Tuesday, May 11, 2010

عنصران متناقضان بينهما برزخ ﻻيبغيان

الشائع أنه عندما تنسلخ الروح من البدن تنتقل إلى عالم البرزخ ،والبرزخ في العربية هو الحاجز بين الشيئين، و المانع من اختلاطهما و امتزاجهما . ولم يقل لنا أحد ما هو؟. ولكن البرزخ ليس من الدنيا وليس من اﻵخرة ، وﻻهو وسط بينهما يتكون من مزيج منهما. ولذا يمكن القول بأنه منظقة محايدة تشكل مع ثنائي الدنيا واﻵخرة ثالوثا كل ركن من أركانه ﻻيماثل اﻵخر في شئ.ووظيفة هذا الركن الثالث الظاهرةهي الفصل بين نقيضين.وهو هنا حاجز بين الدنيا والآخرة، قال تعالى :" ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ".وإذا تعقبنا كل الثنائيات المتناقضة مثل النوروالظلام والتوحيد والشرك والخيروالشر والتقوى والفجور والعدل والظلم واﻷمانة والخيانة، والصدق والكذب...الخ، وجدنا بين كل منها برزخ يعد وجوده بمثابةشرط لوجودهما معا. بحيث أذا ما اختفي البرزخ اختفي واحد منهما أو اختقيا معا.ولكن مع اختفاء الثنائيات أو الثلاثيات يتولد عن اختفائها جديد ، مختلف عن هذا وذاك ، ولو أنه يحمل بعضا منهما . ومثال ذلكالذكر واﻷنثي ان اتحدا فإنهما ينجبان مولودا فيه بعض من الذكر وبعض من اﻷنثي ولكنه ليس طبق اﻷصل ﻷي منهما.
وفيمثال برزخ الموتي فإنه في اليوم اﻷخر تنتهي الحياة البرزخية بعد أ، انتهت الدنيا من قبل ،وﻻيعد هناك سوى العالم اﻷخر وحده.
وﻻيمنع البرزخ من أن يلتقي النقيضان ولكنه يحول دون أن يطغى أحدهما على اﻵخر فيفقده ما يميزه عنه وفي ذلك يقول تعالي: " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ { 19} بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ { 20} فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . [الرحمن: 21].وقال تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } ... [الفرقان: 53].
وفي المثال اﻷخير سنجد أن البجرين يلتقيان وﻻيفترقان وواحد منهما ملح أجاج واﻵخر الذي هو النهر يصب فيه ماء عذب فرات ،وفي اللقاء بينهما يحيط مياه النهر المتدفقة نحو البحر برزخ يمنع اختلاطهما على نحو يفقد أي منهما خصائصه وما يتميز به فيظل ماء البحر مالحا وماء النهر عذبا.وماء النهر ﻻسبيل اليه سوى أعماق النهر وماء البحر في أمس الحاجة الي ماء النهر ﻷنه هو الذي سيقلل من ملوحته في النهاية ويؤمن بالتالي بيئة لﻷحياء البحرية لكي تستطيع مواصلة العيش سواء كانت نباتات أو أسماك وحيوانات بحرية.النقيضان هنا ﻻزمان لحياة الكائنات الحية في البحر وعلى اليابسة وﻻغني عن وحودهما معا.وهما يتدافعان تدافعا تسميه الماركسية صراع اﻻضداد وتعزي اليه حركة المادة في المجتمع وبالتالي لتطور الحياة اﻻجتماعية ولو أنها تركز على التناقض بين القوي المنتجة والعلاقات الإنتاجية ( علاقات الإنتاج) الذي يتجلي في المجتمع الطبقي في صورة تناقضات وصراعات طبقية .وماتقول به الماركسية ينطبق على كل الثنائيات التي تجمع بين متناقضين يتفاعلان معا عندما يلتقيان ولو كان بينهما في البدية برزخ حتي ﻻيبغيان وينتج عن تفاعلهما ثالث فيه من كل منهما ولكنه مغاير لهما وبذلك يتحقق التقدم. هذا الذى تسميه الماركسية صراعا يعبر عنه اﻹسلام بالتدافع والذي يمكن أن يكون عنيفا أحيانا إن تطلب اﻷمر ذلك ولكنه في الغالب يجنح الى السلم طالما كان السلم ميسرا ويعد له اﻷفضلية عما عداه.
وفي هذا التدافع يقول الله عز وجل:: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ ) (البقرة: من الآية251 ).ويقول أيضا: ( وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:40-41).ويمكن أن يكون التدافع سلميا حتي لو تم فيه التلويح بالعنف في مثل قوله تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ )(لأنفال: من الآية60). فامتلاك مصادر القوى المادية هنا الهدف منه أثارة الرهبة في الطرف اﻵخر حتي ﻻيغريه الضعف بالعدوان . أي أنه بمثابة برزخ يحول دون البغي ويتيح فرص أفضل للتفاعل السلمي من أجل صالح الطرفين. وعندما يقول المولي : وأعدوا لهم ما استطعتم من فوة فإن تلك الفوة يمكن تحصيلها باقتصاد فوى وامتلاك العلم والمعرفة ، وهو ما يعرف بالقوة المعنوية والتي قد يكون لها مفعول قوي يجعل صاحباها مرهوب الجانب حتي ولو لم يكدس أسلحة مدمرة ويتبجح بها. فالباطل - كما يقول سيد قطب رحمه الله - "متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول ، ولا يكفي الحق أنه الحق ليوقف عدوان الباطل عليه ؛ بل لا بد من قوة تحميه وتدفع عنه ؛ وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان " . والحضارات في التاريخ كانت تتدافع أكثر منها تتصارع وعندما كان يتحول تدافها الي صراعات مسلحة كانت تلك الصراعات الدموية بداية ﻻنيهيار العديد منها لما تستهلكه من مواردها المادية والبشرية وما تلحقه بها من دمار.ومن أبرز خصائص الحضارات خاصية اﻻنتشار وهو ﻻيتحقق لها بغير التفاعل البناء مع محيطها الجغرافي.

والتدافع كما يقوم بين الخير والشر أو بين أمة وأمة تتعارض مصالحهما ، يمكن أيضا أن يحدث بين شعب والهيئة الحاكمة له عندما تتعارض مصالحهما معا. ولكن هذا التدافع اﻷخير ﻻ يمكن أن يحدث مالم يكن الشعب كتلة واحدة تختفي فيها الذات الفردية والتمحور حولها وتحل محلها الذات الجماعية . وممن ناقش ذلك أستاذ الفلسفة وعلم اﻻحتماع اﻷلماني : يورغن همبارس . والذي يرى أنه ﻻسبيل لتجاوز هذا التناقض بغير تطهير النفس من شوائبها ونرجسيتها ومختلف امراضها. عن طريق النقد الذاتي والحوار البناء الذي يؤسس لمعرفة صحيحة للنفس والعالم وباستعمال الكلمة الطيبة وليس التنابز باﻷلقاب أو برفع الشعارات وشرذمة المجتمع عوض توحيده حول مصالحه الحيوية. ويكون هدف الحوار ليس ما نمتلكه أنا وانت من حجج وبراهين بل ما نتفق عليه سويا .أي التوصل الى كلمة سواء تجمع وﻻتفرق وتحشد الجهود وﻻتشتتها أو تفتتها. فيكون ما يتم التوصل اليه بمثابة: جذر معرفي جديد،يكون "حقيقة مشتركه"تطبعها ما يسميه بالعقلانية التواصلية و تعتبر الطريق السوي للتوصل الي عقد اجتماعي جديد.

وللفيلسوف وعالم البولوجيا الفرنسي المعاصر أدغار موران إسهامات فكرية لها أهميتهاأيضا في محاولته إعادة قراءة الحضارة الغربية من منظور أنساني وعندما يدعو لدراسة الواقع دراسة علمية متحررة من أسر اﻷيديولوجيات وهوى النفس والمصالح الضيقة واﻷفرازات الناتجة عن السياقات التاريخية التي سارت فيها المجتمعات دون انتباه لفساد تلك اﻹفرازات وأنها سبب اﻷزمات والحروب والمصائب وتلوث البيئة التي تحيق بهاأو تعرضت لها.وبما في ذلك التقدم التقني المنفصم . من كل مرجعية أخلاقية دينية أو انسانية .
... . فهو يدعو الى ادراك ما هو ثقافي في الطبيعي لابراز نقاط الوصل بينها والافكار الناظمة لها جميعا وأن أنسنة الفكر تتطلب تأصيله وأعادته الى أصوله اﻹنسانية والتي سنجد منها لدينا منظومةفكرية مركبة تتكون من «فكر عقلاني تقني وعملي، وفكر سحري وأسطوري ورمزي»، في كل المجتمعات المتحضرة أو البدائية منها.أي أنها جمعت بين تناقضين إستطاعا العايش معا يتمثلان فيما هو عقﻻني وماهو أسطوري أو غيبي ومن الخطأ تفكيك هذه التركيبة.ومن آرائه:« الواقع البسيط يتطلّب فكرا بسيطا، وتعقّد الظواهر يتطلّب فكرا معقّدا. هناك اكتشافات علمية ترتكز بالتأكيد على افتراض الوحدة والبساطة. غير أنّه، كي نفهم الظواهر البيئية والبيولوجية وديناميات التاريخ، لا أمل لنا في العثور على قوانين بسيطة. فالتعقيد هو وحدة البسيط والمعقّد».ولذا فإن الواقع عنما يكون شديد التعقيد يتطلب حلولا شديدة التعقيد ، وتعقيد الحلول هنا ﻻيجب أن يكون مبعثا لليأس أو لقصور الجهد من أجل تغيير الواقع وأنما يجب أن يزيد الجهد والحزم للعمل من أجل التغيير والتوصل اليه.ولذا كان عنوان أحدى محاضرات موران هو : " التحوّل أو السقوط في الهاوية". فاذا كانت الحلول المتاحة شديدة التعقيد وهي بالتالي سيئة فإن البديل عنها هو مواجهة اﻷسوء.وتحدث في محاضرته تلك عام 2008 فقال: تأتي مخاطر الفوضى عندما تغذّي الأزمات البيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية بعضها البعض في دورات هدّامة.وهو يقصد هنا اﻷزمة المالية اﻷخيرة التي ضربت الوﻻيات المتحدة وامتدت آثارها الي أوروبا ومناطق كثيرة في العالم والتي يجب النظر اليها على أنها ليست أزمة مالية فقط وأنما أزمة مركبة معقدة تعبر عن واقع معقد يحتاج الي تغيير للتخلص من تلك الدورات الهدامة. ثم أضاف في خاتمة محاضرته: " في بعض الأحيان تبرز داخل الفترات الحالكة بذور الأمل. أن نتدرب على التفكير بهذه الطريقة، تلك هي روح منهج التعقيد.
فوزي منصور

No comments: