجة لتناقص عدد السكان في الدول الصناعية الرأسمالية ، وإذ يطل التوظيف الكامل للموارد ، فيترتب على ذلك نقص الاستهلاك ، وبالتالي انخفاض الطلب على الاستثمار ، وقد بدأت حاليا الرأسمالية الغربية تعاني من هذا الركود الطويل لهذا السبب وأسباب أخرى قد تكون أهم منه.
4- إن تزايد البطالة يشكل خطرا كامنا على النظام الرأسمالي ، لما يحمله من احتمال انفجار الطبقة العامـلة فـي ثـورة عليـه ، مما يتطلب إلغـاء سياسـة الحرية الاقتصادية الموروثة عن الطبيعيين والمعروفة ب:”دعه يعمل ، دعه يمر” .ويتطل تدخل الدولة لتحقيق التشغيل الكامل بزيادة الطلب على الاستهلاك والاستثمار معا والذي يجدث بإقامة المشروعات الصناعية والاستثمارات الكبرى التي يحجم عنها القطاع الخاص ، وتأميم المنشآت المتعثرة القديمة التي تراجع انتاجها وفقا لقانون تناقص الغلة (الربح) والتوسع في مشروعات البنية الأساسية والخدمات التي يمكنها استيعاب عمال كثيفة تزيد من حجم الاستهلاك، فيزيد الطلب على الاستثمار ، وبالتالي الطلب على العمالة بما يترتب عليه ضمان التشغيل الكامل لأطول مدي ممكن مع ضرورة أن يتلازم مع هذه الإجراءات خفض أسعار الفائدة لزيادة الطلب على الاستثمار ، وإتاحة التقنيات الجديدة لجميع المستثمرين. والقضاء على الاحتكـارات لتـحقق المنافسة الحـرة فـي الأسـواق،ضمـانا للأسعـار العـادلة . واتباع سياسة حمائيـــــة تجعلهـا منافسـة للسلـع المنتـجة في الخارج . والحـد من الاستيراد، وقصره على السلع الاسثثمارية.
5- يجب علىالدولة لتجنب مغبة التذمر الاجتماعي الناتج عن غياب الـعدالة الاجتماعية في حدها الأدني ، إن تعمل على إعادة توزيع الدخل لتقليل الفوارق الطبقية ، وذلك بفرض ضرائب تصاعدية على ثروات ودخول الأثرياء تقوم الدولة بجمعها وانفاقها على تقديم إعانات وخدمات اجتماعية للمواطنين الفقراء ومحدودي الدخل بما يؤمن الاحتياجات الضرورية للعائلات ، ويضمن حصولها على حد الكفاية منها.
ولم يتم تبرير هذه الاجراءات أخلاقيا(والتي عرفت بعد إقرارها والعمل بها بنظام التأمين أو الضمان الاجتماعي) وإنما تم الترويج لها بمنطق الاقتصاد التحليلي على أساس أن التفاوت في الدخول يركز الدخول في أيد قليلة بلغت المستوى الحدي في استهلاكها الذي كفل لها حد الإشباع ، بينما تتراجع معدلات استهلاك الأغلبية لضعف قدرتها الشرائية المتزايدة، مما يترتب عليه تناقص الطلب الكلي وتراجـع الاستثمـارات والعـرض الكلـي فـي آن واحد. وينذر ذلك بالركـود وإفلاس المؤسسات الاقتصادية.ونقص ريع الممتلكات الخاصة الفردية الذي يرتبط بالرواج الاقتصادي.

النظرية الماركسية:
سسه المفكر الاقتصادي كارل ماركس الذي نادى بضرورة القضاء على مظاهر الملكية الفردية من خلال ثورة الطبقة العاملة والمستغلة على الأقطاعيين والطبقة الأرستقراطية، وتحقيق المساواة في توزيع الموارد والناتج القومي على الناس كافة، وهذهِ أحد ركائز قيام الفكر الشيوعي في روسيا.

إلا أن الفكر الماركسي لم يمت بتفكك الاتحاد السوفييتي وإنما أخذ منحي مختلف في تطوره بعد ذلك إذ انتقل الإنتاج النظري بأوربا الغربية بالتدريج من أيدي حكام وقواد ثوريين (لينين، غرامشي، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي...) إلى أيدي فلاسفة محترفين وإلى متخصصين في العلوم الاجتماعية (أدورنو، ماركوز، ألتوسير، بولانتزاس...).كما عرف تطبيقات جديدة في الصين وفيتنام تختلف جذريا عن سابقتها وتحولات محتشمة في كوبا التي ظلت الدولة الوحيدة في العالم التي حافظت عليه ، وبدأت تتأثر بكوبا دون استنساخ نظامها دول في أمريكا اللآتينية على رأسها فنزويلا.وتقوم حاليا أحزاب شيوغية في دول أوروبا الشرقية التي تحولت عن النظام الاقتصادي الشيوعي بإجراء مراجعات هامة عليه.
ومن المراجعات الفلسفية للماركسية في أوروبا الغربيةكما يقول جان بودوان: الفلسفة التحليلية وهي مدرسة فلسفية ظهرت بإنجلترا خلال الثلاثينيات، وتدعى أيضا فلسفة اللغة، وهي قريبة من المنطق الصوري واللسانيات لدى برتراند راسل، ج. إ. مور ولودفيغ ج. فتجنشتاين، والفلسفة التحليلية ترفض الزعم بمعرفة العالم أو العثور على حقيقة كونية، وهي تهتم بدل ذلك بقضايا اللغة. إن القضايا "التحليلية" هي قضايا منطقية تحمل على اللغة بخلاف القضايا التركيبية التي تحمل على الوقائع. وتحليل القضايا اللسانية يمكن في نظر التيار التحليلي من زيادة المعرفة من خلال توضيح معاني اللغة. والفلسفة التحليلية ممثلة بإنجلترا من طرف "مدرسة أوكسفورد": جون ل. أوستين (1960-1911)؛ جيلبير ريل (1976-1900)؛ ألفريد جولس آيير (1989-1910).
• نظرية العدالة: نشر سنة 1971، وقد حقق هذا العمل الكبير للفيلسوف الأمريكي جون راولس (المزداد سنة 1921) تأثيرا استثنائيا على الفلسفة الأنجلو سكسونية. وهدف هذه المحاولة الفلسفية السياسية والأخلاقية هو تأسيس عقد اجتماعي عادل، أما منهجه فيتمثل في الانطلاق من وضعية افتراضية يكون فيها أفراد أحرار و وحيدون مكلفون بتحديد قواعد مجتمع قيد البناء مع جهلهم كل شيء عن المكانة التي سيحتلونها في هذا المجتمع. ولأنهم موضوعون هكذا تحت "غشاوة الجهل" فإنهم لن يستطيعوا الاختيار انطلاقا من مصالح خاصة. وانطلاقا من وضعية كهاته استنتج راولس أن كل إنسان سيروم نحث النظام الأكثر عدالة والأكثر إنصافا ما أمكن. ويستجيب هذا النظام لمبدأين اثنين:
1. "مبدأ الحرية" الذي يؤكد المساواة في الحقوق عند التمتع بالحريات الأساسية؛
2. "مبدأ الاختلاف" الذي يتسامح مع الفوارق، لكن في ظل شروط معينة: أن تؤمن المساواة في الحظوظ وأن يجهد المجتمع ذاته ما وسعه الحال في تحسين ظروف الأفراد الأكثر حرمانا وخصاصة.
لقد صيغت العديد من الانتقادات التي وجهت لجون راولس ونظريته في العدالة؛ فعن يساره واخذه الجماعيون على كونه جعل من الفرد القاعدة الأولى للمجتمع وعلى تقليله من شأن دور الخلايا القاعدية الذي تلعبه الجماعات من وجهة نظرهم. وعلى العكس من ذلك واخذه عتاة منظري الليبرالية على كونه برر السياسات الاجتماعية التي تذهب في غير طريق الليبرالية. وقد تشبث راولس بالرد على هذه الانتقادات في "الليبرالية السياسية" (الترجمة الفرنسية بنفس العنوان، 1993).
• نظرية الفعل التواصلي: يشكل هذا العمل المنشور سنة 1981 مآل العمل الذي انصب على "إعادة بناء نقدية للمادية الديالكتيكية" والمنجز من قبل "الوريث الطبيعي" لمدرسة فرانكفورت؛ السوسيولوجي الألماني يورغن هابرماس (المزداد سنة 1929). المساهمة الرئيسية لإعادة البناء هاته تقيم في نقد مفهوم الهيمنة؛ فغياب علاقة الإكراه تفترض قل أي شيء حسب هابرماس "تواصلا بدون إكراه" أو أيضا "وضعية مثلى للكلمة" حيث يقبل الأفراد بإخضاع آرائهم لعمليات حجاج متنافسة. وفي المجتمعات المعاصرة الموسومة بتوسع الإدارة النظامية واقتصاد السوق، فإن الحفاظ على "فضاءات للتفاهم المشترك" (ومن ضمنها العائلة) يشكل حسب هابرماس الوسيلة الأفضل لمقاومة فقدان الأمل.
ومازال للفلسفة الماركسية تأثير على المفكرين الغربيين كما هو الحال بالنسبة لبول كيندي على النحو الذي يوضحه عفيف فراج والذي يقول :
محور كنيدي مؤلفيه الشهيرين صعود وسقوط القوى العظمى والاستعداد للقرن الحادي والعشرين على قانونين ركنيين من قوانين الجدل الماركسي:
1 - قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا، الثروة والقوة، البنية التحتية (الاقتصادية) والبنية الفوقية (العسكرية).
2 - قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا معاً من جهة، وبين الاكتشافات العلمية وتطبيقاتها التقانية من جهة ثانية.
ذلك ان الجدلية القائمة بين الاقتصاد والاستراتيجيا تترافد كما يؤكد كنيدي تكراراً مع قطب العلم والتقنية، وهو قطب يفعل فعل الوسيط أو المحول الكيميائي الذي يحدث تحولات نوعية في البنيتين الاقتصادية والعسكرية، واستطراداً في جميع البنى الاجتماعية والثقافية.
ان التقانة الأكثر تقدماً تفجر الطاقات الإنتاجية الأكثر ضخامة، وتنتج الأسلحة الأكثر فاعلية، والقيم الثقافية الأكثر دينامية؛ فتكون السيادة الإمبراطورية من نصيب الأمة التي تقلب موازين القوى الاقتصادية والاستراتيجية لما تحققه من سبق في مجال الكشوفات العلمية وتطبيقاتها التقانية في الصناعة والهندسة الزراعية والجينات الوراثية. "ان التغيير في شؤون العالم إنما يجري طبقاً لعملية جدلية تحولية تدفعها التقنية الموضوعة حيّز التطبيق في العملية الإنتاجية؛ ذلك ان التحولات في البنى السياسية والاجتماعية كافة مصدرها التقانة".
وبهذا المقياس يرى كنيدي ان تفوق أوروبا على الإمبراطوريات الشرقية التي تقدمتها يكمن في تطويرها الذي لم يتوقف لتقنياتها العسكرية، يستحثها إلى ذلك تجارة السلاح المزدهرة منذ عصر النهضة، أما الإمبراطوريات الشرقية (الصينية، اليابانية، الهندية، العثمانية) فقد حاقت بها الهزيمة حين توقفت عن تطوير أدواتها القتالية.
ان كنيدي لا يقدم إذن تاريخاً عسكرياً أحادي الجانب وإنما هو "يبحث القوة العسكرية في إطار اقتصادي" (كما يذكر في الصفحة الأولى من مقدمته) لكون الثروة هي صانعة القوة. "ان التغيير في موازين القوى العسكرية كان يجيء دائماً عقب التغيرات التي تطرأ على موازين القوى الإنتاجية. وإذ يعرض نتائج المواجهات العسكرية الكبرى على خلفية المؤشرات الإنتاجية الإحصائية للقوى المتصارعة على سيادة العالم يقرر "ان نتائج الحروب التي خاضتها الدول والقوى العظمى تثبت ان النصر كان حليف أصحاب الموارد الاقتصادية الأعظم".
وهذا يعني ان أداء الأمم العسكري خلال الحرب يحدده ويقرره أداؤها الاقتصادي في زمن السلم. وإذا كانت القوة العسكرية هي رهينة القدرات الاقتصادية فان دراسة الناتج القومي السنوي للقوى العظمى المتنافسة في زمن السلم تصبح مؤشراً استباقياً لما سيكون عليه أداؤها العسكري في زمن الحرب.
من هنا يكتنز مؤلَّفا كنيدي بالجداول الاقتصادية الإحصائية والتخطيطات البيانية التي تظهر هزائم الإمبراطوريات القديمة والوسيطة والحديثة بوصفها نتائج محتمة لمقدمات التراجع الاقتصادي والتخلف التقاني.
"الحقيقية الباقية هي ان جميع التحولات الكبرى في موازين القوى العسكرية العظمى كانت تجيء دائماً عقب التحولات في الموازين الإنتاجية". وكنيدي يرجّح هذا القانون الموضوعي على عنصر العبقرية القيادية. فحين تتراجع العائدات وتتخلف التقنيات تعجز العبقريات العسكرية عن ردّ الهزائم الميدانية وان كانت في مستوى نابليون أو هيئة الأركان الهتلرية. ان الذي هزم نابليون في النهاية هو المحرك البخاري البريطاني والثورة التي أحدثها في العملية الإنتاجية كما في وسائل الانتقال براً وبحراً.
وقد هزمت أدوات إنتاج أميركا وروسيا وبقية الحلفاء هيئة أركان الحرب الألمانية والروح القومية القتالية اليابانية. "فالحرب لا تدور فقط بين المتبارزين بالسيوف" كما يقول كلاوزفيتز، "وإنما بين الحدادين صانعي السيوف كذلك". وهكذا يخلص كنيدي إلى ان القاعدة الإنتاجية المتفوقة للحلفاء هي التي حسمت الصراع ضد دول المحور في النهاية. وهذا كله يعيدنا إلى موضوعة كلاوزفيتز القائلة إن "فن المبارزة (مثل فن الحرب) يتطلب مهارة وخبرة من جانب المتبارزين؛ لكن ذلك لا يجدي كثيراً إذا نفدت السيوف من أيدي المتبارزين. وفي معركة الحدادين كان الحلفاء يتقدمون خصومهم على نحو واضح".
وبما ان الصراع يدور بين قوى تتنافس على اجتياز أوسع لمساحات السوق العالمية، فان رصد مسارات ومصائر القوى المتصارعة على مدى الكوكب يستدعي، بالضرورة، دراسة مقارنة لاقتصادات هذه القوى ووتائر نموها. ذلك ان أسباب صعود إمبراطورية ما يعتمد أيضاً على أسباب ضعف إمبراطورية أخرى. فالإمبراطورية المتراجعة ليست بالضرورة تلك التي يتوقف أو يتراجع فيها الناتج القومي عن النمو بل تلك التي لا يتكافأ نموها الإنتاجي مع وتائر نمو قوة إنتاجية أخرى تعاصرها.
فصعود الولايات المتحدة إلى سدة القيادة الإمبراطورية على حساب الإمبرياليات الأوروبية العريقة لم يتحقق لأن دولاً مثل بريطانيا وفرنسا كانت تنتج بعد الحرب العالمية الأولى أقل مما كانت تنتجه هاتان الدولتان في الحقبتين الفيكتورية والنابليونية، وإنما لأن الناتج القومي الأميركي السنوي بات يساوي عام 1919 "مجموع الناتج القومي السنوي لدول أوروبا الغربية مجتمعة". وبالمقياس عينه فان إنتاجية الاتحاد السوفياتي التي بلغت في نهاية الثمانينات أضعاف ما كانت عليه خلال الحقبة الستالينية لم تكن كافية لتدرأ السقوط عن الإمبراطورية السوفياتية في الوقت الذي كانت الدول الرأسمالية تحقق تقدماً اقتصادياً وتقنياً ثابتاً على الاتحاد السوفياتي على مدى السبعينات والثمانينات. ولا يكفي الولايات المتحدة، استطراداً، ان تقصي منافسها السوفياتي كي تنفرد بالزعامة الإمبراطورية العالمية في الوقت الذي تحقق دول مثل ألمانيا والصين واليابان تقدماً ثابتاً عليها منذ الثمانينات في وتائر النمو الاقتصادي، في حين تحقق اليابان تفوقاً نسبياً في مجال التقنيات العالية وتفوقاً مطلقاً في مجال التراكم الرأسمالي والفائض المالي.

كنيدي والماركسية
هذه المقابلات التي يجريها كنيدي لإظهار التفاوت في مقدرات القوى العظمى تستند إلى قانون "النمو اللامتكافئ"الذي كان لينين سباقاً إلى وضعه حيز الممارسة المعرفية في سياق دراسته للتحولات في موازين القوى الاقتصادية - العسكرية للأمم الأوروبية المتناحرة بين عامي 1917 و 1918. وكنيدي لا يجحد مرجعيته اللينينية، كما لا يخفي مديونيته لقوانين علم الاجتماع الماركسي، لكن هذه القوانين لا تحظى بمرتبة الأدوات المعرفية والمقدمات المنهجية المرشدة للبحث، ذلك ان كنيدي في حرصه على إثبات منهجيته الاستقرائية الامبيريقية يحيل هذه القوانين إلى شواهد ختامية يذيّل بها أبحاثه بحيث تبدو قوانين علم الاجتماع الماركسي العامة وكأنها خلاصات استنتاجية تتحصل من قراءة كنيدي الاستقرائية الخاصة. وهكذا يبدو التلاقي مع علم الاجتماع الماركسي وكأنه حدث عارض.
والحقيقة هي ان مديونية كنيدي النظرية للماركسية لا تظهر بكامل ثقلها إلاّ إذا عمد القارئ إلى جمع قوانين علم الاجتماع الماركسي الموزعة في ثنايا خلاصات المؤلف الاستنتاجية.
ان كنيدي مؤمن أولاً بالقانون الماركسي القائل إن البنية الاقتصادية هي "بنية تحتية مقررة لماجريات الأحداث".
وهو يأخذ قانون التفاعل الجدلي بين الاقتصاد والاستراتيجيا، عن انجلز مقتبساً قوله: "لا شيء يعتمد على الأوضاع الاقتصادية كالجيش والبحرية على وجه التحديد". كما يقتبس عن ستالين نصاً يؤكد جدلية الثروة والقوة: "ان الموازين العسكرية العالمية تتوزع على نحو يتوافق مع مقدرات الدول الاقتصادية". وهو يأخذ قانون "النمو المتفاوت" وانعكاساته على موازين القوى السياسية والعسكرية عن لينين الذي لاحظ بين العامين 1917 و 1918 أنه "كان محتماً أن تؤدي معدّلات النمو الاقتصادي المتفاوت (بين المانيا وانكلترا واليابان وروسيا) إلى صعود قوى معينة وانهيار قوى أخرى". وكنيدي يفسر أسباب صعود روسيا الامبراطورية وهبوطها بالأسباب التقنوية عينها التي ذكرها ستالين في دراسة له نشرت عام 1931: "ان روسيا كانت تخرج منتصرة في جميع المواجهات العسكرية وفي كل المعارك التي كانت مستويات التقنية العسكرية فيها متقاربة بينها وبين خصومها، بينما كانت تنهزم كلما اتسعت الهوة التقنية لمصلحة الخصوم".
يؤكد ستالين في البحث الذي يذكره كنيدي ضرورة ردم الهوة التقنية بين روسيا والغرب، "لأن أي تباطؤ في وتائر سرعة اللحاق بالغرب سيعني التخلف في السباق، والمسبوقون هم الذين تدركهم الهزيمة. فقد تلقت روسيا القيصرية ضربات متتالية لأنها تخلفت في ميداني الانتاجية الصناعية والتقانات العسكرية".
ويذهب كنيدي مع ماركس إلى حد اعتبار الثقافة بنية فوقية ترتكز على بنية تقانية - انتاجية تحتية. فالتقانات لا تثوّر أدوات الإنتاج وحسب، بل هي تحدد نوعية الثقافة الاجتماعية نفسها كذلك. وكنيدي يصوغ علاقة التوافق بين التقانة والثقافة على النحو التالي:
"إن كل نمط من أنماط التقانة يولد نمطه الثقافي الخاص به والمميز له". وهي صياغة معدلة لإحدى الطروحات التي نجدها في نصوص ماركسية عديدة، منها نص انجلز الذي طالما يردده غارودي في كتابيه ماركسية القرن العشرين ومنعطف الإشتراكية الكبير: "إن على الفلسفة المادية ان تغير من صورتها كلما حصل اكتشاف بارز في مجال العلوم". وقد اعاد الفيلسوف الشيوعي الفرنسي ألتوسير صوغ هذه الموضوعة بقوله: "ان العلم يأتي في الصباح وتتبعه الفلسفة في العشية". وكل ذلك يذكرنا بطائر مينرفا الفلسفي الهيغلي الذي لا يبسط جناحه إلا بعد حلول الغسق، أي بعد وقوع التحولات العلمية والتقانية.
إضافة إلى هذه القوانين المادية الجدلية التي يتقرى كنيدي صعود وهبوط القوى الامبراطورية في ضوئها فهو يعبر عن موقف ماركسي فلسفي من التاريخ في كليته، حيث يقول مستعيداً ماركس: "ان البشر هم الذين يصنعون تاريخهم حتماً، لكنهم يصنعونه ضمن شروط تاريخية يمكن ان تحدّ من قدراتهم على صناعة التاريخ كما يمكن ان تطلق هذه القدرات".
كما يستعيد كنيدي المفهوم الذي حدّد به ماركس العلاقة بين العنصرين الذاتي والموضوعي في صناعة التاريخ: "ان البشر هم صانعو تاريخهم وان كانت هذه الصناعة تتم ضمن ظروف تحمل مؤثرات الماضي كما يذكرنا ماركس".
وهو ينقل عن القائد الالماني بسمارك استعارة شاعرية تجسم المفهوم الماركسي عينه للتاريخ:
"ان جميع القوى الكبرى الفاعلة في التاريخ إنما تجري فوق تيار الزمن، وهو تيار ليس في استطاعة البشر خلقه أو توجيهه، وكل ما يستطيعونه هو توجيه الدفة فوق المجرى بدرجة من المهارة والخبرة تقل أو تكثر".
ومن المعلوم ان ماركس سبق أن أكد في رأس المال تحول العلم والتقانة إلى قوة تنتج القيمة وفائض القيمة. »
وفي الحقيقة فإن المنظمات التي تقاوم الإمبريالية اليوم تستمد من الماركسية ومن الأفكار التي تعتمد عليها زادها الفكرى وتساعد المراجعات والكتابات الماركسية الجديدة ، أن صح التعبير ، وتجارب الشعوب مثل الصين وفيتام على وضع تصورات لنظم اقتصادية جديدة مخالقة للرأسمالية الامبريالية والتي توصف بالمتوحشة كما ساهمت الأزمة العالمية المالية الجديدة التي ظهرت مؤخرا في الولايات المتحدة وبدأت تظهر تداعياتها على أقتصاديات أوروبا والعالم في زعزعة الثقة فيما أطلقت عليه الولايات المتحدة بالنظام العالمي الجديد أو العولمة.

المدرسة الحدية”
اهتمت المدرسة الحدية بتقديم تحليلات نظرية فائمة على فكرة المنفعة الحدية ، واستخدام الطرق الرياضية (المنطق الرياضي والرسوم البيانية للدالات) في الاثبات والعرض وظهر روادها مع مطلع القرن العشرين مثل كارل منجر وجوزيف شمبيتر في النمسا وليون فالراس وبارتو في سويسرا. وتتلخص فكرة المنفعة الحدية في أن قيمة السلعة بالنسبة لكل شخص تتوقف على وجود رغبة في إشباع حاجته إليها من ناحية وقدرته الشرائية من ناحية أخرى. وتتحدد قيمة السلعة عندما تلتقي فيها دالة الإشباع مع دالة كمية المال التي يمكن للشخص توظيفها في إشباع حاجته والتي تمثل المنفعة الحدية. وبالتالي فسرت هذه النظرية لماذا يباع الخبز مثلا وهو سلعة ضرورية، أي أكثر نفعا للمستهلك، بأقل من أسعار السلع الكمالية الأقل منفعة منه. واستخلصوا من النظرية أن الليبرالية تتيح لكل فرد أن يحقق أكبر إشباع ممكن لحاجاته في حدود دخله وامكاناته المادية. وتم تصوير العلاقات الاقتصادية وتوازناتها بصيغ رياضية . ولما كان سلوك الأفراد يختلف من شخص إلى آخر بالنسبة للاستثمار والادخار والاستهلاك فقد اضكرهم ذلك إلى التجريد ، وافتراض وجود شخص اقتصادي تصرفاته منضبطة مع المتطلبات الاقتصادية مما يعد افتراضا غير واقعي ولكنه ضرورى لاستقامة منهجهم رياضيا. بصيغة أخرى فإنه يمكن البرهنة على صحة النظرية نظريا ، ولكن هذا لايعني أن الواقع سيتتطابق مع معطياتها النظرية.
6 -النيوليبرالية أوالامبريالية:
وكمـا بدأت الكلاسيكية القديمة بظهـور كتـاب أدم سميث:ثروةالأمم،بدأت الكلاسيـكية الجديدة بظهوركتاب للمفكر الانجليزى “جون مينارد كينز” يحمل إسم :” النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود” عام 1936. وقد أخذت الحكومات بأفكار كينز وقامت بتطبيقها . وخاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (عام 1945) مما وفر لها استقرارا اجتماعيا جيدا ،ونموا اقتصاديا بوتيرة شبه ثابتة ، إلا أن جشع الرأسمالية وظهور الشركات متعدية الجنسية واحتكاراتها وضغوطها دفع للآنصراف عن أفكار كينز والعودة للإلتزام بأفكار دافيد ريكاردو. وخاصة فيما يتعلق بسياسات الدول الاستعمارية الخارجية . ويمكن أن تعزي أزمة النظام المالي الحالية ، والأزمات السابقة عليها نتيجة لذلك. وقد بلغت درجة التبعية والاستلاب الفكرى لدي بعض اقتصاديينا وأساتذة الاقتصاد لدينا أن تبنوا الدعوة لأفكار ريكاردو بحجة أن الدول الرأسمالية قد أهملت أفكار كينزوعادت إلى الفكر الكلاسيكي القديم.
و قادت العودة لأفكار ريكاردو والتطرف في تطبيقها لما يعرف الأن بالنيوليبرالية أو الإمبريالية الجديدة أو العولمة . والعولمة في حقيقة أمرها ليس نطرية علمية اقتصادية وإنما هي أيديولوجيا أفرزها تغول الشركات المتعدية الحنسية وخاصة الأمريكية منها ، وتأثيرها المتزايد على السياسة الاقتصاديةوالمالية العالمية ، والذي تزامن مع الثورة الإليكترونية والمعلوماتية وخاصة انتشار الانترنيت الذي تحتكره على مستوى العالم الشركات ألمريكية وترقض أي شراكة غير أمريكية فيه أو السماح بشبكة دولية منافسة له.

يكشف الاقتصاد النيوليبرالي أو النيوكلاسيكي عن عدد من الملامح المنهجية السائدة لدى أعلامه والمنتشرة بينهم على الرغم من القليل من الاختلافات النوعية بين عالم وآخر. ولأن الاقتصاديين الينوكلاسيك تسيطر عليهم الأيديولوجيا، وهي المتمثلة في تحويل العلم الاقتصادي إلى مبرر للنظام الرأسمالي كما رأينا في الصفحات السابقة، فإن هذا الطابع الأيديولوجي لعلمهم ينعكس على المنهجية التي يسيرون عليها ويؤدي إلى تشويهها في النهاية، وذلك بأن تسيطر عليها نزعات صورية وفردية ووضعية كما سيتضح فيما يلي.
أ. الإبستمولوجيا الوضعية:
نتيجة لسعي علماء الاقتصاد الينوكلاسيك نحو جعل العلم الاقتصادي علما دقيقا منضبطا، وضعوا أمام أعينهم نموذج العلم الطبيعي الذي حاز على الدقة ودرجة الصدق العالية استنادا على اعتماده على الرياضيات، وهو الفيزياء النيوتونية. لكن محاولة التشبه بالعلم الطبيعي في إقامة علم اجتماعي إنساني مثل الاقتصاد تؤدي في النهاية إلى نزعة وضعية تختزل الحياة البشرية في قوانين تشبه القوانين الفيزيائية، وهذا ما حدث بالفعل مع النيوكلاسيك.
يستند الاقتصاد النيوكلاسيكي على ابستمولوجيا مستقاة من نموذج العلم الطبيعي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو ما يعرف بالفيزياء النيوتونية. يتكون هذا النموذج من قوانين حول حركة الأجسام واتجاهات وسرعات هذه الحركة بناء على قوانين الجاذبية والكتلة والطاقة. واعتماد الاقتصاد النيوكلاسيكي على هذا النموذج يجعله يعامل موضوعه كما لو كان أجساما وطاقة ومادة، وكما لو كان يشكل نسقا مغلقا ينـزع دائما نحو التكامل، والملاحظ أن مفهوم التكامل ظهر لأول مرة في فيزياء نيوتن لوصف ما يحدث داخل نسق جاذبية مغلق مثل المجموعة الشمسية. يصرف الاقتصاد النيوكلاسيكي نظره عن أن موضوعه الحقيقي ليس حركة فيزيائية لأجسام داخل نسق مغلق بل هو حركة البشر التي لا يمكن فهمها بالتوازي أو التشبيه بحركة الأجسام الفيزيائية.
وتظهر نتيجة هذه المنهجية في تعامل الاقتصاد النيوكلاسيكي مع الإنتاج كما لو أنه طاقة، ومعاملة دوران السلع باعتبارها تسير في قنوات مثل سريان الطاقة والتي تنـزع دائما نحو التكامل، أي نحو التوزع العادل حسب قوانين الطاقة. والملاحظ أن نموذج الفيزياء النيوتونية هذا قد تجاوزه العلم المعاصر عن طريق النظرية النسبية ونظرية الكوانتم، ولذلك فإن العلمية التي يدعيها الاقتصاد النيوكلاسيكي كاذبة، نظرا لتجاوز العلم المعاصر للنموذج العلمي الذي يقلده النيوكلاسيك. لكن يظل النيوكلاسيك متمسكين بالنموذج العلمي للفيزياء النيوتونية نظرا لحاجتهم الأيديولوجية إليها، إذ تخدمهم جيدا في هدفهم الأساسي وهو إضفاء العقلانية على نظام غير عقلاني، وإضفاء الطابع العلمي على ما ليس إلا تبريرا أيديولوجيا للرأسمالية.
ب. النـزعة الصورية والهوس بالرياضيات:
يسعى النيوكلاسيك نحو جعل علم الاقتصاد علما تصنيفيا Taxonomic مولع باختراع الفئات والأصناف والمقولات، وبتقسيم وتوزيع كل الواقع بتنوعاته الهائلة على هذه الفئات: الإيجار العقاري والفائدة وأجر العمل، الأرض ورأس المال وقوة العمل، مقاول الأعمال والسوق الحر..إلخ. صحيح أن هذه الفئات تعبر عن شئ من الواقع، إلا أنها لا تعبر عنه كله وبدقة. فغالبا ما يعمل علماء الاقتصاد على فهم الواقع الاقتصادي بناء على هذه التصنيفات المسبقة لا بناء على البحث الواقعي، وبذلك فهم يحشرون الواقع في هذه التصنيفات المقولية بصرف النظر عما إذا كانت تستجيب للواقع أم لا. تكشف تلك النـزعة التصنيفية عن فلسفة في الماهيات وعن مفهوم عن طبيعة إنسانية ثابتة ذات حاجات بيولوجية فردية، وعن تبنيهم لمفهوم عن قانون طبيعي ثابت وأزلي عبر التاريخ غير خاضع للتغيرات الاجتماعية والتاريخية.
ومن هذه الخلفية يسعى علماء الاقتصاد الكلاسيك والنيوكلاسيك على السواء نحو البحث عن انتظامات Uniformities ، وعن قوانين أزلية تحكم السلوك الاقتصادي، ونحو وضع نظرية في التوازن الاقتصادي Equilibrium يدَّعون أن الواقع يكشف عنها. وهذا التوازن الذي يتكلمون عنه ليس سوى توازن وتكامل نظريتهم الاقتصادية نفسها لا توازن وتكامل الواقع، وفي النهاية تعبر فكرة التوازن لديهم عن التوازن النظري باستخدام المعادلات الرياضية والمسائل الحسابية. وبذلك ينغلق علمهم على نفسه ولا ينفتح أبدا على التنوع الاجتماعي للطبيعة الإنسانية و البعد التاريخي للنظم الاجتماعية.
كما يختزل النيوكلاسيك مفهوم الثروة في مفهوم الثروة النقدية وينظرون إلى المنفعة Utility على أنها الربح المالي لا الوفرة والرخاء الإنتاجي. وهذا ما يؤدي بهم إلى التعامل مع الإنتاج والتوزيع والتبادل ودوران رأس المال بلغة الأرقام، تلك الأرقام التي يدخلونها في معادلات رياضية وجداول ورسوم بيانية. واعتقادهم أن ما توصلوا إليه من معادلات رياضية هو القوانين الاقتصادية الحاكمة لحياة البشر يجعلهم يختزلون غنى وتعقد الحياة البشرية والتتابع السببي التاريخي للحوادث إلى تتابع منطقي لخطوات البرهان الرياضي معتقدين أن هذا هو العلم في حين أنه هو الوهم بعينه.
سعى النيوكلاسيك، وخاصة في الولايات المتحدة، نحو تطوير التحليلات الرياضية الاقتصادية، وكان الموجه لهم في ذلك رغبتهم في إثبات أن التكاليف الفردية والتكاليف الاجتماعية متساوية، على الرغم من عدم تساويها واقعيا. وبكلمات أخرى سعى هؤلاء نحو توضيح أن المجتمع ليس سوى مجموع أفراده المكونين له، وبالتالي ليس في حاجة إلى ترتيبات اقتصادية خاصة به مختلفة عن الآليات التلقائية للسوق والتي تضمن رفاهية الأفراد؛ وكانوا في ذلك يكشفون عن التمسك بالعقيدة الليبرالية التقليدية عن السوق الحر وعن عدم استقلال المجتمع عن الأفراد المكونين له وعدم تشكيله لكيان مختلف عن الأفراد.
إن السبب الذي يجعل علماء الاقتصاد النيوكلاسيكي يلجأون إلى الرياضيات هو أنه كلما اتخذت النظرية الاقتصادية طابعا صوريا رياضيا كلما ظهرت كما لو أنها ابتعدت عن الأيديولوجيا، لأنها بذلك تركز على الشكل و لاتنطوي على أي مضمون يمكن أن تشوبه الأيديولوجيا. إن هذا النوع من النظريات بذلك يصبح منعزلا عن الواقع وعن كل ما هو خارج المعادلة الرياضية. فالنظرية الاقتصادية الرياضية ليست إلا معادلات لا تقول لنا الكثير عن العلاقات السببية بين الأحداث، كما أنها لا تقوم بشئ إلا أن تعطي وصفا لحالة من الاعتمادات المتبادلة بين متغيرات.

إن ظاهرة الاعتماد الداخلي المتبادل بين عناصر نظام اقتصادي مصاغ بلغة رياضية مثل نظرية “والراس “على سبيل المثال لا تنشأ إلا لأن هذا النظام هو نظام في التوازن الثابث Static Equilibrium ، ومثل هذا النظام يقوم بتثبيت المتغيرات الاقتصادية الحقيقية التي لا تعرف توازنا ثابتا أبدا بل تشهد تغيرات دائمة؛ وإذا ما شهد الواقع شيئا من التوازن فلن يكون إلا توازنا مرحليا ومؤقتا بين تغيرين، أي توازنا ديناميا ينتقل بين تغيرات.
ومن بين الأسباب التي مكنت علماء الاقتصاد من التعامل مع الاقتصاد رياضيا تطور الاقتصاد نفسه إلى الدرجة التي جعلت التعامل الرياضي معه ممكنا. وقد جاء هذا التطور في شكل مزيد من الاستقلال للمجال الاقتصادي عن مجالات الحياة الأخرى وعن الإرادة الإنسانية، مما جعل الاقتصاد عصيا على التحكم البشري الواعي وأصبحت له قوانينه الخاصة التي يخضع لها البشر أنفسهم. فمع ازدياد استقلال العملية الاقتصادية عن الإرادة البشرية، ومع ازدياد انغلاق عالم الإنتاج الرأسمالي أمام التحكم البشري الواعي يجد البشر أن ما صنعته أياديهم استقل عنهم وأصبح متحكما فيهم. وعندما ينعزل الاقتصاد عن الإرادة البشرية تتخذ قوانينه شكل القوانين الطبيعية، وعندئذ فقط تتمكن الرياضيات من التعامل معه. إن كثرة استخدام الرياضيات في التحليلات الاقتصادية يقف دليلا على اغتراب البشر عن شروط حياتهم المادية حتى أنها أصبحت تشكل كيانا مستقلا عنهم وتتحكم فيهم كما لو كانت قوانين الاقتصاد بحتميتها وضرورتها القاهرة تشكل طبيعة ثانية.
ومن الأسباب التي تجعل الاقتصاد الينوكلاسيكي يحول العلم الاقتصادي إلى علم رياضي هدف أيديولوجي يتمثل في أن اللغة الرياضية الصورية والرمزية تمكن النيوكلاسيك من التعامل مع الاقتصاد شكليا وصوريا عازلين بذلك المضمون العيني لعلمهم والذي يتمثل في الحياة الحقيقية للبشر. فعلى سبيل المثال، يعتم العلم الاقتصادي الرياضي على التناقض الطبقي، بل ويلغيه تماما؛ ذلك لأن الأطراف الاجتماعية الداخلة في العملية الإنتاجية لا تظهر إلا باعتبارها رموزا متساوية القيمة؛ فيتم التعبير عن رأس المال والعمل المأجور بـ (س) و(ص). تعامل اللغة الرياضية هذه الرموز على أنها تنتمي إلى فئة واحدة، فئة المتغيرات، وبذلك ينظر من يتعامل مع الواقع إلى هذه الرموز على أنها متساوية الدلالة في حين أنها تعبر عن أوضاع طبقية مختلفة تماما بينها تراتب سلطوي وخضوع طرف للآخر. إن التعبير عن رأس المال والعمل بـ(س) و(ص) يخدم أيديولوجيا الاقتصاد النيوكلاسيكي جيدا لأنه يتفق مع الوهم الذي تنشره هذه الأيديولوجيا والقائل بالتساوي بين رأس المال والعمل المأجور باعتبارهما طرفين متساويين في علاقة تعاقد حرة وقانونية.

وقيما يلي زيادة أيضاح ما سبق فيما يتعلق بتطور الفكر الرأسمالي الأوروبي :
فبعد ظهور آدم سميث والمدرسة التقليدية أو الكلاسيكية استكمل كل من ذافيد ريكاردو اليهودي الأصل والنشأة والفس ما لتوس أقكار سميث . كما ساهمت فيها كتابات جون ستيواربت ميل والفرد مارشال في انجلترا، وجان باتيست وشارل جيد وشارل ليست في فرنسا . بما جعلها مدرسة انجليزية نشأت لمواكبة الثورة الصناعية التي بدأت وقتئذ فيها قبل أن تمتـد منها لألمانيا فيما بعد. وتحديدا الاستجابة لمتطلباتها . ويتلخص فكرها الذي يرجع في معظمة لدافيد ريكاردو في الآتي:
1- الفرد هو أساس النشاط الاقتصادي إنتاجا واستهلاكا وادخارا واستثمارا . وأنه يسعي لتحقيق أكبر منفعة شخصية له. فيحقق بذلك أكبر منفعة ممكنة للمجتمع . باعتبار أن المصلحة العامة هي مجموع المصالح الخاصة للآقراد في نظرهم.
2- يخضع علم الاقتصاد إلى قوانين تحكمة ومهمة الفكر الاقتصادي هي البحث عنها واكتشافها والقطـاع الرأسمـالي نظـام طبيـعي لتوافقـه مع طبيعة الأفراد ونزوعهم إلى الحرية وحبهم للتملك وسعيهم وراء المصلحة والمنفعة الشخصية.
3- تقسيم العمل ينتج مردودية إنتاجية أكبر، إلا أن هذه الإنتاجية تخضع لقانون الغلة المتناقصة بعد وصولها إلي حد معين من التشغيل.
4- قيمة السلـعة تتحـدد بقيمة العمل المبذول في إنتاجهـا . والأجر مثل باقي السلع يخضع لقانون العرض والطلب. أي إذا زاد عدد طالبي العمل عن فرص العمل المتاحة انخفضت أجورهم ، وإذا زادت فرص العمل وقلت الأيدى العاملة زادت أجور العمال.
5- التعامل بالربا من أساسيات الاقتصاد . ويعتبر سعر الفائدة في سوق الرأسمال من أهم الآليات التي تضبط توازن النظام وتحل أزماته. ويتوقف سعر الفائدة على أساس عرض وطلب الإدخار.
6- ترتبط تقلبات الأسعار في أسواق السلع ورأس المال بكمية النقد المتداولة. بمعني إذا زادت كميات النقد المتداولة عن كمية السلع المعروضة في السوق زادت أسعارها وحدث التضخم ، وإن زادت كمية السلع عن النقد انخفضت الأسعار. وبالتالي يمكن في الحالة الأخيرة التحكم في عرض السلع لزيادة أسعارها.
7- يتوقف نشاظ التجارة الدولية على حريتها وإزالة الحواجز الجمركية المعوقة لها . وتخصص كل دولة في إنتاج السلع والخدمات التي تحقق ميزة نسبية فيها.
8- ينظم الإقتصاد نفسه بأليات وفق قانون العرض والطلب بالسوق وأي تدخل من الدولة يعظل هذه الآلية ويفسد النظام.
9- إن سوق العمل ينظم نفسه بنقسه بما يحقق التشغيل الكامل للموارد البشرية بسبب التناسب العكسي بين عدد العمال وقمية الأجور المدفوعة.
10- النقود وسيلة للتبادل ومعيار لقياس القيم . ولكنها محدودة القيمة كمخزن للقيم. لأنها لا تحافظ على قيمتها بمرور الزمن.

وتعرضت هذه الأفكـار إلى انتقادات موضوعية خاصة من المفكرين الألمان كشفت عيوبها وعدم اتساقها . سواء فيما يتعلق بالقيمة ووظيفة النقود أوالتشغيل أو التوزيع . كما تعرضت الرأسماليات الغربية في ظلها لأزمات دورية طاحنة بلغت ذروتها عام 1929 . وعجزت مفاهيمها وآلياتها عن منعها ، أو إيجاد حلول لها.وبرزت في كل من أزمات النظام الرأسمالي مشكلة البظالة واحتدمت وأصبحت تهدد النظام برمته . فضلا عن التفاوت الطبقي الذي ازداد اتساعا وخطورة ، وتعرضت الرأسمالية الغربية منذ عام 1814 لتعاقب الرواج والكساد كل 11 عاما تقريبا حتي عام 1929 . وظهر على إثر ذلك ما عرف فيما بعد بالمدرسة الكلاسيكية الجديدة في محاولة ترقيعية لإنقاذ وحماية النظام الرأسمالي وإجاد علاج لأدوائه الخطيرة التي تهدد وجوده. ونحجت بالفعل في المحافظة على استمرارهوإن لم يتم هدم النظرية الكلاسيكية القديمة ، إذا تم الاحتفاظ بمعظم أفكارها. وإنما اعتبرت الجديدة بمثابة عملية ترقيع لها. وترتب العمل بأفكار المدرستين إلى عودة الأزمات الدورية التي يتعاقب فيها الرواج والكساد لدي الدول الصناعية الكبرى. ولو أنه يحدث حاليا كل 20 عاما بعدما كان يحدث كل 11عاما من قبل.

ويقول الطيب بوعزة: » في بداية السبعينيات ومع حرب أكتوبر سنة 1973 شهد الاقتصاد العالمي أزمة أخرى عقب ارتفاع سعر النفط. حيث برزت أزمة اقتصادية جديدة لم تكن معروفة بناء على ما هو معهود على مستوى الأزمات الدورية، وتتمثل جدة هذه الأزمة في اقتران التضخم بالبطالة. وهو اقتران نادر الحدوث في تاريخ الاقتصاد الرأسمالي، ولم يسبق أن تمت مواجهته بالثقل الذي ظهر به.
وفي هذا الظرف الدقيق والحرج –أي ظرف الأزمة- كان لابد من انطلاق مراجعة نقدية للنظرية، وبالفعل برزت رؤى اقتصادية عملت على بلورة إطار نظري مغاير للإطار النظري الكينزي، حيث زعمت هذه الرؤى أن سبب الأزمة لا يكمن فقط في ارتفاع سعر النفط، بل في ارتفاع نفقات الدولة على الخدمات العامة التي تقدمها للطبقات الفقيرة والمتوسطة.
وكان الحل المقترح هو التقليل من هذه النفقات، والتراجع عن المقاربة الكينزية بالعود إلى المنطق الليبرالي القاضي بوجوب إطلاق الفعل الاقتصادي من كل قيد خارجي، واختزال سلطات الدولة بالتقليل من مهماتها ونفوذها، وجعل السوق كينونة مستقلة بذاتها.
إذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها المطلقة.
في بداية التسعينيات من القرن العشرين هيمنت الرؤية النيوليبرالية لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!
"ولقد كان للنيوليبراليزم حضور كبير في الفكر الاقتصادي الأميركي، وخاصة في مدرسة شيكاغو مع أتباع فريدمان، ثم بوشانان وراند ونوزيك. وستجد في فكر هايك hayek ولوباج وروزا وأفتاليون مرجعية نظرية تستلهم منها المفاهيم والرؤى المنهجية لتحليل الإشكالات الاقتصادية والسياسية.
ومما يجدر ذكره أن هذه النظرية ظهرت ابتداء في حقل "الاقتصاد السياسي"، كتنظير مرتكز على أصول فكرية كانت قد تبلورت في مدارس أوروبية مثل مدرسة لوزان التي أسسها ليون والراس leon walras، والمدرسة النمساوية التي أسسها كارل منجر، والمدرسة الإنجليزية التي أسسها وليم ستانلي جيفنز.
بيد أن التيار النيوليبرالي نجح في تجاوز الحقل الاقتصادي إلى بلورة رؤية ليس فقط للمجتمع والدولة على مستواهما القطري، بل رؤية للعالم بكل تنوعه وتعقيداته. حيث تم تبني المقاربة النيوليبرالية من قِبَلِ المنظمات الاقتصادية الدولية كـ"صندوق النقد الدولي" الذي عمل وفق هذه الرؤية على إعادة رسم اقتصاديات الدول الفقيرة بالضغط على حكوماتها لتبني اختيارات نيوليبرالية.
وفي بداية التسعينيات من القرن العشرين حدث تحول كبير في الواقع الدولي، حيث انهار الاتحاد السوفياتي وباقي منظومته الاشتراكية، فتم الحديث عن إطار علائقي جديد يجب أن يسود الواقع الدولي، إطار يتسم بانفتاح الأسواق وزوال الحواجز الجمركية أمام تناقل السلع، وتقليص نفوذ الدولة، وهو الإطار الذي تم الاصطلاح على تسميته بـ"العولمة".
الأمر الذي زاد من توكيد هيمنة الرؤية النيوليبرالية، والدفع بها لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!
ـإذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الإطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي، ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة أزمة سنة 1929؛ فإن النيوليبرالية هي محاولة لمعالجة أزمة 1973، على أساس رفض المنظور الكينزي، والمناداة بالعودة إلى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في أشد تمظهراتها المطلقة.
"في بداية التسعينيات من القرن العشرين هيمنت الرؤية النيوليبرالية لتكون المرجعية النظرية للعولمة، والفلسفة التي تستهدي بها المؤسسات التي تتحكم في الأرض ومن عليها، على تعدد واختلاف أقطارها وثقافاتها ونظمها!»

No comments: