Thursday, January 6, 2011

لم نحتاج إلى حركة مجتمعية للتنمية؟

بعد أكثر من خمسة عقود على حصول الدول الأفريقية على استقلالها باتت تلك الدول وأجهزة الحكم فيها عاجزة عن تنمية مجتمعاتها ومواصلة تقديم الخدمات الأساسية لها من تعليم وصحة وفرص عمل ، وانتشر في جنبات تلك المجتمعات الفقر والبطالة والعنف والفساد والجريمة ، وتفشت فيها الأمراض المهلكات، وتدهورت أوضاعها على كافة الأصعدة.
لست هنا بصدد بحث الأسباب ، ولكنني أكتفي بتوصيف واقع معاش بحثا عن حل يغيره ومخرج صدق منه يرفع عنا وطأة سلبياته.ولا أريد أيضا الخوض في غمار التنظير، ولدي الدول الأفريقية ما يزيد عن حاجتها من الأبحاث النظرية ومن المنظرين البارعين ، والإنتاج النظري الضخم منشور أو طرح في العديد من المؤتمرات والندوات من أعلامه أو في برامج الأحزاب الزائفة بعد أن صار أفضل إنتاج لدينا هو الثرثرة .ولذا لا يحتاج الأمر إلى المزيد منها. وقد مرت عقود تلو أخرى وبلادنا غارقة فيها وآن الوقت لكي نتوقف عن إهدار الزمن في إعادة إنتاج مقولات قد تكون صحيحة وبليغة ، ولكنها غير منتجة. ولم يكن لها أدني تأثير في تغيير الواقع الذي تبشر به.وإنما تزداد الأوضاع تأزما، والتحديات حدة . وإذا ظللنا نكتفي بالتنظير\م فقد يأتي يوم نعجز فيه عن الفعل، ونستسلم للموت بمعناه الوجودي وليس الفسيولوجي، ونحن في واقعنا الحالي أشبه الموتى فعلا، ولكن لازال بالإمكان ممارسة الفعل المغير ، لو توفر لدينا الوعي والإرادة.

أحاول إذن بالدعوة إلى حركة مجتمعية للتنمية أن أنتقل من الفكر النظري إلى الفكر العملي. فمع تفاقم الأخطار ، وتردي الأوضاع المتواصل، أرى أن الاكتفاء بالجدل الثقافي والسياسي ، دون المبادرة لمباشرة عمل يجسد إرادتنا ونزوعنا نحو التغيير ، وإقامة مجتمعات جديدة وحديثة مزدهرة وحية وعادلة ومتكافلة ومتحدة وتمتلك ما استطاعت من مفاتيح ومصادر وموارد القوة المادية والمعنوية والرمزية ومتطلبات المناعة والتحرر والتقدم، لا يعني الامتناع عن العمل أو القصور فيه سوى الانتحار عن عمد أو غفلة .
إن أكبر تناقض يسقط فيه الكثيرون يتمثل في أقرارهم بأن الدولة باتت عاجزة عن الفعل ، ثم ينتظرون في ذات الوقت إن يتم التغيير المنشود عن طريق مؤسساتها ، بينما فاقد الشيء لا يعطيه. ومن العبث أيضا أن نتصور أننا عندما نرفع شعارات الحداثة والديموقراطية وإدماج المرأة في التنمية (دون أن يكون ثمة تنمية) سنتمكن بذلك من حل مشاكل مجتمعاتنا المتفاقمة.

إن ما تسعى اليه الحركة المجتمعية هو حشد كل القوى الحية في المجتمع من أجل العمل الجماعي لتحقيق تنمية شاملة اقتصادية وانسانية في معزل عن الدولة ومؤسساتها وبيروقراطيتها وفسادها وعنفها وقمعها، وأن نريحها منا ونرتاح منها ، ونتفرغ لما هو أجدى من خدمتها أو مشاكستها، فلا ندخل في صدام معها ولا نقيم سلطة بديلة لها أو الإضرار بمصالح القوى النافذة فيها ، أو إثارة مخاوفها ، حتى يحقق المجتمع كل ما يتوق اليه دون أن تعترضه عقبات أو يحد من اندفاعه عوائق تعرقل مسيرته تحو تحقيق التقدم والثروة والحرية والكرامة والوحدة والعدالة الاجتماعية.

ولا يحتاج المنهج العملي الذي تدعو إليه الحركة المجتمعية إلى شعارات أو أيديولوجيات أو صراعات سياسية أو ثقافية أو ثقافية ، وإنما يحتاج أن يعرف كل فرد في المجتمع دوره وينخرط في أدائه مع باقي أفراد المجتمع في تواد وتراحم وتضامن وتكافل . ولا يعني هدا أننا لسنا حاجة إلى الفكر أو الاختلاف فيه بمعني تعدد الرؤى، بل سنكون في أمس الحاجة الى ذلك، وإلى الابداع الفكرى المستمر والنهوض بالثقافة المجتمعية التي تعود بالنفع المباشر وغير المباشر على المجتمع وتساهم في رقيه وتقدمة وانعتاقة من ربقة الفقر والتخلف، ولكن تعاطينا للفكر والثقافة يتم ونحن نعمل لكي نحسن من مستوى العمل وليس قبل البدء في العمل ، مع تجنب ترك العمل والانشغال عنه بسجالات فكرية عقيمة ، أو بتقسيم جلد النمر قبل صيده. وعندما نهجر السياسة فإننا نهجرها فقط عندما ينحصر دورها في الصراع على السلطة ولكننا نمارسها كعلم ينحصر دورة في حسن أدارة معاش الناس وفقا لما وصفها به علماء المسلمين في زمن إزدهار حضارتهم التي أفلت. وبهذا الفكر العملي المنشود نتمكن من إقامة مجتمع موحد يكون مثل البنيان يشد بعضه بعضا أو مثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى مودة خالصا وتراحما إنسانيا قويا ، ودون أن يكون لذلك علاقة بنظام الحكم ولا بالتعددية الحزبية أو الثقافية أو الطائفية أو الفكرية أو بمؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات وجمعيات وعير ذلك ، فكل هذه المؤسسات حكومية وغير حكومية يفترض أنها تتكون من أفراد مواطنات ومواطنين يعملون داخل شبكات الحركة المجتمعية ومؤسساتها كجزء لا يتجزأ منها وخارج الحركة فليفعلوا ما يشاؤون، يؤدون وظائفهم الحكومية أو أنشطتهم المدنية غير الحكومية ، يؤيدون الحكومة ويشكلونها أو يعارضونها ، يشاركون في الانتخابات العامة أو يقاطعونها، يتصارعون سياسيا أو يتحالفون ويتهادنون، ولكن كل ما يمارسونه من تلك الأنشطة يظل خارج نطاق الحركة ومؤسساتها ولا يؤثر على عملهم فيها أو يضر بمصالحها التي هي مصالح جميع المواطنين أويعوق تحقيقها لأهدافها في خدمة المجتمع والنهوض به.

فلسفة الأسرة وثقافة الحركة المجتمعية:
لأن الحركة مجتمعية ، والأسرة هي أصغر خلية في المجتمع ، والأفراد خارج الأسرة لا يمثلون اجتماعا أو مجتمعا مترابطا،فإن الحركة المجتمعية للتنمية تعتمد ما يمكن تسميته بفلسفة الأسرة بالمفهوم الواسع للأسرة والذي يشمل الأسرة الممتدة ، والتي تتشكل على أساسها القبائل في العديد من المجتمعات الأفريقية. وهي بالتالي لا تقر ب "الفردانية" والفلسفة الغربية القائمة عليها والتي هي نتاج التحولات التي شهدتها المجتمعات الغربية خلال عصر الثورة الصناعية.
ولأن الحركة المجتمعية أفريقية ، وتسعي إلى إقامة تنمية اقتصادية وإنسانية واسعة النطاق الجغرافي في شمال أفريقيا ، فمن الطبيعي أن تستلهم فلسفة الأسرة لديها قيم التراث الأفريقي قبل المسيحية والإسلام وبعدهما.
ولأن الحركة المجتمعية تجمع شتات مجتمعات تدين بالمسيحية أو الإسلام فمن الطبيعي أن تلتزم بالقيم والتعاليم المسيحية والإسلامية وتحترمها ولا تتنكر لها. من ناحية لأن المجتمع لن يرقى ويتحقق له السلام والأمن الاجتماعي ما لم يحترم تلك القيم ويتخلق بها ومن ناحية أخرى لن يتيسر الحشد المطلوب في مجتمع يغلب عليه التدين والتمسك بعقائده الدينية. ولأن الحركة المجتمعية تسعي نحو التقدم والتحديث فهي تلتزم أيضا بالقيم الحضارية الإنسانية التي تتفق مع أفضل ما في تراثها الحضاري والديني والتي تتفق مع قيمة الحداثة وفي مقدمتها قيمتي : التعقيل والإبداع. والتي تعد الحداثة الغربية أحدى تطبيقاتها ،وليست في نفس الوقت النموذج الوحيد والمثالي لها رغم ما حققته من نجاحات في المجالات العلمية والتقنية ، وتعطي لذلك الحركة المجتمعية مثلها كل الاهتمام للعلوم الإنسانية والتطبيقية وللبحث العلمي وتطوير التقنيات وتبيئتها دون إهدار للقيم الروحية أو الإضرار بالبيئة الطبيعية، أو استنزاف لمواردها لمواردها المتجددة بما يحول دون تجددها ، أو الإسراف في استهلاك أو تبديد الموارد الطبيعية الناضبة بما يحول دون تمتع الأجيال القادمة من خيراتها.

هذه إذن الثقافة الحاكمة للحركة المجتمعية المتوافقة مع ماهيتها ، والتي تعينها على أن يكون لها هوية مجتمعية متطورة وراقية وتقدمية بقدر ما تتقدم به على درب التحديث لبنياتها واقتصادياتها والتقدم العلمي والإنساني والازدهار المجتمعي.
وهذه الثقافة ، بمحتواها المادي والروحي ، هي ثقافة عملية أثبتت تاريخيا صلاحيتها، وهي حاليا معاقة أو غائبة عن حياة المجتمعات الأفريقية القائمة، ومن الطبيعي أن تسعى حركة تنشد التقدم والتحديث أن تعيد إليها الحياة والحضور الدائم والفاعلية في المجتمع .

ما سبق ذكره هنا هو موجز لدواعي الحاجة إلى الحركة المجتمعية وطبيعتها ، ومقدمة لتفصيل ما هيتها وبيان للفكر العملي الدال عليها، والذي قد يخالطه بعض التنظير إن اقتضى الحال كشروح ضرورية له.
فوزي منصور

No comments: