Monday, April 9, 2012

ما أمر الله به، وما نهى عنه في آية واحدة

يقول الله تعالي في سورة النحل:" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" ( 90 ) " فيأمر في هذه الآية الكريمة بثلاث أمور وينهي عن نقائضها الثلاثة. ولو أن اﻷمر بالشيء يحمل ضمنا في طياته نفي نقيضه. وإنما جاء النهي عن النقيض تأكيدا لما تم الأمر به ، ولتقبيح ما تم النهي عنه.

و ليس صحيحا ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الله يأمر في تلك الآية بثلاثة أمور وينهي عن ثلاثة أمور أخرى. إذ لو أنه سبحانه أراد ذلك لزاد على ما أمر به أوامر أخرى تكون بمثابة نقائض لما نهي عنه.

وهذه الأوامر الثلاثة قد رتبت ترتيبا حكيما ودقيقا يبين تداخلها معا، فقد بدأت بالعدل، وبه تستقيم كل الأمور، ثم جاء من بعده الإحسان وفي فعله عدل مع خالقك الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة شاء ركبك، وما خلق الجنس والجن إلا ليعبدوه والإحسان يضم أفضل العبادات إلى الله، وتأتي ثالث الأوامر الأمر بإيتاء ذي القربى، وفي ذلك عدل معهم وإحسان لهم. ثم جاءت المنهي عنه ثلاث مذمومات هي نقيض الفعال المأمور بها ولذا اتخذت نفس الترتيب.

وتجمل هذه الآية كل ما أمر الله به وما نهي عنه، وتأتي الآيات في كتاب الله عن ما أحل وحرم بمثابة تفصيل لما جاء بها. ويروى جرير عن ابن مسعود قوله :"إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل : " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.... ". وفي رواية أخرى عنه:" هذه أجمع آية في القرآن لخير يمتثل وشر يجتنب".

واستيعاب هذه الآية الكريمة ، وفهم ما جاء بها حق الفهم، يتطلب تعقب كل ما ورد بكتاب الله من آيات بها ذكر للعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وعن الفحشاء والمنكر والبغي.

وعندما ألقيت هذه الآية وحدها على سمع أكثم بن صيفي كانت كافية لأن يطلب من قبيلته التعجيل بالدخول في الإسلام قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من قبائل العرب.وكانت تلك الآية أيضا سبب إسلام عثمان بن مظعون عندما حضر نزول الوحي بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجلس بجواره.

وكلمة يعظكم تعني : ينصحكم ، وينبهكم ويوصيكم ، ولعلكم تذكرون تعني لعلكم تتذكرون ما أمركم به دائما ونهاكم عنه بواسطة اﻷنبياء والمرسلين منذ عهد آدم فتلتزمون به ولا تتعدوا حدوده.وﻻتغفلون عنه.ويشمل ما نهى عنه دوافعه من فجور النفس ، فداء اﻹثرة واﻷنانية يعد الدافع إلى الظلم والبغي والعدوان ، أي الفحشاء والمنكر والبغي وقطع صلات اﻷرحام، كما ينطوي الظلم أيضا على العنف المادي والرمزي، ويدخل كل ذلك فيما هو منهي عنه وهو أيضا نقيض للتقوى.فمن فضل مصلحة اﻷنا عن مصالح المجموع فقد أتي فجورا، ومن دمج مصلحته في مصلحة المجموع ، كان ذلك دليل على تقواه..

أ - الثلاثة المأمور بها:
العــــدل
والعدل هو الإنصاف والقسط، والحكم بالعدل: أن يعطى من حكم بين اثنين الحق لصاحبه، ويمنع منه الباغي عليه، أي من ظلمه في حقه واستولى عليه أو نازعه فيه. والإحسان في العدل يعود إلى من يرد ما عليه من حق لصاحبه ، وأريحيته وكرمه . فهو أما أن يزيد صاحب الحق على حقه إن كان مدينا له ، وهكذا كان يفعل رسول الله، أو تنازل الدائن لمدينه عن بعض أو كل حقه عليه طواعية لما يعرفه من عسره وحاجته أو تقديرا لظروفه أو حفظا على مودته، ومن ذلك قَوْله تعالى ” وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثْلهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْره عَلَى اللَّه ” وَقَوله” وَالْجُرُوح قِصَاص فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَة لَهُ ”...وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: "إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور على يمين الرحمن..". و العدل بين الأولاد هو المساواة لهم في العطاء والاهتمام بهم دون تمييز أحدهم عن الآخر. وأن تكون عادلا مع نفسك ولا تظلمها هي أن تؤمن بالله وتعبده وترجى رحمته وتشكره على نعمائه ولا تشرك معه في عبادته أحدا. و كذا العدل بين زوجاتك إن كان لك أكثر من زوجة في كل شيء. والعدل في الشهادة يقتضي الصدق فيها وعدم تحريفها مجاملة لأحد أو خوفا من غضبه، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين " (الأنعام \ 135 ] ) وقوله تعالى في نفس السورة:" وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"(الأنعام::152).

الإحسان
الإحسان في اللغة مصدر، تقول أحسن يحسن إحسانًا، ويتعدى بنفسه وبغيره تقول أحسنت كذا إذا اتقنته، وأحسنت إلى فلان إذا أوصلت إليه النفع. والإحسان: ضدُّ الإساءة. إحسانًا، أي: يَعلَمه ويُتقِنه. والحُسن: ضدُّ القبح، وحَسَّن الشيء تحسينًا زيَّنه. قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125). ويقول:"وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ". و"إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون".و "إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".
.وفال صلي الله عليه وسلم :"إن الله كتب الإحسان على كل شيء، أي أوجب على المؤمنين الإحسان في كل شيء.

ويكتمل بالإحسان مثلث العقيدة المكون من الإسلام والإيمان والإحسان . ويعد الإحسان الجانب العملي المتمم للإيمان باعتبار أن الإيمان هو الأساس النظري أو الثقافي للعقيدة. فالإحسان هو الترجمة العملية للعلم اليقيني الثابت بالتجربة والبرهان، أو الذي توصل إليه بفطرته الوجدان، أو وجد دليلا عليه في القرآن، فتتحول المعرفة إلى عمل منظور، وواقع معاش وتقوى ظاهرة للعيان. وهو بذلك جماع أفعال وجهود تبذل في سبيل الله ، وابتغاء مرضاته أو صدوعا لأمره وتوجيهاته .وجميعها يعد من قبيل العبادات حتى لو كانت يسيرة كإزالة حجر أو إماطة أذي عن الطريق للتيسير علي السالكين أو كلمة طيبة ، أو نشر علم نافع للأنام ، أو كانت تعود بالنفع علي صاحبها أو على غيره ،مثل زرع نبتة أو غرس فسيلة ، أو عمل أحله الله أقبل عليه بدافع من الغريزة أو الشهوة مثل وصال زوجته . فجميع هذه التصرفات وما يشبهها، مع تنوعها وتفاوتها في الأهمية ، اعتبرتها العقيدة من الإحسان الذي يدفع إليه التقوى ،ومن العبادات التي يثاب عليها فاعلها ويجزيه الله عنها خيرا ، باعتبارها فعال حسنة تحسن الحياة أو تزيد من حسنها. والحياة الدنيا في العقيدة موصولة بالآخرة، إذ هي الطريق الموصلة إليها. فان فعل في الدنيا حسنا وجد في الآخرة ما هو أحسن منه ثوابا حيث" لا يضيع الله أجر من أحسن عمل"، "والله يحب المحسنين."

ويقول القرطبي في شرح قول الله تعالى: "مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" (التوبة- 91): "هذه الآية أصل في رفع العقاب عن كل محسن.

ويقول الله تعالي:" واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا ، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب"ويقول صلي الله عليه وسلم "إن الله كتب الإحسان في كل شيء" ولذا فان الإحسان مطلوب في جميع مناحي الحياة وفي جميع العلاقات الإنسانية. ويدخل ضمن الإحسان القول الطيب والعمل الصالح وإسداء النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإتقان العمل وحسن العشرة بالمعروف وحسن معاملة الوالدين والزوجة والأولاد والجيران والخدم وعتق الرقاب وتحريرها وإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة وإكرام الضيف وإغاثة الملهوف وكذلك التسامح والمبادرة إلي الخيرات وجبر العثرات ودرء المفاسد وجلب المصالح، والسماح في الحق تفضلا وكرما.

وكلمة الإحسان مشتقة من الحسن وهو الجمال ، والله يحب الجمال ويكره القبح والسوء والخبائث من القول والأعمال. ولذا يجزي علي العمل الحسن اذا جاء به المحسن إيمانا به وحبا فيه "ومن يعمل صالحا وهو مؤمن فلا يخاف ظلما و لا هضما"(طه112).

والمقصود به في آية سورة النحل إلى جانب تلك المعاني، هو التفضل على الغير بما يزيد عن حقهم ، أو بما لا يلزمونك به، ولا هو مفروض عليكـ منهم ، وسواء كان الغير أنسانا أو حيوانا فتحسن إليهم من تلقاء نفسك طاعة لربك ، وإتباعا لأمره لك بالإحسان إليهم وطلبا لمرضاته . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن لكم في كل ذي كبد رطبة أجرا"، أي أذا أحسنتم إليه.

إيتاء ذي القربى
وإيتاء ذي القربى : يعن وصلهم والتواد معهم . و"ذي القربى" لفظ يطلق على الأقرباء لك في النسب أو الرحم أو المكان. فأصولك وفروعك من أقربائك في النسب أو العصب وباقي أقربائك هم من ذوى الأرحام ، والجار هو قريب لك في المكان والجار الأقرب لك أولى من الجار الجنب ، وكلاهما أوصى الله به ، وقال صلى الله عليه وسلم : "مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". وهناك أيضا الأقرباء لك في دينك وفي وطنك ، وتعبير:" ذي القربى" يعني في أضيق حلقة لتطبيقه : اﻷهل واﻷصهار ولكن تتسع الحلقات بعد ذلك لتشمل اﻹنسانية كلها باعتبار : "كلكم من آدم".
.كل ذوى القربى هؤلاء بأمرك الله إيتائهم بالمعروف، وسد حاجتهم لو كان في مقدورك سدها، من العفو، أي ما يزيد عن حاجتك. ويعد إهمالك لإيتائهم كما أمرك الله : بغي منك عليهم نهاك عنه الله..

ب – الثلاثة المنهي عنها

الفحشـــاء وهي من الظلم
فالعدل إذا كان نقيضه في اللغة: الظلم والجور، فقد عبر عن الظلم هنا بالفحشاء. ويطلق لفظ الفحشاء على كل عمل أو قول قبيح، أو خصلة قبيحة مذمومة.
و وصف الظلم بالفحشاء هنا ليس للتنفير منه فقط، وإنما لبيان أن كل ما يندرج ضمن مفهوم الفحشاء يعد ظلما. والزنا، وهو أسوء أعمال الفاحشة ، ومن كبائر الإثم، فيه ظلم مزدوج ، حيث يظلم فيه كل طرف نفسه ويظلم كذلك شريكه في الإثم . وإذا كان أحدهما متزوج فهو يدفع شريكه إلى الخيانة، ويعرضه لسوء السمعة. ويقول تعالى في معرض قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز :" و راودته التي هو في بيتها عن نفسه، و غلقت الأبواب و قالت هيت لك (أي هيئت نفسي لك) قال معاذ الله إنه ربي (يقصد زوجها الذي رباه) أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون". فاعتبر خيانته لزوجها ظلم له.
وإذا كان شريكا الزنا بمرض معد نقله إلى شريكه، وفي كل ذلك مظالم يلحقها به.

ويقول تعالي: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم * يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب "(البقرة:268 و269 ) .
ويشمل النهي هنا أيضا كل من الظلم أو الفحش البين والظلم أو الفحش الخفي، قال تعالى:" قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " (الأعراف :33 ).وسنلاحظ هنا أنه ألحق بتحريم الفحشاء تحريم الإثم والبغي معها.

والشرك بالله هو أكبر ظلم يوقعه الإنسان بنفسه ، قال تعالى : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون " (الأنعام:151 (وكل ما ورد في هذه الآية من المحرمات يعد من الظلم، ظلم الإنسان لنفسه أو لغيره أو جوره عليه. والله "يغفر الذنوب جميعا إلا أن يشرك به."

المنكر: وهو كل إثم وما يعد من السوء
وإذا كان ما يقابل اﻹحسان في اللغة هو: الإساءة ، وهي إثم عبر عنه بالمنكر ، والمنكر: اسم مفعول من أنكر الشيء ينكره، إذا لم يعرفه أو لم يعترف به ، بسبب كراهية الناس له .
وهو هنا : كل ما أنكره الشرع أو ينكره الناس لفساده وضرره من كل الأقوال والأفعال.وقد تعارف الناس على أن كل عمل سيئ هو منكر ومكروه منهم ، ويستنكرون أن ينسب إليهم فعله.

البغي: وفيه قطع للأرحام وظلم لذوي القربى
وإذا كان ما يقابل إيتاء ذي القربى هو قطع اﻷرحام ، فقد عبر عن ذلك بالبغي، لبيان شدة فساد ما نهي عنه.والبغي غير الظلم،ولو أنهما صنوان. فالظلم هو سلب حق الغير وأنت تعلم أنه من حقه، أي أنك ﻻ تنكر عليه الحق، أما البغي فهو منع إعطاء الغير حقه، إنكارا منك لحقه عليك. ولذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا - مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة - من البغي وقطيعة الرحم " وقطيعة الرحم من البغي، ويعد هنا قد قدم العام على الخاص. والبغي أيضا هو الكبر والاستعلاء والطغيان والاستبداد بالناس وإلحاق بهم الأذى وكل ما يعد ضمن الظلم والعدوان.

الصحة النفسية وطاعة الله
إن طاعة الله بإتباع أوامره واجتناب ما نهى عنه تتطلب أن يكون المرء متمتعا بكامل الصحة النفسية والعقلية التي يزيدها ويرقى بها الإيمان والإحسان ، وبما يمكنه من تغليب العقل على الهوى ونزعات النفس والحفاظ على الاستقامة.
ولذا فإن الصحة النفسية هي حالة من السواء النفسي في العقل والوجدان والحركة تمكن الإنسان من التوافق مع العالم الداخلي ومع العالم الخارجي. ; الإحساس بالاطمئنان والأمان والرضا عن الذات والقدرة على التكيف مع المجتمع وظروفه ومعايشة الناس في سلام معهم وتواصل وتفاعل بناء .
وإذا كانت طاعة الله على أفضل وجه تتطلب التمتع بالصحة النفسية فإن الإيمان والعمل الصالح المرافق له، أي الإحسان، يمنحان المؤمن مناعة ضد الأمراض النفسية. حيث يمكنه الإيمان من امتلاك رؤية واضحة عن الكون والنفس. ويمكنه العمل الصالح من الرضا عن النفس. ويمكنانه ، الإيمان والعمل الصالح، أيضا من الفهم الصحيح لما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله، حيث يتغلب عقله على هواه وأوهامه وأية عصبية لديه ، فلا ينحرف في الفهم إرضاء لنوازعه النفسية التي تتحكم فيه وفي تفكيره وسلوكه على نحو لا أرادي.
وقد وصف الله النفس القلقة بالنفس اللوامة والنفس المستقرة بالنفس الطيبة التي تغلب تقواها على فجورها، فزكاها. وكلما اقترب العبد من ربه كلما أنزل الله سكينته على قلبه وكلما ذكر الله كلما امتلأت نفسه نورا واطمئنانا وسلاما ومحبة.

قال تعالى:" "يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ" وقال:"فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ .وقال:"
"هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ".

ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم الهامة لحفظ التوازن النفسي ، ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس فقال له :"يا غلام إني أعلمك كلمات: إحفظ الله يحفظك، أحفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله، وإن استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله علك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. وفي رواية أخرى، أحفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع الصبر يسرا".

العبرة بما يقبله العقل وليس بأقوال السلف
وﻻيحتج على غير ذلك الفهم بأقوال السلف طالما يتفق مع العقل ومع اللغة القرآنية ومع السياق ومع ماجاء في نفس موضوع الآية من آيات أخرى في كتاب الله أخذا في الاعتبار للوحدة البنيوية للقرآن وأن آياته تفسر بعضها بعضا ، وبما يتفق أيضا مع ما ورد في السنة النبوية . فإن تم الفهم وفق ذلك و كان في أقوال بعضهم ما يخالفه،وجب تجاوز الأقوال المخالفة له، ﻷن الله لم ينعم علينا بالعقل لكي تفكر بعقول الموتى أو اﻷحياء ، وإنما تتفكر في آيات الله ونفهم بعمق ما أمر به ونهي عنه وكل أحكامه، واﻻ كنا مثل من قالوا:هذا ما وجدنا عليه آباءنا عليه وإنا لهم لمتبعون، أو كنا كأﻹمعه ،إن أحسن الناص أحسنا وإن أساءوا أسأنا ، بينما أمرنا رسول الله إن أحسنوا أن نحسن وإن أساءوا أن نتجنب أساءتهم . وﻻ يجب أن نتبعهم في كل شيء بدعوى أنهم أعلم منا بأمور ديننا، ونلزم نفسنا بالسمع والطاعة لهم ، بينما أمرنا الله أن نطيع الله ورسوله قبل طاعة أولي اﻷمر منا(أي أهل العلم)، فإن لم نجد في كتاب الله ورسوله ما ننشده، أطعنا أولى الأمر ، أي أهل العلم، فيما تقبله عقولنا وضمائرنا ويتفق مع تقوانا، و إﻻ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق الذي أمرنا باﻹحسان والتقوى هي تعبير عن اﻹحسان الذي يتطلب أن تتقي الله حيثما كنت ﻷنه يراك ، وإن لم تكن تراه.

الفرق بين المعلم والعالم:
إن معلم الفيزياء ليس بعالم ,وإنما حامل علم، ولو أن اينشتاين اقتصر علمه على ما قال به نيوتن ما احتسب عالما، ولكنه تجاوزه وأعلن عن النسبية ، وماري كوري لو لم تكتشف "البولونيوم" المشع ما احتسبت عالمة.
إن العالم هو من يضيف الى العلم ويبدع فيه، وﻻ يتأتي له ذلك إن لم يستعمل عقله في مراجعة ما قال به اﻷولون و اﻹضافة إليه بما يمليه عليه عقله وما يلهمه يه موﻻه.

الحاجة الى تطوير المعرفة بأمور الدين والدنيا
الإتيان بالجديد هو ما يدفع إليه الفضول المعرفي المرتبط بالتفكير والتأمل العميق. ولوﻻ هذا الفضول المعرفي ما تقدم العالم وما ينطبق على المعرفة بأمور الدنيا يرتبط بأمور الدين،وهذا يندرج في " فينومينولوجيا" الإدراك "التي تقود الى فينومينولوجيا الوعي ،واكتساب المعرفة والخبرة، والتي يمكن بالتفكر في كتاب الله توسيع نطاق آفاقها بما يتم به تجاوز هرسل وموريس ميرلو بونتي ، بالعودة للأمور ذاتها السابق بحثها لتحقيق فهم أفضل لها، من حيث اللغة والمعني.وكما يقول ميرلو بونتي: "إن العالم ليس بمثابة الموضوع الذي يمثل أمام الذات الواعية، فهذه الذات ليس لها القدرة على تملكه. وإنما العالم هو الوسط الطبيعي أو المجال الأولي الذي تتحقق فيه إدراكاتنا الحسية لعالم و وتتكون فيه أفكارنا". وإذا اكتفينا أن تعيش على هامش العالم دون اﻹسهام فيه بفكرنا ، فسننتقل من التخلف إلى ما هو أسوء منه وأدني.
وقد اهتم الكثيرون بالعدل واﻹحسان ولم يهتموا بنفس القدر بمعني إيتاء ذي القربى في نطاقه الإنساني الواسع، فيدعون إليه، وﻻ بمعني البغي الذي يعتبر النقيض له، فيوضحون مفاسده ومضاره .
فوزي منصور

No comments: